مقدمة:
شهدت القارة الإفريقية عامة, وغربها بخاصة, في القرن التاسع عشر الميلادي, موجة من الحركات الإصلاحية لنشر الإسلام في المنطقة, ولتجديد ما اندثر من معالم الإسلام لطول الزمن, بعد انهيار الإمبراطوريات الإسلامية الكبيرة في المنطقة, وإطباق الجهل على بعض السكان والمجتمعات في المنطقة، وكذلك لمواجهة الاستعمار الغربي الذي بدأ يتوغل فيها.
وقد زخرت المنطقة بالعديد من العلماء الذين ساهموا مساهمة فعالة في دفع عجلة الحياة الدينية الثقافية والاجتماعية والسياسية في مجتمعاتهم، وخلّفوا تراثاً فكرياً ضخماً في العلوم الشرعية واللغوية، غير أن معظم التراث الذي خلّفوه ظلَّ مغموراً لبقائه محبوساً في المكتبات ودور المخطوطات, وهذا ما قلّل من الاستفادة منها, زيادة على قلة الكتابات عن هؤلاء العلماء, وبيان دورهم في نشر الإسلام واللغة العربية, والدفاع عنهما.
ومن العلماء الذين قاموا بحركات إصلاحية في غرب إفريقيا في القرن التاسع عشر الميلادي: الشيخ عثمان دان فوديو في بلاد الهوسا، والشيخ أحمد لبو في ماسنا – شمال مالي -, والشيخ الحاج عمر بن سعيد تال الفوتي, الذي قاد حرباً ضد الاستعمار الفرنسي في منطقة فوتا تور, وضد الوثنيين في سيغو، ووقف أمام تقدم الاستعمار الفرنسي في المنطقة، والشيخ سليمان راسبين الذي أقام دولة إسلامية في فوتا تورو – السنغال – في القرن التاسع عشر الميلادي, المعروفة بـ «الدولة الإمامية»؛ لأن ولاتها كانوا يحملون لقب «الإمام».
ومن باب الإسهام في إبراز الجوانب المضيئة للحضارة الإسلامية في إفريقيا عامة وغربها بخاصة, وعرض التاريخ الصحيح لإفريقيا وبيان ماضيها العريق في الإسلام, وإبراز الجهود التي قام بها علماء المنطقة لنشر الإسلام الصحيح بين شعوبها؛ رأى الباحث أن يختار حركة من تلك الحركات الإصلاحية, وهي: حركة الشيخ سليمان راسبين الإصلاحية والدولة الإمامية التي أسسها في منطقة فوتا تورو, لتسليط الضوء على هذه الدولة الإسلامية التي أدت دوراً مهماً في نشر الإسلام واللغة العربية في السودان الغربي قبل الاستعمار الغربي للمنطقة.
وقد قسمته إلى مدخل في التعريف بمنطقة «فوتا تورو» جغرافياً وتاريخياً, وثلاثة مباحث:
المبحث الأول: دخول الإسلام إلى منطقة «فوتا تورو».
المبحث الثاني: قيام الدولة الإسلامية في «فوتا تورو» (الإمامية), وحياة الشيخ سليمان راسبين بال, ودور الإمام عبد القادر ُكن في نشر الثقافة الإسلامية واللغة العربية في المنطقة في أثناء حكمه.
المبحث الثالث: دخول الاستعمار إلى منطقة فوتا تورو وسقوط الدولة الإمامية.
نسأل الله تعالى أن يوفقنا لما يحب ويرضى, وأن يرزقنا الإخلاص في العمل، وهو ولي التوفيق.
المدخل: الخلفية الجغرافية والتاريخية لمنطقة «فوتا تورو»:
أولاً: الخلفية الجغرافية:
أ – الموقع: تقع منطقة «فوتا تورو» في الشمال الشرقي لجمهورية السنغال – الواقعة في غرب إفريقيا -، وجنوب غرب جمهورية موريتانيا الإسلامية، ويشقها النهر السنغالي الذي يعد الحد الفاصل بين السنغال وموريتانيا, ومنطقة «فوتا تورو» اليوم يقع جزء منها في السنغال – الجنوبي منها -, والجزء الآخر – الشمالي – في موريتانيا، وكانت قبل الاستعمار منطقة واحدة(1).
