“دنمارك فيسي” (1767-1822م) Denmark Vesey زعيمٌ أسود، وصاحب شخصية كاريزمية، وقيادية مؤثرة. تمت محاكمته وإعدامه في عام 1822م، جنبًا إلى جنب مع أربعةٍ وثلاثين من السُّود في مدينة “تشارلستون” Charleston بولاية “ساوث كارولينا” South Carolina؛ لمحاولتهم تحريض العبيد على تمرُّدٍ مسلَّح.
ويحتل تمرُّد “دنمارك فيسي”، والتخطيط له، مكانةً فريدةً في كلٍّ من التاريخ الأمريكي بشكل عامّ، والجنوب على وجه الخصوص. فحسب “ريتشارد ويد” Richard Clement Wade المؤرخ الأمريكي فإن: “تمرد [فيسي] كان أكثر تأثيرًا من تمرُّد [نات تورنر] (1800-1831م) Nat Turner، من حيث إنَّه أشبه بثورات الشعوب على أنظمتها. كما كان من آثاره؛ أنه رسم مشاهد الرعب والفزع داخل خيالات سكان الولاية، وأثار احتمالات مروّعة، مما أزعج حتى أكثر السكان تهاونًا”.
ويشير كُلّ مِن “جون لوفتون” John Lofton و”ويليام فريهلينج” William W. Freehling إلى أن تمرُّد “فيسي” كان بمثابة نقطة تحوُّل في التاريخ الأمريكي. فمن ناحية كان لوقعه صدًى، أعاد قضية العبودية إلى الواجهة من جديد، ومن ناحية أخرى وضع “ساوث كارولينا” على مسار تصادم مع مطالب الحرية، والتي بلغت ذروتها في الحرب الأهلية الأمريكية”.
أولًا: النشأة والسمات والخبرات الشخصية:
لا يوجد الكثير من الوثائق عن حياة “دنمارك فيسي” وسماته الشخصية، ربما كان الجانب الأكثر إلهامًا وتأثيرًا في قصته؛ أنه لم يكن عبدًا في وقت انتفاضته التي خطَّط لها؛ حيث اشترى حريته من سيّده وهو في سنّ الثلاثين من عمره. وبعد أن تخطَّى حاجز الخمسين قدَّم حياته ثمنًا زهيدًا لتحرير شعبه من العبودية؛ ليصبح بطلًا لمناهضي العبودية في القرن التاسع عشر، ومثالًا لقادة الحقوق المدنية في القرن العشرين.
وُلِدَ “دنمارك فيسي” عبدًا في “سان توماس” St. Thomas، بجزر الهند الغربية. كان يُعرَف أثناء فترة العبودية باسم “تليماك” Telemaque. وفي سنّ الرابعة عشرة من عمره، اشتراه أحد تجار الرقيق، والذي كان يعمل قبطانًا بإحدى سفن الرقيق، ويُدعى “جوزيف فيسي”، ليصبح “دنمارك” مساعده الأكثر ثقة.
وعندما ترك “جوزيف فيسي” تجارة الرقيق، رافقه “دنمارك” إلى “تشارلستون” بولاية “ساوث كارولينا”. واستطاع “دنمارك” من خلال رحلاته إجادة التحدُّث بعدة لغات؛ كالإنجليزية والفرنسية والإسبانية، بجانب تعلُّمه للقراءة والكتابة.
كما استطاع شراء حريته مقابل ستمائة دولار، عندما ربح مبلغ ألف وخمسمائة دولار من ورقة يانصيب اشتراها بالمدينة، ومِن ثَمَّ طوَّر عمله الشخصي بشكل ناجح فكان نجَّارًا ماهرًا. ومع أنه كان عضوًا في مجتمع الملونين الأحرار في “تشارلستون”، إلا أنه كان على تواصل دائمٍ مع العبيد بالمناطق الريفية.
تزوَّج “دنمارك” من امرأة مستعبَدة، وحاول مرارًا شراء حريتها دون جدوى. وبموجب القانون؛ الذي كان ينصّ على أن وضع الطفل هو نفسه وضع والدته، أصبح أبناء “فيسي” من العبيد، ويملكهم الرجل الذي يمتلك زوجته. كما أن “فيسي” عرض عليه شراء حرية أطفاله بأيّ ثمن، لكنَّ مالكهم رفض مجرد الحديث في هذا الأمر. وهو ما ترك غُصَّةً في حلق “فيسي”.
“فيسي” الذي كان مسيحيًّا متدينًا، أصبح محبطًا بشكل متزايد من القيود التي كان يخضع لها هو وغيره من الأمريكيين من أصل إفريقي (سواء كانوا مستعبدين أو أحرارًا) داخل الكنيسة أو خارجها. وفي عام 1818م، شارك في تأسيس أول كنيسة أسقفية ميثودية إفريقية في “تشارلستون”، علاوةً على ذلك عمل بالتدريس والتبشير بها.
ونظرًا لأن معظم المصلين كانوا من العبيد، أقدم المسؤولون بالمدينة على إغلاق الكنيسة عدة مرات، بذريعة التخوُّف من تعليم المصلين من المستعبدين القراءة، وهو ما يُعدّ انتهاكًا لقانون الولاية في ذلك الوقت. واعتمد “فيسي” في دعوته على نصوص من الكتاب المقدس لدعم آرائه، وخاصةً القصص التوراتية لصياغة رسالته في الوعظ، ولإقناع شعبه بالتمرُّد.
