من يتابع القمم الأفريقية الأمريكية سوف يلحظ بوضوح أن الهدف الأمريكي الأكبر من عقدها – بعيدا عن نغمة التنمية ومكافحة المرض ومساعدة الأفارقة – هو : (الأمن) المرتبط بالحرص علي توسيع مناطق النفوذ الأمريكية بالقارة ونشر القوة الأمريكية (أفريكوم) ، ومن ثم محاربة القوى المحلية التي تعترض هذا النفوذ الأمريكية ، والهدف الثاني هو (الاستثمار) بما يعنيه من السعي للحصول علي الجزء الأكبر من كعكة الموارد المعدنية والنفط في القارة الغنية .
وفي خطابه في القمة الأفريقية الأخيرة كان تحليل خطاب الرئيس أوباما يؤكد بوضوح هذين الهدفين : فهو تحدث في ختام أعمال القمة الأمريكية الأفريقية عن توسيع نطاق التجارة والاستثمارات في أفريقيا وأعلن عن استثمارات أمريكية بلغت قيمتها 33 مليار دولار قال بوضوح أنها “تهدف إلي توفير عشرات الآلاف من فرص العمل للأمريكيين” .
وقال “أن القمة الأمريكية الأفريقية نجحت أيضا في تعميق التعاون الأمني بين الولايات المتحدة والدول الأفريقية لمواجهة الإرهاب والاتجار في البشر” ، وأعلن مبادرة جديدة للتعاون الأمني لمساعدة الدول الأفريقية في بناء قوات أمنية قوية ومحترفة لتعزيز أمن تلك الدول ، وخص بالذكر كينيا والنيجر ومالي ونيجيريا وغانا وتونس ، وما سمي (شراكة الرد السريع) التي تشمل غانا والسنغال وإثيوبيا ورواندا وأوغندا وتنزانيا ، وكلها دول غنية بالنفط أو لدي أمريكا مصالح حيوية فيها .
وليس صحيح أن هذه القمة الأمريكية الأفريقية تسعي لتوفير دعم أو لجمع أموال أو معونات ، ولكنها قمم لطرح فرص استثمارية تستفيد منها الشركات الأمريكية بالأساس ، والسعي الأمريكي لتقديم مشاريع طبية وصناعية تبدو في ظاهرها خدمة للتنمية الأفريقية بينما هي تفتح فرص أمام المستثمرين الأمريكان بالدرجة الأولي .
ربما لهذا قال السيناتور كريستوفر كوونز (ديمقراطي من ولاية ديلاور) والذى يرأس اللجنة الفرعية لشئون أفريقيا بمجلس الشيوخ : “أن التاريخ سوف يبين أن أفريقيا هي قارة الفرصة الكبرى في هذا القرن” ، كما حرصت ليندا توماس جرينفيلد مساعدة وزير الخارجية للشئون الأفريقية على تأكيد أن القمة ليست مؤتمرا للمانحين ولكن لقاءات وتشاورات واتفاقات ما بين القيادات السياسية الأمريكية والأفريقية وأيضا ما بين رجال الأعمال وصناع القرار في كل من الولايات المتحدة والدول الأفريقية.
استغلال القارة
وقد لخصت صحيفة “فاينانشال تايمز” البريطانية الهدف الأمريكية من هذه القمة حين قالت “أن إدارة الرئيس الأمريكي باراك أوباما تعمل على استغلال القمة الأمريكية- الإفريقية التي حضرها رؤساء دول وحكومات 51 دولة إفريقية، لإنقاذ نفوذها وترسيخ دورها في القارة السمراء في محاولة لدحض تنامي النفوذ الصيني هناك” .
