عصام زيدان
باحث في الشؤون السياسية
في تلك الجمهورية الحبيسة، التي تقع جغرافيًّا وسط قارة إفريقيا, والتي تشتعل فيها الحروب العسكرية, والصراعات السياسية ممزوجة بلونٍ ما من ألوان الدِّين والعِرْق، ستُجْرَى الانتخابات تحت الشمس الساطعة, والأعين الساهرة من المراقبين الدوليين في الداخل والمحطات المتلفزة ووسائل الإعلام الأخرى من الخارج, بينما تدور معارك أخرى في الظل بين روسيا التي تحاول استعادة أمجادها الماضية إفريقيًّا, وفرنسا صاحبة النفوذ الاستعماري والتقليدي.
انتخابات تحت أشعة الشمس:
صباح الأحد 27 ديسمبر 2020م, هو الموعد المضروب سابقًا لإجراء الانتخابات الرئاسية في جمهورية إفريقيا الوسطى, والتي يتنافس فيها أكثر من 15 مرشحًا رئاسيًّا, بمشاركة نحو 50 مراقبًا من الاتحاد الأوروبي والإفريقي، يتابعون الانتخابات.
من بين المرشحين: الرئيس المنتهية ولايته، فوستان أركانج تواديرا، وهو الأوفر حظًّا في هذه الانتخابات؛ حيث فاز في انتخابات عام 2016م، واستهل ولايته الأولى بإعادة هيكلة الجيش، وفرض سيطرة الدولة على مقاطعات عدة؛ لكنَّ ولايته الأولى شهدت أيضًا فضائح فساد أثَّرت على شعبيته.
ويُعدّ أنيسيت جوروج دولوغيليه -وهو اقتصاديّ ورئيس وزراء سابق- المنافس الرئيسي لتواديرا مِن قِبَل المعارضة المنقسمة على نفسها.
أما الرئيس السابق فرنسوا بوزيزيه البالغ من العمر 73 عامًا، والذي أُطِيحَ به بانقلاب عام 2013م، وكان مصدر انطلاق الحرب الأهلية، فهو يملك قاعدة انتخابية كبرى، ويبدو كأنه المرشح الوحيد الذي يمكنه فعليًّا تهديد بقاء تواديرا في السلطة؛ فقد أعرب عن دعمه لدولوغيليه؛ بعدما رفضت المحكمة الدستورية ترشُّحه للرئاسة بسبب خضوعه لعقوبات من الأمم المتحدة، لدعمه لميليشيات تتهمها المنظمة الدولية بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية.
انتخابات في ظل التحديات:
على الرغم من التراجع الملموس للمعارك في جمهورية إفريقيا الوسطى, منذ 2018م وإبرام اتفاق للسلام في 2019م، فلا تزال المجموعات المسلحة المتمردة تشنّ هجمات متقطعة ضد قوات الأمن والمدنيين, خاصة مع قرب موعد الانتخابات الرئاسية.
وقد سيطرت تلك الميليشيات عسكريًّا على ثلثي المساحة الجغرافية لجمهورية إفريقيا الوسطى, بما فيها مدينة بامباري رابع أكبر مدن البلاد، والواقعة على بعد 380 كيلومترًا إلى شمال شرقي بانغي العاصمة.
وتهدف تلك الميليشيات، المرتبطة بالرئيس السابق, إلى زعزعة أو وقف الاستحقاق الانتخابي, وهو ما يُعدّ تحديًا حقيقيًّا, ويطرح تساؤلاً مثيرًا حول انتخاباتٍ يمكن أن تُجْرَى فقط في ثلث البلاد؛ حيث يقع ثلثا البلاد تحت سيطرة الحركات المتمردة, ما أدَّى إلى نزوح أكثر من ربع سكان البلاد البالغ عددهم 4.9 مليون نسمة خارج أراضيهم، بينهم 675 ألفًا اضطروا للجوء إلى دول مجاورة، ولا يستطيعون التصويت في هذه الانتخابات.
معارك الظل:
ثمة معركة أخرى تدور في الظل بين روسيا وفرنسا على هذا البلد الذي يُعدّ مستعمرةً فرنسيةً سابقة, وتَعُدّه فرنسا ضمن نفوذها السياسي والعسكري في إفريقيا.. فما الذي تريده روسيا؟, وما الذي تبحث عنه فرنسا في جمهورية إفريقيا الوسطى؟
نقطة البداية من روسيا التي تزاحم فرنسا في نفوذها عسكريًّا وسياسيًّا.. فقد أعلنت عن إرسال قوات ومعدات عسكرية ثقيلة إلى تلك الجمهورية الإفريقية, إضافةً إلى مدرّبين عسكريين, وهو ما يُعدّ الكلمة الخفية المستخدَمة للتغطية على المرتزقة الروس التابعين لشركة “فاغنر” التي يُموّلها رجل الأعمال “يفغيني بريغوجين” المقرّب من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين.