في عام 1820م، مستوحيًا من قصة هروب العبرانيين القدماء من العبودية تحت حكم الفراعنة، بدأ “فيسي” بالتخطيط لتمرُّد العبيد في مدينته. وأسرَّ بخطته إلى مَن يثق بهم من قادة الكنيسة الإفريقية. واستطاع في النهاية إقناع الآلاف من العبيد والأشخاص الملونين بفكرة التمرُّد داخل “تشارلستون” وما حولها. كانت الخطة هي القيام بهجمات متعدِّدة ومنسَّقة، والاستيلاء على أسلحة من ترسانات ومستودعات “تشارلستون”، وحرق بعض المراكز الإدارية بالمدينة، وقتل مالكي العبيد البيض إذا قرروا المواجهة، وتحرير جميع العبيد من السجون، ثم الإبحار إلى “هايتي”. هذه الدولة الزنجية التي تأسَّست بعد تمرُّدٍ للعبيد، والتي استمرت من عام 1791م وحتى عام 1804م، وهو ما يُعدّ أكبر وأنجح تمرُّد للعبيد في التاريخ.
قبل أسابيع قليلة من “الانتفاضة”، علم اثنان من العبيد بالخطة وأبلغا مسؤولي المدينة بها. وبعد فشل الانتفاضة وإحباط التمرد، أقرت سلطات الولاية والمدينة قوانين أكثر صرامة، أدَّت إلى تآكل حقوق كلٍّ من الأحرار الملونين والعبيد معًا، فضلاً عن مضاعفة الأعمال الوحشية مِن قِبَل الميليشيات البيضاء تجاه العبيد. كما احترقت الكنيسة الإفريقية وتشتَّت المُصلّون بها. وتبعًا لذلك لم يتم السماح بتأسيس أيّ كنيسة إفريقية داخل “تشارلستون” مرةً أخرى إلا بعد الحرب الأهلية الأمريكية.
وانتهي الأمر بشنق “فيسي” وأربعة وثلاثين من قادة التمرُّد، وذلك بعد تحقيقات لم تستمر إلا أسابيع قليلة، ثم على أثرها تم إصدار أحكام على أشخاص شاركوا في التخطيط لتمرُّد فشل قبل الشروع في تنفيذه.
ثانيًا: السياق الفكري والسياسي والتاريخي المعاصر لـ”دنمارك فيسي”
ظلت نظرة السخط والاستياء هي الشعور العام الذي هيمن على جميع السود داخل الولايات الأمريكية، خلال القرنين الثامن والتاسع عشر، عبيدًا كانوا أو أحرارًا؛ حيث كان الأحرار يتعرَّضون للاضطهاد أكثر من أي عرق مُلون آخر داخل أمريكا، وبخاصةً في الولايات الجنوبية. كما كانت هذه الممارسات تتم باسم القانون، وتتمتع بالحماية الكاملة من سلطات الولاية؛ حيث إن لكل ولايةٍ قوانينها الخاصة، والتي لم يكن يُسمح للسود بتجاوزها بأيّ حالٍ من الأحوال، وهو ما جعل الضحية شاعرًا بالإذلال في كل وقت وفي كل مكان.
في ظل هذه الممارسات، كان العصيان نتاجًا طبيعيًّا، نظرًا لأن المجتمع أصبح أشبه ببركانٍ أوشك على الانفجار. فالجنوب لا يفصله عن الشمال شيئًا، سوى خط “ماسون-ديكسون” Mason–Dixon line. هذا الخط الذي يفصل بين الحرية المزعومة في الشمال، والعبودية المقيتة في الجنوب. وهو ما جعل الولايات الجنوبية في يقظةٍ تامةٍ، وخوفٍ دائم، وتشريعاتٍ مستمرة بهدف إبقاء السود في حالة من الخضوع والخنوع، لإحباط أيّ محاولة للتمرد، أو مجرد التفكير في العصيان.
في الوقت ذاته، كانت أكثر الولايات قمعًا هي ولاية “ساوث كارولينا” South Carolina؛ حيث إن مدينة “تشارلستون” لا يُسمح فيها للسيدات الملونات الحرة بارتداء الحجاب في الشوارع، أو أي مكان عام. بل ويُعاقب كل مخالفٍ لهذا القانون بـ”تسعة وثلاثين جلدة”. وينطبق الشيء نفسه على الرجال الأحرار الملونين إذا شُوهِدَ أحدهم في الأماكن العامة وفي فمه سيجار أو عصا للاتكاء عليها. ويعاقب كليهما إذا تجرأ أحدهم على استخدام الأرصفة أثناء المشي في الشارع. ويعاقب بالغرامة والسجن مَن يجترأ على التجوُّل بعد الساعة التاسعة ليلًا. علاوةً على فرض ضريبة إضافية على كلِّ فردٍ حُرّ من أفراد الأسرة الملونة.
كل هذه المراسيم البغيضة التي تحمّلها الملونون الأحرار بصمتٍ في “تشارلستون” حتى عام 1822م، ولّدت شعورًا متناميًا من السخط والإهانة والاستياء لدى الكثير من السود، وهو الأمر الذي لم يكن يقدّره البيض ومُلّاك العبيد داخل الولاية.
من بين أكثر السود الأحرار استياءً؛ كان “دنمارك فيسي”، الرجل الذي قام بشراء حريته في عام 1800م، ومنذ ذلك الوقت أكسبه عمله بالتجاره والترحال قدرًا كبيرًا من المعرفة، حتى أصبح يُنظَر إليه على أنه من النخبة السوداء. فقد كان يتحدث بحُرّية مع العبيد حول رفضه للعبودية، ومع البيض كذلك، ورأى أن بإمكانه المخاطرة بحريته وبحياته في سبيل تحرير شعبه من رِبْقَة العبودية.
