بقلم/ أسماء عبدالحفيظ خميس نوير
(باحثة ومترجمة مصرية)
مقدمة:
في الذكرى الحادية والثلاثين للإبادة الجماعية التي ارتُكبت عام 1994م ضد التوتسي، ألقى الرئيس الرواندي بول كاغامي خطابًا حمل نبرة تحدٍّ واضحة تجاه المجتمع الدولي، مؤكدًا أن رواندا اليوم لن تركع أمام المؤامرات ذاتها التي وقفت متفرجة –بل متواطئة– بينما كانت البلاد تغرق في أحلك فصول تاريخها. ففي مشهدٍ مهيب من مشاهد الذاكرة الوطنية، انضم الرئيس إلى السيدة الأولى، جانيت كاغامي، وعدد من المواطنين والضيوف الدوليين في النصب التذكاري للإبادة الجماعية في العاصمة كيغالي؛ حيث وضعوا إكليلًا من الزهور، وأوقدوا شعلة الذكرى؛ إيذانًا بانطلاق أسبوع إحياء الذكرى.
وفي كلمته خلال المراسم؛ شدّد الرئيس كاغامي على أن رواندا خرجت من ماضيها الجريح أكثر وعيًا وصلابة، ولن تسمح بتكرار أخطاء الماضي تحت أيّ مسمى أو تهديد. وأكد أن القوى التي شاركت بصمتها أو بفعلها في تلك الإبادة، هي ذاتها التي تحاول اليوم ممارسة الضغط من خلال العقوبات أو التهديدات، لكنّها –كما قال– لن تنجح في زعزعة إصرار الروانديين على حماية سيادتهم ومسارهم الوطني.
وتوقف كاغامي عند خطاب وزير الوحدة الوطنية والمشاركة المدنية، الدكتور جان داماسين بيزيمانا، الذي قدَّم سردًا تاريخيًّا مؤلمًا لكنّه ضروري، كشف فيه بوضوح عن الدور العميق والاستعماري الذي لعبته بلجيكا في تشكيل مصير رواندا طيلة 109 أعوام. واستدعى الرئيس هذا السرد ليؤكد أن ما تتعرَّض له رواندا اليوم من ضغوط ليس منفصلًا عن الماضي، بل هو امتداد لنمط من التدخلات التي تتخفّى خلف شعارات مختلفة، لكنها تخدم أهدافًا واحدة: السيطرة، والتقسيم، والإضعاف.
اختتم الرئيس رسالته بالتشديد على أن رواندا اليوم ليست رواندا الأمس. إنها أُمَّة نهضت من رماد المأساة، وتحمل في ذاكرتها ألم الماضي، وفي قلبها إرادة لا تلين في الدفاع عن كرامتها واستقلالها([1]).
إن بطولة “كويبوكا للكريكيت” (Kwibuka Cricket Tournament)، والتي بلغت عامها الحادي عشر في 2025م، تُعدّ جزءًا رمزيًّا ومهمًّا من commemorations أو فعاليات إحياء ذكرى الإبادة الجماعية ضد التوتسي التي وقعت في رواندا عام 1994م التي قُتِلَ خلالها 800 ألف شخص خلال مائة يوم. وكلمة “كويبوكا” (Kwibuka) تعني “التذكر” بلغة الكينيارواندا، وهي اللغة الرسمية في رواندا، وتُستخدم سنويًّا للإشارة إلى فعاليات التذكُّر الوطنية.
وقد عكست دورة هذا العام -المقامة في العاصمة كيغالي في الفترة من 3- 14 يونيو-، هذا المعنى بدقّة؛ حيث شاركت فيها تسعة منتخبات تمثل تنوُّع القارة وامتداداتها، بما في ذلك البرازيل، في إشارة ضمنية إلى ترابط المصائر الإفريقية في الشتات العالمي. وهكذا لم تعد الرياضة أداة للترفيه فحسب، بل صارت منصة لتحرير الخطاب، وتجسير الفجوات بين الذكرى والاعتراف([2]).
