رامز صلاح
باحث متخصص في القضايا الدولية
تشهد منطقة القرن الإفريقي تنافسًا جيواقتصاديًّا وجيوسياسيًّا مُحتدمًا في السنوات الأخيرة؛ حيث تتسابق القوى الدولية، والإقليمية على حدّ سواء، للحصول على مواقع إستراتيجية على طول ممرّ البحر الأحمر الحيوي.
فقد أنشأت الصين أول قاعدة عسكرية خارجية لها في جيبوتي عند مضيق باب المندب في 1 أغسطس 2017م، وتشير التطورات الأخيرة إلى أن بكين قد تسعى لتوسيع وجودها العسكري في المنطقة، لا سيما في إريتريا، وذلك بالتوازي مع وجود تقارير تكشف عن نية لدى إدارة دونالد ترامب والحزب الجمهوري للاعتراف بأرض الصومال (صوماليلاند) مقابل حقوق إقامة قاعدة عسكرية.
في هذا السياق، تم في 16 مارس 2025م تسريب مسودة رسالة من الرئيس الصومالي حسن شيخ محمود إلى الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، يقترح فيها منح الولايات المتحدة “سيطرة تشغيلية حصرية” على منشآت إستراتيجية مثل قاعدة وميناء بربرة([1])، وهما يقعان في أرض الصومال، وهي منطقة أعلنت انفصالها عن الصومال منذ عام 1991م، لكنها غير مُعتَرف بها دوليًّا.
الهدف من الاقتراح هو تعزيز التعاون مع الولايات المتحدة في مكافحة التهديدات الإرهابية لحركة الشباب المسلحة، ومنع القوى الدولية المُنافِسَة من التمركز في هذا الموقع الإستراتيجي المُطِلّ على خليج عدن. غير أن قيادة صوماليلاند رفضت هذا العرض، مؤكدةً أنّ الحكومة الفيدرالية في مقديشو لا تملك أيّ سلطة على أراضيها. وأوضح وزير خارجية صوماليلاند، عبد الرحمن ظاهر، أن خطوة الحكومة الصومالية “محاولة يائسة”، ولا يوجد شيء يمكنهم فِعْله لوقف الاعتراف المرتقب بأرض الصومال. فالولايات المتحدة برأيه ليست غبية؛ لأنها تُدرك مَن يجب عليها التعامل معه بشأن ميناء بربرة.([2])
وبشكل مستقل، كانت صوماليلاند قد عرضت بالفعل على الولايات المتحدة إنشاء قاعدة عسكرية في بربرة، باعتبار أن ذلك يخدم مصالح الطرفين. مُمثِّل صوماليلاند في واشنطن، بشير غوث، صرّح بأن التعاون مع الولايات المتحدة يَصُبّ في مصلحة الأمن القومي لصوماليلاند، وأن العرض لا يشترط بالضرورة اعتراف واشنطن الرسمي باستقلال صوماليلاند، رغم أن هذا يبقى هدفًا طويل المدى للمنطقة.([3])
دوافع رئيسية:
تعكس التحرُّكات الصينية المحتمَلة نحو تعزيز وجودها العسكري في أسمرة؛ ديناميات إستراتيجية تتجاوز الأبعاد العسكرية المباشرة، لتمتدّ إلى اعتبارات جيوسياسية واقتصادية وأمنية مُعقَّدة. وتكشف هذه الدوافع عن منطق متكامِل تسير وَفْقَه بكين لحماية مصالحها الإقليمية والعالمية، ويتجلَّى ذلك فيما يلي:
١– التنويع خارج جيبوتي:
تُواجه القاعدة العسكرية الصينية في جيبوتي، على الرغم من قيمتها الإستراتيجية، تحديات متزايدة. فقد ظهرت تقارير عن توترات مع القوات الأمريكية المتمركزة في معسكر ليمونيه القريب، بما في ذلك مزاعم باستخدام أفراد صينيين لأشعة الليزر ضد طيارين أمريكيين في ٢٠١٨م.([4]) علاوة على ذلك، قد يدفع الضغط الأمريكي والغربي المتزايد على جيبوتي “بكين” إلى التفكير بمرونة في تنويع وجودها العسكري في المنطقة.