أوضحت الصحيفة أن الصين وأوروبا واليابان عقدت قمما مماثلة لتشجيع الاستثمار في أفريقيا، ولكن البيت الأبيض رفض تلميحات بأن القمة الإفريقية هي محاولة لمواجهة تنامي الاستثمار الصيني في القارة السمراء ، إذ أن حجم التبادل التجاري بين الصين وأفريقيا يبلغ 200 مليار دولار، وهو أكثر من ضعف حجم التبادل التجاري للقارة مع الولايات المتحدة، التي بدأت في الاهتمام بأفريقيا منذ عام 2001، وتلتها بعد ذلك اليابان والهند وأوروبا ، أي أن الولايات المتحدة لا تزال فقط ثالث أكبر شريك تجاري في افريقيا ومتخلفة عن الاتحاد الأوروبي والصين مع أنها أكبر اقتصاد في العالم .
والان الشركات الأمريكية التي طالما ترددت في الاستثمار في أفريقيا على الرغم من معدلات النمو المرتفعة تنظر الآن إلى القارة السمراء باعتبارها فرصة هامة لتحقيق الأرباح ، ولهذا جاءت القمة الأخيرة في واشنطن لتركز علي توفير فرص كبيرة أمام المستثمرين الأمريكان لمحاولة أخذ قسم من الكعكة التي أصبح الصينيون يهيمنون علي القسم الأكبر منها .
ولهذا ركزت القمة الأفريقية الأمريكية علي الفرص الاقتصادية التي تقدمها القارة للاستثمارات الأمريكية على أساس أن الطرفين في استطاعتهما أن يواجها معا قضايا الطاقة والإمداد بالكهرباء وأيضا أن يتعاملا مع التهديدات الأمنية والحوكمة الديمقراطية في دول القارة ، والأهم التعامل مع ملفات الأمن ومواجهة “الإرهاب” وتحقيق الاستقرار في القارة بشكل أكبر.
الصراع الأمريكي الصيني الفرنسي
بسبب التكالب الأمريكي الفرنسي الصيني علي أفريقيا ، حرصت كل دولة علي إقامة قمم أفريقية في بلادها ، كما حرصت دول أخري مثل اليابان علي عقد قمم مماثلة ، فأصبح لدينا : (القمة الأفريقية الأمريكية) و(القمة الأفريقية الفرنسية) و(القمة الأفريقية الصينية) ، وبينما يركز الصينيون – باعتبار أنهم أحدث المقتحمين بقوة للقارة الأفريقية – علي خطف أبصار الأفارقة بتعهدات مالية براقة ، ويحرص الفرنسيون علي العلاقات الاستعمارية خصوصا مع دول غرب أفريقيا ، يلجأ الأمريكيون لأسلوب الدفع ثم الحصد ، أي طرح مشاريع تبدو في الظاهر مفيدة للأفارقة ولكنها مفيدة أكبر للمستثمرين الأمريكان .
وطبقا لمناطق النفوذ الراهنة يلاحظ أن الولايات المتحدة تهيمن من خلال شركاتها النفطية على منطقة خليج غينيا وساوتومي، في حين أن فرنسا تهيمن على الغابون والكونغو برازفيل، بالإضافة إلى ذلك فإن المصالح النفطية الأنغلو أمريكية تحافظ على وجود قوى في نيجيريا ، أما الصين فإنها تثبت أقدامها في السودان وأنغولا ، وهناك محاولات أمريكية متزايدة لخطف واقتطاع أجزاء أكبر من كعكة النفط الأفريقية التي بات الاقتصاد الأمريكية يعتمد علي 50% من واردته من النفط من إفريقيا (بحسب توقعات 2015) ، خصوصا أن الدول الأسيوية من القادمين الجدد لأفريقيا الذين يسعون لتعظيم مصالحهم النفطية في القارة السوداء ، وعلى رأسهم الصين والهند وماليزيا وكوريا والبرازيل .
ولو نظرنا للصراع الأمريكي – الفرنسي في أفريقيا سنجد حرب من نوع أخر بين النفوذ الأنجلوسكسوني ( الأمريكي) والفرانكوفوني (فرنسا) علي مناطق نفوذ “قديمة جديدة” في غرب أفريقيا تحديدا بسبب : النفط أولا ومحاربة انتشار الإسلام ثانيا .