إن تأمل لحظة “كويبوكا 2025” لا يقتصر على تتبُّع نتائج المباريات، ولا على إحصاء عدد النقاط أو الجنسيات المشاركة، بل يدعونا إلى إعادة التفكير في الدور الذي قد تلعبه الرياضة في تشكيل وعي جماعي يتجاوز الانقسامات السياسية والإثنية. فهي تتيح إمكانات جديدة للتماهي مع التاريخ من غير الانحباس فيه، وللبناء على الألم دون إعادة إنتاجه، ولإحياء الكرامة الإفريقية لا من خلال الشعارات الكبرى، بل عبر ممارسات حية تلتقي فيها الأجساد والذاكرة والهوية في فضاء مشترك، قابل لإعادة التأويل والتجاوز. من هنا، تغدو “كويبوكا” حدثًا ذا طابع وجوديّ -لا رياضيّ فحسب- يؤكّد أن إفريقيا لا تنسى، ولكنها أيضًا لا تستسلم.
أولًا: بين المضمار والذاكرة: سردية رياضية تتجاوز اللعب
ليست بطولة كويبوكا للكريكيت مجرد حدث رياضي يُدْرَج في تقويم المنافسات السنوي، بل هي نص سرديّ مكتمل الأركان، يتجاوز حدود المضمار ليعانق طبقات عميقة من الذاكرة الجمعية الإفريقية. ففي كل رمية كرة، وفي كل نقطة تُحْرَز، تتردد أصداء الماضي القريب، ماضٍ موسوم بالدموع والفقد، لكنه أيضًا ماضٍ يقف شاهدًا على صمود الإنسان الإفريقي، على قدرته العجيبة في تحويل الجرح إلى أفق، والندبة إلى علامة هوية. إن كويبوكا ليست مجرد بطولة، بل هي طقس جمعي يحمل في طياته سؤالًا وجوديًّا: كيف نُحيي ذكرى مَن فقدناهم دون أن نُحوِّل الحياة إلى سردية حداد لا تنتهي؟
من هنا تكتسب البطولة بُعْدها الرمزي؛ فهي لا تُلْعَب فقط بالكرات والمضارب، بل تُخاض أيضًا في مستوى المعنى؛ حيث تتحول الرياضة إلى أداة تفكيك وإعادة تركيب للذاكرة الوطنية، وللوعي الإفريقي بأكمله. ذلك أن كويبوكا، بوصفها فعلاً متكررًا، تُشكِّل لحظة تَذَكُّر سنوية، لكنها أيضًا لحظة خلق متجدد للهوية، هوية تنبع من رحم المأساة، لكنها لا تستسلم لها. وهذا البُعْد بالذات هو ما يجعل البطولة متجاوزة لأبعاد الترفيه أو التسلية، لتدخل فضاء الطقس الرمزي؛ حيث كل حركة على الملعب تصبح إشارات ضمنية إلى قصة أكبر تُرْوَى في صمت الجسد واندفاعه، في التقاء الرياضة بالحداد، في تمرين الذاكرة على الحياة من جديد([3]).
ولأن الرياضة، بطبيعتها، تجنح إلى التكرار الموزون والانضباط الجماعي، فإن كويبوكا تستخدم هذا النمط لتخلق نوعًا من الإيقاع الشعائري، إيقاع يُعيد الروح الجماعية إلى جمهور أرهقته تواريخ الانقسام، وأفقدته الإبادة الجماعية الشعور بالأمان الوجودي. لكن بدلًا من أن تكون الرياضة أداةً للهروب من الواقع، كما يحدث في الكثير من السياقات العالمية، تصبح هنا أداة لاستعادته، لإعادة تأويله، ولترسيخ سردية جديدة تتجاوز ثنائية الضحية والجلاد، نحو أُفُق إنساني أكثر تعقيدًا ونضجًا.
وما يميز كويبوكا في هذا السياق هو أنها تقاوم الاستهلاك الإعلامي السطحي الذي يرافق عادة الأحداث الرياضية الكبرى. فلا كاميرات البثّ التلفزيوني، ولا شعارات الرعاية التجارية، قادرة على تقويض عمق الرسالة الرمزية التي تحملها. البطولة، رغم تنظيمها المحكم وانفتاحها على الجمهور الدولي، تحافظ على خصوصيتها السيادية؛ فهي لا تطلب الاعتراف بقدر ما تُعيد تعريفه، ولا تسعى للتعاطف العابر، بل لإعادة تشكيل المخيلة العالمية حول إفريقيا، لا بوصفها قارة غارقة في أزماتها المتراكمة فقط، بل أيضًا بوصفها قارة متجددة، قادرة على صوغ خطابها الخاص، بلغتها الخاصة، وبوسائطها الثقافية والسياسية المتعددة.
