أبَتْ غينيا كوناكري وسياقاتها المتأزمة الابتعاد عن تحوُّلات الغرب الإفريقي السياسية والأمنية التي تجري منذ 2020م؛ فقد طالتها التغيرات غير الدستورية، مثل مالي والنيجر وبوركينا فاسو في سبتمبر 2021م، وحلت بها تعثرات الفترات الانتقالية، وتأزمت خطاها، ودخلت مثلهم في حالة عدم اليقين المستقبلي بعد انقضاء موعد الفترة الانتقالية دون تنفيذ استحقاقاتها العشرة ومساعيها نحو الاستقرار والديمقراطية والحكم الرشيد بنهاية 2024م، وهو أمر تنبَّأت به الأوساط الأكاديمية والحزبية والشعبية، وأكَّدته تصريحات السلطات الانتقالية ولا سيما التي جاءت على لسان “عثمان غاوال ديالو” -المتحدث باسم الحكومة-، وتحديدًا في 16 ديسمبر 2024م؛ حيث قال: “إن الفترة الانتقالية، التي بدأت في 5 سبتمبر 2021م لن تنتهي في 31 ديسمبر 2024م، كما هو مخطَّط لها. وإن الانتهاء من الفترة الانتقالية غير ممكن ضمن الإطار الزمني المحدد؛ لأن عملية إصلاح الدولة المنصوص عليها في ميثاق الفترة الانتقالية لم تكتمل بعد، هو ما صدّق عليه تصريحات رئيس الفترة الانتقالية يوم 31 ديسمبر2024م بأن عام 2025م هو عام الانتخابات الحاسمة.( ([1]
انقضاء نظري وإحباط عام:
لا شك أن حلول يوم 31 ديسمبر 2024م لم يكن إيذانًا بانقضاء الفترة الانتقالية نظريًّا فحسب، وإنما كان أيضًا تصديقًا للتوقعات التشاؤمية وحالات انعدام الثقة المُثارة مِن قِبَل الأحزاب السياسية، ويبدو أن إغراء رئيس الفترة الانتقالية ووعوده بجعل عام 2025م عامًا انتخابيًّا، لم تنل الرضا العام ولم تُنْهِ التقويمات الزمنية التي قدَّرها المتحدث باسم الحكومة بشأن إجراء الاستفتاء على الدستور وعقد الانتخابات الرئاسية والتشريعية في مايو وأكتوبر 2025م، وهو ما زاد من حالة الإحباط المتفاقمة لدى جماعات المعارضة([2]).
بل إن تصريحات هؤلاء المسؤولين أثارت غضب قوى المعارضة، ودفعتهم نحو تكثيف الدعوات والنداءات للتظاهر والاحتجاج على لسان تجمع “القوى الحية (FVG)”، في يوم 6 يناير من العام الجديد 2025م، ورفع مطالبتهم بإنشاء فترة انتقالية بقيادة مدنية جديد، ورحيل المجلس العسكري وانتهاء شرعيته، وطالبوا في يوم 16 يناير الجاري مؤيديهم بمغادرة المجلس الوطني الانتقالي وغيره من هياكل الدولة.([3])
تجليات حاضرة:
بالطبع لم تأتِ حالات انعدام الثقة والإحباط العام السائدة من فراغ، وإنما جاءت نتاج تراكمات وحيثيات الفترة الانتقالية، وبصدد ذلك، يمكن قراءة تجليات المشهد الغيني الحاضرة كما يلي:
1- استحقاقات منقوصة
كشف انتهاء الفترة الانتقالية عن عدم الوفاء الكامل بالاستحقاقات الدستورية الواردة في الميثاق الانتقالي، لا سيما البنود العشرة لاستعادة الاستقرار والديمقراطية وعودة الحكم الدستوري بما في ذلك: التعداد العام للسكان، وإنشاء السجل الانتخابي، كتابة الدستور الجديد، وتنظيم التصويت على الاستفتاء، وتطوير نصوص القوانين العضوية، وتنظيم الانتخابات المحلية ثم التشريعية، وإنشاء المؤسسات الوطنية الناتجة عن الدستور الجديد، وتنظيم الانتخابات الرئاسية، ويكفي الإشارة إلى تصريح المتحدث باسم الحكومة في 31 ديسمبر 2024م؛ حيث قال: ” من أصل 10 نقاط، بدأت السلطات الانتقالية حتى الآن نقطتين فقط، بما في ذلك التعداد الإداري للسكان ووضع الدستور الجديد…”.([4])
