بسمة سعد
باحثة في مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية – مؤسسة الأهرام
تشهد مالي جولة جديدة من التجاذبات السياسية والأمنية مع شركائها الدوليين والإقليميين، بعدما أعلنت أكثر من 20 وحدة عسكرية من إجمالي 114 وحدة، إيقاف عملياتها، أو تُخطّط للقيام بذلك على المدى القريب؛ حيث أعلنت كوت ديفوار في 11 نوفمبر 2022م أنها ستبدأ في سحب 900 جندي من بعثة الأمم المتحدة المتكاملة المتعددة الأبعاد لتحقيق الاستقرار في مالي، تَبِعَها إعلان المملكة المتحدة في 14 نوفمبر 2022م بأنَّ قواتها ستنسحب في الأشهر الستة المقبلة “قبل الموعد المخطَّط له”، ثم إعلان ألمانيا في 22 نوفمبر 2022م أنها اتخذت قرارًا رسميًّا بالانسحاب من البعثة على الرغم من تشديد المسؤولين على أنهم سيحتفظون بجزء من التزامهم على الأقل حتى مايو 2024م.
يُضاف إلى ذلك، إشارة بنين والسويد خلال العام الجاري 2022م إلى نيّتهما سحب قواتهما قبل نهاية عام 2023م، والبالغ عددها حوالي 450 و200 فرد على التوالي، كما علقت مصر في يوليو 2022م أنشطة وحدتها بشكل مؤقت، والتي يزيد قوامها عن 1000 فرد، بعدما فقدت وحدتها 7 من أفرادها خلال الأشهر الماضية.
انطلاقًا مما سبق، يهدف المقال لمناقشة الأسباب التي دفعت بعض الدول المُشارِكة بقوات في بعثة الأمم المتحدة في مالي للانسحاب من البعثة، إلى جانب تقديم رؤية استشرافية لمستقبل مينوسما في مالي في ظل الانسحاب التدريجي لبعض الدول المشاركة.
أولًا: دوافع الانسحاب التدريجي لبعثة الأمم المتحدة من مالي
هناك دوافع رئيسية تقف وراء موجة الانسحابات المتوالية لعددٍ من القوات المُشارِكَة ضمن بعثة مينوسما، من أهمها ما يلي:
1- تدهور علاقات مالي مع شركائها الدوليين والإقليميين
تسبَّب حدوث انقلابين عسكريين في مالي خلال عام واحد في أغسطس 2020م ومايو 2021م تحت قيادة الكولونيل “أسيمي غويتا” في انتقادات بالغة حول المسار الديمقراطي والحقوقي للبلاد، أدت إلى توتر علاقات مالي مع شركائها الأوروبيين والأفارقة خلال الأشهر الماضية، عقب إعلان فرنسا انسحابها من مالي، وإعادة تمركز قواتها في منطقة الساحل الإفريقي في العام 2021م، وخروج آخر قواتها وتفكيك ترسانتها المتمركزة في شمال مالي في أغسطس 2022م، في خطوة أثارت استنكار حكومة مالي التي وصفت القرار بمثابة تخلّي فرنسا وهي حليف استراتيجي لباماكو عنها في منتصف الطريق، ما دفع مالي للاستعانة بمجموعة فاغنر الروسية لشغل الفراغ الأمني عقب الانسحاب الفرنسي، وهو ما أثار استفزاز باريس وباقي الدول الأوروبية، ودخل الجانبان (الفرنسي والمالي) في جولة من السجال السياسي والاتهامات المتبادلة، بعدما اتهمت باريس باماكو بالافتقاد إلى الشرعية الديمقراطية([1])، في حين اتهمت مالي باريس بدعم ومساندة جماعات إرهابية في البلاد، وانتهاك المجال الجوي المالي للقيام بأنشطة تجسس في أغسطس 2022م([2]).
