د. أيمن السيد عبدالوهاب
نائب مدير مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية
وخبير الشؤون الإفريقية والمياه بالمركز
فرَض سدّ النهضة الإثيوبي ومن قبل اتفاق عنتيبي -الذي ترفضه مصر والسودان- لغة التنافس والصراع، ومحاولة فرض سيادة منطق الأمر الواقع، على مقوّمات لغة التعاون والتفاهم بين دول حوض النيل.
هذه النتيجة تبدو مستندةً للعديد من المؤشرات التي فرضتها نتائج المحادثات المتعثرة بين مصر والسودان وإثيوبيا، وتجميد مبادرة دول حوض النيل، وصعوبة الحديث عن قرب التوصل إلى اتفاق قانوني ومؤسّسي يجمع دول حوض النيل، كما كان مأمولاً من مبادرة دول الحوض.
وهذا يعني صعوبة تجاوز العديد من العقبات والقيود التي يأتي في مقدمتها: الحرص الإثيوبي على عدم الالتزام بأيِّ أُطُرٍ قانونية ملزمة، والرغبة في فرض الهيمنة المائية، وتغيير معادلات التعاون المائي وركائزه القديمة، بالإضافة لما سبق أن فرضه اتفاق عنتيبي من خلافات حول مفهوم الأمن المائي، وتحديد الموقف من عملية الإخطار المسبق للمشروعات، وطريقة التصويت.
ويعني كذلك عدم توافر إرادة جماعية لإنجاز اتفاقية لتنظيم وتنمية مياه النيل بين دول الحوض، وعدم الاستفادة من الخبرات والدروس التي كشفت عنها أُطُر وتجارب التعاون السابقة (مشروع الدراسات الهيدرومترولوجية، تجمُّع الأندوجو، تجمع التيكونيل، مبادرة دول حوض النيل).
ويعني قبل ذلك كله أنَّ تجاوز الميراث التاريخيّ والحساسيات السياسية والاستناد إلى تغليب النمط الأحادي للتنمية سيظل لفترة ليست بالقريبة حجر عثرة أمام التوصل إلى اتفاق نهائي، سواء بالنسبة للحوض الشرقي الذي يضمّ مصر والسودان أو بالنسبة لدول الحوض جميعًا.
وإذا كانت نتائج المحادثات مع إثيوبيا، وتعثر المفاوضات مع باقي دول الحوض تدفع إلى مزيد من الترقُّب والحذر، والخوف من استمرار الدوران في حلقة مفرغة، فإنَّ البحث عن سُبُل تغيير السياق الحاكم لمنهاج المحادثات، وما يستند إليه من مرتكزات عاكسة لطبيعة التوازنات بين دول الحوض وتشابكاتها الإقليمية والدولية، يظل هو الأمل الوحيد للخروج من نفق المفاوضات.
ولكنَّ الشروع في تكوين معادلة جديدة للتفاوض يتطلب الأخذ في الاعتبار دروس الماضي، وآفاق التغيير الذي اكتنف معادلات المصالح في حوض النيل -كما سيتضح لاحقًا-، ومن ثَمَّ يجب أن تستند المعادلة الجديدة إلى رؤية جماعية للتعاون قائمة على مفهوم مثلثات التنمية (وخاصة المتعلقة بتكامل سياسات الأمن المائي، وأمن الغذاء، وأمن الطاقة)، وقاعدة عدم الإضرار، وأن يتوافر لها القرار السياسي والإرادة الجماعية كمحدِّدات رئيسية ترتكز إليها تلك المعادلة. وأن تتبنَّى أهدافًا حقيقية تلبّي متطلبات التنمية المتوازنة لكل دول الحوض لمواجهة القيود السياسية وحالة عدم الاستقرار السياسي التي تشهدها منطقة البحيرات والقرن الإفريقي.
واتساقًا مع هذه الرؤية، يمكن الإشارة إلى عددٍ من الضروريات التي يجب أن تصيغ هذه الرؤية، نذكر منها:
أول هذه الضرورات يرتبط بالمنظور التنموي الذي تسعى دول حوض النيل لطرحه؛ من خلال جملة من المطالب والمشروعات الكبرى، وهي مشاريع بطبيعة الحال تأتي على قمة احتياجات هذه الدول، ولكنَّها في المقابل تضرب القاعدة الدولية التي تُرسّخها الاتفاقيات والبروتوكولات الدولية المنظِّمة لعملية اقتسام مياه النيل، فضلاً عن تجاوزها لقاعدة تحقيق المنفعة للجميع وعدم الإضرار بالغير، والتي تُجسِّدها “مبادرة دول حوض النيل”، فهذه المشاريع تمسّ حياة المصريين وليس فقط عملية التنمية والأمن.
