تمهيد:
مما لا شك فيه أنّ إجراء الانتخابات في دولة إفريقية بحدّ ذاته، يُعدّ مؤشرًا للاستقرار السياسي، بصرف النظر عن نزاهتها، أو الممارسات التي تتم فيها. غير أنّ للانتخابات تأثيرًا مباشرًا على الاستقرار الاقتصادي.
من ناحية أخرى، فهناك تكاليف مباشرة مرتفعة لهذه الانتخابات، مقارنةً بدول العالم الديمقراطي، وتكاليف أخرى متعلقة بالتمويل السياسي، والرشاوى الانتخابية، فضلًا عن تكاليفها غير المباشرة المتمثلة في تداعيات اقتصادية سلبية أخرى تنشأ نتيجة العنف الانتخابي، والتزوير، وتأثيراتها على الاستقرار السياسي، والسلم الأهلي.
ومن هنا حاولت من خلال هذه المقالة الوقوف على التكاليف المباشرة وغير المباشرة للانتخابات في بلدان إفريقيا جنوب الصحراء، وتداعياتها على الاقتصاد، مع إبراز بعض النماذج. وذلك من خلال المحاور التالية:
- أولًا: انتخابات إفريقيا جنوب الصحراء لعام 2025م.
- ثانيًا: التكاليف المباشرة للانتخابات في منطقة إفريقيا جنوب الصحراء.
- ثالثًا: تمويل الحملات السياسية وشراء الأصوات: كينيا نموذجًا.
- رابعًا: العنف الانتخابي وعواقبه الاقتصادية.
- خامسًا: المساعدات الخارجية والديمقراطية في إفريقيا جنوب الصحراء.
- خاتمة.
أولًا: انتخابات إفريقيا جنوب الصحراء لعام 2025م
من المقرر إجراء العديد من الانتخابات ذات المخاطر العالية في منطقة إفريقيا جنوب الصحراء في عام 2025م. وفيما يلي الانتخابات المقبلة([1])، وهناك بعض التواريخ لم يتم تحديدها بعد، أو قد تتغير:([2])
- 12 يناير 2025م: جزر القمر – الجمعيات النقابية.
- 2 فبراير 2025م: توغو – مجلس الشيوخ (مؤجل).
- فبراير 2025م: توغو – رئاسية.
- 5 يونيو 2025م: بوروندي – الجمعية الوطنية.
- أغسطس 2025م: الجابون – رئاسية + تشريعية.
- 16 سبتمبر 2025م: مالاوي – رئاسية + الجمعية الوطنية.
- 27 سبتمبر 2025م: سيشيل – رئاسية + الجمعية الوطنية.
- أكتوبر 2025م: الكاميرون – رئاسية.
- أكتوبر 2025م: ساحل العاج – رئاسية + الجمعية الوطنية.
- أكتوبر 2025م: تنزانيا – رئاسية + الجمعية الوطنية + مجلس نواب زنجبار + رئيس زنجبار + محلي.
- ديسمبر 2025م: الكاميرون – البرلمان + المحلي.
- ديسمبر 2025م: جمهورية إفريقيا الوسطى – الرئاسة + البرلمان.
- 2025م: بوركينا فاسو – رئاسية + البرلمان.
- 2025م: غينيا الاستوائية – مجلس الشيوخ + مجلس النواب.
- 2025م: ناميبيا – المجالس المحلية + الإقليمية.
وتبدو آفاق التحول الديمقراطي محدودة في العديد من الأنظمة الاستبدادية هناك. ففي الكاميرون، يسعى “بول بيا”، أقدم رئيس في العالم، إلى إعادة انتخابه لفترة ثامنة، واحتمالات تغيير النظام محدودة، مع استمرار انقسام المعارضة.
وفي توغو، سيتم انتخاب الرئيس بشكل غير مباشر مِن قِبَل أعضاء الجمعية الوطنية التي يهيمن عليها الحزب الحاكم؛ بسبب تعديل دستوري تم تمريره عام 2024م. ومن المتوقع أن يُمدّد هذا الاقتراع فترة حكم “فوري غناسينغبي” التي دامت ما يقرب من 20 عامًا.
كما تواجه العديد من البلدان التي خرجت من الصراع انتخابات صعبة، كما في ساحل العاج، فمن المقرر أن يترشح الرئيس السابق “لوران غباغبو”، الذي برَّأته الجنائية الدولية مؤخرًا من جرائم الحرب.