2- سحب الاعتراف وتآكل الثقة السياسية
أدَّى إخلال السلطات الانتقالية وحنثها بوعودها التي قطعتها على ذاتها منذ 2021م إلى تآكل الثقة السياسية، وشعور المواطنين بخيبة أمل وإحباط، وهو ما دفع أحزاب المعارضة ومنظمات المجتمع المدني، بالإضافة إلى دعوات التظاهر والاحتجاج، إلى سحب اعترافها من المجلس الانتقالي اعتبارًا من 31 ديسمبر الماضي. وقد ظهر ذلك في تصريحات الأحزاب المعارضة؛ ففي 31 ديسمبر؛ حيث أكد رئيس الوزراء السابق ورئيس اتحاد القوى الديمقراطية في غينيا (UFDG) سيلو دالين ديالو أن اللجنة الوطنية للتجمُّع من أجل التنمية (CNRD) لم تعد تتمتع بأيّ شرعية لحكم غينيا. وفي 4 يناير الجاري، أعرب رئيس اتحاد القوى الجمهورية “سيديا توري” عن أسفه بسبب الإدارة الانفرادية للمرحلة الانتقالية مِن قِبَل اللجنة الوطنية للتجمُّع قائلًا: “اليوم نحن في وضع صعب؛ من حيث فقدان الثقة. ولهذا السبب طلبنا أن نتمكن من التظاهر في 6 يناير”.
3- استنفار أمني
صاحَب دعوات التظاهر استنفار أمني وانتشار للمركبات والمدرعات في الشوارع والميادين الرئيسة لكوناكري؛ تحسبًا للمظاهرات التي خطَّطت لها قوى المعارضة الغينية؛ فمنذ الساعات الأولى من صباح يوم 6 يناير 2025م، لُوحِظ انتشار أمني كثيف لقوات الأمن؛ حيث انتشرت المركبات المدرَّعة والشاحنات الصغيرة و”المامبا” التابعة للشرطة، ومع بدء المظاهرات على غرار تلك التي جرت في كوناكري، لا سيما في كولوما ولابي؛ اندلعت الاشتباكات مما أدى إلى تعطيل حركة المرور، وإغلاق الطرقات المحيطة والمحلات التجارية والمحطات، وأسفرت المواجهات عن مقتل 3 أشخاص بحلول يوم 9 يناير.
وتعليقًا على ذلك، قالت وزارة الإدارة المحلية واللامركزية: إنها لاحظت انتشار التظاهرات السياسية دون ترخيص إداري مسبق، وطُلب من جميع الأحزاب السياسية التوقف فورًا عن أنشطتها، وتقديم طلب للحصول على ترخيص إداري إلى وزارة الإدارة الإقليمية. ودعت الوزارة المؤسسات الوطنية والدولية والشركاء الماليين إلى وقف جميع أشكال التعاون مع الأحزاب السياسية الـ54 المعلقة حتى 31 يناير 2025م.([5])
4- ترشح محتمل
على الرغم من وعود رئيس الفترة الانتقالية بعدم الترشح للانتخابات الرئاسية، إلا أنه تنتشر في غينيا كوناكري أقاويل وتصريحات تكشف وتصرح عن إمكانية ترشحه للانتخابات الرئاسية المقبلة، دون أيّ اعتبار للوعود السابقة في المواد 46 و55 و65 من الميثاق الانتقالي، سواء الأولى التي مفادها “لا يجوز لرئيس وأعضاء اللجنة الوطنية للتجمع من أجل التنمية أن يتقدموا للترشح لا في الانتخابات الوطنية ولا في الانتخابات المحلية التي يتم تنظيمها بمناسبة نهاية الفترة الانتقالية. أو الثانية التي مفادها “لا يجوز لرئيس الوزراء وأعضاء الحكومة الترشح في الانتخابات المحلية والوطنية التي ستنظم بمناسبة نهاية الفترة الانتقالية. أو الثالثة التي مفادها “تتعارض مهام الرئيس ونواب الرئيس وأعضاء مكتب المجلس الوطني للمرحلة الانتقالية مع ممارسة أي ولاية أخرى أو مسؤولية عامة أو خاصة خلال الفترة الانتقالية. ولا يجوز لأعضاء المجلس الوطني الانتقالي أن يترشحوا سواء في الانتخابات المحلية أو في الانتخابات الوطنية التي ستنظم بمناسبة نهاية الفترة الانتقالية.