بهذا المعنى، تصبح كويبوكا ممارسة مقاومة، لا بالمعنى الصدامي، بل من خلال تقديم بدائل سردية للمآلات المعتادة. إنها تكتب تاريخًا آخر، من زاوية أخرى، عبر وسيلة غير متوقعة: الكريكيت. رياضة استعمارية النشأة، تُعاد صياغتها هنا في سياق ما بعد الاستعمار، لتصبح حاملة لرسالة مناهِضة للاستعمار الرمزي ذاته، ذاك الذي يسعى لمحو ذاكرة الشعوب عبر اختزالها في صِيَغ ترفيهية مُفرغة من عمقها الرمزي والتاريخي.
ثانيًا: “كويبوكا” كفعل وجودي: من الذاكرة إلى الفعل الرياضي
ليست “كويبوكا” مجرد كلمة في معجم اللغة الكينيارواندية؛ إنها موقف وجودي، وفلسفة فعلية، ومفهوم متجذّر في أرضية الألم الجماعي والكرامة المتجددة. فكلمة “كويبوكا” التي تعني “نتذكر”، تتجاوز دلالتها اللغوية لتُمارَس بوصفها فعلًا حيًّا، يتجدَّد في المكان والزمان، ويُعيد تأسيس العلاقة بين الحاضر والماضي، لا على نحو نوستالجي يتقوقع في الحزن، بل على نحو حيويّ يُصرّ على أن التذكُّر يجب أن يُفْضِي إلى التحوُّل، إلى البناء، إلى اللعب حتى، إن لزم الأمر. هنا بالتحديد، تتقاطع بطولة كويبوكا للكريكيت مع فعل التذكُّر، لتغدو حدثًا مركبًا يتحدَّى الانفصام التقليدي بين الرياضة والسياسة، بين الجسد والذاكرة، بين الفقد والمقاومة.
“كويبوكا”، في هذا السياق، لا تُستدعى فقط لتأبين الماضي، بل لتأهيل الحاضر. إنّها تحوّل الذكرى إلى حدث مستمر، إلى ممارسة اجتماعية وثقافية وجمالية تُعيد رسم معنى البقاء، ومعنى النهوض من ركام الفاجعة. ففي كل عام، تُستحضَر الإبادة الجماعية التي اجتاحت رواندا عام 1994م، لا كتاريخ جامد يُقرَأ في كتب، بل كأثر حيّ يُترجَم إلى صمت مهيب في لحظة البداية، وإلى هتاف نسائيّ يتحدى عبث الإبادة باللعب. هكذا، تصبح البطولة فعلًا وجوديًّا، تُعلن فيه رواندا وشريكاتها من المنتخبات أن الذاكرة ليست عبئًا يُثقل الخطى، بل جذرًا يُغذِّي الحاضر بالقوة والمعنى([4]).
وهذا الفعل لا يتحقق إلا من خلال الوسيط الرياضي، بما يحمله من إمكانات للتمثيل الجسدي، والاحتفاء بالحياة، والانضباط الرمزي. فالكريكيت، برياضتها القائمة على التوازن والدقة، تصبح أداة لإعادة ترميم الذات الجمعية؛ إذ تنقل الذاكرة من حقل العنف السياسي إلى مجال التعبير الجسدي الجماعي، ومن عبثية القتل إلى انتظام اللعبة. إنّ الجسد الذي كان هدفًا للتدمير خلال الإبادة، يعود هنا ليكون حاملًا للكرامة، ومؤديًا لذاكرةٍ لا تموت، ومشاركًا في إعادة خلق المعنى، لا من موقع الضحية فقط، بل من موقع الفاعل والمبادر.
والفعل هنا لا يقتصر على الروانديين فحسب، بل يمتد ليشمل المنتخبات المشاركة من دول إفريقية وأمريكا الجنوبية، بما يعكس طموحًا في توسيع نطاق “الذاكرة”، وجعلها مشروعًا إنسانيًّا عابرًا للحدود. فحين تقف لاعبة من نيجيريا أو كينيا في ملعب رواندي، وتشارك في لحظة الصمت التي تسبق انطلاق المباراة، فهي لا تستحضر فقط مأساة رواندا، بل تؤكد انتماءها إلى تاريخ جماعي قاري، تقاطعت فيه سياسات الاستعمار، والعنف، والمحو، وتَشظّى فيه معنى الإنسان الإفريقي. وبمشاركتها في “كويبوكا”، تصبح جزءًا من فعل تذكّر يتجاوز الجغرافيا، وينتصر للروح الإفريقية في كليّتها.