هذا التمدُّد العسكريّ الروسيّ ليس وليد اللحظة, بل يعود إلى سنوات مضت, وتحديدًا إلى عام 2017م, حين طلب رئيس جمهورية إفريقيا الوسطى من روسيا المساعدة في تجهيز القوات المسلحة للبلاد بالأسلحة والذخيرة، وصولاً إلى تشكيل الحماية الخاصة بالرئاسة, وفتحت روسيا في عام 2019م مكتبًا عسكريًّا في “بانغي” يشغله أربعة جنرالات، وسلمت أسلحة لإفريقيا الوسطى خلال العامين الماضيين بعد منحها استثناءً من الحظر الأممي على السلاح المفروض على البلد.
وربما يرجع سبب الاهتمام بهذه الجمهورية التي تبدو وكأنها خارج سياق الاهتمام الروسي, إلى ثلاثة أسباب:
السبب الأول: حرص روسيا على وضع أقدامها في أماكن النزاعات والصراعات العسكرية؛ أملاً في الحصول على عقود أمنية للمرتزقة الروس الذين لا تخفى علاقاتهم بالرئيس الروسي بصورة مباشرة, والمؤسسات العسكرية الروسية بصفة عامة, وهو أمرٌ يدعمه الوجود الروسي الكثيف في سوريا, إضافةً إلى أن ذلك يدعم وجودها كقوة فاعلة ومؤثِّرة في الساحة الدولية.
السبب الثاني: الحصول على المقابل الاقتصادي السخي, ففي مقابل هذا الدعم العسكري المتواضع جدًّا من روسيا، منحت حكومة إفريقيا الوسطى رُخَصًا لاستغلال مناجم ذهب وألماس لشركات روسية مرتبطة برجل الأعمال “يفغيني بريغوجين” مُمَوِّل شركات “فاغنر” كما أسلفنا من قبل.
السبب الثالث: مزاحمة الوجود الفرنسي, ومناكفة الرئيس الفرنسي ماكرون في إطار الخلافات بين موسكو وباريس على الساحة الدولية, واستغلال الانشغال الفرنسي بمواجهة “الإرهاب” في دول الساحل.
وقد أخذت هذه المنافسة أشكالاً عدَّة؛ في مقدّمتها التنافس في مجال التأثير في الانتخابات الرئاسية المرتقبة؛ حيث أعلنت شركة “فيسبوك” عن حَجْب 3 شبكات مكوّنة من صفحات زائفة تهتمّ بنشر التضليل ومحاولة التأثير على دول إفريقيَّة عبر موقع “فيسبوك” للتواصل الاجتماعيّ.
وقالت الشركة: إنها حجبت ما مجموعه حوالي 500 صفحة، موزعة على 3 شبكات، كانت اثنتان منها مرتبطة بـ”أشخاص على صلة بوكالة أبحاث الإنترنت” في روسيا والثالثة بالجيش الفرنسي كانت تستهدف 13 دولة إفريقية، بينها الجزائر وليبيا والكاميرون والسودان وغيرها، ومركّزة بشكل خاصّ على جمهورية إفريقيا الوسطى.
فرنسا ردّت على هذا الغزو الروسي لمنطقة نفوذها التقليدية على استحياء، وبما يعكس الاهتمام الخافت بمجريات الأحداث في جمهورية إفريقيا الوسطى, عاكسة انحسار نفوذها في إفريقيا الوسطى في الأعوام الماضية، خاصةً على المستوى العسكري، وجاءت خطواتها المتزامنة مع الوجود الروسي في الإعلان عن نشر طائرات مقاتلة في سماء “بونغي” في إطار تهديد الميليشيات المتمردة بإمكانية دخولها على خط المواجهة إذا اقتضى الأمر ذلك.
وأخيرًا:
ستُجْرَى الانتخابات في جمهورية إفريقيا الوسطة “بمن حضر” من الناخبين, وسيفوز فيها “مَن يملك” القوة العسكرية والسلطة السياسية, بغضِّ النظر عن توجُّهات الناخبين وأصواتهم, وسيبقى البلد رَهِينَ الصراعات التي تدور تحت أشعة الشمس الحارقة, والتي تخرج من نطاق الدولة الحبيسة لتستقطب صراعاتٍ أخرى أشدّ حدَّةً وأقوى بأسًا بين القوى الدولية, ولكنَّها في كلِّ حال تُجْرَى في الظل.