وفي إفريقيا الوسطى ستُعْقَد انتخابات في شهر ديسمبر 2025م في بيئة هشَّة بعد سنواتٍ من الحرب الأهلية. ومع التمديد الأخير للحكومة العسكرية الانتقالية، من المرجَّح تأجيل الانتخابات مرة أخرى في مالي.([3]) والخريطة التالية تبيّن انتخابات المنطقة خلال عام 2025م.
خريطة (1) الانتخابات في إفريقيا جنوب الصحراء في عام 2025م
Source: Authors’ own compilation.
وستُعقد الانتخابات التشريعية المقرر إجراؤها في عام 2025م أيضًا وسط توترات كبيرة. ففي جزر القمر، أعقبت الانتخابات البرلمانية في 12 يناير 2025م إعادة انتخاب “غزالي عثماني” في عام 2024م. وقاطعت الانتخابات بعض أحزاب المعارضة، بما في ذلك حزب “جووا” المؤيد للرئيس السابق “أحمد عبد الله سامبي”.
وفي تشاد، أدَّت أول انتخابات برلمانية منذ أكثر من عقد في 20 ديسمبر 2024م -والتي قاطعتها المعارضة- إلى مزيد من تعزيز سلطة الحزب الحاكم. ومن المرجح أن تُعزّز الانتخابات التشريعية المقررة في يونيو في بوروندي، بعد سنوات من الاضطرابات السياسية هيمنة الحزب الحاكم.
ومع ذلك، هناك أيضًا بصيص من الأمل. ففي الجابون، قد تُمثِّل الانتخابات العامة انتقالًا بعيدًا عن النظام العسكري الحالي الذي أطاح بسلالة “بونغو” التي استمرت 56 عامًا. ومن المتوقع أن يستمر الاتجاه الأخير للأحزاب الحاكمة التي تواجه هزائم انتخابية كبيرة إلى حد معقول. ففي عام 2024م، عانت الأحزاب الحاكمة في بوتسوانا والسنغال وموريشيوس وغانا من خسائر كبيرة، مما أدَّى إلى انتقال السلطة.
وهناك فرصة لمزيد من انتصارات المعارضة في عام 2025م، وخاصة في مالاوي؛ حيث من المتوقع أن يكون السباق الرئاسي متقاربًا؛ حيث يُشكِّل الاستياء من التضخم، وارتفاع تكاليف المعيشة، والافتقار الملحوظ إلى المساءَلة تحديًا لمحاولة الرئيس “لازاروس تشاكويرا ” الحصول على ولاية ثانية.
ومن المرجح أيضًا أن تكون المنافسة مفتوحة في سيشيل. وفي تنزانيا، أكدت الرئيسة “سامية حسن”، التي تولت منصبها بعد وفاة الرئيس “جون ماجوفولي”، ترشحها لانتخابات عام 2025م. وفي حال فوزها، ستصبح أول رئيسة منتخبة في البلاد. ومع ذلك، تواجه معارضة كبيرة من داخل الحزب الحاكم.([4])
ثانيًا: التكاليف المباشرة للانتخابات في منطقة إفريقيا جنوب الصحراء
إن العمليات الانتخابية مُعقَّدة للغاية، وتتطلب الاستثمار في القدرات الإدارية والتنظيمية. هذه التكاليف المتزايدة تُهدِّد الأساس ذاته للإصلاحات الديمقراطية. وتُشكِّل تهديدًا للاستقرار السياسي في البلدان التي تكافح عددًا لا يُحْصَى من القضايا الاجتماعية والاقتصادية.