أما الضرورة الثانية فتستند إلى محاولة تهميش الجوانب السياسية الدافعة لطرح هذه المطالب التنموية في هذا التوقيت بالذات، وهو توقيت تشهد فيه منطقة حوض النيل العديد من المتغيرات المحفّزة لإعادة النظر في الكثير من المحددات التي حكمت التفاعلات وتوازنات القوى في تلك المنطقة. فهناك المشهد الإثيوبي وما يعانيه من صراعات داخلية وعدم استقرار، وما يعتريه من صراع حول مستقبل النظام السياسي وهويته وشكل الدولة (وهو ما يتجلَّى في الصراع بين الحكومة المركزية الإثيوبية بقيادة “آبي أحمد” وجبهة تحرير شعب تيجراي)، وهناك المشهد السوداني وما تعكسه المرحلة الانتقالية الحالية من ضغوط وإعادة بناء، وما تشهده الصومال من تحديات تتعلق باستقرار الدولة، وما تفرضه تداعيات الإرهاب الدولي من تأثيرات على المنطقة.
فضلاً عن صعود الدور الإقليمي للعديد من دول الحوض، ومحاولة ربط هذا الدور بالعديد من الملفات والقضايا الشائكة مثل مكافحة الإرهاب، والتدخل في الشؤون الداخلية، وجنبًا إلى جنب مع تنامي التنافس الدولي على الموارد الطبيعية وتكالب القوى والشركات العالمية على منطقة شرق إفريقيا ومنطقة الحوض.
أما الضرورة الثالثة فترتبط بأهمية الانتقال لمفهوم تكاملي للسياسات التنموية وخاصة في مجالات الطاقة والغذاء والماء استنادًا لرؤية أوسع وأعمق في التعاون تستهدف تعظيم المزايا النسبية لكل الدول، والربط بين معادلة التنمية والاستقرار من جانب، وحوكمة الموارد من جانب ثانٍ كمدخل لتعظيم الفوائد والمكاسب التنموية، وتجاوز نمط التفاعل عند المستوى الأدنى من التعاون وهو التعاون الفني.
أولاً: نهر النيل رابط تنموي
هناك مجموعة من الحقائق التي فرضها وجود نهر النيل، والتي يمكن أن تُعظِّم فرص كونه رابطًا تنمويًّا بين دوله، شريطة أن يتم تناولها بمنهاج جديد ورؤية تنموية مغايرة تأخذ في الحسبان دروس الماضي -كما يتجلى لاحقًا-: منها :
1- أن مشكلة المياه ليست في نُدرتها، ولكن في القدرة على إدارة وتنظيم التعاون المائي، فما يتم استغلاله من المياه الساقطة على الحوض لا يتجاوز نسبة 10% مِن قِبَل جميع دول الحوض.
2- تباين درجات الأهمية الخاصة بعلاقة مياه النهر بالبعد التنموي في دوله>
3- الخلاف على حصص المياه.
4- تزايد الاعتبارات المحددة لقيمة قطرة المياه بما يتجاوز الاعتبارات الاقتصادية إلى اعتبارات أخرى سياسية وأمنية واجتماعية.
5- بقاء مستوى التعاون الجماعي بين دول النهر عند مستوى الحد الأدنى القاصر على التعاون الفني لفترات زمنية طويلة بسبب تسييس قضية المياه.
هذه الحقائق تمثل بعض أجزاء العلاقة العضوية بين دول النهر، وإن كان هناك من جديد تفرضه المستجدات والمتغيرات الدولية على هذه العلاقة، فإنه يتمثل في تنامي الشعور بأهمية العمل الجماعي، وتحقيق المنفعة للجميع وعدم الإضرار بالغير، فضلاً عن تزايد ضغوط متطلبات التنمية من تعاظم الاتجاه نحو بناء التكتلات الاقتصادية الكبرى، والتعامل مع قضية الندرة وسوء توزيع المياه بما يمكن تسميته بـ”كفاءة التخصيص”. كذلك دخول المؤسسات الدولية كطرف دافع لرسم السياسات المائية المدعمة بالبرامج الفنية والاقتصادية.