ومع احتدام المنافسة، قد لا تكون قاعدة الصين الوحيدة في جيبوتي كافية لتأمين مصالحها المتوسعة في القرن الإفريقي والبحر الأحمر؛ حيث تمثل قاعدة جيبوتي -التي توصف رسميًّا بأنها “منشأة لوجستية”-، أول وجود عسكري دائم لبكين في الخارج. ومنذ إنشائها، توسعت القاعدة بشكل مطرد من حيث الحجم والقدرات؛ مما يعكس التزام الصين المتزايد بالحفاظ على وجود عسكري في هذه المنطقة الحيوية إستراتيجيًّا.([5]) ومع ذلك، فإن قرب القاعدة العسكرية الصينية بجيبوتي من المنشآت العسكرية الغربية يخلق قيودًا تشغيلية وعُرْضَة للمراقبة؛ الأمر الذي يجعل التنويع خيارًا إستراتيجيًّا محوريًّا وجذابًا لبكين لاستغلال حالة الفراغ الذي تُشكِّله سياسات دونالد ترامب في ولايته الثانية.
٢– مواجهة التحركات الإستراتيجية الأمريكية في أرض الصومال:
في مارس 2025م، بدأت المناقشات بين مسؤولين أمريكيين ورئاسة أرض الصومال بشأن الاعتراف الأمريكي المحتمل بأرض الصومال مقابل إنشاء قاعدة عسكرية بالقرب من ميناء بربرة.([6]) يُمثّل هذا التطور تحولًا كبيرًا في الإستراتيجية الأمريكية في القرن الإفريقي، ويؤثر بشكل مباشر على الحسابات الإستراتيجية للصين. فوجود قاعدة عسكرية أمريكية في بربرة من شأنه أن يُعزّز نفوذ أمريكا في المنطقة، والأهم من ذلك، أنه يوفّر قوة توازن مضادة لوجود الصين في جيبوتي.([7])
كان ردّ فعل الصين سلبيًّا على هذه التطورات؛ حيث اعتبرتها تحديًا مباشرًا لنفوذها العسكري الإقليمي. وزادت بكين من ضغوطها على هرجيسا (عاصمة أرض الصومال)؛ من خلال دعم المعارضين، وتعزيز الروابط مع مقديشو، وإعادة تأكيد سياستها “صومال واحد”.([8])
يعكس هذا الرد قلقين رئيسيين لدى الصين بشأن التدخل الأمريكي في أرض الصومال؛ أولًا: إن وجودًا أمريكيًّا أو تايوانيًّا سيتحدَّى بشكل مباشر الوجود العسكري الإقليمي للصين التي تتمحور حول قاعدتها في جيبوتي. وثانيًا: إن الاعتراف الغربي بأرض الصومال قد يُرسِي سوابق يمكن أن تُضْعِف مطالبات الصين الإقليمية في أماكن أخرى، لا سيما فيما يتعلق بتايوان. إن أوجه التشابه بين أرض الصومال وتايوان في سياق التنافس بين الولايات المتحدة والصين لافتة للنظر، وتُحفّز الصين بشكل أكبر على البحث عن نقاط ارتكاز إستراتيجية إضافية في المنطقة.
٣– تأمين طريق الحرير البحري:
يُعدّ البحر الأحمر مكونًا حيويًّا لمبادرة طريق الحرير البحري الصينية؛ حيث يمرّ حوالي 10% من التجارة البحرية العالمية عبر هذا الممر سنويًّا.([9]) ولذلك، فإن إقامة وجود عسكري في إريتريا من شأنه أن يُعزّز قدرة الصين على حماية ممرات الشحن الحيوية هذه، وتأمين استثماراتها الاقتصادية الكبيرة في المنطقة.