ثالثًا: منطلقات “دنمارك فيسي” الفكرية
في البداية يجب ذِكْر نبذة مختصرة عن خطة “فيسي” للتمرد؛ لفهم توجهاته ومنطلقاته الفكرية. فبعد أن عقد العزم على تحريض العبيد على العصيان والتمرد، بدأ بالتشاور مع أشخاص بإمكانه الوثوق بهم، وحثّهم على اكتساب مزيد من الأتباع ممن يتوقون إلى التحرُّر، من العبيد أو الأحرار على حدٍّ سواء. كان من أبرزهم “بيتر بوياس” Peter Poyas، وهو عبدٌ يتمتع ببصيرة قوية وقدرات غير عادية، اختاره “فيسي” ليكون ملازمًا له؛ وكلَّفه بواجباتٍ ومهامّ شاقة لترتيب أسلوب الهجوم والتصرف كقائد عسكري.
استخدم “فيسي” التخطيطات العسكرية البديهية؛ واختار أن يكون الهجوم ليلًا. وجهَّز لذلك قوة راجلة لتمشيط الشوارع. وكان لديه قائمة بجميع المحلات التجارية التي كانت تُبَاع بها الأسلحة والذخائر. كما تولى طواعية إدارة الجزء الأكثر صعوبة من الخطة –وهو الاستيلاء على دار الحراسة الرئيسية-، وتعهَّد بأن يكون ضمن مهامة مباغتة الحارس؛ فقد كان قويًّا، وواثقًا من نفسه، ومؤمنًا بقضيته.
“جولا جاك” Gullah Jack و”وتوم راسل” Tom Russell و”نيد بينيت” Ned Bennett. لم يكن هم الآخرون أقل أهمية من “بيتر بوياس”؛ وخاصة “توم” الذي كان ميكانيكيًّا بارعًا، وصانعًا للفؤوس، والحراب، وأدوات القتال الأخرى، والتي كانت ضرورية لمواصلة المعركة. “بوياس” و”جولا” و”توم” و”راسل” كانوا قادة للكتائب التي ستقوم بالمهمات العسكرية، لذا فقد كانوا من المسموح لهم بالاطلاع على كل أسرار الخطة.
ولطالما كان من المعتاد في “تشارلستون” أن يزور عبيد الريف المدينة بأعداد كبيرة يوم الأحد، والعودة إلى منازلهم في وقت يتناسب مع بدء العمل في صباح اليوم التالي. لذلك قرر “فيسي” أن تكون الانتفاضة يوم الأحد؛ حيث تم تجنيد عدد من العبيد في كل مزرعة بالمناطق المجاورة للمشاركة في التمرد.
تحدد موعد التمرد يوم 14 يوليو، حيث تم اختيار هذا التاريخ لعددٍ من الأسباب: أولاً؛ سيكون بالمدينة عدد أقل من السكان البيض خلال فترة الصيف. وهو ما أكَّده “لوفتون” بأن الكثيرين قد غادروا المدينة بالفعل “لقضاء إجازة الصيف في “جزيرة سوليفان” Sullivan’s Island، بالأجزاء العليا من الولاية. ثانيًا؛ وقع التاريخ يوم الأحد. وهو يوم تجمُّع الزنوج في مدينة “تشارلستون”. أخيرًا، كانت سماء “تشارلستون” أكثر قتامة في هذه الليلة.
سرعان ما انكشف أمر الخطة، وأُلقي القبض على الجميع، وعَقدت محكمة الولاية جلسات محاكمة يومية واستمرت لأسابيع. ليتم إصدار الأحكام على المتهمين، وعددهم مائة وعشرون كالتالي: حُكم على أربعة وثلاثين بالنفي، وسبعة وعشرون تم تبرأتهم، وظل خمسة وعشرون بدون محاكمة، وخمسة وثلاثون حُكم عليهم بالإعدام. مع استثناءين أو ثلاثة فقط، ذهب قادة الانتفاضة إلى المشنقة وهم يشعرون بأنهم تصرفوا بشكل صحيح، وماتوا كرجال بذلوا حياتهم من أجل قضية آمنوا بها، وهي قضية الحرية.
من واقع تقرير المحاكمة، والذي تم صياغته بعد فترة وجيزة من تنفيذ الحُكم، كان “دنمارك فيسي”: “لعدة سنوات قبل أن يكشف عن نواياه لأي شخص، يبدو أنه كان منخرطًا بشكل مستمر وجاد في محاولة إثارة غضب السكان الملونين ضد البيض. كما كان على دراية تامة بأحداث من الكتاب المقدس، كان يعتقد أن بإمكانه توظيفها لتحقيق أهدافه؛ حيث كان يقتبس منها بسهولة لإثبات أن العبودية تتعارض مع شرائع الله، وأن الكتاب المقدس احتوى نصوصًا تُلزم العبيد بالسعي إلى تخليص أنفسهم، حتى لو كانت العواقب صادمة ودموية، وأن مثل هذه الجهود لن تُرضي الإله وحسب، بل كانت بمثابة واجب شرعي نجاحه متوقعًا بحسب ما جاء من حوادث سابقة بالكتاب المقدس”.