فعلى مدى السنوات الخمسين الماضية، عزَّزت معظم البلدان الإفريقية الثقافة الديمقراطية. وفي حين تظل معظم العمليات الانتخابية موضع شكّ، وترتبط بعدم الاستقرار والانقسام، وفي بعض الحالات حدوث عنف سياسي؛ إلا أن مسألة التكلفة كانت مكتومة إلى حد كبير. وبصرف النظر عن مدى تكلفة هذه الانتخابات، فإن الحكومات الإفريقية تنظر إليها باعتبارها طريقًا للسلام والاستقرار، وهي الحجة التي يدعمها شركاء المساعدات الغربيون، الذين أرسلوا على مدى عقود تبرعات باستمرار لسدّ العجز الهائل في ميزانيات الانتخابات. وقد أجرت البلدان الإفريقية ما يقرب من 600 انتخابات رئاسية وتشريعية، على مدى العقود الثلاثة الماضية (1990-2020م)، وفي كلّ الحالات، كانت التكلفة مصدر قلق.([5])
وتعرف شبكة المعرفة الانتخابية Electoral Knowledge Network تكلفة الانتخابات بأنها “كل النفقات المُتكبَّدة في تسجيل الناخبين، وترسيم الحدود، وعمليات التصويت، وفرز الأصوات ونقلها، والفصل في النزاعات، وتثقيف الناخبين وإعلامهم، والحملات الانتخابية التي تقوم بها الأحزاب السياسية والمرشحون، واليقظة والإشراف من جانب ممثلي الأحزاب والمراقبين المحليين أو الدوليين”.([6])
وتشير البيانات الصادرة عن المعهد الدولي للديمقراطية والمساعدة الانتخابية إلى أن أغلب البلدان تنفق مئات الملايين من الدولارات في كل انتخابات لتمويل أنشطة هيئات إدارة الانتخابات.([7])
ووفقًا لتحليل شامل أجراه “جاب فان دير ستراتن”، من مؤسسة التسجيل المدني من أجل التنمية (CRC4D)، فقد شهدت المنطقة أعلى زيادة في تكلفة الانتخابات على مدار العشرين عامًا الماضية. فبين عامي 2000 و2018م، أنفقت ما يقرب من 125 مليار دولار عليها؛ حيث اتسعت تلك التكلفة، والتي كانت مرتفعة بالفعل قبل عام 2000م، من نسبة 2.3 مرة (4.10 دولار مقابل 1.80 دولار قبل عام 2000م) إلى نسبة تقرب من 4.5 مرة (11.30 دولار مقابل 2.90 دولار).([8])
شكل (1) تكاليف إدارة الانتخابات، من عام 2000 إلى عام 2018م
(باستثناء الانتخابات “الخاصة”) بإفريقيا جنوب الصحراء
المصدر: رسم الباحث من:
Civil Registration Centre for Development-CRC4D, October 2018
وفقًا للشكل أعلاه يتضح أن هناك فرقًا هائلًا في التكلفة بين إفريقيا جنوب الصحراء وأمريكا الشمالية وأستراليا. وعندما نأخذ في الاعتبار التفاوت الهائل في الدخل في هاتين المنطقتين، نبدأ في رؤية العبء الثقيل للانتخابات في بلدان المنطقة، مقارنة بهاتين المنطقتين؛ حيث تُشكِّل تكاليف الانتخابات (أسعار السوق للفرد) في أوروبا وأمريكا الشمالية وأستراليا (4.00 دولارات) هي نفسها تقريبًا في إفريقيا (4.5 دولارات). ومع ذلك، يبلغ متوسط دخل المواطن الأمريكي السنوي 58000 دولار، ويمكنه تحمُّل تكاليف الإدارة الانتخابية هذه، بينما بالنسبة للمواطن في إفريقيا جنوب الصحراء الذي يبلغ دخله السنوي 1500 دولار، فإن تكاليف الانتخابات تُشكّل عبئًا ثقيلًا. وحتى في المناطق المماثلة مثل آسيا؛ حيث يبلغ متوسط دخل مواطني دولة مثل الهند 1800 دولار سنويًّا، كانت تكاليف الانتخابات للفرد في إفريقيا أعلى بستة أمثال.
هذه التكاليف المرتفعة لا تُتَرجم بالضرورة إلى نزاهة الانتخابات أو جودة الديمقراطية؛ حيث أجرت منظمة فريدوم هاوس دراسة حول جودة الديمقراطية، واكتشفت أن هناك تدهورًا من 2005 إلى 2018م في إفريقيا جنوب الصحراء. فمجرد عقد انتخابات منتظمة، في غياب سيادة القانون، وسير عمل الحكومة، وحرية التعبير وحقوق الجمعيات، لا يُعزّز المؤسسات الديمقراطية والحكم.