ب – السكان: يتألف سكان منطقة «فوتا تورو» من تكرور فلان – وهم الأغلبية -، وسوننكي, والولف، وبعض الأقليات الأخرى.
وأغلب سكان فوتا من المسلمين، ويشتغل أغلبهم بالزراعة والرعي والتجارة, ويبلغ نسبة المسلمين في السنغال حوالي 95%(2). وقد نالت استقلالها من فرنسا سنة 1960م.
ثانياً: الخلفية التاريخية لمنطقة «فوتا تورو»:
تمهيد: في أصل اسم فوتا والتكرور: يقال إن أصل «فوتا تورو» كلمة فلانية، أي: (فَوْتَ تُورُو) بمعنى: اترك عبادة الأصنام، وكلمة (فوت) تعني: اترك, و (تورو) الأصنام، ولكن كلمة (فوت) بمعنى: اترك؛ عربية وليست فلانية، و (تورو) فلانية، وكيف يمكن تركيب كلمتين بهذه الصيغة، خصوصاً أن اللغة الفلانية لها كلمات بمعنى (الفوت) في لغتها، مثل: (طَلُ تورو)، أو (أ تَشُو تورو)، أو (سِيدُو هِي تُورُو)، أو (وُوطَّ تورو)، فكل هذه الكلمات تعني الترك حسب لهجات اللغة الفلانية.
وقيل إنها من اسم أول حاكم لفوتا تورو – كما سيأتي -, واسمه «جا عكا» أي من عكا (مدينة في فلسطين), ثم تحولت إلى «فوتا تورو»(3), ولعل هذا الاستنباط من نتيجة تأثير الإسلام في المسلمين الأفارقة, حيث يحاولون دائماً إرجاع أصولهم إلى المشرق العربي.
ويقال إن أول من أطلق اسم «فوتا تورو» على هذه المنطقة هو: كولي (Koli) (ملك من ملوك المنطقة)؛ لأن الاسم لم يكن معروفاً قبله، وقد قيل إنه أطلق اسم «فوتا» على هذه المنطقة عندما أصبحت في حوزته تعظيماً وتخليداً لزوجته التي كانت تُسمى «فوتا».
ويرجّح بعض الباحثين أن اسم «فوتا» ظهر إلى الوجود في عهد دينيانكوبي (Deeniyankobe)، وهي من الأسر التي حكمت «فوتا», من (1537م – 1767م).
هذا ولا نكاد نجد اسم «فوتا» في المراجع العربية القديمة، وإنما المستخدم هو «التكرور», وهو أعم من اسم «فوتا»، وقد حدّده بعض الباحثين بأنه: «هو إقليم واسع ممتد شرقاً إلى أدغاغ، ومغرباً إلى بحر بني زناقية، وجنوباً إلى بيط، وشمالاً إلى أدرار»(4).
ومعظم الكتاب من العرب والأفارقة الذين كتبوا عن السودان الغربي قد أطلقوا اسم «تكرور» على جميع بلاد السودان الغربي، وهي ممتدة من المحيط الأطلسي إلى حدود النيل(5), «بيد أنه لا يُذكر اسم تكرور اليوم إلا وفوتا تورو هي التي تتبادر إلى الأذهان، وخاصة التي في السنغال»(6), بخلاف أهل المشرق الغربي الذين يطلقون اسم «تكرور» على كل من جاء من غرب إفريقيا وغيرها، وهي تسمية قديمة وشائعة في الحاضر في الحرمين ومصر، ومندرسة في محلها السنغال.
المبحث الأول: دخول الإسلام إلى منطقة فوتا تورو:
إن منطقة «فوتا تورو» تمتاز عن غيرها من المناطق السنغالية بأنها عرفت الإسلام قبل سواها؛ حيث قامت فيها أول حكومة إسلامية تطبق شريعة الله تعالى، وهي التي حملت أمانة نشر الإسلام في الأقاليم المجاورة لها، وهي التي أمدت السنغال بأهم رجالاته الدينية والفكرية، والسؤال المطروح الآن هو متى انبثق نور الإسلام في منطقة فوتا تورو؟
إن الإسلام قد وصل إلى حوض نهر السنغال – فوتا تورو – في زمن مبكر، وذلك بُعيد وصوله إلى الشمال الإفريقي بزمن يسير، أي قبل فتح المرابطين للمنطقة في القرن الحادي عشر الميلادي، بل إن حركتهم أدت إلى ازدياد الداخلين في الإسلام، وقيام دولة إسلامية خالصة.