والآن بالإمكان تحليل توجهاته الفكرية من خلال النقاط التالية:
1- القومية الإفريقية والبواعث الثورية
كانت أرواح الأسلاف لا تزال تسكن النفوس السوداء التي رحلت بعيدًا عن أراضي القارة الإفريقية، وهو ما أوجد مصدرًا لقلق مفاهيمي شامل للأفارقة في تقبل العبودية. لأجل ذلك لم يكن هناك أيّ وعي بالقيم الإفريقية في أمريكا أكثر مما كان في “ساوث كارولينا” في أوائل عشرينيات القرن التاسع عشر؛ حيث كان السود يمثلون الأغلبية بين سكان الولاية. هذه الأغلبية السوداء كانت تعيش بالمناطق الريفية، وكانوا معزولين إلى حد كبير عن البيض، وهو ما أتاح لهم الحفاظ على سماتهم الثقافية الإفريقية أكثر من الأمريكيين الآخرين؛ كما لو كانوا وُلِدُوا داخل إفريقيا؛ حيث إن الولاية كانت تستقبل كل يومٍ أعدادًا غير مسبوقة من العبيد حتى بعد قمع تجارة الرقيق في عام 1808م. والتي استمرت بشكل غير قانوني في ولاية “ساوث كارولينا” حتى انتهاء الحرب الأهلية الأمريكية، مما يعني أن القِيَم الثقافية الإفريقية كانت متجدِّدة باستمرار داخل الولاية.
وهكذا قضى “فيسي” سنوات شبابه يعيش بين العبيد، ويشاركهم معاناتهم، وشاهدًا على جراحهم وسَلْبهم من ساحل إفريقيا إلى قفص العبودية في أمريكا. وهو المناخ الذي أنتج مؤامرة “فيسي” في “تشارلستون” في عام 1822م.
كما كان هناك دينٌ إفريقي يُمارس بشكل أساسي؛ حيث كان يتم تجميع السود من العبيد والأحرار لممارسة شعائر دينية إفريقية؛ ونظرًا لأن غالبية السود في “ساوث كارولينا” قدِموا من مناطق في إفريقيا، مثل الكونغو-أنجولا وساحل إفريقيا الغربي؛ حيث الطقوس التي يصاحبها الصراخ.
كانت هوية “فيسي” إفريقية بشكل كبير، فقد عاش في جزيرة “سان توماس” St. Thomas بجزر الهند الغربية، حيث حافظ الأفارقة هناك على التراث والطقوس الإفريقية، حتى بلغ أربعة عشر عامًا من عمره، وهو العمر الذي اشتراه فيه سيده القبطان، ليطوف معه خلال رحلة استمرت عشرين عامًا في البحر، وزار خلالها ساحل إفريقيا الغربي، وهو ما سمح له بالتواصل مع جذوره الإفريقية؛ حيث الارتباط بالأفارقة من مختلف أنحاء القارة والعالم الجديد. وأُتيحت له مرة أخرى فرصة مراقبة الأفارقة، والتواصل معهم في أجزاء كثيرة من القارة، ومشاهدته للاجتياح الأبيض الذي استهدف نهب وسرقة عِرْقه وأرض أسلافه. علامة أخرى على ارتباطه الثقافي بإفريقيا هو أنه مع تقدُّمه في السن، مارَس شكلاً من أشكال تعدُّد الزوجات، وأنجب من زوجاته العديد من الأطفال الذين وُلِدُوا أرقاء.
تم إحضار ما يقرب من أربعين ألفًا من العبيد إلى “ساوث كارولينا” وحدها بين عامي 1800م و1807م، حيث عاش “فيسي” في بيئة إفريقية في كلا الموقعين. كان عبدًا عندما كان الوعي بالقومية والوحدة بين السود يتشكل. كما عاش بين رجال ونساء في “ساوث كارولينا” و”جزر الهند الغربية” لا يزالون يحتفظون بذكريات وتعقيدات الثقافة الإفريقية، حتى إن قِيَمه التكوينية جاءت من خلال التواصل مع الأفارقة، وبدرجة أقل مع البيض؛ نظرًا لإجادته العديد من اللغات الأوروبية، وهو إنجاز ليس بنادرٍ لإفريقي في العالم الجديد. وبالتالي، كان “فيسي” قادرًا على الاستفادة من تجاربه الإفريقية والأوروبية، والجمع بينهما لإثراء رؤيته السياسية، وتشكل نظرته الدينية، مما جعل منه الأنسب بشكل مثالي لقيادة التمرد ضد العبودية.
كما لم يكن “فيسي” يُفرق بين أبناء شعبه من السود، بل كان يوزع اهتماماته بين الريف والمدينة. وحاول أن يُشرك جميع الطوائف والطبقات من بني قومه في انتفاضته، فلم يكن يكتفي بمشاركة السود داخل المدينة، لذا كان على تواصل مع أولئك الذين يقبعون بعيدًا في الريف، من الزنوج والخلاسيين والمولدون، مؤمنًا بأنهم جميعًا يعانون من مصير واحدٍ ومشترك.
بذل كل طاقاته وفكره لتحرير العبيد داخل دائرة “تشارلستون”؛ حيث كانت خطته تعتمد على إشراك عدة آلاف من العبيد، كان لأبناء الريف مكانة بارزة في خطته، لكنها اعتمدت بالأساس على مشاركة العبيد في المناطق الحضرية، الذين شكَّلوا أكثر من ستين بالمائة من سكان “تشارلستون”. كانت هذه النسبة المئوية للعبيد إلى البيض والبالغة تسعة مقابل واحد في الريف مفيدة بشكل واضح للمتمردين، وهو ما يُفسِّر خوف سكان “ساوث كارولينا” من أن عبيدهم قد ينتفضون ضدهم يومًا ما. وحسب وصف “فريهلينج” فإن: “النجاح المطلق للخطة اعتمد بشكل أساسي على المباغته وتحقيق النصر السريع”.