ومن الأمثلة على ذلك الانتخابات الكينية في عام 2017م، والتي كانت الأكثر تكلفة في إفريقيا وثاني أغلى انتخابات في العالم؛ حيث قدَّم وزير الخزانة،” كاماو ثوجي”، تقريرًا قبل الانتخابات عن الوضع الاقتصادي والمالي للبلاد، والذي جاء فيه “إن المخصصات المالية للانتخابات العامة لعام 2017م تبلغ 49.9 مليار شلن كيني (499 مليون دولار)، وتتكون من نفقات مباشرة وغير مباشرة. تبلغ المباشرة 33.3 مليار شلن كيني (333 مليون دولار)، بينما تبلغ النفقات غير المباشرة 16.6 مليار شلن كيني (166 مليون دولار)”. وقد تم تقسيم مبلغ 49.9 مليار شلن كيني (499 مليون دولار) بين لجنة الانتخابات والحدود المستقلة (42.9 مليار شلن كيني (429 مليون دولار)، والقضاء وجهاز الاستخبارات الوطني ومسجل الأحزاب السياسية. كما خصصت الحكومة 5.3 مليار شلن كيني (53 مليون دولار) لعمليات الأمن المتعلقة بالانتخابات لمنع احتمال اندلاع أعمال عنف بعد الانتخابات في 23 مقاطعة من أصل 47 مقاطعة.([9])
ومن حيث التكلفة لكل ناخب، بلغت ميزانية الانتخابات الكينية 25.4 دولار لكل ناخب، لكل من الناخبين البالغ عددهم 19.6 مليون ناخب، مما يجعلها الأكثر تكلفة في إفريقيا والثانية فقط بعد بابوا غينيا الجديدة (التكلفة لكل ناخب، 63 دولارًا) في العالم. وبالمقارنة مع الجيران في شرق إفريقيا، كانت التكلفة لكل ناخب في رواندا 1.05 دولار، وأوغندا 4 دولارات، وتنزانيا 5.16 دولار. وبالمقارنة بالدول الإفريقية الأخرى، بلغت تكلفة الناخب الواحد في نيجيريا 8.61 دولار، وكانت الانتخابات الأقل تكلفة في إفريقيا في غانا؛ حيث بلغت 0.07 دولار للناخب الواحد. وتُعزى إلى الفساد المستشري في تنفيذ الأنشطة الانتخابية. وعلى الرغم من التكاليف المرتفعة، فقد تم الطعن في نتائج الانتخابات. وذهبت المعارضة إلى المحكمة وشرحت بالتفصيل كيف استغل الرئيس الحالي تكنولوجيا الانتخابات الباهظة الثمن لتمكين الاحتيال الانتخابي. وألغت المحكمة الانتخابات الرئاسية وأمرت بإعادة الانتخابات. ([10])
ثالثًا: تمويل الحملات السياسية وشراء الأصوات: كينيا نموذجًا
لقد أدخلت الديمقراطية الإفريقية في مرحلة ما بعد الاتحاد السوفييتي الانتخابات في سياقات تفتقر إلى القيود المفروضة على سلوك المرشحين، مما أدى إلى ظهور ترهيب الناخبين، وشراء الأصوات، وتزوير بطاقات الاقتراع؛ حيث يستخدم المنافس الضعيف العنف، أما شاغل المنصب الأقوى الذي يواجه منافسة محلية فيفضّل استخدام الرشوة أو تزوير بطاقات الاقتراع. ([11])
لقد أصبح تأثير المال في الانتخابات عنصرًا مهمًّا في تحديد النتائج الانتخابية في جميع أنحاء العالم. لقد أثر استخدام المال في الأنشطة السياسية سلبًا على طبيعة السياسة العامة والحوكمة والمنافسة وسيادة القانون والشفافية والمساواة والديمقراطية. وعلى الرغم من وجود قوانين وسياسات وإرشادات تحكم استخدام المال أثناء الانتخابات، إلا أن الإرادة السياسية لتنفيذها ضئيلة. ففي كينيا وُجِدَ أنه في معظم الحالات، يتبع الفوز في الانتخابات أولئك الذين لديهم المال؛ وفي حالات أخرى، فإن إمكانية الفوز هي التي تجذب المال من المانحين المهتمين بمصالحهم الذاتية.([12])
وبتحليل مقدار ما ينفقه الطامحون السياسيون في كينيا على حملاتهم الانتخابية، أظهرت النتائج أن مقعد مجلس الشيوخ كان الأكثر تكلفة للتنافس عليه؛ حيث أنفق الطامحون في المتوسط 35.5 مليون شلن كيني (350 ألف دولار). وأنفق المتنافسون على مقاعد التمثيل النسائي في المتوسط 22.8 مليون شلن كيني (228 ألف دولار). وأنفق أعضاء البرلمان في المتوسط 18.2 مليون شلن كيني (182 ألف دولار)، وأنفق أعضاء الجمعية المحلية 3.1 مليون شلن كيني (31 ألف دولار) في المتوسط. وقد أشار المشاركون في الاستطلاع إلى أن مدخراتهم الشخصية ودعم أصدقائهم وعائلاتهم كانت مصدر التمويل؛ حيث تلقَّى أقل من 20% منهم دعمًا ماليًّا مباشرًا من حزبهم السياسي. وكان المرشحون الذين أنفقوا أكثر من غيرهم أكثر حظًّا في الفوز. كما أنفقت الفائزون ثلاثة أمثال ما أنفقه الخاسرون. وأنفق أعضاء مجلس الشيوخ الناجحون ضعف ما أنفقه الخاسرون. وأنفق أعضاء البرلمان الفائزون 50% أكثر من الخاسرين. وكانت هيمنة الحزب العامل الرئيسي في الفوز.