إذ يلاحظ المتابع أن السلطات الانتقالية تحاول الالتفاف على تلك المواد من خلال اعتماد دستور جديد يلغي موادّ الميثاق الانتقالي تارة، ومن خلال الترويج والحشد لترشُّح رئيس المجلس الانتقالي عبر التصريحات تارة أخرى، ولعل آخرها ما حدث يوم 9 يناير 2025م؛ حيث أعرب المتحدث الرسمي باسم الحكومة عثمان غاوال ديالو عن رغبته في رؤية رئيس المرحلة الانتقالية يترشح في الانتخابات الرئاسية المقبلة في غينيا قائلًا: “نريده أن يكون مرشحًا؛ لأننا نأمل أن يتمكن من تقديم المزيد من الردود على التوقعات، من حيث التنمية، ومن حيث وحدة البلاد، ومن حيث الاسترضاء أكثر من أيّ زعيم آخر، والآن القرار متروك له”.([6])
5- حل الأحزاب السياسية
لم تنجُ الأحزاب السياسية في غينيا من قيود الفضاء المدني المنغلق؛ فقد خضعت لعملية تقييم وطنية، ومن بين الأحزاب الـ211 التي “تم فحصها” بين يونيو وسبتمبر، تم حل 53 حزبًا، وتعليق 50 آخرين لمدة ثلاثة أشهر، ووضع 67 منظمة “تحت المراقبة” في 29 أكتوبر 2024م حتى 29 يناير 2025م، ولا شك أن ذلك الإجراء بمثابة عملية تطهير للمشهد السياسي الغيني عبر إضعاف المعارضة، وتقليص المساحة الديمقراطية، وإسكات الأصوات الناقدة.([7])
6- تقييد الفضاء المدني
تصور حيثيات الفترة الانتقالية انغلاق الفضاء المدني وتقييد حركة وأصوات الفاعلين فيه؛ سواء كانوا سياسيين أو حقوقيين أو إعلاميين؛ فمنذ 2022م، حظرت السلطات الانتقالية جميع المظاهرات، وأغلقت العديد من وسائل الإعلام، الأمر الذي ارتفعت حدته في 2024م؛ حيث سحبت السلطات في مايو موافقتها على أربع محطات إذاعية ومحطتين تلفزيونيتين من بين وسائل الإعلام الخاصة الرئيسية في غينيا([8]).
وفي سبتمبر الماضي، علّقت إصدار الموافقات للجمعيات والمنظمات غير الحكومية لمدة أربعة أشهر قبل رفع ذلك التعليق في يناير 2025م.([9])
واللافت أن إجراءات تقييد الفضاء المدني لم تتوقف عند ذلك، بل امتدت إلى ممارسات الترهيب والتخويف والتهديد بالاختطاف والاعتقال، والتي كان أحدثها هو حادثة اعتقال السيد “عليوه باه”، زعيم الحركة الديمقراطية الليبرالية، والذي طلب المدعي العام بمحكمة كالوم بالدائرة الإدارية والتجارية بكوناكري في 2 يناير 2025م بسجنه لمدة عامين بتهمة “الإهانة والتشهير” ضد زعيم المجلس العسكري، مامادي دومبويا.([10])
7- استبعاد المعارضة
كغيرهم، تعرَّض قادة المعارضة، لا سيما البارزين والموجودين في الخارج، لممارسات الاستهداف والاستبعاد؛ وذلك من خلال محاولة تمرير قيود دستورية تحول دون قدرتهم على الترشح في الانتخابات العامة، وتَحُدّ من قدراتهم على العمل السياسي، وقد ظهر ذلك خلال القيود الدستورية التي تضمنتها المسودة الأولية للدستور، والتي مفادها “يجب أن لا يقل عمر المرشح وقت التصويت عن 35 عامًا، ولا يزيد عن 80 عامًا، وحظرت الجنسية المزدوجة للمرشحين المحتملين للمنصب الأعلى. الأمر الذي مثَّل خطوة نحو استبعاد شخصيات رئيسية من الساحة السياسية، وعلى رأسهم: الرئيس المخلوع “ألفا كوندي”، والمرشح الرئاسي السابق “سيلو دالين ديالو”، ورئيس الوزراء السابق “سيديا توري”؛ فالأول، يبلغ من العمر 86 عامًا، والأخير سيبلغ الثمانين من عمره عام 2025م.([11])
8- حملات ترويج وتعبئة