اكتنف بعض الغموض طبيعة الخطط في كل ثورات العبيد في أمريكا الشمالية، وهو نتاج المعرفة المحبطة بأن الإطاحة بالبيض في منطقة التمرد لا تعني الحرية النهائية؛ وعوضًا عن ذلك، سيكون النصر مقدمة لمزيد من المعارك التي لا نهاية لها على ما يبدو، هذا إذا كان الثوار يأملون في البقاء على الأراضي الأمريكية. لذا كانت خطة “فيسي” تعتمد على النصر السريع كمرحلة أولى، والإبحار عبر المحيط الأطلسي كمرحلة ثانية.
كانت خطة “فيسي” تعتمد على الجماعية بشكل كبير، واستيعاب كلّ من الخلافات والاختلافات، فقد كان يأمل في اجتماع شعبه على هدفٍ واحدٍ، وتحت قيادة واحدة. وأحاط نفسه بمساعدين من عدة مجموعات عرقية إفريقية مختلفة؛ وهم: “مانداي جيل” Monday Gell من “الإيبو” Ibo؛ و”مينجو هارث” Mingo Harth من “الماندينجو” Mandingo؛ و”جولا جاك” Gullah Jack الأنجولي Angolan.
كان يهدف من هذا التنوع إلى زيادة التعاون بين كل العناصر إلى أقصى حدّ. كانوا جميعًا من الشباب، وشكّلوا مزيجًا من الأمريكيين الذين وُلِدُوا في إفريقيا، ومعهم الجيل الأول من السود الأمريكيين. كما أعطى هذا النسيج الجديد تعاونًا سياسيًّا مباشرًا جسَّد القِيَم القومية والوحدة الإفريقية، والاعتماد على الذات، والثقة في القيادة والنجاح، والإيمان بالنهوض والحرية.
كما تشير الدراسات التي تناولت أبعاد التمرد، أن أكثر العبيد لم يتأثروا بالتثاقف من البيئة الأكبر؛ لكنهم اعتمدوا على القيم الإفريقية، مدفوعين بقوة الإيمان بوحدتهم وأصلهم المشترك، على اختلاف الأيديولوجيا من وثنية أم مسيحية أم إسلامية، وحينما تم الاعتماد على القِيَم الإفريقية، لم يكن هناك ثمة معارضة، فالجميع ينتمى لهوية إفريقية واحدة.
لذا كان الشعور بالقومية الإفريقية هو الدافع الأول نحو الاستقلالية والحكم الذاتي، فعلى الرغم من التنوع والاختلاف؛ عزم الجميع على بَذْل الجهد المشترك لتحقيق الاستقلال عن مضطهديهم. وهو ما لاحظه “ستاروبين” Robert Starobin بأن: “ذكرى هويتهم الثقافية وشعورهم بالاستقلالية كان حاضرًا بقوة في تمردهم، وهو ما مكَّنهم من جَذْب السود الآخرين في الريف والمناطق المجاورة”.
كان الإحساس بالهوية الإفريقية يميز فكر هؤلاء الثائرين، الذين عايشوا بالتأكيد لحظات إعلان الاستقلال الأمريكي في عام 1816م، فاختلطت المُثُل السياسية والدينية الإفريقية والأوروبية في بعض الأحيان وتوحَّدت، ومهَّد أحدهما الطريق للآخر. فتحول الأفارقة تحت قيادة “فيسي”، إلى كتلة ثائرة تتحرك نحو الوحدة الجامعة؛ لتعزيز التناغم العرقي كوسيلة لتحقيق الاستقلال عن أمريكا.
كما لم تكن انتفاضة “فيسي” هي الأولى، ولم تكن كذلك الأخيرة، فقد سبقه قادة من السود، وجاء من بعده كذلك آخرون، لكن انتفاضة “فيسي” كانت الأكثر تنظيمًا، والأوسع انتشارًا –داخل الولاية-، والأضخم تأييدًا، يقودها الأحرار والعبيد معًا، ويؤيدها الزنجي والخلاسي، ويجتمع فيها الأطفال والنساء والشباب والرجال والكهول.
كما كانت “الميثودية السوداء” في “ساوث كارولينا” قومية بالأساس؛ نظرًا لأن الكهنة ورجال الدين وقادة الطبقة السوداء، ومعهم خمسة آلاف آخرين، أحرارًا وعبيدًا، قد اختاروا أن تكون كنيستهم إفريقية، وهو ما يدلل على أن عضويتهم السابقة في الكنيسة الميثودية البيضاء في “تشارلستون” كانت على الأرجح بسبب افتقارهم لهذه المشاعر القومية. كما أوضحت التطورات التي أعقبت انفصالهم عن الميثودية البيضاء، إلى زيادة وتعزيز الشعور القومي والوعي بالهوية الإفريقية. فعندما أقام العبيد دار عبادة خاصة بهم، كانت إفريقية، وهو ما أوجد وعيًا بكرامتهم وطبيعتهم كبشر، فتمثل جهدهم في إضفاء الطابع المؤسسي على استقلالهم الروحي.
