تحرير قراءات إفريقية
الصورة والمعلومات التي يقدّمها الإعلام، من خلال تقنياته المختلفة، هي في الغالب – حتى ولو كانت مشوَّهة – ما تُتخذ في ضوئها القرارات، وتُبنى عليها المواقف العملية؛ حيث يتم التعامل مع ما يقدّمه الإعلام بوصفه حقائق موثوقة.
ومما يزيد من خطورة الإعلام في فاعلية تأثيره واتساع مداه في عصرنا الحاضر: تقنياته المتطورة، وترابط شبكاته، وتبادلها للبرامج والمعلومات، وهي تنطق بلسانٍ واحدٍ مع تعدّد لغات خطابها؛ ما يجعل المعلومة تبلغ – من خلالها – ما بلغ الليل والنهار، وتصل إلى جميع شعوب العالم على مختلف لغاتهم في زمنٍ قياسيّ، إضافة إلى تنوّعه شكلاً: من مسموعٍ ومرئيٍّ ومقروء، ومضموناً: بتغطيته قضايا الحياة وأحداثها المتجددة كافّة، واهتمامات الإنسان حيثما كان.
إنّ الوعي بكلّ هذه المعطيات عن الإعلام: يدعو إلى ضرورة توظيفه بصورة سليمة -وإلا أصبح وبالاً- لخدمة قضايا بيئته الاستراتيجية والتنموية: الاجتماعية والسياسية والاقتصادية.. وغيرها، وذلك ما تنتظره القارة الإفريقية التي تحتاج أكثر من غيرها إلى إعلامٍ هادفٍ وقويٍّ، يُسهم بفعاليّةٍ في بناء نهضتها التنموية، وتوجيه مسيرتها لتحقيق أهدافها، وخصوصاً أنّ هناك ارتباطاً وثيقاً بين التنمية الاجتماعية والاقتصادية، وتعزيز المشهد الإعلامي الإفريقي.
وتتوقف فاعلية الإعلام الإفريقيّ وفعاليّته على جملة من السّمات والخصائص، أهمها:
– أن يكون هادفاً، وذلك يعني انتماءه إلى الخصوصية المتميّزة التي تجسّد شخصية القارة الإفريقية: بحيث يجعل منها رسالةً تعمل على توجيه شعوب القارة إليها، وتعميق الوعي بها، وتكثيف الجهود للمحافظة عليها، والاهتمام بترسيخها على المستوى المحلّي الإفريقي، وعالميّاً خارج حدود القارة.
إنّ تعاطي الإعلام – في مضامينه- ما رفدت به القارةُ الحضارةَ الإنسانيةَ من مساهماتٍ قيّمة في ظلّ عصورها المختلفة، وبخاصة الإسلامية، والعمل على التمكين لذلك في حاضرها ومستقبلها، هو أساس الانتماء والتنمية الحقيقية للقارة، بكلّ أبعادها، وبعثها من جديد؛ لما يحمله الإسلام خاصّة من منهجية البناء والتغيير، ومقوّمات التنمية في مستوياتها وجوانبها المختلفة.
– الفَهْم العميق للواقع الإفريقي: يمثّل الفَهْم العميق للواقع الإفريقي، بأبعاده التاريخية والجغرافية، مجالاً واسعاً لفاعلية الإعلام الإفريقي الهادف؛ يركّز فيه على ما في تعزيزه من دعمٍ لعناصر القوة وأسباب النهوض وفرصه، فالقارة تتمتع بمقوّماتٍ معنويةٍ ومادية: روح التدين في الحياة الإفريقية، وبساطة الإنسان، وقيمه الاجتماعية، وصدق الانتماء، وقوة الولاء لها، ولتراث القارة الضارب في أعماق التاريخ؛ حيث تُعدّ القارة – في نظر معظم الباحثين والمؤرّخين- مَهْد الحضارات، وإرثها الحضاريّ مليءٌ بالخبرات والتجارب المفيدة، وهي بجانب ذلك مليئة بخيرات وكنوز في باطن أرضها وظاهرها، وتعدادها البشري قد تجاوز المليار، وفي جميع ذلك ما فيه من مكوّناتٍ تمثّل مرتكزات لبحث قضايا التنمية في القارة واستراتيجياتها، وتركيز الجهود الإعلامية فيها.
– تعزيز عناصر القوة وأسباب النهوض، ومحاربة مظاهر الضعف: واستكمالاً لشرط فاعلية الإعلام الإفريقي، من خلال فَهْم الواقع، يقابل تعزيز ما فيه من عناصر القوة وأسباب النهوض: محاربة ما فيه من مظاهر الضعف؛ مما يبدد طاقات الإنسان الإفريقيّ (الروحية، والنفسية، والفكرية) من معتقدات ومفاهيم، وعادات وتقاليد اجتماعية ضارة، وجهل، ورواسب استعمارية، ونزاعات وصراعات، وما ويُضعف قدراته الجسدية من أوبئة وأمراض، وعوامل بيئية تحدّ من حراكه ونشاطه.
– التماسك الداخلي: وفي التماسك الداخلي تتمثل فاعلية الإعلام الإفريقي في أن يكون عاملاً قويّاً يتمتع بالقدرة على التواصل المباشر والفاعل مع الجمهور، وفي تكثيف الحوارات الحاسمة والبنّاءة بين الشرائح المختلفة، والتنسيق بين المؤسسات المختلفة، وبناء الشراكات مع الحكومات ومنظمات المجتمع المدني والقطاع الخاصّ المحلّي، ويعمل على صون الموارد المعلوماتية، كالمكتبات والنشرات الإلكترونية، والتعريف بتراث القارة الثقافي ورصيدها الفكري والعلمي.