بموجب المادة 57 من الميثاق الانتقالي، تجري حملة تعميم ونشر واسعة النطاق للمسودة الأولية للدستور التي تم تقديمها في يوليو 2024م؛ حيث دشَّن المجلس الانتقالي حملة ترويج رسمية للمسودة في نوفمبر 2024م عبر زيارات في جميع أنحاء البلاد بما في ذلك ولاية “لابي” وولاية “مانديانا” وولاية “بوكي”، وفي تلك الزيارات، كان يتم استعراض شعارات عدة بغرض التعبئة والحشد والمناصرة لنصّ المسودة الأولية للدستور وإكسابها شرعية وطنية؛ حيث كان يتم تصوير المسودة بأنها تشبه غينيا وتتوافق مع واقعها: الاجتماعي والثقافي والسياسي، وتأخذ بعين الاعتبار كافة الشرائح الاجتماعية في بلادنا. ولعل أبزر تلك الزيارات التي دشَّنها رئيس المجلس الوطني الانتقالي في 9 نوفمبر 2024م في أرض عاصمة منطقة الغابات؛ حيث قال: “إن الدستور الذي سنقترحه عليكم، يُذكّرنا بأنّ السيادة مِلْك للشعب. والشعب هو الذي يمارس السيادة. وأن القانون الأساسي الجديد الذي سيتم تعميمه هو تصحيح لأخطاء الماضي التي لن تتكرر مرة أخرى، ويضمن الترشيح المستقل لكل غيني مُؤهَّل ويرغب في الترشح بفضل الترشيح الحر”.([12])
9- مسودة دستورية انتقائية
رغم ما تسوقه الحملات الترويجية للمسودة الأولية الدستورية من نصوص دستورية مبتكرة؛ منها ما يتعلق بالنظام البرلماني المكون من مجلسين: جمعية ومجلس شيوخ، وإعادة النظر في تكوين المجلس الأعلى للقضاء وتقليص نفوذ وزير العدل ودعم التعليم المجاني حتى سن 16 عامًا، وانتخاب رئيس الجمهورية لمدة 5 سنوات قابلة للتجديد مرة، إلا أن المدقق لمضمون المسودة يدرك أنها تجاهلت الاستحقاقات الدستورية التي رسَّخ لها الميثاق الانتقالي بشأن ترشيح أعضاء المجلس الانتقالي في مواده 46 و55 و65؛ حيث غفلت تلك المسودة عن مسألة ترشيحهم أو حظرهم، كما أنها تناولت قيودًا دستورية ذات صلة بالحد الأدنى للمرشحين وجنسيتهم، وهي بلا شك مصمَّمة لاستبعاد المعارضة، كما حوت المادة 198 التي وسَّعت من صلاحيات رئيس الجمهورية بشأن مسألة مراجعة الدستور بشكلٍ أخلَّ بمبدأ الفصل بين السلطات وخوَّلت لرئيس الجمهورية القدرة على استخدام التلاعب بالدستور؛ فبموجبها، لا يمكن الإعلان عن مبادرة المراجعة إلا مِن قِبَل الرئيس، كما تفرض المادة شرط مشاركة 60% من الناخبين المسجلين للنظر في الاستفتاء، وإن الاستقالة الإلزامية للحكومة وحظر ترقية أعضاء الحكومة بعد الاستفتاء، بغضّ النظر عن النتيجة، يمكن اعتبارها تدابير عقابية لا تُشجّع على إجراء حوار ديمقراطي سليم.([13])
وهو الأمر الذي تنبَّهت له قوى المعارضة مبكرًا؛ حيث قدّموا توصياتهم على لسان اتحاد “قوى الحياة” في أغسطس 2024م بشأن المسودة الأولية للدستور، والتي تشمل فيما بينها: ضمان نظام التعددية الحزبية والتمويل السنوي للأحزاب السياسية، وضمان انتخاب جميع مناصب مجلس الشيوخ وإلغاء أحكام الفصل 204 المتعلق بقوانين العفو وإنشاء هيئة انتقالية مستقلة لتنظيم الانتخابات والأخذ بأحكام المواد 46 و55 و65 من الميثاق الانتقالي.([14])
10- تسامح وتراخٍ دوليّ
شهدت غينيا كوناكري دون غيرها من دول الغرب الإفريقي التي شهدت تغيرات غير دستورية حالة من التسامح والتراخي الدولي، أو ما يمكن اعتباره لامبالاة مقصودة، ساعدت المجلس العسكري بصورة أو بأخرى في فرض تصلباته، وتشديد قبضته على السلطة، والحنث بموعد انتهاء الفترة الانتقالية؛ فرغم ممارسات المجلس الانتقالي في غينيا، سواء من حيث تكميم الأفواه وكبح جماح المعارضة وتقييد الفضاء المدني؛ إلا أن ذلك لم يمنع فرنسا من التكتم على تلك الممارسات؛ في محاولة لتدارك انتكاساتها في غرب إفريقيا بعكس موقفها من مالي والنيجر وبوركينا فاسو، ولمنع المجلس العسكري في غينيا من الالتحاق بتحالف دول الساحل المناوئ لفرنسا ومصالحها.