يتميز نهج الصين تجاه منطقة البحر الأحمر بإستراتيجية وطنية شاملة ومتكاملة تجمع بين الاستثمار الاقتصادي والوجود العسكري؛ وهو ما يضع الصين في موقع للاستفادة من الزيادة في البنية التحتية لموانئ البحر الأحمر المطلوبة لتلبية المتطلبات الاقتصادية للمنطقة في السنوات القادمة.([10]) يربط البحر الأحمر قناة السويس بخليج عدن، ما يجعله أحد أكثر الممرات المائية ازدحامًا في العالم وشريانًا اقتصاديًّا حيويًّا. وتشهد المنطقة نموًّا سكانيًّا واقتصاديًّا كبيرًا؛ حيث تشير التوقعات إلى تضاعف عدد السكان من حوالي 620 مليون نسمة إلى ما يقرب من 1.3 مليار بحلول منتصف القرن الحادي والعشرين، مصحوبًا بزيادة كبيرة في الناتج المحلي الإجمالي من 1.8 تريليون دولار إلى 6.1 تريليون دولار خلال نفس الفترة.([11])
وقد حصلت الشركات الصينية المملوكة للدولة بالفعل على امتيازات لتطوير وتشغيل محطات ومرافق أخرى في الموانئ التجارية في مصر وجيبوتي؛ مما يُؤشِّر على اهتمام بكين الإستراتيجي طويل الأمد بالمنطقة.
٤– الاستفادة من العلاقات الاقتصادية القائمة:
قامت الصين باستثمارات كبيرة في البنية التحتية لإريتريا، بما في ذلك مشاريع التعدين وإنشاء الطرق ومرافق الطاقة.([12]) تخدم هذه الاستثمارات المصالح الاقتصادية للصين، بينما تخلق في الوقت نفسه نفوذًا وحُسْن نية لدى الحكومة الإريترية. يعكس هذا النمط نهج الصين في جيبوتي وأماكن أخرى في إفريقيا؛ حيث غالبًا ما يسبق الانخراط الاقتصادي التعاون الإستراتيجي الأعمق ويسهله.
إن توسيع هذه العلاقة لتشمل التعاون العسكري سيكون تطورًا طبيعيًّا لإستراتيجية الصين الراسخة. وقد قامت بكين بتمويل وتنفيذ مشاريع بنية تحتية مختلفة في إريتريا؛ ممّا خلَق أساسًا من الترابط الاقتصادي يمكن الاستفادة منه في التعاون الأمني. كان هذا الانخراط الاقتصادي ذا قيمة خاصة لإريتريا، التي واجهت عزلة دولية وعقوبات بسبب سجلّها في مجال حقوق الإنسان وسياساتها الإقليمية في ٢٠٢١م.
إن استعداد الصين للاستثمار دون شروط سياسية جعلها شريكًا جذابًا للحكومة الإريترية؛ مما خلق علاقة ثقة يمكن أن تُسهّل التعاون العسكري.
وفي إطار تعزيز العلاقات الثنائية بين الصين وإريتريا، قام الرئيس الإريتري أسياس أفورقي بزيارة رسمية إلى الصين في الفترة من 14 إلى 17 مايو 2023م؛ حيث التقى بالرئيس الصيني شي جين بينغ في بكين. وخلال هذه الزيارة، أشاد شي جين بينغ “بـرابطة الصداقة العميقة” التي تجمع البلدين، مؤكدًا على أهمية الشراكة الإستراتيجية بينهما في مواجهة التحديات العالمية. ركزت المحادثات بينهما وقتذاك على تعزيز التعاون في مجالات التنمية الاقتصادية، والبنية التحتية، والأمن؛ وهو ما يعكس عُمق العلاقات المتزايدة بين الدولتين.([13])
٥– استغلال موقع إريتريا الإستراتيجي:
يُوفّر ساحل إريتريا البالغ طوله 1200 كيلو متر مواقع محتملة متعددة لتطوير الموانئ والمنشآت البحرية، مع موانئ طبيعية ذات مياه عميقة يمكن أن تستوعب السفن البحرية الصينية بأقل قَدْر من التجريف أو تطوير البنية التحتية.
ويمكن للبنية التحتية الحالية لموانئ البلاد، لا سيما في مصوع وعصب، أن تكون بمثابة مراكز لوجستية قيّمة للعمليات البحرية الصينية في البحر الأحمر وخليج عدن، مُكمّلةً لقاعدة الصين الحالية في جيبوتي.([14]) يُوفّر موقع إريتريا الإستراتيجي وصولًا مباشرًا إلى جنوب البحر الأحمر؛ مما يمنح الصين القدرة على مراقبة حركة الملاحة البحرية عبر مضيق باب المندب، أحد أهم الاختناقات البحرية في العالم.