ومما يدل على قدم الإسلام في «فوتا تورو» ما ذكره البكري في كتابه «المغرب في ذكر بلاد إفريقية والمغرب», حيث قال: «مدينة تكرور أهلها سودان، وكانوا على المجوسية وعبادة الدكاكير، والدكور عندهم الصنم, حتى وليهم ورجابي بن رايس, فأسلم وأقام عندهم شرائع الإسلام وحملهم عليها، وحقق بصائرهم فيها، وتوفي ورجابي سنة 432هـ(7)، فأهل تكرور اليوم مسلمون»(8).
وقد زار البكري المنطقة عام 1066م ووجد فيها عدداً من المساجد بجانب عدد من المدارس القرآنية، كما وجد في عاصمة غانة – كومبي صالح – قرابة اثني عشر مسجداً في الحي الإسلامي.
وذكر القلقشندي: «أن أهل غانة أسلموا أول الفتح»(9), وهذا كله يرجع إلى هجرة العرب والبربر إلى بلاد السودان للتجارة والدعوة منذ الفتح الإسلامي لمصر وشمال إفريقيا، وقد احتكر التجار المسلمون الاتصال ببلاد السودان لأسباب دينية وتجارية، واستقر أعداد كبيرة منهم في تلك البلاد(10).
كذلك بذلت إمبراطورية أدغست الإسلامية جهوداً جبارة في نشر الإسلامي في حوض السنغال – فوتا تورو-, وقامت بدور كبير في الدعوة إلى الإسلام – قبل حركة المرابطين -, وجاهدت في نشر الإسلام جنباً إلى جنب مع تنشيط حركة التجارة بين بلاد السودان وشمال إفريقيا عبر الطرق الصحراوية.
ويذكر عن الملك الأدغستي تيبوتان (Tibotan) أنه كان شديد التحمس لنشر الإسلام بين قومه وبين الزنوج المجاورين له من ناحية الجنوب(11)، ثم جاء إسلام الملك وارجابي – كما سبق – الذي كان له أثر كبير في نشر الإسلام في القرن الحادي عشر في المنطقة، ولكن لا نستطيع أن نقول إن البلاد كلها حكومة وشعباً قد اعتنقت الإسلام، أو إن الإسلام صار الدين الرسمي للدولة إلا بعد مجيء المرابطين الذين أدوا دوراً كبيراً في تعزيز الإسلام في منطقة «فوتا تورو» وما جاورها.
وبهذا يمكن تقسيم مراحل انتشار الإسلام ودخوله في المنطقة إلى مرحلتين:
1 – قبل المرابطين.
2 – على أيدي المرابطين الذين جاؤوا في النصف الثاني من القرن الحادي عشر الميلادي.
ويعود الفضل في قيام حركة المرابطين إلى الأمير يحيى بن إبراهيم الجدالي, والفقيه عبد الله بن ياسين الجزولي، ويُذكر أن سبب قيام دولتهم هو أن الأمير يحيى بن إبراهيم الجدالي مرّ على القيروان في طريق عودته من الحج, فجلس في مجلس أحد الفقهاء، وذكر له ما هم عليه من الجهل, وطلب من الفقيه أن يرسل معه إلى بلاده من يعلمهم الدين, وأرسله إلى الصديق الذي اختار له رجلاً يُدعى عبد الله بن ياسين الجزولي, فأرسله معه إلى الصحراء, فقام بالدعوة والتعليم في بلاد صنهاجة, ولما أكثر من الإنكار عليهم أرادوا الإيقاع به، فرأى أن يعتزل في رباط في جزيرة أمام مصب نهر السنغال – وقد حددها بعضهم بأنها جزيرة اندار (N’dar) في شمال غربي السنغال –(12)، وهذا ما جعله يهتك بقبائل فوتا مبكراً، وتوافد عليه الطلاب حتى كثر عددهم وبدؤوا بنشر الإسلام بين القبائل بالدعوة والجهاد، وقد استُشهد عبد الله بن ياسين في بعض مطارداته وقتاله للوثنيين في الجنوب(13).