كانت المسيحية بالنسبة لـ”فيسي” ذات طابع خاص، فقد ركَّز واقتصر على آيات من التوراة، وتحاشى آيات الإنجيل، وشبَّه الزنوج بأبناء إسرائيل، واقتبس فقرات تُبيح للعبيد قتل أسيادهم. فحسب شهادة الشهود: كانت أكثر الاقتباسات المفضَّلة له من الكتاب المقدس آيات من سفر “يشوع”، وخاصة ما جاء في الإصحاح السادس (20-21): “هتف الشعب وضربوا بالأبواق. وكان حين سمع الشعب صوت البوق أن هتف هتافًا عظيمًا، فسقط السور في مكانه، وصعد الشعب إلى المدينة كل رجل مع وجهه، وأخذوا المدينة، وحرموا كل ما في المدينة من رجل وامرأة، من طفل وشيخ، حتى البقر والغنم والحمير بحدّ السيف، لقد دمروا تمامًا كل ما كان في المدينة، رجلًا وامرأة، صغيرًا وشيخًا، وغنمًا، وحمارًا بحد السيف”.
روّج “فيسي”، وهو مُنَظِّر يتَّسم بالحداثة، لاستخدام المسيحية الراديكالية، وشجَّع من خلال أحد مساعديه، على دمجها مع الممارسات الدينية الإفريقية. كتب “ستاروبين”: “كان من خلف الموقف العام المعادي للبيض، استراتيجية جمعت بين القسوة التي استمدها [فيسي] من نصوص العهد القديم، وبين روح المحارب الإفريقي والعادات الدينية الإفريقية”. فاستخدم الراديكالية المسيحية لتعزيز دعوته لحمل السلاح. حسبما جاء في التحقيقات كان “فيسي” يركّز بشكل أساسيّ على أهمية السيطرة على مخازن السلاح داخل المدينة: “يجب أن ننهض ونقاتل البيض من أجل حريتنا”؛ كان يرى في شعبه تجسيدًا لقصة خلاص بني إسرائيل من العبودية في مصر القديمة.
كما كان شعار المسيحية لـ”فيسي” متكاملًا مع الديانة المحلية الإفريقية لـرفيقه “جولا جاك” Gullah Jack الإفريقي؛ حيث اعتمد “جاك” على الممارسات الثقافية الإفريقية المنتشرة على نطاق واسع في إفريقيا السوداء لتشجيع التمرد، وكان يبشر بعقيدة المشعوذ التي لا تقهر.
2- الحرية المطلقة كقيمة إنسانية
وقعت العديد من الأحداث الحَرِجَة في تاريخ المحيط الأطلسي خلال الفترة التي سبقت مباشرة حصول “فيسي” على حريته، وسعيه اللاحق لتجنيد المواليين في الفترة (1821-1822م)، والتي كانت مرتبطة بشكل مباشر أو غير مباشر بتمرد “فيسي” في عام 1822م. كان للثورة الفرنسية (1789-1799م) تأثير هائل على الحياة السياسية والاجتماعية الغربية، لا سيما في ولاية “كارولينا الجنوبية”.
وفي عام 1791م، بدأ سكان “سان دومينيجو” جهودًا للإطاحة بهيكل السلطة البيضاء، مما أدَّى إلى استقلال هايتي في عام 1804م. كان الشعور الذي أحدثته الثورتان الفرنسية والهايتيّة انعكاسًا لاتجاه تحرُّري أكبر بالحضارة الغربية، أو دعم “حقوق الإنسان” من جهة، وإمكانية مقاومة السود للاستعباد من جهة أخرى. كلاهما كانا يمثلان أصوات خطيرة وصلت إلى أسماعٍ سوداء حرة أو مستعبَدة. فمن المحتمل بالتأكيد أن هذا الشعور كان معروفًا، وشعر به العديد من السكان السود في “تشارلستون”. ومن المحتمل جدًا أيضًا أن الكثير من هذه المعلومات تم الحصول عليها من الأخبار التي تم نشرها مِن قِبَل البحارة السود والصحف التقليدية في “تشارلستون” وبين المواطنين البيض. كانت الأخبار الواردة من الخارج جزءًا كبيرًا من الحديث عن هذا الفضاء العالمي. مع وجود مجتمعات مؤيدة للفرنسيين في “تشارلستون”، ناهيك عن مشاركة كابتن “جون فيسي” المحتملة في هذه المنظمات الراديكالية، فمن المعقول أيضًا أن الراديكالية إما كانت بمثابة حافز لخلق أحلام الحرية بين “دنمارك فيسي” والسود الآخرين أو أبعد من ذلك.
من الواضح أن الثورة الهايتية كان يُعتقد أنها مصدر الإلهام الأكبر “لـ”دنمارك فيسي”، وخطته لتنظيم ثورة في “تشارلستون” بعد حوالي واحد وعشرين عامًا.
كانت شكاواه كثيرة وهمومه كبيرة. كعبدٍ نال حريته في أوائل الثلاثينيات من عمره، أبناؤه جميعًا داخل قفص العبودية، وهو يقف عاجزًا عن انتشالهم وتحريرهم. كان في السابق عبدًا قانعًا، قَبِلَ بالعبودية لأكثر من عقدين، لكنه بعد أن أصبح حرًّا قرَّر الإطاحة بقيود العبيد والنهوض بالأحرار.
كان وضع العبيد سيئًا للغاية، حتى إن “فيسي” كان يتعجب من حالة الهدوء التي انتابت العبيد، ومندهشًا من أنهم لم ينهضوا ويدفعوا العبودية عن أنفسهم، وتناسى أنه في السابق كان يقبل بالعبودية مثلهم، بل كان يتفانى في خدمة سيده الأبيض.