علاوة على ذلك، فقد امتد الخلاف الفرنسي المالي إلى شركاء مالي الأوروبيين وحلفاء باريس، بعدما طلب رئيس المجلس العسكري “غويتا” خروج قوة تاكوبا لعدم رضاه عن أدائها مع تصاعد عمليات الإرهاب في يناير 2022م([3])، تبعها إعلان باماكو عن عدم ترحيبها بـ105 جنود دنماركيين تم إرسالهم في يناير 2022م للانضمام إلى قوة تاكوبا الأوروبية، والمكونة من 900 فرد من النخبة غالبيتهم جنود فرنسيون، إلى جانب قوات من 8 دول أوروبية منها المملكة المتحدة والسويد وألمانيا([4])، دفعت الدنمارك لسحب قواتها على الفور([5])، سبقها في ذلك السويد التي قررت سحب قواتها في 17 يناير 2022م، إلى أن انتهى المطاف بإعلان باريس إنهاء عمل قوة تاكوبا في 30 يونيو 2022م.
لم يقف الأمر عند هذا الحدّ، بل امتدَّ الخلاف إلى شركاء مالي الإقليميين من دول القارة، انعكس في عددٍ من المؤشرات، أولها؛ فرض المجموعة الاقتصادية لغرب إفريقيا حزمة من العقوبات القاسية على مالي كإغلاق الحدود مع مالي، وتعليق التجارة باستثناء المنتجات الأساسية، إلى جانب قطع المساعدات المالية، وتجميد أصول مالي في البنك المركزي لدول غرب إفريقيا، ردًّا على رفض المجلس العسكري المالي تسليم السلطة لحكومة مدنية في فبراير 2022م، بل وتقديمه خطة لمرحلة انتقالية مدتها 5 سنوات.
ثانيها؛ إعلان مالي انسحابها من مجموعة الساحل الخمس لمكافحة الإرهاب في مايو 2022م؛ احتجاجًا على رفض تولّيها رئاسة مجموعة الخمس، وهي خطوة وصفتها باماكو بأنها تأتي انصياعًا للإملاءات الفرنسية.
ثالثها: احتجاز باماكو لنحو 49 عسكريًّا من كوت ديفوار لدى وصولهم إلى مطار باماكو في يوليو 2022م، معلنةً (مالي) أنها ستتعامل معهم على أنهم “مرتزقة”([6])، والتي تُفسّر جميعها سبب معارضة الحكومة المالية اقتراحًا قدّمته فرنسا والأمين العام للأمم المتحدة في يوليو 2021م برفع سقف قوات مينوسما بنحو 2000 فرد، مبررةً ذلك بأنه لم يتم التشاور مع الحكومة المالية بشأن هذا المقترح([7]).
بناءً على ذلك، قيّدت حكومة مالي من تعاونها مع قوات البعثة عملياتيًّا، وخفّضت من مستوى التنسيق والتعاون معها، كما قامت في يوليو 2022م بطرد المتحدث باسم مينوسما، إلى جانب إنشاء منطقة حظر طيران ومنع وصول محققين من قسم حقوق الإنسان إلى مناطق معينة([8])، ناهيك عن إعاقة باماكو عمليات تناوب القوات وتعليقها لمدة شهر في 2022م، كما أعربت مصادر ألمانية عن أن هناك طائرات استطلاع بدون طيار ألمانية قدّمتها برلين لدعم القوات في ساحة المعركة، ممنوعة حاليًا من الإقلاع بسبب القيود الجوية التي تَفرضها الحكومة المالية، وهو ما ساهَم في خَلْق مساحة من التوتر مع قوات البعثة، ودفع نحو 15 دولة مساهمة في بعثة الأمم المتحدة في مالي، غالبيتها دول أوروبية للتعبير عن قلقها بشأن استمرار البعثة في عملياتها في هذا السياق المضطرب، والتساؤل حول جدوى انتشار قواتها في منطقة تقلصت فيها مساحة المناورة بشكل كبير([9])، ناهيك عن مخاوف قوات البعثة من الدخول في مواجهات عرضية في مسرح العمليات مع قوات فاغنر الروسية.
2- إعاقة مالي قوات البعثة عن التحقيق في مجال الانتهاكات الحقوقية
في ضوء العلاقات المتوترة بين مالي وشركائها الأوروبيين، سلَّطت قوات مينوسما الضوء على العديد من الانتهاكات بحق المدنيين. فعلى سبيل المثال، نفَّذت القوات المالية عملية عسكرية في قرية مورا في وسط مالي، أسفرت عن مقتل أكثر من 300 شخص خلال عملية عسكرية في مورا في مارس 2022م، قال الجيش: إن جميع القتلى كانوا مسلحين، بينما أوضح شهود عيان في مقابلات مع مجموعة هيومن رايتس واتش بأن معظم القتلى من المدنيين، تبعها قيام مالي بمنع محققي الأمم المتحدة من زيارة الموقع([10]).