وهو ما يقودنا لأهمية الوقوف على حقيقة استجلاء حدود كون المياه تُشكّل أداة ضغط على العلاقات بين دول حوض النيل علي امتداد تاريخها، مع الأخذ في الاعتبار صلتها الوثيقة بالمرحلة الراهنة التي يمر بها أطراف هذه العلاقة، فرغم عدم وقوع حروب بسبب ندرة المياه خلال عقد التسعينيات كما تكهَّن العديد من الباحثين والسياسيين، وأيضًا رغم عدم انطباق هذا التكهن على العديد من النزاعات والتوترات في المنطقة، إلا أنه يعتبر إنذارًا يتهدّد المنطقة؛ حيث تشير التقديرات والتقارير الدولية إلى مخاطر حدة التنافس المتوقعة على المياه، ولا سيما في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا.
والصورة في نهر النيل تحمل العديد من السلبيات التي يمكن أن تقلل إلى حد كبير من فرص التفاهم والعمل المشترك بين دول الحوض. فهذه الدول لا تزال عُرْضَة لمخاطر الجفاف الدوري والفيضانات وعرضة لتدهور مستوى المياه وسلامتها، كذلك لمخاطر الحروب الأهلية والمجاعات، بالإضافة لما تعكسه حقائق الزيادة السكانية وسوء استخدام المياه.
وبالتالي فإن احتمالات النزاع على المياه تبقى أمرًا يصعب استبعاده، خاصة إذا ما أخذنا في الاعتبار مجموعة الصعوبات والتعقيدات التي تحفل بها التفاعلات السياسية في منطقة الحوض، وعدم نجاح دول الحوض في إيجاد منظمة إقليمية فرعية.
في المقابل، نجد أن هناك العديد من الخطوات الإيجابية والعلامات المضيئة على طريق العلاقات التعاونية بين دول حوض النيل؛ فعلى سبيل المثال، هناك منظمة الكوميسا التي تضم جميع دول الحوض، وهناك أيضًا الأشكال المتعددة من التعاون الثنائي، وهناك كذلك اتجاه متزايد يستبعد فكرة الصراع على أساس أن سوء توزيع المياه، وليس الندرة، هو التحدي الذي يستوجب مواجهته، وبالتالي يمكن تحديد هدفين أساسيين لهذه المرحلة:
يتعلق الهدف الأول بعمليات التنمية الشاملة على المستوى الجماعي، وذلك من خلال العمل على توفير نحو 47 مليار م3 من المياه المستقطَبَة من فواقد مياه المنابع الاستوائية والحبشية التي تزيد على 95% من المصادر المائية المتوافرة في هذه المنابع، ويمكن اقتسام بعض هذه الكميات المستقطَبة خاصة لصالح مصر والسودان.
أما الهدف الثاني فيستند إلى تعظيم الفائدة من وحدة المياه؛ من خلال جملة من السياسات المائية المدعمة بالبرامج الفنية والاقتصادية، بالإضافة إلى زيادة كفاءة استخدامات الموارد المائية، والحفاظ على نوعية المياه من التلوث. بعبارة أخرى يمكن القول: إن معادلة التكامل بين التنمية والأمن والاستقرار تظل أهدافًا صالحة للتطبيق في الفترة القادمة، كما كانت صالحة في فترات تاريخية سابقة، وإن كان المتغيّر الجديد يرتبط بتزايد درجة الإلحاح.
ثانيًا: الدروس المستفادة
تُشير خبرة التعاون وما تشهده عملية تعثّر المحادثات مع إثيوبيا وتوقُّف التفاوض الدائر بين دول الحوض إلى نتيجة رئيسية مفادها، أن حلم توقيع اتفاق قانوني ومؤسسي لتنظيم التعاون المائي بين دول الحوض ما يزال بعيدًا.