وتولّى القيادة بعده الأمير أبو بكر بن عمر الذي أدى دوراً أساسياً لحركة المرابطين، فاتجه نحو الجنوب ففتح أودغست عام 1054م، ثم أوغل جنوباً في السودان الغربي، وتحالف ملك التكرور معهم، وخاض الحرب إلى جانبهم – وهو ما يدل على إسلامهم قبل فتح المرابطين -, ثم اتجهوا إلى عاصمة مملكة غانه كومبي صالح عام 469هـ / 1076م, وفتحوها وأقاموا عليها حاكماً مسلماً, وبفتحهم لغانا قامت أول دولة إسلامية في المنطقة، وكانت ممتدة حتى منطقة «فوتا تورو», ثم قامت إمبراطورية مالي الإسلامية عام 1240م على إثر سقوط إمبراطورية غانة, وقامت بقيادة ماري جاطه (ماري = السيد، وجاطه = الأسد، أي السيد الشجاع كالأسد) الذي دمر عاصمة غانة.
وقد توسعت مملكة مالي في عهده وعهد خلفائه، وخصوصاً في عهد منسا موسى (منسا = الملك، أي الملك موسى) الذي قام برحلته المشهورة للحج عام 1324م، ووصلت حدودها إلى ما وراء غاو (في جمهورية مالي) شرقاً، والسنغال غرباً, وسيكاسو (في جمهورية مالي) جنوباً, وولاته شمالاً(14)، وبهذا يكون قد تأصل الإسلام في المنطقة, وأدى إلى قيام الدولة الإسلامية في «فوتا تورو» بعد ذلك.
المبحث الثاني: قيام الدولة الإسلامية (الإمامية) في فوتا تورو:
إن الإسلام – كما سبق القول في الفقرة الماضية – قد وصل إلى «فوتا تورو» قبل فتح المرابطين, «وإن الروايات المتداولة بين السنغاليين هي أن الإسلام قد وصلهم من تيار جيش عقبة بن نافع… وتغلغل تماماً منذ بداية النصف الأول من القرن الحادي عشر الميلادي»(15), ولكن الدولة الإسلامية التي حكمها الإسلام حكومة وشعباً لم تقم إلا بعد فتح المرابطين, ثم في الدولة الإمامية (من 1776م إلى 1880م).
في عام 1776م قاد الشيخ العالم الفقيه سليمان بن راسين بال حركة إسلامية إصلاحية ضد دولة دينيان كوبي، وأسس مملكة إسلامية يحكمها العلماء باسم (الإمام)، كانت أول حكومة إسلامية تطبق الشريعة الإسلامية في «فوتا تورو»، وقاموا بنشر الإسلام في المنطقة وبناء المساجد وتشجيع مجالس العلم، كما حرّموا ممارسة النخاسة في مملكتهم، كما قال بيتون (Betoun) أحد المستعمرين المعاصرين للإمامية: «رفض الإمام ملك بول (فلان) هدايا الشركة، وحرّم بيع رعاياه, ومنع مرور قوافل العبيد في دولته»(16).
حياة الشيخ سليمان بن راسين بال:
ويجدر بنا أن نقف وقفة قليلة على سيرة مؤسس هذه الدولة الإسلامية في «فوتا تورو»: هو الشيخ سليمان بن راسين بن صمت بن بو بكر بن إبراهيم، من قبيلة (وطابي) إحدى القبائل الفلانية.
ولد ونشأ في قريته بودي (Boode)، وعندما كان عمره سبع سنين انتظم في سلك التعليم القرآني في القرى المجاورة، ولما أتم حفظ القرآن رجع إلى قريته (بودي) وافتتح كتّاباً لتعليم القرآن الكريم, وبعد فترة رحل لطلب العلم، فاتجه إلى الشمال في منطقة «تججكت» ومكث فيها, ثم ذهب إلى ميل (Meel) عند الشيخ الفاضل بن طالب، ومكث مدة تعلم خلالها علوم الشريعة واللغة، وتزوج فيها (ميل)، ثم رحل إلى حلقة الشيخ القاضي عمر فال في بلدة بير (Pir), وعند وصوله إلى تلك المحضرة (حلقة علمية) انضاف إلى زملائه من الفوتيين الذين كانوا اللبنة الأولى للحركة الإصلاحية الإسلامية في «فوتا تورو»، وكانوا قرابة أحد عشر طالباً.