بالإضافة إلى ذلك، تشترك حكومة إريتريا، بقيادة الرئيس أسياس أفورقي منذ الاستقلال في عام 1993م، مع الصين في شكوك عميقة تجاه النوايا الغربية، مع تفضيل نماذج التنمية التي تقودها الدولة. يسهّل هذا التوافق الأيديولوجي التعاون في المسائل الأمنية الحساسة دون تعقيدات الرقابة الديمقراطية أو التدقيق العام التي قد تُعيق ترتيبات مماثلة في مجتمعات أكثر انفتاحًا.
تداعيات محتملة:
يُحتَمل أن يترتب على أيّ توسع عسكري صيني في إريتريا سلسلة من التداعيات الإستراتيجية المُعقَّدة، لا سيما في ظل احتدام التنافس بين القوى الكبرى على ممرات البحر الأحمر، ويتضح ذلك فيما يلي:
١– اشتداد المنافسة بين القوى العظمى في البحر الأحمر:
من شأن وجود عسكري صيني في إريتريا أن يُغيِّر بشكل كبير التوازن الإستراتيجي في منطقة البحر الأحمر؛ مما يؤدي إلى تكثيف المنافسة القائمة بالفعل بين الصين والولايات المتحدة والقوى الأخرى على النفوذ في هذا الممر البحري الحيوي. وقد يؤدي هذا إلى مزيدٍ من عسكرة المنطقة؛ حيث تسعى قوى أخرى إلى إنشاء أو توسيع وجودها ردًّا على التحركات الصينية.
يمكن أن تصبح المياه الضيّقة للبحر الأحمر وخليج عدن مزدحمة بشكل متزايد بالسفن البحرية، مما يزيد من خطر سوء التقدير والصراع. وقد تسرع روسيا، -التي تلعب بالفعل دورًا أصغر، ولكنّه مُهمّ في المنطقة، من خلال مبيعات الأسلحة لدول تشمل مصر والسودان-، جهودها لتأمين حقوق إنشاء قواعد في المنطقة.
من المرجَّح أن تستجيب القوى الإقليمية مثل تركيا ودول الخليج ومصر بتعزيز مواقفها العسكرية في البحر الأحمر؛ مما يزيد من تعقيد بيئة أمنية مُعقَّدة بالفعل. وتشهد منطقة البحر الأحمر تحولات جيوسياسية سريعة، ومن شأن وجود عسكري صيني في إريتريا أن يُسرّع هذه التغييرات، مما قد يُؤدّي إلى معضلة أمنية حيث تؤدي الإجراءات التي تتخذها دولة ما لزيادة أمنها إلى استجابة الآخرين بالمثل، مما يؤدي إلى انخفاض حالة الأمن للجميع.
٢– تعزيز قدرات استعراض القوة الصينية:
من شأن وجود عسكري في إريتريا أن يُعزّز بشكل كبير قدرة الصين على استعراض القوة في البحر الأحمر وخليج عدن، مما يقوّي موقعها في أحد أهم الممرات البحرية إستراتيجيًّا في العالم. وسيوفّر للصين موقعًا احتياطيًّا في حال تدهورت علاقتها مع جيبوتي، أو إذا زاد الضغط الغربي على جيبوتي. ستُمكّن هذه الخطوة الصين من حماية مصالحها الاقتصادية بشكل أفضل، ودعم عمليات حفظ السلام، وإجراء مهام مكافحة القرصنة، وإجلاء الرعايا الصينيين أثناء الأزمات. مع وجود قواعد في كلٍّ من جيبوتي وإريتريا، ستكتسب الصين القدرة على مراقبة حركة الملاحة البحرية، وربما السيطرة عليها عبر مضيق باب المندب، وهو نقطة اختناق حيوية يمر عبرها ما يقرب من 4.8 مليون برميل من النفط يوميًّا.([15])
ستوفّر إستراتيجية القاعدة المزدوجة هذه أيضًا ازدواجية تشغيلية؛ مما يسمح للصين بالحفاظ على وجودها الإقليمي حتى لو تم اختراق الوصول إلى إحدى المنشآت. علاوةً على ذلك، من شأن وجود عسكري مُوسَّع أن يُعزّز قدرات الصين على جمع المعلومات الاستخباراتية في المنطقة؛ مما يُوفّر معلومات قيّمة عن عمليات الولايات المتحدة وحلفائها في القواعد القريبة.