وما يجعل “كويبوكا” فعلًا هاما ، هو أنها لا تكتفي بالتذكر بوصفه تكرارًا رمزيًّا، بل تحوّله إلى ممارسة حية تستبطن إمكانية التغيير. إنها لا تقول: “تذكروا ما حدث”، بل تقول: “لنتذكر لنحيا، لنلعب، لنعيد التشكيل”. بهذا المعنى، تصبح البطولة نوعًا من الطقس العام، أو بالأحرى، فعل عبور جماعي من مأساة التاريخ إلى أمل الحاضر، ومن سياسة الموت إلى جمالية اللعب. وهو ما يُعيدنا إلى جوهر الرياضة بوصفها ليس فقط مجالًا للمنافسة، بل أُفقًا لإعادة اختراع المعنى في عالم مأزوم([5]).
“كويبوكا” إذًا ليست مجرد كلمة، ولا البطولة مجرد حدث عابر. إنها فعلٌ من أفعال الحياة في مواجهة أفعال المحو، ممارسة وجودية تتحدى النسيان عبر الانخراط في لعبة الحياة مجددًا. وفي هذا الالتقاء بين الجسد الرياضي والذاكرة التاريخية، تولد إمكانية إفريقيا أخرى: إفريقيا لا تُنكر ماضيها، لكنها لا تسمح له أن يُقيِّد مستقبلها.
ثالثا : الدبلوماسية الرياضية في سياق ما بعد النزاع
في سياقات ما بعد النزاع، تُصبح الرموز أكثر فاعلية من الشعارات، وتغدو الإشارات غير المباشرة أقوى من الخطابات الرسمية. وفي هذا السياق، تبرز بطولة كويبوكا للكريكيت بوصفها شكلاً غير تقليدي من الدبلوماسية الناعمة، أو بالأحرى، دبلوماسية رياضية تتجاوز المفهوم الكلاسيكي للمنافسة إلى أُفق التصالح مع الذاكرة، وبناء الثقة، وإعادة نسج خيوطٍ تفتّت بفعل العنف الجماعي. ففي رواندا، البلد الذي عانى واحدة من أفظع الإبادات الجماعية في التاريخ المعاصر، تصبح الرياضة أداة لإعادة التفاوض على معنى الوجود الجماعي، لا في قاعات السياسة، بل على أرضية الملعب([7]).
فحين تنطلق صافرة البداية في ملعب كيغالي، لا يكون اللعب مجرد تنافس بين منتخبات، بل تمرينًا على تعايش ممكن، تلتقي فيه دول إفريقية مختلفة، تنتمي إلى تجارب متباينة من الاستعمار، والصراع، والانتقال الديمقراطي، لكن يجمعها ملعب واحد، وقواعد واحدة، ولغة جسدية تنبع من الرياضة لا من السياسة.
وهنا تكمن القوة الرمزية: فبدلاً من أن تُحْسَم الخلافات بالنصوص أو التفاوض الرسمي، تُفتح مساحة للقاء الوجداني بين الشعوب، لا يُفرض فيها السلم من أعلى، بل يُمارَس من أسفل، بالتدريج، بالإيقاع، وبالروح الرياضية.
ليست بطولة كويبوكا حدثًا معزولًا عن السياق السياسي والوجداني لرواندا، بل هي نتاج خيار واعٍ للدولة بإعادة هندسة سرديتها من خلال أدوات غير صدامية. ففي ظل رغبة النظام الرواندي في بناء سردية وطنية جامعة تتجاوز الانقسام العرقي، يأتي توظيف الرياضة بوصفها منصة للحوار غير المباشر: فلا تُطرح الأسئلة المؤلمة علنًا، لكنها تُهمَس في الأذهان، ويُترك للأداء الرياضي أن يُعيد ترتيب العلاقة مع الماضي، لا عبر الإنكار، بل عبر التذكير الإيجابي، والإحياء الرمزي([8]).
وفي هذا السياق، لا يمكن فصل البطولة عن الذاكرة الجمعية للإبادة، لكنّها لا تقع في فخّ اجترار الألم. على العكس، تخلق البطولة فضاءً وسطًا بين الحداد والمصالحة، بين النسيان والتذكر، فتستدعي المأساة لا لتعيد تمثيلها، بل لتفتح مجالاً لإعادة تأويلها. إن الرياضة هنا ليست نقيضًا للسياسة، بل استكمال لها من مسار رمزي مختلف؛ حيث تُستعاد الثقة الجماعية عبر الممارسة المشتركة، لا عبر الشعارات.