ومن أشهرهم:
– عبد القادر كن، إمام الدولة الإمامية بعد سليمان.
– جيرنو سعيد عثمان تال (والد الحاج عمر الفوتي).
– الشيخ سليمان بن راسين بال مؤسس الدولة.
وفي هذه المحضرة وضعوا مبادئ الدولة الإسلامية التي تتلخص في:
– إسقاط حكم دينيان كوبي المجافي لقواعد الإسلام.
– إزالة الأعمال السيئة التي يقوم بها الحكام ضد الشعب.
– إقامة دولة إسلامية تستمد قوتها وقوانينها من الكتاب والسنة، ويتولى العلماء والفقهاء الحكم والإشراف المباشر على مجريات الأمور في البلاد(17).
ثم سافر الشيخ سليمان إلى منطقة «فوتا جلون» لمعرفة مبادئ الحركة الإصلاحية الإسلامية التي قادها ألفا إبراهيم جالو في «فوتا جلون», وبعد رجوع الشيخ من سفره بدأ يتجوّل في المدن والقرى للوعظ والدعوة إلى الإسلام، وأخذ الناس يستجيبون لدعوته ويتبعونه, وفي إحدى جولاته في البلاد وجد شاباً مربوطاً بالحبال يتلو القرآن الكريم، وسأله عن سبب ربطه، فقال له: «أنا تلميذ كنت أمشي في حال سبيلي فلقيني هؤلاء الناس وهجموا علي وشدوني بالحبال، وهم الآن يذهبون بي إلى ميناء (سان لويس) ليبيعوني للبيض، وما كان من الشيخ إلا أن طلب إطلاق سراح التلميذ، ولما رفضوا نفض واثباً عليهم مع تلاميذه, فنصره الله عليهم, وأطلق سراحه»(18).
وكذلك الحادثة التي كانت بينه وبين البيض (حلفاء دينيان كوبي), حيث كان البيض في الشمال (موريتانيا) تعوّدوا أخذ كيل معهود من القمح من سكان «فوتا» في وقت الحصاد، «ففي إحدى المرات استصغر البيضان الكيل – وكان الشيخ حاضراً – وزجره الشيخ، وأدى ذلك إلى نشوب الخصومة بينهما فضربه الشيخ بالمكيال»(19).
وغير ذلك من الحوادث التي تثبت ظلم الحكام للرعية، وبخاصة حلفاء دينيان كوبي من الشمال الذين يفرضون الضرائب الباهظة على المزارعين، وقد بدأ الشيخ بعد هذه الحوادث يحرّض الناس على التمرد والعصيان والاستعداد للحرب ومواجهة السلطة، وهكذا بدأت الحرب بينه وبين الحكام، وكان الشيخ شجاعاً, ويأمر أتباعه بالصبر في الجهاد، وقد استمر الشيخ في الدعوة والجهاد حتى أسقط حكم دينيان كوبي في «فوتا» عام 1776م.
وقد لقي الشيخ سليمان بن راسين ربّه شهيداً في إحدى مطارداته للأعـداء في عـام 1780م – رحمه الله -.
وكان الشيخ قبل وفاته قد رشح لخلافته أربعة من العلماء، وهم:
1 – عبد القادر كن.
2 – تفسير بوفيل.
3 – عبد الكريم جاوندو.
4 – تفسير أحمد حماد.
وقد اشترط الشيخ في الإمام الذي يخلفه ثلاثة شروط، وهي:
1 – أن يكون حافظاً للقرآن الكريم حفظاً جيداً.
2 – أن يكون ذا باع طويلة في الفقه وعلوم الشريعة.
3 – أن يكون متقناً لرسالة ابن أبي زيد القيرواني، ومختصر الخليل، وتحفة الحكام لابن عاصم الأندلسي(20).