٣– تعقيدات للعمليات العسكرية الأمريكية والحليفة:
سيمثل التوسع العسكري الصيني في إريتريا تحديًا إستراتيجيًّا كبيرًا للولايات المتحدة وحلفائها. وسيستلزم إعادة تقييم الموقف العسكري الإقليمي، وربما تسريع الجهود لإنشاء قواعد بديلة، مثل القاعدة المقترحة في أرض الصومال. ومن المُرجَّح أيضًا أن يؤدي ذلك إلى تكثيف المنافسة الدبلوماسية على النفوذ بين الدول المطلة على البحر الأحمر؛ حيث تسعى كلّ من الصين والولايات المتحدة إلى تعزيز التحالفات والشراكات.
يمكن لوجود عسكري صيني في إريتريا أن يُقيِّد حرية الملاحة وأنشطة جمع المعلومات الاستخباراتية من قبل القوات الأمريكية والحليفة في جنوب البحر الأحمر.
من المرجّح أن تستجيب الولايات المتحدة بزيادة وجودها البحري في المنطقة وتعزيز التعاون الأمني مع الشركاء الإقليميين كإسرائيل والإمارات وإثيوبيا. بالإضافة إلى ذلك، قد تسرع الولايات المتحدة جهودها لإضفاء الطابع الرسمي على وجودها العسكري في أرض الصومال كتوازن مباشر للتوسع الصيني؛ مما قد يؤدي إلى حلقة من التنافس على بناء القواعد في المنطقة من ناحية “عسكرة القرن الإفريقي والبحر الأحمر”، وبين ضرورات حماية المصالح الإستراتيجية لدول أخرى من ناحية أخرى كمصر وجيبوتي وإريتريا.
٤– تغيُّر ميزان القوى الإقليمي:
يمكن لوجود عسكري صيني في إريتريا أن يُحفِّز إريتريا في تعاملاتها مع جيرانها، ويؤثر على النزاعات وعمليات السلام الجارية. إن مشاركة إريتريا في النزاعات الإقليمية، بما في ذلك الحرب في اليمن والصراع في إقليم تيغراي الإثيوبي، تظهر استعدادها لاستعراض القوة العسكرية خارج حدودها.([16])
ويمكن للدعم الصيني المعزّز أن يشجّع هذا الميل بشكل أكبر؛ مما قد يُزعزع استقرار السلام الهشّ الذي نشأ بعد اتفاق 2018م بين إريتريا وإثيوبيا بعد عقدين من التوترات.
وقد شهد القرن الإفريقي عدم استقرار كبير في العقود الأخيرة، مع نزاعات في الصومال وجنوب السودان وإثيوبيا وبين إريتريا وإثيوبيا. ويمكن للدعم العسكري الصيني لإريتريا أن يُغيِّر ديناميكيات القوة الإقليمية القائمة؛ مما قد يشجّع على سياسات إريترية أكثر حزمًا تجاه دول الجوار. وقد يؤدي ذلك إلى تعقيد مبادرات السلام الجارية وجهود التكامل الإقليمي التي يقودها الاتحاد الإفريقي والمنظمات الدولية الأخرى.