وهنا يتجلى بُعدٌ مُهِمّ من أبعاد “الدبلوماسية الرياضية” في كويبوكا، يتمثّل في خلق علاقات جديدة بين الدول الإفريقية المشاركة، تقوم على التعاون الرياضي، والتبادل الثقافي، والبناء المشترك للمعنى. فمن خلال هذه البطولة، يتم استدعاء دول من شرق إفريقيا وجنوبها وغربها، ما يخلق شبكة تواصل غير رسمية بين الفاعلين الرياضيين، والإعلاميين، والإداريين، وحتى الجماهير. هذه الشبكة، وإن بدت هامشية، إلا أنها تسهم في تليين الحواجز السياسية، وفي توسيع خريطة العلاقات الإقليمية خارج القنوات الدبلوماسية التقليدية.
إن الدبلوماسية الرياضية، كما تتجسَّد في كويبوكا، لا تدَّعي الحياد، لكنها تتعمد التمرّد على أدوات الخطاب الرسمي. فحين تلتقي نساء من نيجيريا وكينيا ورواندا على أرض الملعب، لا يحملن لافتات سياسية، لكن حضورهن الجماعي يصبح في حد ذاته احتجاجًا ضد الحدود، وضد الذاكرة المنغلقة، وضد السرديات الضيقة للهوية الوطنية. وبهذا المعنى، فإن البطولة تُمارِس دورًا “ما بعد-سياسي”، لا لأنها ترفض السياسة، بل لأنها تُعيد تخيُّلها من خارج ثنائيات السلطة والمعارضة، عبر اللعب، والتعاون، والتنافس الشريف([9]).
في بطولة كويبوكا، إذًا، تُصبح الرياضة لغة جديدة لإعادة بناء ما تحطَّم؛ لغة لا تتحدَّث عن الماضي فحسب، بل تُجسِّده في حركته، وتُحوّله إلى تجربة حسية. ومن هنا، يغدو الملعب ذاته بمثابة “مساحة ثالثة” –لا هي فضاء سياسي رسمي، ولا مجرد ملعب رياضي–، بل مجال لظهور الذات الإفريقية بوصفها قادرة على النهوض، على التمثيل، على الشفاء، لا من خلال النسيان، بل من خلال اللعب كفعل مقاومة رمزي.
رابعا : نحو رياضة إفريقية بذاكرة سياسية
لطالما ارتبطت الرياضة، في الخيال العام، بفكرة الترفيه والترويح عن النفس، بوصفها فسحة للهروب من الأعباء اليومية، أو مساحة للتنافس الخالص، المنفصل عن الشأن العام. غير أن بطولة كويبوكا في رواندا تُعيد تعريف هذه الفرضية من جذورها، لتُظهر أن الرياضة ليست مجرد لعبة، بل ممارسة اجتماعية مشحونة بالذاكرة، ومفتوحة على التاريخ، ومُثقلة بدلالات سياسية وثقافية لا يمكن تجاهلها. في سياق إفريقيا ما بعد الاستعمار؛ حيث لا تزال جراح الماضي مفتوحة، تُصبح الرياضة فعلًا رمزيًّا لاستعادة الكرامة، ووسيلة لكتابة سردية جماعية تُنافس السرديات المهيمنة التي حوّلت الإنسان الإفريقي إلى موضوع للعنف أو الهامش.
بطولة كويبوكا، إذًا، لا تنتمي إلى تقليد الألعاب الكبرى التي تنفصل عن سياقاتها الاجتماعية. بل على العكس، إنها تتجذَّر في قلب المأساة، وتتشكل على أنقاضها، لتعيد للذاكرة وظيفتها التكوينية. ومن خلال استحضار “كويبوكا” –أي التذكر– يتجاوز الحدث الرياضي وظيفته الترفيهية ليغدو أداة لتحرير المعنى. فحين تنزل المنتخبات الإفريقية إلى الملعب وهي ترتدي قمصانًا تحمل رمزية الذكرى، فإنها لا تدخل المنافسة فقط من أجل الفوز، بل من أجل إحياء الكرامة الجمعية، وإعادة ترسيخ قِيَم العدالة، والمساواة، والاعتراف المتبادل.