– إيجاد رؤية موحّدة تجاه ما يتهدد المجتمعات الإفريقية: وإنّ من أهم ما يحقّقه الإعلام الإفريقي الهادف وفعاليّته في التنمية والقضايا الاستراتيجية: إيجاد رؤية موحّدة تجاه ما يتهدّد المجتمعات الإفريقية، ترتكز وظيفتها في بلورة مفاهيم الجمهور وتصوراتهم في مناحي الحياة المختلفة، وتزويدهم بالخبرات السياسية التي من خلالها يتشكّل الرأي العام، وتتم المشاركات البنّاءة، ويتحقّق التماسك الاجتماعي بين أطياف المجتمع؛ لدعم مواقف سياسية معينة أو رفضها.
– القيام بدورٍ فاعلٍ في تحقيق الأمن الشامل: ويُتوقع من مؤسسات الإعلام الإفريقية أن تقوم بدورٍ فاعلٍ في تحقيق الأمن الشامل في القارة، ويتمثل دورها المحوريّ في نشر الوعي والثقافة الأمنية لدى المواطن الإفريقي، وتسليط الضوء على التحديات والمهدّدات الأمنية التي تواجه أجهزة الأمن؛ بما يدعمها في تحقيق الأمن والأمان للشعوب الإفريقية، ويمثّل الإعلام بكلّ أدواته وتقنياته آلية قويّة للإنذار المبكر تجاه كلّ المخاطر البيئية وغيرها؛ بما يوفّره من معلومات بشأنها.
– المشاركة الفاعلة في التخطيط الاستراتيجي: ويتحقّق ذلك بتطوير آلياتها، وإقامة مراكز إعلامية تقوم بتنظيم الفعاليّات بالشراكة مع الجهات المعنيّة، من ندوات وورش عمل ومؤتمرات، لتسليط الضوء على القضايا ذات الأولوية، كما تقوم بتوفير البيانات والمعلومات المتعلقة بها، واستكتاب الباحثين والخبراء فيها، وترجمة المقالات والبيانات من اللغات الأخرى إلى لغاتها.
– تنشيط الدور الثقافي: فالإعلام الهادف وفعاليّته هو الذي يقود حواراً بنّاءً بين الثقافات المحلية، ومع الثقافات الوافدة، ويعمل على مقاومة تأثيرات العولمة التي تهدف إلى إلغاء الآخر؛ من خلال إلغاء الخصوصيات الثقافية والاجتماعية للشخصيّة الإفريقية. وتمثّل قدرة الإعلام الإفريقي على إزالة ما رسّخه الإعلام الخارجيّ من صورة نمطية مشوَّهة للقارة عنصراً مهمّاً من عناصر الفاعلية؛ إذ يُعدّ ذلك هدفاً أساسيّاً للإعلام الإفريقي ودراساته البديلة، وهو يتطلب بداية القيام بدراسات ناقدة، تعمل على كشف أوجه الزيف والتشويه، وتعرية الخلل المنهجي الذي انطوت عليه الدراسات الغربية، وصولاً إلى تقديم الصورة الصحيحة.
– دعم سياسات دول القارة الخارجية وعلاقاتها واستراتيجياتها: ويدخل ضمن القضايا الاستراتيجية للإعلام الإفريقي: دعمه لسياسات دول القارة الخارجية وعلاقاتها واستراتيجياتها؛ بما يفتحه من نوافذ وقنوات تطلّ إفريقيا من خلالها بصورةٍ مشرقةٍ على العالم، وما يقيمه من جسور التواصل مع شعوبه المختلفة، وما يبنيه من ثقةٍ، ويولّده من رغبة لدى حكومات دول العالم، وبخاصة العربية والإسلامية، في إقامة علاقات تعاون وتطويرها مع القارة الإفريقية، ويتضمّن ذلك إزالة ما شاب العلاقات (الإفريقية – العربية) من حساسيّات، وما كوّنه الاستعمار من صورةٍ ذهنيةٍ مشوَّهة في علاقة العربي بإفريقيا.
ومن أهم ما ينبغي أن يقوم به في ذلك: استعادة الثقة في قدرات الشعوب الإفريقية والعربية وحكوماتها على تحقيق مستقبلٍ أفضل، وإيجاد مرتكزات التعاون بينها، وتبنّي سياسات وبرامج إعلامية لتوجيه خطابٍ إعلاميّ جدّي وموحّد في الدفاع عن القضايا الإفريقية والعربية الرئيسة، ويهيئ لقيام تكتلٍ إقليميٍّ (إفريقي – عربي)، يقف ندّاً قويّاً للتكتلات الأخرى، ويردّ التآمر الصهيونيّ الغربيّ على شعوب المنطقتين.
كلمة أخيرة:
إنّ القارة الإفريقية تحتاج إلى إعلامٍ هادفٍ وفعّال، يرسّخ لصناعة إعلامية فاعلة، ويُسهم في تطويرها، ويقدّم نموذجاً حيّاً لها، ليس في دورها الرقابيّ فقط، وإنما في تفاعلها مع بيئاتها، ومشاركاتها الواسعة في خدمة قضاياها الحيوية التنموية والاستراتيجية.
ويبقى من بعد ذلك، مما يزيد من فعالية الإعلام الإفريقي الهادف، تقديم مضامين واضحة ومؤثّرة في نقل المعلومات، أو الإقناع أو التقويم، وفق منهجيّة سليمة، واتخاذ ما يناسب الحال والمقام؛ من الوسيلة وأسلوب الخطاب.