ثم أردف الشيخ سليمان بن راسين على هذه الشروط بوصية يقول فيها: «فإن مت فانظروا إماماً عادلاً زاهداً ورعاً لا يجمع الدنيا لنفسه، ولا لعقبه، وإذا رأيتموه قد كثرت أمواله فاعزلوه، وإذا امتنع فقاتلوه واطردوه، لئلا يكون ملكاً عضوضاً يتوارثه الأبناء، وولوا مكانه غيره من أهل العلم والعمل من أي القبائل, ولا تتركوا الملك في قبيلة خاصة لئلا تدّعي الوراثة، بل ملّكوا كل مستحق»(21).
الشيخ عبد القادر ُكنَ ودوره في نشر الثقافة الإسلامية واللغة العربية:
اجتمع أتباع الشيخ سليمان بال بعد وفاته – مجلس الشورى -, وتم اختيار الشيخ عبد القادر كُنَ للإمامة, وذلك عام 1780م.
ويعد الشيخ عبد القادر المنظم الحقيقي للدولة الإمامية, فقد قام بعدة إصلاحات في جميع المجالات.
ففي مجال السياسة: نظم الحكم والإدارة تنظيماً جيداً وفق الشريعة الإسلامية، واستتب الأمن في البلاد, وكان الأمن قبل ذلك مسألة مقلقة, ثم نظّم المدن, ووطّن البدو الرحل, ثم اختار مدينة جيلون jilon)) مقراً للإمامة وعاصمة لبلاد «فوتا» لكونها تتوسط البلاد, ومنع تجارة الرقيق في دولته – التي كانت سائدة في ذلك الوقت -، وقد اختار ستة من العلماء يتولون حل المشكلات الأمنية والاجتماعية، ومسائل الحرب والسلم.
وفي مجال الثقافة: بني قرابة أربعين مسجداً جامعاً في البلاد، وعيَن لكل مسجد إماماً راتباً يتولى القضاء، وأسس في كل مسجد حلقات علمية للصغار والكبار لدراسة القرآن الكريم, والعلوم الشرعية واللغوية, وأسس المدارس القرآنية, والحلقات العلمية في أنحاء البلاد, ومن الصعب حصر عدد هذه المدارس, ولا تكاد قرية أو مدينة في عصره تخلو من مدرسة أو حلقة علمية مهما كانت صغيرة.
وفي عهده أُسست مدينة جولون (thiologne) التي أصبحت مدرستها من أشهر المدارس في الدولة الإمامية المتخصصة في الدراسات الأدبية واللغوية, وأنجبت فحولاً من علماء اللغة والأدب من أمثال الشيخ أحمد مختار آن, وتلميذه الشيخ محمد بابا ين الصديق وغيرهما, بل إن ما يزيد على 60% من العلماء, وبخاصة من الفلانيين في «فوتا» وغيرها, هم من تلاميذها أو من تلاميذ تلاميذها(22).
قد انتشرت الثقافة الإسلامية واللغة العربية في عهده انتشاراً واسعاً في جميع أنحاء بلاد «فوتا»، وظهر «في هذا الإقليم علماء أكثر من علماء تمبكتو، وحجاج كثيرون، وهو إقليم ظهر فيه الخير والبركة، وفيه علماء مجتهدون»(23).
لقد شجّع العلماء, وأولى العلم الاهتمام, وازدهرت الثقافية الإسلامية في «فوتا» ازدهاراً واسعاً, وأصبح إتقان اللغة العربية والتعمق في علومها والعلوم الشرعية محل فخر, ومباهاة للأسر والعائلات, وفي هذه الفترة نزعت «فوتا» قيادة الحركة الثقافية من حوض نهر النيجر.
وهكذا استمر الإمام عبد القادر في بناء الدولة الإمامية الإسلامية في «فوتا» إلى أن لقي ربه عام 1810م – رحمه الله -.
إن الدولة الإمامية من الدول الإسلامية التي نشرت اللغة العربية في منطقة فوتا وما جاورها في القرن التاسع عشر الميلادي, وقامت بحركة اجتماعية ودينية وسياسية هدفها نشر الإسلام, وتوحيد شعوب المنطقة ثم العمل على نشر الثقافة العربية الإسلامية.
