منذ بضعة أعوام كتبنا عن أن منطقة الساحل أصبحت بؤرة ساخنة للجماعات الإرهابية على مستوى العالم. ولا تزال المنطقة تتعامل مع مشكلة بالغة التعقيد والتشابك، تتسم بالتطرف المحلي والتهديدات الخارجية. وقد حولت قضية التهديد الإرهابي العنيف مساحات منطقة الساحل الشاسعة المفتوحة وحدودها التي يسهل اختراقها إلى مركز للهجرة غير الشرعية وتهريب المخدرات، مما يؤثر ليس فقط على المنطقة ولكن أيضًا على البلدان المجاورة والعالم بأسره. وعليه يُعد فهم متغيرات الإرهاب في منطقة الساحل أمرًا بالغ الأهمية لصياغة مقاربات فعالة تعالج أسبابه الاجتماعية والسياسية والاقتصادية الكامنة، مما يؤدي في النهاية إلى حلول مستدامة.
إن وجود جماعات معولمة مثل تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي وتنظيم داعش في الصحراء الكبرى يوضح الصلة بين الإرهاب في منطقة الساحل وشبكات الإرهاب العالمية. وأحيانا تتعاون هذه الجماعات في تبادل الموارد ونشر الأفكار وتنفيذ العمليات العنيفة. علاوة على ذلك، فإن مشاركة جهات خارجية مثل فرنسا والولايات المتحدة وروسيا في عمليات مكافحة الإرهاب قد وسعت نطاق الصراع وآثاره العالمية، مما جعل منطقة الساحل منطقة ذات اهتمام أمني دولي.
وتمتد منطقة الساحل من المحيط الأطلسي إلى البحر الأحمر، وهي مستقر لأكثر من 150 مليون شخص في حوالي عشرة بلدان. وتتأثر بوركينا فاسو ومالي والنيجر وموريتانيا وتشاد بشكل خاص بالصراعات المسلحة والتطرف العنيف. كما تواجه هذه الدول أزمات سياسية وأمنية متشابكة بسبب انتشار الجماعات الإرهابية العابرة للحدود وشبكات الجريمة المنظمة المتورطة في تهريب المخدرات والأسلحة والبشر. كما توفر التضاريس الصحراوية القاسية لهذه الجماعات ملاذًا آمنًا، وتحميها من القوات الحكومية. ومن الناحية التاريخية، حاولت القوى العظمى دعم حكومات منطقة الساحل تحت ستار بناء الدولة الوطنية، وتعزيز الحرية والمساواة والحكم الرشيد. ومع ذلك، غالبًا ما تأتي هذه الجهود بنتائج عكسية، مما يؤدي إلى رفض النفوذ والهيمنة الأجنبية. لم يكن بمستغرب أن يكون هناك عداء متزايد تجاه فرنسا بسبب ماضيها الاستعماري وتدخلها المتصور في المنطقة.
إن التنوع العرقي والديني والطائفي في منطقة الساحل، إلى جانب وجود عدد كبير من المزارعين التقليديين ورعاة الماشية الذين يواجهون ظروفًا بيئية صعبة، يزيد من تفاقم الوضع. كما أدى انعدام الاستقرار الأمني والتوترات السياسية والفقر ونقص الفرص المتاحة للشباب إلى أزمات متشابكة تمثل مصدر قلق كبير لدول المغرب المجاورة والاتحاد الأوروبي، لا سيما فيما يتعلق بالهجرة غير الشرعية. ولا يخفى أن هذه العوامل تساهم في تحول القضايا الاجتماعية إلى تهديدات أمنية، خاصة على طول الحدود بين النيجر والجزائر وليبيا وموريتانيا. وقد ظلت موريتانيا محايدة في أزمة النيجر الحالية.
ويسعى هذا المقال إلى مناقشة التهديد الإرهابي في منطقة الساحل وأسباب تمدده إلى دول غرب إفريقيا.
أولًا: التهديد الإرهابي ودوافعه
ثمة ترابط بين الأزمات الاجتماعية والسياسية وانعدام الأمن وتدخلات مكافحة الإرهاب في تشكيل الإرهاب في منطقة الساحل. إن ضعف الحكم والصعوبات الاقتصادية والحدود التي يسهل اختراقها تخلق بيئة مواتية للجماعات المتطرفة. كما أن الجهات الفاعلة الخارجية، مدفوعة بدوافعها الخاصة وأجنداتها الجيوسياسية، تزيد من تعقيد الوضع. ويتطور الإرهاب في المنطقة باستمرار، ويتأثر بعوامل داخلية مثل التوترات العرقية والظروف الاجتماعية والاقتصادية، فضلاً عن التأثيرات الخارجية من جماعات إرهابية معولمة مثل القاعدة وداعش.