وبقدر أهمية القِيَم الروحية والفنية للثقافة الإفريقية، كانت هناك حاجة إلى تنوُّع في ثقافة الحرية لدى السود. كان تحطيم هياكل الاضطهاد أمرًا حيويًّا للحرية، وهو ما حاول “فيسي” تحقيقه من خلال الموارد المتاحة لتحقيق هذه الغاية. في الوقت نفسه كان القبول بفكرة النضال ومحاولة الذوبان ورفض التمرد والعنف ثقافة سعت لاستغلال كل فرصة متاحة لتحقيق نفس الغاية؛ حيث تضاءل الاهتمام بالممتلكات المادية، ونمت مشاعر الاستعداد للمخاطرة بكل شيء في سبيل تحسين مصير الناس؛ من خلال التمرُّد أو الإصلاح، كان الفكر القومي يدفع المجتمعات بقوة نحو الحرية، في وقت ازدهرت فيه الاشتراكية؛ حيث كان هناك رفض للاستغلال، وتكديس الثروة بيد شريحة واحدة من المجتمع، ولذا استغل “فيسي” هذا الوعي وهذه الصحوة، ووضع تصوره من خلال توحيد أبناء شعبه من السود، لمواجهة الظلم وقوى الاضطهاد واكتساب قيمة الحرية، دونما الالتفات للمصير الذي قد ينتظره إذا فشلت خطته.
رابعًا: دلالات انتفاضة “دنمارك فيسي” الفكرية
في عام 2002م، كتب “جون وينر” John Weiner مقالًا قصيرًا في الصحيفة الاسبوعية “الأمة” The Nation، تحت عنوان “[دنمارك فيسي]: محاكمته من جديد”. تحدث “وينر” عن حملة الجالية السوداء في “تشارلستون” بولاية “ساوث كارولينا” لوضع نُصب تذكاري لـ”دنمارك فيسي” في ساحة البلدة. وعن الغضب الفوري الذي أشعله النصب التذكاري المقترح، واعتباره نوعًا من تحريض الأمريكيين الأفارقة ضد البيض.
هذه الواقعة بعد قرنين تقريبًا من التمرد، أعادت “فيسي” إلى الواجهة من جديد، وأعادت معه الانقسام داخل “تشارلستون”؛ حيث يعتقد البيض أنه ليس من المناسب الاحتفاء برجل خطَّط لإبادة جماعية للبيض. ومن جهة نظر السود فإن “فيسي” يُعَدّ بطلًا، قدَّم روحه فداءً لشعبه في مواجهة الظلم والطغيان.
تمثال “دنمارك فيسي” هو تمثال ضخم في “تشارلستون”، بولاية “ساوث كارولينا”. تم تشييد النصب التذكاري في “حديقة هامبتون” Hampton Park في عام 2014م تكريمًا له. قام بتصميمه النحات الأمريكي الأسود “إد دوايت” Ed Dwight. وهو دليلٌ آخر على مكانة “دنمارك فيسي” في التاريخ الأمريكي، رغم مرور قرنين من الزمان تقريبًا على تمرُّده. وهو ما أشار إليه كلٌّ من “جون لوفتون” John Lofton و”ويليام فريهلينج” William Freehling بأن تمرّد “فيسي” كان نقطة تحوُّل في التاريخ الأمريكي. وأنه وضع “ساوث كارولينا” على مسار تصادم مع قيمة الحرية، وبلغت ذروتها في الحرب الأهلية.
كانت مقاومة العبودية قضية عادلة تستحق التضحية بالنفس. لم يكن “فيسي” مستعبَدًا، لكنَّه كان على استعداد للتضحية بمكانته ومركزه “المتميز” privileged باعتباره أسود حرًّا داخل المجتمع، لصالح الأجيال الحالية والمستقبلية من شعبه الأسود. لاحظ “جون وينر” John Weiner: “أن محاكمة [فيسي] أسفرت عن عدد من عمليات الإعدام أكثر من أيّ قضية أخرى في التاريخ الأمريكي، ومع ذلك وقف المتهمون السود معًا بشجاعةٍ وتضامنٍ في مواجهة المحققين والقضاة. في الوقت الذي كان البيض في [تشارلستون] خائفين ومترقبين. كان العبيد والسود الأحرار شجعانًا لا يخشون قضبان السجن وحبال المشانق”.
تحول “دنمارك فيسي” في النصف الثاني من القرن العشرين، إلى مثالٍ يُحتَذَى به للمقاومة، وصرخة حشد من أجل الحرية. كتبت “كوريتا سكوت كينج” Coretta Scott King، أرملة “مارتن لوثر كينج” Martin Luther King، مقدمة كتاب للأطفال بعنوان “دنمارك فيسي” Denmark Vesey. قدَّمت فيه “فيسي” كمثال للرجل الأسود ذي الشخصية المثالية، ونموذجًا للنضال القومي الأسود لأجيال متعاقبة. كانت السيدة “كينج” مثل غيرها من أنصار “فيسي”، ترى فيه مناضلًا يستحق الاحتفاء والمحاكاة. قالت: “إن فيسي كان رجلاً رائعًا وقف ضد الاضطهاد دون الالتفات إلى مصلحته الشخصية”. ويدور هذا الكتاب حول الأمريكيين السود الذين خدموا المجتمع من خلال التميز في إنجازاتهم.