وهنا تكمن المفارقة الجذرية: الرياضة، التي طالما جُرّدت من بُعدها السياسي في التجربة الاستعمارية وما بعدها، تتحول في كويبوكا إلى مسرح لإعادة تمثيل الذات الإفريقية، لا بوصفها ضحية، بل كفاعل جمعي قادر على تحويل الحداد إلى طاقة إبداع، والذكرى إلى أداء جماعي. إنه نوع جديد من “الذاكرة المؤداة” (performed memory)؛ حيث لا تُروى الإبادة الجماعية بالكلمات فقط، بل بالجسد، بالحركة، بالتضامن بين اللاعبات، بالتصفيق، بالصمت في دقيقة الوقوف احترامًا لأرواح الضحايا، بل وحتى بالخسارة النبيلة([10]).
هذه الذاكرة المؤداة لا تُكتب في الكتب، بل تُمارَس في الملعب، ويُعاد إنتاجها في كل مباراة، عبر جسد اللاعبات اللواتي يُحوّلن الرياضة إلى طقس جماعي للتذكُّر والانتماء والمقاومة. وبذلك، تُعيد كويبوكا صياغة الرياضة من نشاط فردي تنافسي إلى طقس جماعي سياسي الطابع، يُؤسِّس لتقاليد جديدة في الوعي الإفريقي المعاصر، لا تفصل بين الجسد والكرامة، ولا بين المتعة والمقاومة، ولا بين التسلية والذاكرة.
إن ما تشهده رواندا من خلال هذه البطولة هو، في جوهره، محاولة لتأسيس شكل جديد من الوطنية ما بعد العنف، لا تقوم على الاستعلاء، ولا على تغذية الأحقاد، بل على بناء ذاكرة مفتوحة على الآخر، ذاكرة تُدرَك لا بوصفها عبئًا على الحاضر، بل شرطًا لإعادة صياغته. وهذا ما يجعل كويبوكا ليست فقط حدثًا رياضيًّا، بل مشروعًا رمزيًّا لبناء إفريقيا جديدة، قوامها الاعتراف، والعدالة الرمزية، وتاريخ مشترك يُكتَب بأقدام اللاعبات وأجسادهن، لا بأقلام الساسة فقط.
وهكذا، يُعاد للرياضة في إفريقيا دورها الطبيعي والتاريخي بوصفها أكثر من لعبة؛ بوصفها مسرحًا للذات، ومنصة للتعبير عن الوجدان الجمعي، ومجالًا لإعادة تعريف العلاقة بين الفرد والمجتمع، بين الماضي والحاضر، بين الذاكرة والكرامة. وهذا هو الدرس الأعمق الذي تُقدّمه كويبوكا للعالم: أن الرياضة، حين تكون مشبعة بالمعنى، قادرة على إعادة بناء ما حطّمه العنف، لا عبر القوة، بل عبر الأداء، والانتماء، والتذكر.
الخاتمة: حين تُصبح الرياضة مرآةً للذكرى، وتغدو الذكرى مسارًا لاستعادة الكرامة
ليست كويبوكا مجرد بطولة رياضية تُختتم بتتويج فريق فائز وكأس يُرفَع في الهواء؛ إنها ساحة رمزية تتقاطع فيها خطوط التاريخ والهوية، وتُكتَب على ترابها فصول جديدة من سردية إفريقيا، وهي تستعيد زمام وجودها الرمزي في عالم كثيرًا ما أنكَر عليها هذا الحق. ففي بطولة كويبوكا، تتحوَّل الرياضة من مجرد منافسة إلى أداء وجوديّ؛ حيث تتلاقى الذاكرة الجماعية والكرامة الفردية في مشهدٍ يتجاوز لحظة اللعب إلى أُفق أبعد؛ أُفق الالتئام الجمعي لجراح الماضي، وترسيخ مشروع قاري يتكئ على سرديته الذاتية، لا تلك المستوردة أو المفروضة.
في كل رمية كرة، وفي كل جولة تُخاض بين الفِرَق، تُستعاد أصوات الذين فُقدوا، وتُجدّد العهود معهم بأن المأساة لن تُنسَى، ولكنها أيضًا لن تظل قيد الحداد السلبي. كويبوكا تترجم ذلك الحزن المتراكم إلى فعل بنّاء، وتُعلّم الأجيال الجديدة أن الشفاء لا يأتي بالنسيان، بل بالتذكر المتفاعل، وبجعل الألم نواة لمعنى جديد. وبهذا المعنى، تصبح البطولة شكلاً من أشكال المقاومة الرمزية، لا ضد الإبادة وحدها، بل ضد كل محاولات محو الذاكرة الإفريقية، وتهميش نسائها، وإقصاء الجنوب العالمي من دوائر السرد العالمي.