ومِن ثَمَّ، ربما يكون من الضروري قراءة ما أفرزته تلك المحادثات وجولات التفاوض على مدى أكثر من عقد من الزمان من نتائج، وعلاقاتها بواقع التجارب السابقة، وما أسفرت عنه من دروس ودلالات, وهو ما يمكن إيضاحه على النحو التالي:
النتيجة الأولى تتعلق بخبرة تجارب التعاون، والتي تعكس أن فرص التعاون الثنائي والجماعي قائمة، وخاصة أن طبيعة الحوض أوجدت تقسيمًا بين قطاعاته يضمن تعميق أُطُر التعاون بقدر أكبر من أُطُر الصراع والتنافس، فباستثناء مصر والسودان -بدرجة أقل- لا تعتمد أي من الدول الأخرى على مياه النهر كأساس للحياة. وإن كانت ميزة توليد الكهرباء هي الشكل الأمثل لاستفادة تلك الدول من مياه النهر. بعبارة أخرى فإن مقولة أن طبوغرافية النهر قد أعطت المطر والزراعة للمصب والرعي والكهرباء للمنابع، ما تزال صحيحة إلى حدّ كبير، بالرغم من محاولات بعض دول المنبع تطوير نظم الري والزراعة بها.
النتيجة الثانية تتعلق بتباين الأوزان النسبية للقيود التي حالت دون نجاح دول الحوض على مدار نحو خمسين عامًا في إيجاد تجمع اقتصادي مثل التجمعات الإقليمية الفرعية الأخرى للأنهار في إفريقيا، وحالت أيضًا دون وجود أيّ تجمع أو إطار للتعاون المؤسسي الجماعي. وذلك رغم الحرص الجماعي المدفوع بمجموعة من العوامل الإقليمية والدولية، على التفاعل عند المستوى الأدنى من التعاون، وهو التعاون الفني، ويتجلى ذلك بوضوح في “مبادرة دول حوض النيل” التي شكّلت خطوةً أكثر تقدمًا، نتج عنها مشاريع التعاون الجماعي الثلاث (مشروع الدراسات الهيدرومترولوجية، تجمع الأندوجو، التيكونيل).
النتيجة الثالث تعكسها مجموعة من المحاذير والحقائق التي لم تستطع أن تعزّز من إمكانيات كون النيل رابطًا تنمويًّا بين دوله عبر فترات تاريخية ممتدة وحتى الآن. بالإضافة للقضايا التي لم تستطع المفاوضات حَسْمها حتى الآن.
فهناك ما يتعلق بالقدرة على تجاوز أزمة الثقة، وإعلاء مبدأ عدم الإضرار، والحدّ من تسييس ملف المياه، والتخفيف من الضغوط الداخلية المناهضة للحقوق المكتَسَبة والتاريخية لمصر في مياه النيل. بالإضافة إلى تحييد عوامل عدم الاستقرار الداخلية في بعض دول الحوض، والصراعات والخلافات بين بعض أطراف دول الحوض أو بعض دوله مع دول مجاورة ليست في الحوض، فالملاحظ أن هذه القيود ما تزال تفرض كلمتها على آلية التفاوض وسرعة دوران عجلتها.
ولذا كان تبنّي إثيوبيا لسد النهضة بما يتجاوز احتياجاتها، واتفاق عنتيبي الذي يسعى لتأسيس معادلات جديدة للتعاون، ومبادرة دول حوض النيل التي طرحت العديد من دراسات الجدوى والأفكار التي من شأنها أن تُعزّز فرص التعاون الجماعي؛ عكست جميعها الكثير من العقبات المقيّدة لعجلة المفاوضات، لا سيما باتجاه القضايا غير الفنية، السياسية بالتحديد. فالملاحظ أن تلك الأحداث بما تضمَّنته من محاور ورسائل ولاعبين دوليين لم تستطع أن تُغيّر الكثير من الميراث والحساسيات القديمة. فالمردود الحقيقيّ يظل محدودًا وغير مؤثر.
فالحديث عن أهمية العمل الجماعي وتحقيق المنفعة للجميع وعدم الإضرار بالغير، والتعامل مع قضية الندرة وسوء توزيع المياه بما يمكن تسميته بـ “كفاءة التخصيص”، كذلك دخول المؤسسات الدولية كطرف دافع لرسم السياسات المائية المدعمة بالبرامج الفنية والاقتصادية. تستطع هذه البنود التي احتوتها مبادرة حوض النيل أن تتحول إلى واقع ملموس، فما تزال نظرة دول الحوض قاصرة عند حدود المصالح الآنية والفردية.