ففيما يتعلق بالموارد الطبيعية الموجودة هناك – خصوصا في غينيا وليبيريا ونيجيريا- تؤكد التوقعات الرسمية الأمريكية أن تعتمد الولايات المتحدة حوالي 20% من احتياجاتها النفطية من أفريقيا خلال العقد المقبل، ستوفر دول غرب أفريقيا 15% منها ، ويتوقع مجلس المعلومات القومي الأمريكي أن ترتفع هذه النسبة إلى 25 % بحلول عام 2015م .
بل أن الإحصاءات الصادرة من الإدارة الأمريكية لشؤون النفط والطاقة تؤكد عمل كافة الترتيبات لرفع نسبة الاستيراد الأمريكي من النفط الأفريقي إلى 50 % من مجموع النفط المستورد بحلول العام 2015 .
ولكن العلاقة بين النفوذين الأمريكي والفرنسي هنا تأخذ طابع التنافس علي الكعكة النفطية الأفريقية التي تتميز بنقائها النسبي كخام ورخص سعرها ، فضلا عن سهولة السيطرة علي دولها ، وهذا غير الطمع المشترك بين المتنافسين حول الثروة الطبيعة الهائلة الموجودة هناك خاصة الألماس، والذهب، والنحاس، فضلاً عن المواد المعدنية التي تُستخدم في الصناعات الثقيلة والنووية كالكوبالت واليورانيوم .
وفيما يتعلق بمحاربة الإسلام – يسمونه “الإرهاب” – يأخذ التدخل الأمريكي والفرنسي هناك طابع التكامل ، خصوصا في المناطق التي تعتبر مناطق تماس أو خط أخضر في غرب القارة الأفريقية ما بين الإسلام العربي الأفريقي في السودان (دارفور) ووسط وجنوب القارة شبه المسيحي التبشيري حيث مراكز التبشير الغربية تتركز في كينيا وتنزانيا وتشاد .
ومع أن المدخل الأمريكي لزيادة النفوذ في أفريقيا وغربها تحديدا يقوم علي حجة محاربة الإرهاب ، كمدخل أمني ، فهو ينطوي فعليا علي مداخل أخري إستراتيجية واقتصادية وسياسية هامة ، ويستهدف خلق وضع استراتيجي جديد عبر تشكيل قيادة عسكرية خاصة لأفريقيا ستكون هي رابع قيادة عسكرية أمريكية بجانب القيادات الإقليمية الثلاثة الأخرى : قيادة المنظمة الوسطى (الشرق الأوسط) وقيادة المحيط الهادي والقيادة الأوروبية .
بالمقابل يبدو التنافس الأمريكي – الصيني أكثر شراسة ، إذ أن الصين – التي تدرك نظرة الأفارقة للغرب (ومنه أمريكا) علي أنه مستعمر قديم – تعتمد في سياستها في إفريقيا علي فكرة “التغيير الناعم” للتغلغل في إفريقيا ، وتسعي لاظهار أنها لم تكن يوما دولة احتلال لأفريقيا بعكس الغرب الذي ينظر له الأفارقة علي أنه محتل ووجوده في أفريقيا يستهدف سلب ثرواتهم .
كما تعتمد الصين في تغلغلها علي نشر مفهوم رفضها التام التدخل في الشؤون الداخلية للأمم الأفريقية – بعكس الغرب – ما يزيد احترام الزعماء والنخب الأفريقية للنظام الصيني، كما تعتمد علي أنها حليف لأفريقيا وتقدم خدمات وقروض ومشاريع صناعية وتنموية ، ولا شك أن هذه السياسة تدفع الصين لتحقيق نفوذ اقتصادي وعسكري عالمي أكبر من نفوذها الحالى .