٥– زيادة التكامل الاقتصادي الصيني-الإريتري:
تتحكم الصين في أهم مشاريع التعدين في إريتريا من خلال شركات مدعومة من الدولة، مما يعكس تعزيز العلاقات الاقتصادية بين البلدين. على سبيل المثال، مشروع منجم كولولي للبوتاس بقيمة 500 مليون دولار، والذي من المتوقع أن ينتج 944 ألف طن سنويًّا بحلول عام 2026م، يساهم بنسبة 10% من الناتج المحلي الإجمالي لإريتريا، ويُولّد إيرادات سنوية تصل إلى 204 ملايين دولار.([17])
وقد استحوذت مجموعة “سيتشوان” للطريق والجسر على 60% من المشروع في عام 2023م مقابل 166 مليون دولار. كما أن منجم بيشا، الذي استحوذت عليه شركة زيجين للتعدين مقابل 1.4 مليار دولار في عام 2019م، يُنتج 1 مليون أوقية من الذهب، و16 ألف إلى ١٨ ألف طن من النحاس، و117 ألف طن من الزنك سنويًّا.([18]) وبالإضافة إلى ذلك، يساهم مشروع أسمرة، الذي يحتوي على 574 ألف طن من النحاس و930 ألف أوقية من الذهب؛ حيث تمتلك شركة SRBM الصينية 60% من المشروع عبر استثمار بقيمة 65 مليون دولار.([19])
مع توسُّع التعاون الاقتصادي هذا، من المُرجَّح أن يصاحب ذلك زيادة في التكامل الاقتصادي الصيني-الإريتري؛ حيث من المتوقع أن تزيد الصين استثماراتها في البنية التحتية والموارد الطبيعية والتنمية الصناعية في إريتريا. وقد يسهم ذلك في تسريع النمو الاقتصادي في إريتريا، ولكن في الوقت نفسه قد يُعمِّق اعتمادها على الصين، مما قد يَحُدّ من خيارات سياستها المستقبلية. هذا الاعتماد المتزايد قد يخلق توترات مع القوى الغربية والمؤسسات المالية الدولية التي قد ترى في هذا النموذج تحديات تتعلق بالسيادة والخيارات السياسية لإريتريا.
٦– العزلة الدبلوماسية لتايوان:
لا تزال الصين الشريك التجاري الأكبر للقارة الإفريقية؛ حيث تُقدَّر قيمة التجارة السنوية بحوالي 200 مليار دولار.([20]) وتتناقض مقاربة تايوان بشكلٍ حادّ مع الهيمنة الاقتصادية للصين؛ فبدلًا من التأثير المالي الكاسح، تُقدِّم تايوان معرفة متخصصة ومساعدة تكنولوجية، خصوصًا في مجالات الزراعة والرعاية الصحية وتكنولوجيا المعلومات. وتُمثِّل العلاقة بين تايوان وأرض الصومال، -التي تم إضفاء الطابع الرسمي عليها في عام 2020م؛ من خلال إنشاء مكاتب تمثيلية فقط في كلا الإقليمين-، محاذاة إستراتيجية بين كيانين غير معترف بهما، تستند إلى الطموحات التنموية؛ ما قد يُشكِّل نموذجًا لانخراط تايوان الدبلوماسي في إفريقيا رغم المعارضة القوية من جانب الصين.([21])
ومع ذلك، تُواجه تايوان تحديات كبيرة في ظل العزلة الدبلوماسية التي تفرضها الصين، خاصةً مع توسّع وجودها في القرن الإفريقي. فمن المرجّح أن يؤدي هذا التوسع إلى زيادة الضغط على دول المنطقة للالتزام بسياسة “الصين الواحدة”، وقطع علاقاتها مع تايوان.
ويكتسب هذا الأمر أهميةً مضاعفةً بالنظر إلى أوجه التشابه بين أرض الصومال وتايوان في سياق التنافس الصيني–الأمريكي. فتمامًا كما تمارس بكين ضغوطًا على الحكومات لقطع علاقاتها مع تايوان، فإنها قد تتَّبع نفس النهج مع أرض الصومال من الحفاظ على تلك العلاقات مع تايوان. ومن شأن موقف صيني أقوى في المنطقة أن يُصعِّب على تايوان الحفاظ على موطئ قدمها الدبلوماسي المحدود.
آفاق مستقبلية:
تعكس التطورات الراهنة في القرن الإفريقي، إلى جانب اشتداد التنافس بين القوى الكبرى، مؤشرات متزايدة على أن الصين تتَّجه فعليًّا نحو توسيع نفوذها العسكري في إريتريا، وإن ظل الشكل الدقيق لهذا التوسع وزمنه موضع ترقُّب. فالدوافع الإستراتيجية لبكين واضحة، لا سيما في ظل احتمال إنشاء قاعدة أمريكية في أرض الصومال، ما يمنح الصين حوافز إضافية لتنويع حضورها العسكري خارج جيبوتي. وتُعدّ إريتريا، بما تتمتع به من موقع جغرافي بالغ الأهمية وعلاقات وثيقة مع الصين ومواقف متشككة من القوى الغربية، مرشحًا طبيعيًّا لمثل هذا التوسُّع.