يبقى السؤال عن كيفية استجابة الجهات الفاعلة المحلية والإقليمية للأبعاد عبر الوطنية للإرهاب دون تعزيز التبعية أو تقويض السيادة دون إجابة إلى حد كبير.
إن زعزعة استقرار دول منطقة الساحل يمكن أن يكون له آثار سلبية على جيرانها. إذ تواجه الحكومات في المنطقة شبكة معقدة من التهديدات المتشابكة، إضافة إلى تزايد الضغط من الجهات الفاعلة الإقليمية والمحلية والدولية، مما يجعل من الصعب على السلطات الوطنية الحفاظ على الاستقلالية في سياساتها الأمنية. ومن المرجح أن تعيق القضايا الأمنية الداخلية قدرة الحكومات على معالجة هذه التحديات بفعالية، مما يزيد من خطر التصعيد.
ثانيًا: الجماعات الإرهابية العاملة في المنطقة
يمكن القول إجمالًا أن جماعة نصرة الإسلام والمسلمين وتنظيم داعش في الصحراء الكبرى هما من أبرز الجماعات الإرهابية العاملة في منطقة الساحل. بالإضافة إلى هاتين الجماعتين، تعمل حوالي ست مجموعات منشقة بشكل شبه مستقل. وغالبًا ما تتنافس هذه المجموعات المنشقة مع المجموعة المهيمنة أو تتفوق عليها في مناطق عملياتها، مع الحفاظ على الولاء لقيادة جماعة نصرة الإسلام والمسلمين أو تنظيم داعش في الصحراء الكبرى.
إلى جانب هذه الجماعات، تستخدم العديد من منظمات الدفاع الذاتي المحلية الصغيرة والدعاة العنف في المناطق التي تتغلغل فيها جماعة نصرة الإسلام والمسلمين وتنظيم داعش في الصحراء الكبرى. ومن الملاحظ أن هذه الجهات الفاعلة المحلية تتخذ موقفا دفاعيًا لحماية مجتمعاتها من المنظمات المتطرفة. وعلى سبيل المثال نجد أنه في عام 2021، كان هناك انخفاضًا بنسبة 4٪ في عدد الوفيات الناجمة عن الحوادث الإرهابية في المنطقة مقارنة بالعام السابق.
ومع ذلك يعد مستوى العنف والإرهاب هو الأعلى بشكل عام في مالي وبوركينا فاسو. لقد عانت هاتين الدولتين من الجماعات الإرهابية، التي زادت هجماتها في دول أخرى كذلك في منطقة الساحل منذ عام 2021. في الفترة من 2013 إلى 5 أبريل 2019، نفذ تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي 36 هجومًا في شمال مالي. كما تحملت بوركينا فاسو 33 هجومًا مدبرًا من قبل تنظيم داعش في الصحراء الكبرى في الفترة من 2018 إلى 2019.
تكرر اندلاع العنف في موريتانيا، حيث تم اختطاف أجانب من قبل إرهابيين للحصول على فدية. كما تصاعد نشاط ولاية غرب إفريقيا التابعة لتنظيم داعش في جنوب النيجر منذ عام 2020. وفي عام 2021، وجدت الجماعات الإرهابية أرضًا خصبة في ليبيا بسبب عدم الاستقرار والحرب الأهلية، وشنت هجمات واسعة النطاق على المدن الرئيسية.
في 8 يناير 2025، شنّ أعضاء جماعة “نصرة الإسلام والمسلمين” المرتبطة بتنظيم القاعدة هجومًا عنيفًا على موقع عسكري ضمن عملية “ميرادور” لمكافحة الإرهاب في شمال بنين، تحديدًا داخل منتزه “دبليو” الوطني العابر للحدود. أدى الهجوم إلى مقتل ما لا يقل عن 30 جنديًا بنينيًا، وهي أكبر خسارة مسجلة في تاريخ البلاد. هذا المنتزه يُعتبر منطقة استراتيجية مستهدفة من الجماعات المسلحة بسبب موقعه المحاذي للنيجر وبوركينا فاسو. كما أن الهجوم جاء ضمن سلسلة اعتداءات متصاعدة في المنطقة. ففي 20 يوليو 2024، تعرض موقع عسكري في شمال توغو لهجوم مشابه، وفي 2 أكتوبر 2024، استهدفت القوات التوغولية قرب الحدود مع بوركينا فاسو. هذه الهجمات تعكس توسع نشاط الجماعات الإرهابية في منطقة الساحل، مستغلة ضعف التنسيق الأمني بين الدول المجاورة.