وعقب تمديد مجلس الأمن ولاية البعثة الأممية في يونيو 2022م لمدة عام، حظرت الحكومة المالية أعضاء البعثة من حرية التحرك للتحقق من الانتهاكات المزعومة، وبالتالي إعاقة البعثة عن أداء إحدى مهامها الرئيسية، وهي التحقيق في الانتهاكات الحقوقية([11]).
3- صعوبة تكيُّف القوات الأممية مع التكتيكات القتالية للجماعات الإرهابية
على الرغم من النجاحات الميدانية التي حقّقتها القوات الأممية في التَّصدّي للجماعات الإرهابية وطردها من مناطق تمركزها في شمال مالي، وبالتالي الوقوف كحجر عثرة أمام تمكُّن الجماعات الإرهابية من بَسْط نفوذها على رقعة جغرافية واسعة وممتدة في البلاد؛ فإنَّ العناصر الإرهابية تمكنت من استعادة سيطرتها على عددٍ من المناطق المحرَّرة مِن قِبَل القوات الأممية، في تحرُّك تكتيكي واجهت قوات البعثة الأممية صعوبة في التكيف معه والتصدي لهجمات العناصر الإرهابية، لا سيما أن الأمم المتحدة لا تسمح لقواتها بالاشتباك الهجومي مع المسلحين، على الرغم من مطالبة الأمم المتحدة لهم بالردع والاستجابة الفعَّالة للتهديدات التي يتعرَّض لها المدنيون. وهو ما وضع القوات الأممية في وضع حرج، تعاظم مع انسحاب القوات الفرنسية وإنهاء عمل قوة تاكوبا، مما أسفر عن مقتل 174 فردًا من الخوذات الزرقاء في أعمال عدائية حتى ديسمبر 2022م([12]).
ثانيًا: المسارات المستقبلية المحتملة لقوات البعثة الأممية
هناك حالة من الغموض والضبابية تُعيق استشراف رؤية مستقبلية لوضع البعثة الأممية في مالي، في خضمّ ما تُعانيه من تحدّيات هيكيلية وعملياتية، إلى جانب ما يُواجهه السياق الأمني والسياسي المالي من اضطرابات وعدم استقرار.
بناءً عليه، فإنه في ضوء المراجعة الداخلية التي بدأتها الأمم المتحدة عقب الانسحاب العسكري الفرنسي من مالي، من أجل تقييم أداة المهمة، ومدى إنجازها للمهام المنوطة بها، مع إمكانية تقديم مقترحات لتحسين أداء القوات، إلى جانب تفاقم التوترات بين باماكو وشركائها الأوروبيين والأفارقة، وانعكاساتها على مدى استجابة القوات الأممية للتهديدات والمخاطر الأمنية، وحدود فعاليتها في أداء مهامها، فهناك مسارات مستقبلية محتملة ومحددة لقوات البعثة الأممية، هي كالتالي:
1- سياسة سد الفجوات:
فهناك احتمال لقيام الأمم المتحدة باعتماد سياسة يُمكن تسميتها بـ”سد الفجوات” التي تعني بحث الأمم المتحدة عن قوات مساهمة بديلة للقوات المنسحبة أو المقرر لها الانسحاب على المدى القصير، لضمان استمرار عمل البعثة الأممية، وهو ما قد يضطر الأمم المتحدة لرفع سقف المكاسب المالية المحتملة جرَّاء المشاركة في البعثة الأممية في مالي، وهو ما يعني استمرار عمل البعثة في ظل ما تواجهه من عراقيل وتحديات، أو ربما خروج الأمم المتحدة بتوصيات لإعادة النظر في هيكلة البعثة، وكيفية أداء مهامها بفعالية، قد تتضمَّن التوصل لتفاهمات مع الحكومة المالية، وهو سيناريو محتمل على المدى المتوسط.