ومع ذلك، لا يخلو هذا المسار من معوقات قد تؤخّر أو تُعيد صياغة طبيعة الانخراط الصيني. فمن ناحية، تُظهر الصين عادة قدرًا كبيرًا من الحذر في إقامة منشآت عسكرية خارجية، وتُفضّل تمهيد الطريق عبر الانخراط الاقتصادي، وتعزيز الثقة السياسية قبل اتخاذ خطوات عسكرية مباشرة.
ومن ناحية أخرى، قد تتحفظ إريتريا على استضافة قاعدة صينية، خشيةَ تفاقم عُزلتها الدولية أو تعرُّضها لإجراءات عقابية مِن قِبَل الغرب. كما أن التشابكات الإقليمية المُعقَّدة، بما في ذلك علاقتها المتوترة مع بعض جيرانها والصراعات غير المحسومة، تُضيف أبعادًا إضافية قد تدفع بكين إلى إعادة تقييم جدوى المضي قدمًا في هذه المرحلة.
وبرغم تلك التحديات؛ فإن المسار العام للعلاقات الصينية–الإريترية، حين يُقرأ ضمن الإستراتيجية الأوسع للوجود الصيني المتنامي في إفريقيا، يفتح الباب أمام احتمالات قوية لشكل من أشكال التوسع العسكري في إريتريا. وقد يتجسَّد هذا التوسع في قاعدة دائمة، أو ترتيبات لوجستية مرنة للسفن الصينية، أو عبر تعزيز التعاون العسكري ومبيعات الأسلحة. وفي كلّ الحالات، يبدو أن بكين تتَّجه بخطًى محسوبة لتثبيت موطئ قدم إستراتيجي في واحدة من أكثر مناطق العالم حساسية.
وختامًا، تُظْهِر المؤشرات الراهنة أن الصين تُعيد تموضعها في منطقة البحر الأحمر وفق منطق إستراتيجي يتماهى مع تحولات البيئة الإقليمية والدولية، مستفيدةً من الفراغات الجيوسياسية والتنافس المتصاعد مع الولايات المتحدة.
وفي حال مضت واشنطن فعليًّا في تعميق شراكتها الأمنية مع أرض الصومال “صوماليلاند” مقابل الاعتراف بها، فإن بكين قد تجد في إريتريا الخيار الأنسب لتوسيع نطاق حضورها العسكري، بما يُعزّز من قدرتها على حماية مصالحها البحرية والاقتصادية في القرن الإفريقي.
ولا شك أن أيّ خطوة صينية في هذا الاتجاه ستُعيد تشكيل توازنات القوة في الإقليم، بما قد يُفْضِي إلى تسارع عسكرة البحر الأحمر، واحتدام التنافس بين الفواعل الكبرى، وارتفاع احتمالات التصعيد أو سوء التقدير في واحدة من أكثر الممرات المائية أهميةً على مستوى العالم.
…………………………………
[1] Omar Faruk, “A Leaked Draft Letter from Somalia to Trump Offers US Exclusive Access to Bases And Ports,” Military.com, April 2, 2025, https://www.military.com/daily-news/2025/04/02/leaked-draft-letter-somalia-trump-offers-us-exclusive-access-bases-and-ports.html.