وعلاوة على ذلك؛ فقد اعتبرت المنظمة الدولية الفرنكوفونية وقائع غينيا كوناكري إصلاحات بارزة، دفعتها إلى رفع تعليق العضوية وقبول استعادتها العضوية مجددًا في 25 سبتمبر 2024م، وهو ما صرَّح به المتحدث باسم المنظمة الدولية للفرنكوفونية، “أوريا كيي فاندي ويغي” قائلًا: “إن الأمر الحاسم بالنسبة للدول الأعضاء هو ملاحظة التزام غينيا، واستعدادها للخروج من الأزمة والعودة إلى النظام الدستوري”. “لقد سعت غينيا دائمًا إلى الحصول على دعم الفرنكوفونية. وكان هذا الاستعداد هو العامل الحاسم في رفع التعليق”.([15])
11- تصالح من قبل الإيكواس
حظيت غينيا كوناكري أكثر من نظرائها أعضاء تحالف دول الساحل بتصالح ومرونة تراخٍ ملحوظ؛ حيث تبنت المجموعة الاقتصادية لغرب إفريقيا نهجًا تصالحيًّا ومنفتحًا على غينيا كوناكري مكَّنها من الحفاظ على علاقات مع المجلس العسكري القائم والوصول إلى اتفاق في مايو 2022م بشأن الفترة الانتقالية، وقد بلغ ذلك النهج ذروته مع إعلان الإيكواس رفع عقوباتها المفروضة في فبراير 2024م عن غينيا كوناكري([16])؛ حيث أعلن بولا تينوبو، رئيس الدولة النيجيرية، والرئيس الحالي للمجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا: “يتعين علينا أن نراجع نهجنا في التعامل مع عودة النظام الدستوري في أربع من بلداننا الأعضاء وفي 15 ديسمبر 2024م، حثت المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا خلال دورتها السلطات الغينية على مواصلة الإجراءات بهدف تنفيذ خريطة الطريق، وكلفت المفوضية بإرسال بعثة رفيعة المستوى للتباحث مع السلطات والجهات الفاعلة السياسية بهدف الاتفاق على طرائق تسريع خارطة الطريق الانتقالية وتعبئة الموارد اللازمة لهذا الغرض.([17])
تحولات محتومة:
ليس من المستغرب أن يُعلن انقضاء موعد الفترة الانتقالية نظريًّا عن دخول غينيا كوناكري مرحلة حرجة، تملأها التطورات غير الواضحة والتكهنات المختلطة؛ فهو أمر تتفهمه أدبيات العلوم السياسية وتحليلاتها، لا سيما ذات الصلة بالانتقالات والتحولات العسكرية والسياسية لغينيا كوناكري، وعلى المدى القريب والمتوسط، يمكن تقدير عدد من التحولات المحتومة لغينيا كوناكري على النحو التالي:
1- تعثر الانتقال
لا شك أن انقضاء موعد الفترة الانتقالية دون تحديد موعد يُمثِّل تعثرًا حقيقيًّا للفترة الانتقالية، ويُعقِّد المشهد السياسي في غينيا كوناكري، مما يعني استمرار غينيا في غياهب عدم الاستقرار، وقد يُلاحظ المتابع أنه خلال يوم 31 ديسمبر 2025م قد مدَّد رئيس المجلس الانتقالي الفترة الانتقالية عامًا جديدًا بإعلان عام 2025م عام الحسم والانتخابات دون أيّ التزام رسمي؛ إذ لا تخرج وعوده الجديدة بشأن الانتخابات وإجراء الاستفتاء على الدستور عن كونها تصريحات لفظية غير موثقة، ولا تُعدّ تصريحات المتحدث باسم الحكومة بشأن إجراء الاستفتاء في مايو والانتخابات العامة في أكتوبر 2025م سوى أنها تقديرات زمنية محتملة وغير ملزمة وقد يفهم المدقق ضمنًا أن سكوت رئيس الفترة الانتقالية عن حسم مسألة ترشحه كالتزام لروح الميثاق الانتقالي السابق يعني انهيار الميثاق الانتقالي ومواده ونجاحه السلطات الانتقالية في التحلل من الميثاق والتزاماته؛ فهم غير ملزمين بموعد محدد أو جدول واضح، ولا يسعهم سوى الإسراع في اعتماد المسودة الأولية كدستور جديد يكسر القيود والموانع الدستورية للميثاق.