وتولى حكم الدولة الإمامية بعده محمد الأمين، وهكذا استمرت الدولة الإمامية في نشر الإسلام ولغته في منطقة «فوتا» وما جاورها, إلى أن جاء الاستعمار الفرنسي إلى المنطقة.
وكانت الدولة الإمامية قد انقسمت في عهد الإمام بكر بن سعيد كُن إلى قسمين: قسم تورو الذي يقع في غرب البلاد على النهر، وهو أوسع، وقسم في شرق البلاد, وكان سبب انقسام الدولة كما قال الإمام بكر بن سعيد: «لأن الأمر أصبح ملكاً عضوضاً، كل يسعى لنفسه أو لعشيرته, قد رميت الشريعة الإسلامية عرض الحائط»(24).
المبحث الثالث: دخول الاستعمار إلى منطقة فوتا تورو وسقوط الدولة الإمامية:
بدأ الفرنسيون استعمارهم في المنطقة ببناء مراكز على الشاطئ، وفي 1626م أو 1629م أسسوا مستعمرة لهم عند مصب نهر السنغال في (سان لويس), وفي عام 1758م احتلت بريطانيا المستعمرة, ثم عادت إلى فرنسا بموجب معاهدة 1783م، وحاولت بريطانيا خرق هذه المعاهدة والعودة لاحتلال المنطقة، ولكن فرنسا استطاعت أن تثبت أقدامها في المنطقة ابتداء من 1817م، وأخذت تغري بعض الإمارات الإسلامية بالدخول معها في حلف…، وقد استجاب – للأسف – بعض منها لدعوة فرنسا(25).
وفي عام 1854م لما أرادت فرنسا توسيع دائرة استعمارها عينت الجنرال «فيدهرب»(26) حاكماً عاماً للسنغال, وكان ذا ذكاء حاد وأطماع واسعة…، وأخذ على نفسه مهمة ضرب الأقاليم الفوتية بعضها على بعض…, وكان هدف فرنسا منذ تسلم «فيدهرب» القيادة هو الوصول إلى حوض النهر بمالي، ولا يمكن ذلك من غير فصل الأقاليم الفوتية بعضها عن بعض, وإدخال الواحد تلو الآخر في حماية فرنسا(27)، خصوصاً بعد نجاحها في جر بعضها للتحالف معها.
وفي 23 مايو سنة 1854م قاد «فيدهرب» حملة عسكرية ضد «جلمت» عاصمة الإقليم الغربي لبلاد «فوتا»، وذلك بعد أن استنفد كل الوسائل السلمية لإقناع الإمام سعد بن بو بكر كن لقبول حماية فرنسا, وكانت الحملة تتكون من 1800 جندي مسلحين بعتاد حربي جيد، وحاصرت العاصمة، وكانت متحصنة تحصيناً جيداً يحيط بها سور ضخم، ارتفاعه تسعة أمتار وعرضه ثلاثة أمتار، وقواتها تُقدّر بألفي مقاتل, واستخدمت فرنسا الدبابات التي كانت تجرها الخيول – استخدمها ضد الإقليم لأول مرة في وادي السنغال – لما رأى من شدة المقاومة، حتى إن «فيدهرب» عدّ سقوط المدينة معجزة كبيرة، لتحصنها وثبات رجالها, وقد تكبدت فرنسا خسائر فادحة في المعركة، وكانت هذه هي العقبة الرئيسة ضد توغل فرنسا في داخل المنطقة، وفي هذا الصدد يقول «فيدهرب» في أحد تقاريره بعد المعركة: «وكانت جملت عقبة كبرى حالت دون أخذ فوتا منذ أربعين سنة، أما وقد استطعنا الآن ضرب هؤلاء الغوغائيين!! الذين كانوا يعتقدون أنهم لن يُغلبوا؛ فإن الأمور سوف لن تكون صعبة أمامنا»(28).
وفي عام 1856م وقّع إقليم «دمغا» على اتفاقية الحماية مع فرنسا، وإقليم «دمت» كذلك في عام 1858م، ثم «تورو» عام 1860م، ولم يبق أمام فرنسا إلا «لاويرلاب», و «بوسيا قينار».