[2] “Somaliland Rejects Somalia’s Attempt to Offer Berbera Port to United States,” Somali Magazine, March 29, 2025, https://somalimagazine.so/somaliland-rejects-somalias-attempt-to-offer-berbera-port-to-united-states/
[3] “Somaliland Offers US Military Base In Exchange for Strategic Cooperation,” Somali Magazine, December 23, 2024, https://somalimagazine.so/somaliland-offers-us-military-base-in-exchange-for-strategic-cooperation/
[4]Aaron Mehta, “Two US airmen injured by Chinese lasers in Djibouti, DoD says,” Defense News, May 3, 2018,
https://www.defensenews.com/air/2018/05/03/two-us-airmen-injured-by-chinese-lasers-in-djibouti/
[5] Mordechai Chaziza, “China’s Military Base In Djibouti,” Begin-Sadat Center for Strategic Studies, August 23, 2018, https://besacenter.org/wp-content/uploads/2018/08/153-Chaziza-Chinas-Military-Base-in-Djibouti-web.pdf
[6] “U.S. Considers Somaliland Recognition in Exchange for Strategic Military Base Near Berbera – Financial Times,” Horn Diplomat, March 14, 2025, https://www.horndiplomat.com/2025/03/u-s-considers-somaliland-recognition-in-exchange-for-strategic-military-base-near-berbera-financial-times/
[7] Adam Daud Ahmed, “Geopolitical Prize of the Horn: Why U.S. Recognition of Somaliland Matters,” Addis Standard, March 19, 2025, https://addisstandard.com/geopolitical-prize-of-the-horn-why-u-s-recognition-of-somaliland-matters/.
[8] “US-China Rivalry in the Horn: Is Somaliland The Next Taiwan?” Horn Review, March 27, 2025, https://hornreview.org/2025/03/27/us-china-rivalry-in-the-horn-is-somaliland-the-next-taiwan/.
[9] “Navigating the Waters: China’s Strategic Gambit in Djibouti,” 3GIMBALS, March 18, 2024, https://3gimbals.com/Insights/navigating-the-waters-chinas-strategic-gambit-in-djibouti/.
[10] Pamela Faber, “Great Power Competition In the Red Sea? Yes, and…” CAN, July 8, 2019, https://www.cna.org/our-media/indepth/2019/07/great-power-competition-in-the-red-sea-yes-and.
[11] Mustafa Eid Ibrahim, “How to Understand the Coming Geopolitical Conflict In the Red Sea?” Dehai News, March 17, 2025, http://dehai.org/dehai/dehai-news/522249.
[12] “Through Eritrea, China Quietly Makes Inroads In Africa,” Madote, January 15, 2020, http://www.madote.com/2020/01/through-eritrea-china-quietly-makes.html.
[13] Joe Cash, “Xi: Strong China-Eritrea Ties Part of Keeping Peace In Horn of Africa,” Reuters, May 15, 2023, https://www.reuters.com/world/china-eritrea-should-enrich-strategic-partnership-premier-li-2023-05-15/.
[14] Joshua Meservey, “Eritrea’s Growing Ties with China and Russia Highlight America’s Inadequate Approach in East Africa,” Hudson Institute, July 17, 2023, https://www.hudson.org/foreign-policy/eritreas-growing-ties-china-russia-highlight-americas-inadequate-approach-east-joshua-meservey.
[15] Alan Apthorp, “Maritime Chokepoints are Critical to Global Energy Security”, MANSFIELD, July 27, 2017, https://mansfield.energy/2017/07/27/maritime-chokepoints-critical-global-energy-security/
[16] Bronwyn Bruton, “Ethiopia and Eritrea Have a Common Enemy”, Foreign Policy, July 12, 2018, https://foreignpolicy.com/2018/07/12/ethiopia-and-eritrea-have-a-common-enemy-abiy-ahmed-isaias-afwerki-badme-peace-tplf-eprdf
[17] Jason Mitchell, “Can Eritrea’s Mining Sector Flourish Under Autocratic Rule?” bne IntelliNews, February 4, 2025, https://Intellinews.com/can-eritrea-s-mining-sector-flourish-under-autocratic-rule-365073/.
[18] Ibid.
[19] Ibid.
[20] Guido Gargiulo, “Taiwan, the Road to Africa Blocked by China. A Difficult but Not Impossible Bridge for Taiwan,” Geopolitica.info, August 2, 2024, https://www.geopolitica.info/taiwan-the-road-to-africa-blocked-by-china-a-difficult-but-not-impossible-bridge-for-taiwan/
[21] Richard Atimniraye Nyelade, “Strategic Diplomacy Beyond Recognition: Taiwan and Somaliland’s People-Centered Relations in the Global Arena,” Kujenga Amani, June 27, 2024, https://kujenga-amani.ssrc.org/2024/06/27/strategic-diplomacy-beyond-recognition-taiwan-and-somalilands-people-centered-relations-in-the-global-arena/.