2- تأزم الحوار الوطني
كان من شأن ممارسات السلطات الانتقالية بشأن تقييد الفضاء المدني وتكميم الأفواه وإسكات واستبعاد المعارضة، وأعمال الترهيب والتخويف والتهديد والاعتقالات؛ رفع وتيرة الإدارة المنفردة والسلطوية، وتكريس فترة شمولية ومليئة بالإقصاء، وحتمًا سوف يدفع استمرار تلك الممارسات في ظل التطورات الراهنة وموجات الغضب والإحباط السائدة إلى عرقلة الحوار الوطني واتساع الهوة بين المعارضة السياسية والسلطات الانتقالية التي تعتبرها الأولى خالية من الشرعية ومسؤولة عن تأزم الأوضاع وفشل الانتقال. ولعل تعالي المؤشرات المرجّحة لهذا السيناريو قد دفعت عضو المجلس الوطني “سايون مارا” إلى القول في 7 يناير 2025م “يظل الحوار الشامل والصادق بين القوات النشطة والسلطات العسكرية هو السبيل الوحيد لنزع فتيل الأزمة السياسية التي تمر بها غينيا… الحوار لا يسمح لنا ببناء الجسور بين الأطراف فحسب، بل أيضًا بحلّ النزاعات بطريقة سلمية وبناءة”.
3- انفلات أمني
تشير وقائع غينيا الآنية أن انقضاء الفترة يدفع بمزيد من تذمر وغضب المعارضة والأحزاب السياسية والتي بلا شك يتنامى قلقها وغضبها جراء تحركات المجلس العسكري السلطوية والمنفردة والخانقة بشكل يدفع لاستمرار دعوات الاحتجاج والتظاهر، الأمر الذي قد يربك الأوضاع الأمنية، ويرفع وتيرة الاشتباكات بين المتظاهرين وقوات الأمن على غرار ما وثقته حيثيات التظاهر بدءًا من 6 يناير حتى 9 يناير؛ حيث تم الإبلاغ عن اشتباكات بين الشرطة ومجموعات من الشباب عند مفترق طرق سيراج في بلدة راتوما؛ حيث قام الشباب بإغلاق الطريق بإلقاء القمامة على الطريق، مما أدى إلى تعطيل حركة المرور، وعلى الفور تم إجبار المركبات على العودة إلى الوراء، لتسفر تلك الاشتباكات عن مقتل 3 ثلاثة أشخاص بحلول يوم 9 يناير الجاري، ناهيك عن الإصابات والاعتقالات.([18])
4- تدهور حقوقي
تنذر ردود فعل السلطات الانتقالية تجاه المعارضة السياسية منذ 2022م بمزيد من التدابير والإجراءات التقييدية، لا سيما للحقوق السياسية والمدنية ذات الصلة بحرية الرأي والتعبير والتجمع السلمي، والمشاركة السياسية والصحافة والإعلام، وهو ما يعني استمرار تقييد الفضاء المدني، واستمرار حل الأحزاب السياسية وتشديد الرقابة عليها، واستمرار الأوضاع الحقوقية نحو مزيد من الانهيار، وليس أدل ذلك من انتشار المركبات والمدرعات في الشوارع والميادين الرئيسية لغينيا كوناكري، وتفريق التظاهرات، وتصريحات التهديد والوعيد للمعارضة السياسية، والتي يمكن رؤيتها في تصريح أصدره رئيس الوزراء باه أوري في 23 ديسمبر 2024م؛ حيث أصدر تحذيرًا للجهات الفاعلة السياسية والصحفيين قائلًا: “”أعرف أن الكثير من الناس يخططون هنا وهناك. لكن في السياق الحالي، سواء كنت سياسيًّا أو صحافيًّا، فإن كلامك وأفعالك تلزمك إذا قلنا، من خلال عدم المسؤولية أو الجهل، أشياء تشعل النار في البلد. اعلموا أن العدالة الغينية، وليس فقط العدالة الدولية، هي التي ستلاحق الناس.([19])
5- تأثر الأداء الاقتصادي