ثم إن البطولة تحمل وعدًا إضافيًّا؛ إذ تفسح المجال أمام النساء ليكنَّ ليس فقط مشاركات في الرياضة، بل حاملات لذاكرة أُمَّة، ولسردية قارة تحاول أن ترى نفسها بعيونها، لا بعيون الخارج.
وهكذا، تخرج كويبوكا عن كونها حدثًا محليًّا أو موسمًا رياضيًّا، لتغدو نداءً مفتوحًا لكل إفريقيا –بل لكل جنوب العالم– كي ينظر إلى ذاكرته بوصفها طاقة خَلّاقة، وإلى رياضته بوصفها لغة قادرة على قول ما لا تقوله السياسة، وعلى بناء ما لم تَبْنِه الحرب. إنها بطولة تُحاكي الروح، وتناشد التاريخ، وتدعو إلى سلامٍ لا يتجاهل الجراح، بل يحتضنها في مسعى نحو كرامة متجددة، وعدالة تتجاوز القوانين نحو ضمير الإنسان.
بهذا المعنى، فإن كويبوكا ليست نهاية لشيء، بل بدايات متعددة: لبناء سرديات بديلة، لإعادة الاعتبار للضحايا، لتمكين النساء، ولتخطيط خرائط رياضية تُبنَى على قِيَم لا تقلّ عن الشجاعة، التعدُّد، والإنصاف. كويبوكا هي مرآة تتأمل فيها إفريقيا وجهها من جديد، لا لتبكيه، بل لتُعيد رَسْمه، بألوان الحياة، والكرامة، والمصالحة.
………………………………
([1]) Edmund Kagire. Kwibuka 31: President Kagame Sends Strong Message To Those Responsible For Rwanda’s Dark Past And Cruel Present, April 7, 2025. https://www.ktpress.rw/2025/04/kwibuka-31-president-kagame-sends-strong-message-to-those-responsible-for-rwandas-dark-past-and-cruel-present/
([2]) Sheriff F. Folarin. Rwanda’s Radical Transformation Since the End of the 1994 Genocide against the Tutsi, Cham: Palgrave Macmillan, 2023, p.106.
([3]) Rwanda Cricket to organize 11th edition of Kwibuka Memorial tournament in June 2025, June 3, 2025, https://czarsportzauto.com/rwanda-cricket-to-organize-11th-edition-of-kwibuka-memorial-tournament-in-june-2025/
([4]) عمر سيد أحمد، كويبوكا – Kwibuka: من جراح رواندا إلى إنذار السودان، صحيفة التغيير، 29 أبريل، 2025م.
([5]) طه حسيب، «كويبوكا 30».. تخليد الذكرى بروح التطوير والتسامح، مركز الاتحاد، 24 أبريل 2024م. https://www.aletihad.ae/
([6]) Jennie E. Burnet. Rwanda: Women’s Political Representation and Its Consequences, In: Franceschet, S., Krook, M.L., Tan, N. (eds) The Palgrave Handbook of Women’s Political Rights. Gender and Politics. London: Palgrave Macmillan, 2019, p.523.
([7]) Stephanie Wolfe. Memorialization in Rwanda: The Legal, Social, and Digital Constructions of the Memorial Narrative, Cham: Palgrave Macmillan, 2020, p.16.
([8]) Erin Jessee. An Official History: Commemorating “the 1994 Genocide of the Tutsi”, In: Negotiating Genocide in Rwanda. Palgrave Studies in Oral History. Cham: Palgrave Macmillan, 2017, p.45.
([9]) Noam Schimmel. Rwanda Case Study. In: Advancing International Human Rights Law Responsibilities of Development NGOs. Cham: Palgrave Macmillan, 2020, p.81. https://doi.org/10.1007/978-3-030-50270-6_
([10]) Helen Hintjens. Fluidity, Death, Denial: The Rwanda Genocide, In: The Politics of Art, Death and Refuge. Cham: Palgrave Macmillan, 2022, p.143. https://doi.org/10.1007/978-3-031-09891-8_4