2- إنهاء عمل البعثة الأممية في مالي:
في خضم ما تواجهه البعثة الأممية في مالي من عراقيل قد تُكبِّدها العديد من الخسائر العملياتية والبشرية، لصالح الجماعات الإرهابية، وعجزها عن سدّ الثغرات بينها وبين الحكومة المالية في مسرح العمليات، قد يلجأ مجلس الأمن إلى إنهاء عمل البعثة الأممية، وهو قرار من المؤكَّد سيُسبِّب حالة من الفراغ الأمني ويُفاقم من مخاطر الجماعات الإرهابية بما يُهدِّد أمن واستقرار مالي، بل ومنطقة الساحل الإفريقي بأكملها، وهو ما يُشير إلى احتمالية قيام الأمم المتحدة بتسليم المهمة إلى قوة غير تابعة لها، وفي الغالب ستكون قوة إفريقية، وهو ما يُعيد توجيه الأنظار نحو القوة الإقليمية العسكرية المقترح إنشاؤها مِن قِبَل الجماعة الاقتصادية لغرب إفريقيا (الإيكواس)، وهو خيارٌ يبدو أنه غير مُجْدٍ وسيلقى نفس مصير قوات “مينوسما”، في ظلّ توتر العلاقات المالية مع دول الإيكواس، لكنه في المجمل سيناريو محتمل على المدى البعيد.
3- استمرار عمل القوات الأممية على الوضع القائم:
هو سيناريو محتمل على المدى القريب، انطلاقًا من حديث المتحدث باسم الأمين العام للأمم المتحدة “فرحان حق” بأنه “لا يوجد بلد يبقى إلى أجل غير مسمى كمساهم”، وإن الوضع في مالي لا يختلف عن نظيره في عمليات حفظ السلام الأخرى التابعة للأمم المتحدة، على الرغم مما يحمله هذا السيناريو من مخاطر على سير عمل البعثة الأممية ومدى فعاليتها، كما أنه مُهدِّد لحياة أفرادها، الذين وُضِعُوا تحت ضغط مكثّف مع انسحاب عدد كبير من القوات، وبالتالي قد تضطر البعثة إلى الاختيار بين الاهتمام بوسط مالي أو دورها في الشمال؛ حيث دعم اتفاق الجزائر والحد الأدنى من وجود الدولة.
نهاية القول: لا يُمكن الاختلاف على أن قوات البعثة الأممية في مالي في وَضْع حَرِج للغاية، وفي حاجة فعلية لإعادة تقييم موقفها والبحث عن خيارات بديلة تُمكّنها من التغلُّب على ما تُواجهه من تحديات تُعيقها عن أداء مهامها بالفعالية المنشودة، ليس فقط في سبيل التصدي للمخاطر الأمنية التي تواجهها باماكو، ولكن لمواجهة تبعات هذه المخاطر على دول الساحل الإفريقي ودول خليج غينيا جرّاء التراخي في الاستراتيجية الأمنية لمكافحة الإرهاب في مالي.
[1] – مشروع استبدال القوات الفرنسية بالمرتزقة الروس في مالي، يهدد استقرار الساحل الإفريقي، بي بي سي، 4 أكتوبر 2021.
[2] – مالي تتهم فرنسا بدعم وتسليح جماعات إرهابية في الساحل، ميدل ايست اونلاين، 17 أغسطس 2022. https://cutt.us/eKpLw
[3] – انسحاب التشيك.. صفحة أخرى لصراع موسكو والغرب في مالي، سكاي نيوز، 4 نوفمبر 2022. https://cutt.us/DU1TA
[4] – “تاكوبا”.. قوة جديدة لمحاربة الإرهاب في إفريقيا، سكاي نيوز، 28 مارس 2020. https://cutt.us/Ns0NM
[5] – غير مرحب بها.. الدنمارك تسحب قواتها من مالي، سكاي نيوز، 27 يناير 2022. https://cutt.us/FBdhc
[6] – أزمة جنود “كوت ديفوار” .. سيناريوهان أمام مالي، سكاي نيوز، 5 ديسمبر 2022. https://cutt.us/ga6GA
[7] -MINUSMA at a Crossroads, reliefweb, 1 Dec 2022
[8] -Manon Laplace , Mali: What future is there for Minusma?, the Africa report ,24 November 2022
https://www.theafricareport.com/262882/mali-what-future-is-there-for-minusma/
[9] -Idem.
[10] -MINUSMA at a Crossroads, OP.CIT.
[11] -Idem.
[12] -Idem.