تكشف وقائع غينيا كوناكري وتطوراتها المتسارعة عن تأثر أدائها الاقتصادي بشكل يدفعه نحو مزيد من التأزم الاقتصادي ذات معدلات التضخم والبطالة المرتفعة وانخفاض القوة الشرائية، وارتفاع مستويات المعيشية وارتفاع الأسعار وخاصة الغذائية، وهو أمر مرشح نحو الزيادة؛ فمع استمرار التظاهرات والاحتجاجات وسط التشديد الأمني، تباطأت الأنشطة الاقتصادية وأغلقت المحال التجارية والأسواق. ويكفي القول: إن دعوات التظاهر يوم 6 يناير قد حوَّلت العاصمة “كوناكري” إلى مدينة أشباح فارغة. وجدير بالذكر أن التأثيرات الاقتصادية لن تنسحب فقط على الداخل، بل تمتد إلى الخارج؛ ففي ظل اعتبار البلاد ثاني أكبر مُنتِج عالمي لخام البوكسيت بواقع 90 مليون طن، فإن أيّ تأزم سياسي أو أمني يُهدّد بخفض الإنتاج ورفع الأسعار وتأثر سوق الإمداد العالمي لخام البوكسيت دوليًّا.( ([20]
6- تنشيط الظاهرة الإرهابية والجريمة المنظمة
لعل الغرب الإفريقي بما في ذلك غينيا أحد أكثر النطاقات انتشارًا للتنظيمات الإرهابية والمليشيات المسلحة، والبيئة الأكثر احتضانًا للظاهرة الإرهابية ومسبباتها، ويعني ذلك أن أيّ تعثر في الفترة الانتقالية أو تأزم جديد في غينيا كوناكري يمكن أن يُمثّل بيئة نشطة للجماعات الإرهابية والجرائم المنظمة، ويُسرّع من هجماتها بشكل يُعقّد المشهد الأمني والإنساني.
7- التدافع الدولي
بالنظر لوقائع الغرب الإفريقي، وما يُميّزه من تدافع الأطراف الدولية سواء الشرقية: الصين وروسيا أو الغربية: فرنسا والولايات المتحدة الأمريكية كأطراف متنافسة حول النفوذ والموارد والمصالح الإستراتيجية؛ يتضح أن تعثر الفترة الانتقالية في غينيا كوناكري وتطوراتها قد تجعلها مناخًا جيدًا لاستقطاب التدافع والتنافس الدولي بين القوى الشرقية من الصين وروسيا والقوى الغربية من الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي، لعل ما قد يحفز ذلك هو كون غينيا كوناكري ساحة جديدة، تحاول روسيا عبر تقديم الخدمات الأمنية والعسكرية الولوج إليها كمحاولة لملء الفراغ الفرنسي وتحجيمه، وكونها موردًا رئيسًا لخام الألومنيوم للصين، ورغم مؤشرات التسامح والتراخي الدولي تجاه ممارسات السلطات الانتقالية، إلا أن تصريحات الولايات المتحدة الاتحاد الأوروبي قد استعادت عافيتها في 9 يناير 2025م؛ حيث أعربت الأولى عن قلقها إزاء التأخير الذي اتخذته غينيا في إطلاق عملية التحول الديمقراطي، وحثت السلطات على وضع إطار واضح وشامل وشفاف لضمان انتقال موثوق ومستدام نحو المدنية. كما أدان الاتحاد الأوروبي الحكم بالسجن لمدة عامين على المعارض السياسي “أليو باه”، ودعا إلى الاحترام الدقيق لحقوق الإنسان، ولا سيما حرية التعبير والتعددية السياسية.([21])
وفي الختام، يمكن القول: إن الفترة الانتقالية القائمة في غينيا كوناكري وتطوراتها هي مرحلة حرجة، لا تزال نتائجها مختلطة وغير واضحة، وإن دخول غينيا تلك المرحلة يعني أنها لم تنفصم عن سياقها الإقليمي، ولم تنقطع عن إرثها التقليدي حيال تداول السلطة وانتقالها والتي غلبت عليها التغيرات غير الدستورية وتمديد الفترات الانتقالية، كما يمكن القطع بأنه في حالة استمرار وتيرة التحركات القائمة مِن قِبَل المجلس العسكري الحاكم بشأن المعارضة السياسية والمراوغة وممارساتها السلطوية وتغليب سردية الرجل القوي؛ تُرشّح مزيدًا من التعثر المتصاعد للفترة الانتقالية وبقائها إلى أجل طويل المدى، الأمر الذي يؤدي بالضرورة إلى تفاقم التوترات واندلاع المظاهرات والاشتباكات العنيفة، ويقود إلى ردع المستثمرين وعرقلة التعافي الاقتصادي، ويهدد بمزيد من زعزعة استقرار البلاد، ويشجّع صعود الجماعات المسلحة أو المنظمات الإجرامية.