وكانت هذه الفترة فترة مضطربة, اشتد فيها التطاحن والتنافس من أجل منصب الإمامية في الأقاليم التي لم تكن تحت حماية فرنسا.
وقد أدى ضعف الحكام وتنافس الأئمة من أجل المناصب إلى سرعة التدخل الفعلي لفرنسا واحتلال ما تبقى من الأقاليم، حيث سلم الإمام سيري بابا عام 1881م للانتداب الفرنسي, وكان آخر إمام للدولة الإمامية الإسلامية في منطقة «فوتا تورو».
(*) الجامعة الإسلامية بالنيجر.
(1) عمر باه: الثقافة العربية والإسلامية في الغرب الإفريقي، ط 1 – 1993م، مؤسسة الرسالة، بيروت، ص 40، بتصرف.
(2) خديم محمد سعيد امبكاي: تقرير عن التعليم الإسلامي في السنغال الواقع والمأمول، حوليات الجامعة الإسلامية بالنيجر، العدد السادس، ص 405.
(3) عمر باه, المصدر السابق، ص 51.
(4) الطالب محمد بن أبي بكر البرتلي الولاتي: فتح الشكور في معرفة أعيان علماء تكرور، ط 1 – 81، دار الغرب الإسلامي، بيروت، ص 26.
(5) راجع: إنفاق الميسور في تاريخ بلاد التكرور, للشيخ محمد بللو، الطبعة الثانية، 1964م، القاهرة، ص 29.
(6) عمر باه، مصدر سابق، ص 41.
(7) أي قبل المرابطين بحوالي سبع وثلاثين سنة.
(8) أبو عبيدة البكري: المغرب في ذكر بلاد إفريقية والمغرب, دار الكتاب الإسلامي, القاهرة بلا تاريخ، ص 172.
(9) القلقشندي: صبح الأعشى، ج1، طبعة المؤسسة العامة للتأليف والترجمة والنشر، القاهرة، بلا تاريخ، ص 284.
(10) إبراهيم طرخان: إمبراطورية غانة الإسلامية، الهيئة المصرية للتأليف والنشر, 1970، ص 41 – 42.
(11) المصدر السابق، ص 42.
(12) سيلا عبد القادر: المسلمون في السنغال، كتاب الأمة 12 – الدوحة – قطر – 1406هـ، ص 51.
(13) عصمت عبد اللطيف: دور المرابطين في نشر الإسلام في غرب إفريقيا، ط1 – 88، دار الغرب الإسلامي، بيروت، ص 54.
(14) المصدر السابق، ص 55.
(15) عمر باه، مصدر سابق، ص 55.
(16) ألفا هاشم: تعريف العشائر والخلان بشعوب وقبائل الفلان، طبعة مكتبة مصطفى الحلبي القاهرة، 1955م، ص 6.
(17) عمر باه, السابق، ص 135 – 136، بتصرف.
(18) موسى كمرا: زهور البساتين في تاريخ السودان، ج 1 / 532، مخطوطة في إيفان بدكار.
(19) سيري عباس صو: تاريخ فوتا، داكار، ص 172.
(20) عمر باه, مصدر سابق، ص 139، بتصرف.
(21) موسى كمرا، مصدر سابق، 1 / 541.
(22) عمر باه, مصدر سابق, ص 185
(23) ألفا هاشم, مصدر سابق، ص 7.
(24) أبو بكر خالد باه: صور من كفاح المسلمين في إفريقيا العربية، الحاج عمر الفوتي حياته وجهاده، بدون تاريخ، ص 8 23. انظر: نعيم قداح: إفريقيا الغربية في ظل الإسلام, ط 1 – مكتبة أطلس, دمشق – 1960م، ص 82، بتصرف
(25) أحمد شلبي: موسوعة التاريخ الإسلامي، مكتبة النهضة المصرية، ط 5، 1990، 6 / 256.
(26) عُين في عام 1854م الجنرال لويس فيدرب (LOUIS FAIDHERBE) حاكماً على السنغال، ليدعم نفوذ فرنسا, في المنطقة.
(27) أبو بكر خالد باه، مصدر سابق، ص 88.
(28) أبو بكر خالد باه، مصدر سابق، ص 89.