ورغم الجهود المكثفة التي تبذلها بنين لتعزيز أمنها عبر عملية “ميرادور”، والتي تضم آلاف الجنود المدربين دوليًا، إلا أن التهديد الإرهابي يتفاقم بسبب الدعم اللوجستي الذي تحصل عليه الجماعات المسلحة من المناطق المجاورة مثل بوركينا فاسو والنيجر
ثالثًا: بؤرة عالمية للارهاب
في حين أن التهديد الإرهابي يختلف من بلد إلى آخر، فإن نشاط هذه الجماعات في منطقة الساحل منذ عام 2012، وفي بنين وتوغو منذ عام 2021، يُظهر أنه لا توجد دولة في غرب إفريقيا بمنأى عنه. وفقًا لمؤشر الإرهاب العالمي، لا تزال منطقة الساحل تُمثل بؤرةً عالميةً للإرهاب، حيث شهدت أكثر من نصف إجمالي الوفيات المرتبطة به في عام 2024. ومن بين الدول الساحلية بنين وكوت ديفوار وغانا وتوغو، كانت كوت ديفوار أول دولة تُستهدف في عام 2016 . ورغم أنها شهدت هدوءًا نسبيًا بعد عامين من الهجمات المتكررة في شمالها، إلا أن التهديد لا يزال قائمًا. ومن الملاحظ أن هذه البلاد تشترك في حدود طويلة مع مالي وبوركينا فاسو، حيث يستمر تدهور الأمن.
ربما تكون غانا هي الدولة الوحيدة في الغرب الإفريقي التي لم تشهد هجمات إرهابية. ومع ذلك، سُجلت عدة حوادث على طول حدودها مع بوركينا فاسو. وقد وُثّقت في غانا نقاط الضعف نفسها التي استغلتها جماعات في دول أخرى – مثل النزاعات على الأراضي، وتزايد الاستياء العام من أداء الدولة، والأنشطة غير المشروعة مثل التنقيب غير القانوني عن الذهب.
رابعًا: أسباب تمدد الظاهرة الارهابية
من المرجح أن تعزى أسباب تمدد الظاهرة الإرهابية إلى غرب إفريقيا إلى ما يلي:
- تجاوز الجماعات الإرهابية للعمليات العسكرية والأمنية: لم تعد الجماعات الإرهابية محصورة في مناطق الساحل التقليدية، بل تجاوزت العمليات العسكرية والأمنية الحكومية، مما سمح لها بتوسيع نطاق عملياتها وتجنيد عناصر جديدة وتأمين مصادر تمويل إضافية.
- الملاذات الآمنة في المتنزهات والغابات: توفر الغابات والمتنزهات الشاسعة، مثل مجمع دبليو-أرلي ومنتزه كوموي الوطني ومجمع أوتي، ملاذات آمنة للجماعات الإرهابية بسبب صعوبة السيطرة عليها ومراقبتها، خاصةً وأنها مناطق عابرة للحدود.
- ضعف التعاون الأمني الإقليمي: يساهم ضعف التعاون بين دول تحالف الساحل (مالي وبوركينا فاسو والنيجر) ودول الجماعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا (إيكواس) في تسهيل حركة الجماعات الإرهابية وتوسعها، حيث يمنع انعدام الثقة تبادل المعلومات الاستخباراتية وتنسيق العمليات العسكرية.
- النشاط الإجرامي والإرهابي المتزايد على الحدود: يسمح ضعف الرقابة الحدودية ونشاط الجماعات الإجرامية، مثل جماعة لاكوراوا في شمال غرب نيجيريا، بتوسيع نطاق الإرهاب ليشمل مناطق جديدة، مما يجعل من الضروري تعزيز التعاون الأمني الإقليمي.
وختامًا، فإن تمدد الظاهرة الإرهابية إلى غرب إفريقيا يرجع إلى استغلال الجماعات الإرهابية للمساحات الشاسعة والغابات كملاذات آمنة، وضعف التعاون الأمني الإقليمي، وتجاوزها للعمليات العسكرية والأمنية التقليدية. لمواجهة هذا التحدي، يجب على دول المنطقة تعزيز التعاون الأمني والاستخباراتي، وتأمين الحدود، والاستفادة من تجارب الدول الأخرى في برامج نزع السلاح والتسريح وإعادة الإدماج، بالإضافة إلى اتخاذ تدابير لمكافحة تمويل وتجنيد الجماعات المتطرفة.