النتيجة الرابعة ترتبط بمتغيّر مهمّ أحدث فارقًا في طبيعة التوازنات وأُطُر التعاون بين دول الحوض، لا سيما في إطار النظرة لمصر وضرورات التعاون معها. فكل من مشروع الدراسات الهيدرومترولوجية، وتجمع الأندوجو، كانت مصر هي اللاعب الرئيسي والمحرّك لمستوى التعاون وفلسفته، في حين تغيّر هذا الواقع مع دخول الدول المانحة بدور فاعل في التيكونيل، ومبادرة حوض النيل، ولذا تفاعلت الأبعاد السياسية مع الحساسيات القديمة بالقدر الذي انعكس على طموح دول المنابع وتشددها في مواقفها التفاوضية.
النتيجة الخامسة ترتبط بقدرة سد النهضة على تقديم نموذج وشكل لطبيعة التعاون أو الصراع المستقبلي على إدارة ملف التعاون المائي بين دول حوض النيل. وأن منهاج النفس الطويل الذي تبنَّته مصر والمستند إلى محاولة تفكيك العقبات التي تحول دون التوصل لاتفاق مع إثيوبيا بخصوص سد النهضة أو جماعي يراعي كافة مصالح دول الحوض في إطار اتفاق عنتيبي، ظل قاصرًا على تحجيم أو مواجهة سيناريو فرض الأمر الواقع حتى الآن.
النتيجة السادسة تتعلق بالأداء والتحرك المصري ودرجة كثافته في هذه اللحظة التي تتطلب تحركًا مستندًا لاستراتيجية متكاملة الأدوات متعدّدة المحاور تهدف لبناء مصالح مشتركة وبناء لوبي ورأي عام داخلي في دول المنابع يرتبط بالمصالح المصرية ويتفهّمها، وأن تتجاوز مصر بهذه الاستراتيجية منطق ردّ الفعل لاستيعاب الأزمات بتقديم مجموعة من الحوافز أو المساعدات. وهو ما أوضحه درس محاولة مصر احتواء أزمة أواخر عام 2003م عندما طالب أعضاء برلمانات ثلاث دول (هي كينيا وتنزانيا وأوغندا) بعدم الاعتراف باتفاقياتها المنظِّمة للتعاون المائي مع مصر. فقد كان لكثافة التحرُّك وتعدّد محاوره وتنوُّع القضايا التي طرحت كسبيل للتعاون مع دول الحوض أثرها الواضح في تراجع هذه النغمة النشاذ مِن قِبَل بعض دول الحوض (وإن لم تختفِ نهائيًّا)، كما كان لتدخل رئيس الجمهورية وتحرك البرلمان المصري وتكثيف النشاط الدبلوماسي أثره الواضح في مواجهة هذه الأزمة، التي ما لبست أن تفجرت في أزمة التوقيع المعروفة بأزمة عنتيبي.
النتيجة السابعة ترتبط بحجم التحدّي الذي تواجهه السياسة المصرية للوصول لاتفاقية جماعية لتنظيم مياه النيل. فعلى المستوى الداخلي، تبدو ضغوط المتطلبات التنموية وضعف الموارد والإمكانيات متزايدة، كما أن النخبة السياسية في هذه الدول غير متفهِّمة للمصالح المصرية وغير حريصة على التعاون معها، فضلاً عن تغيُّر قواعد الحكم في غالبية دول الحوض، وبروز ورقة المياه والتعاون مع مصر كورقة للمزايدة والضغط السياسي. وإذا ما أضفنا تغيُّر قواعد اللعبة الدولية، وتحوُّل منطقة حوض النيل والبحيرات العظمى لساحة استقطاب للعديد من الدول والقوى الدولية؛ يمكن تفهُّم ما يحيط ملف المياه من تشابك وتعقُّد مع العديد من الملفات والقوى الدولية.
النتائج السابقة، تعطي مؤشرًا على أن الجهد الفني الذي بُذِلَ وما يزال مستمرًّا لم يَعُدْ كافيًا، ولن يؤدِّي إلى أيِّ تقدُّم؛ نظرًا لكون الأبعاد السياسية والاستراتيجية ما تزال حاكمة، كما أن الاعتبارات الجيو اقتصادية (GEO- Economics) لنهر النيل ما تزال بعيدة عن المفهوم التنموي الجماعي لدول الحوض.