…………………………………
[1] Armée : important rappel de la Hiérarchie aux forces de défense et de sécurité,, Guinee news , 18 décembre 2025, https://bitl.to/3hbb
[2] Guinée : le gouvernement envisage la tenue d’une élection présidentielle avant la fin 2025, Le Monde, e 09 janvier 2025, https://gogl.to/3Jgf
[3] Les Forces vives de Guinée invitent leurs membres à ‘’quitter le CNT et tous les autres organes de la transition’’, visionguinee, Jan 16, 2025, https://bitl.to/3hmm
[4] Glissement du calendrier de la transition : ‘’Nous voulons laisser une société viable, sur laquelle des valeurs sont ancrées’’, selon Ousmane Gaoual, vision guinee, Déc 31, 2024, https://bitl.to/3hmp
[5] Projet de nouvelle constitution : l’ANAD de Dalein fait une demande embarrassante au CNT, Guinee news, 20 août 2024, https://bitl.to/3hbi
[6] Guinée/ legal. Doumbouya candidat en 2025 ? « … Pourquoi pas ! » réplique le ministre Gaoual, Guinee news, 20 September 2024 , https://bitl.to/3hbk
[7] Transition : après la suspension du CPUG, son leader dézingue le CNRD, Guinee news, 29 octobre 2024, https://bitl.to/3hbl
[8]En Guinée, la junte suspend la délivrance des agréments aux ONG et aux associations, Le Monde, 2 September 2024, https://bitl.to/3hbm
[9] En Guinée, trois ans après le coup d’Etat de la junte, Conakry au ralenti, Le Monde, 6 September 2024, https://bitl.to/3hbo
[10]En Guinée, les tentations autoritaire et présidentielle du général putschiste Mamadi Doumbouya, Le Monde, 7 octobre 2024, https://bitl.to/3hbp
[11] Avant-projet de Constitution en Guinée : « non » aux binationaux, « oui » aux militaires, jeune Afrique, 7 août 2024, https://bitl.to/3hbr
[12] N’Zérékoré : “Nous allons faire une constitution qui résistera au temps et à la tentation des Hommes”, a promis Dr Dansa Kourouma, Guinee news, 10 Novembre 2024, https://bitl.to/3hbs
[13] Avant projet de la Constitution : des leaders politiques réagissent , Guinee news, 30 Juillet 2024, https://bitl.to/3hbu
[14] Avant-projet de Constitution : l’Union sacrée des forces vives de Guinée formule ses recommandations au CNT, Guinee news, , 27 août 2024, https://bitl.to/3hbw
[15] La Francophonie lève la suspension de la Guinée, qui participera à son sommet en France, Le Monde, le 25 septembre 2024, https://bitl.to/3hby
[16] En Guinée, la junte suspend la délivrance des agréments aux ONG et aux associations, Le Monde, 2 septembre 2024, https://bitl.to/3hbm
[17] Fin de la transition en Guinée : Que dit la CEDEAO ?, Guinee news, 17 décembre 2024, https://bitl.to/3hc2
[18]Manifestation des Forces vives : paralysie des activités sur l’axe Sonfonia T7 – Kagbelen (constat à 12h), Guinee news, , 6 janvier 2025, https://bitl.to/3hcd
[19] Le PM Bah Oury met en garde les politiques et les journalistes : ‘’Si par irresponsabilité ou par ignorance, on dit des choses qui mettent le feu au pays…’’, Guinee news,, Déc 24, 2024, https://bitl.to/3hly
[20] En Guinée, le gouvernement suspend les partis non autorisés, Le Monde, 10 janvier 2025, https://bitl.to/3hm2
[21] Transition en Guinée : les Etats-Unis exigent des actions concrètes pour la tenue du référendum et des élections, visionguinee, Jan 9, 2025, https://bitl.to/3hm7