كان تمرد العبيد مَهمَّة انتحارية؛ كما يصفها “بيتر كولشين” Peter Kolchin، فإن “التمرد في الولايات المتحدة، على عكس منطقة البحر الكاريبي أو البرازيل؛ من حيث انعدام فرص النجاح”. فبينما كان يعلم “فيسي” أن موجات القمع التي أعقبت كل تمرُّد، أو مؤامرة، أو حتى شائعات عن مؤامرة، عزَّزت ببساطة ما كان واضحًا لمعظم العبيد، في ظل الظروف الحالية، أن أيّ تمرُّد مسلح هو حدّ ذاته حماقة، لكنَّ إصراره وعزمه على تحرير شعبه كان أكبر من أيّ عاقبة تنتظره في حالة فشل المؤامرة.
ختامًا:
ينطوي تمرُّد “فيسي” على قِيَم إنسانية في المقام الأول، تشمل الكثير من المكونات الأساسية للعلاقات الإنسانية كالقوة، والعمل، والعِرْق، والجنس، والهوية، والمصالح، والتعاون، والصراع، والخداع، والعقلانية، ولأنها تُسلّط الضوء على التوتر بين الحرية وواقع اللاحرية، وهي السِّمات المركزية للتاريخ الأمريكي.
وتُعدّ محاكمة “دنمارك فيسي” أكثر أهميةً لفهمنا للطبيعة البشرية؛ لأن القضية وقعت عند تقاطع العدالة والحفاظ على الذات. كما تتحدى هذه القضية مفاهيمنا حول المقاومة والبطولة والعنف. وتثير التساؤل حول كيفية تفاعل تلك المفاهيم مع مسائل العرق. وأصبح “دنمارك فيسي” أيقونة؛ تبرز الدلالة حول مدى صعوبة الوصول إلى الحقيقة التاريخية.
فمن الصعب الوصول إلى الحقيقة التاريخية في أيّ حدث يتعلق بالعبودية. ولربما لن نعرف بالضبط ما حدث في “تشارلستون” في عشرينيات القرن التاسع عشر. فمثل معظم الحوادث التي تنطوي على العبيد، تأتي المعلومات إلينا من خلال مرشّح متحيّز. وهو ما لاحظه “بيتر كولشين” Peter Kolchin في عمله “العبودية الأمريكية” American Slavery: 1619-1877؛ وقرَّر “أن معظم دراسات العبودية ركَّزت على أفعال السيد بدلاً من أعمال العبد، فالغالبية العظمى من العبيد كانوا أُميِّين، وبالتالي لم يتركوا أيّ سجلات مكتوبة، وكان يظهر في أعمالهم (المؤرخ)، والذي كان بالطبع من البيض. وهو ما غيَّب كثيرًا من الحقائق التي وصلت إلينا.
______________________________
أهم المراجع المستخدمة في البحث:
Egerton, Douglas R. “” Why They Did Not Preach up This Thing”: Denmark Vesey and Revolutionary Theology.” The South Carolina Historical Magazine 100.4 (1999): pp. 298-318
Egerton, Douglas R. “Forgetting Denmark Vesey; Or, Oliver Stone Meets Richard Wade.” The William and Mary Quarterly 59.1 (2002): pp. 143-152
Egerton, Douglas R. He shall go out free: The lives of Denmark Vesey. Rowman & Littlefield Publishers, 2004
Egerton, Douglas R., and Robert L. Paquette. The Denmark Vesey Affair: A Documentary History. University Press of Florida, 2017
Hyde, Carrie. “Novelistic Evidence: The Denmark Vesey Conspiracy and Possibilistic History.” American Literary History 27.1 (2014): pp. 26-55
Johnson, Michael P. “Denmark Vesey and his co-conspirators.” The William and Mary Quarterly 58.4 (2001): pp. 915-976
Kleinman, Max L. “The Denmark Vesey Conspiracy: an Historio-graphical Study.” Negro History Bulletin 37.2 (1974): pp. 225-229
Lofton Jr, John M. “Denmark Vesey’s Call to Arms.” The Journal of Negro History 33.4 (1948): pp. 395-417
Paquette, Robert L., and Douglas R. Egerton. “Of Facts and Fables: New Light on the Denmark Vesey Affair.” The South Carolina Historical Magazine 105.1 (2004): pp. 8-48
Pearson, Edward A. “Trials and Errors: Denmark Vesey and His Historians.” The William and Mary Quarterly 59.1 (2002): pp. 137-142
Roberts, Blain. “Uncovering the Confederacy of the Mind: Or, How I Became a Belle of the Ball in Denmark Vesey’s Church.” Southern Cultures 19.3 (2013): pp. 6-25
Robertson, David M. Denmark Vesey: The buried story of America’s largest slave rebellion and the man who led it. Vintage, 2009
Rubio, Philip F. “” Though He Had a White Face, He Was a Negro in Heart”: Examining the White Men Convicted of Supporting the 1822 Denmark Vesey Slave Insurrection Conspiracy.” The South Carolina Historical Magazine (2012): pp. 50-67
Rucker, Walter C. “” I will gather all nations”: Resistance, culture, and pan-African collaboration in Denmark Vesey’s South Carolina.” The Journal of Negro History 86.2 (2001): pp. 132-147
Spady, James O’Neil. “Power and confession: on the credibility of the earliest reports of the Denmark Vesey slave conspiracy.” The William and Mary Quarterly 68.2 (2011): pp. 287-304
Von Frank, Albert J. “Remember Denmark Vesey.” Reviews in American History 29.1 (2001): pp. 40-48