وبدراسة اسباب إنفاق المرشحين على الحملات الانتخابية أكثر من راتبهم الإجمالي حال الفوز، تبين أن الممثلون السياسيون -أو ما يسمى “مهيشيميوا”، وهي كلمة سواحلية تعني “محترم”- من أكثر الكينيين فسادًا. وتفتح مناصبهم الباب أمام شبكات المحسوبية. وهذه ليست مشكلة كينية فريدة. فقد وجد تقييم أجراه المعهد الوطني للديمقراطية المتعددة الأطراف لتكاليف الانتخابات في مالي في عام 2019م أن أعضاء البرلمان أنفقوا في المتوسط 54 ألف يورو على الحملات في مقاطعة يبلغ متوسط الراتب فيها 100 يورو شهريًّا.([13])
غير أنه وعلى خلاف ذلك تبين باستخدام بيانات من 17 انتخابات في إفريقيا جنوب الصحراء بين عامي 2000 و2005م، و20 انتخابات في أمريكا اللاتينية بين عامي 2005 و2010م تبين أن شراء الأصوات له تأثير انتخابي محدود في المتوسط؛ ففي 11 انتخابات فقط من أصل 37 كان منح الهدايا مقابل الأصوات مرتبطًا بارتفاع نسبة المشاركة؛ ومع ذلك، في انتخابات قليلة للغاية فقط كان من الممكن ترجمة هذه الهدايا إلى مزايا انتخابية مرئية لحزب معين. وهذا يتناقض مع التصورات الشائعة حول فعالية المساعدات الانتخابية وجودة الانتخابات في هذه المناطق.([14])
إن شراء الأصوات كثيرًا ما يُـلام على الأداء الاقتصادي الضعيف في العديد من البلدان. وظهر ذلك جليًّا عند التعرُّف على العلاقة بين متوسط تدفقات التحويلات المالية للفرد ومعدل إقبال الناخبين عبر البلدان خلال الفترة 1990-2010م. في عينة شملت 130 انتخابات وطنية (منها 113 انتخابات رئاسية و17 انتخابات برلمانية للأنظمة الرئاسية والبرلمانية على التوالي) في 41 دولة إفريقية جنوب الصحراء. تبين أن هناك ارتباطًا سلبيًّا قويًّا بين تدفقات التحويلات المالية والإقبال على التصويت.([15])
رابعًا: العنف الانتخابي في إفريقيا جنوب الصحراء الكبرى وعواقبه الاقتصادية
تُهدِّد الجهات الفاعلة الحكومية وغير الحكومية بالعنف وتستخدمه من أجل التأثير على نتائج الانتخابات. وتشمل بعض أكثر أشكال العنف الانتخابي شيوعًا استخدام القوة القسرية ضد موظفي الانتخابات أو الأحزاب السياسية أو الناخبين أنفسهم، فضلًا عن الهجمات ضد المظاهر المرئية للانتخابات، مثل مراكز الاقتراع. وقد تكون تلك التكتيكات فعَّالة في التأثير على نتائج الانتخابات. كما حدث في انتخابات فبراير 2020م في الكاميرون؛ حيث يمكن للعنف الانتخابي تحسين حصة التصويت للمرشحين الذين يستخدمونه، وهذا الأمر شائع في بلدان أخرى مثل تلك التي حدثت في الولايات المتحدة وأفغانستان وساحل العاج والهند، وتشير بعض التقديرات إلى أنه منذ عام 1990م، اتسم أكثر من 20٪ من الانتخابات الوطنية بالعنف.
وبالتحقيق في العواقب الاقتصادية للعنف الانتخابي في إفريقيا جنوب الصحراء، وتأثيرها على الاستثمارات الأجنبية المباشرة لـ77 شركة متعددة الجنسيات عبر25 دولة، تبين أن حلقات العنف الانتخابي تضاعف تقريبًا احتمال سَحب الاستثمارات الأجنبية. ويحدث هذا عندما تشعر الشركات بالمخاطر الشديدة. فهو يشير أكثر من أشكال العنف الأخرى إلى احتمال حدوث تغييرات فورية ومستدامة في بيئة الأعمال، بما في ذلك تغيير السياسات، وتعطيل الإنتاج، وتصعيد الصراع. وكل هذا ضارّ بالأعمال التجارية. فتأثيراته على سحب الاستثمارات مماثلة في الحجم لتلك التي خلَّفتها الحرب الأهلية والإرهاب؛ إذ ترسل إشارات قوية إلى الشركات الأجنبية حول الاستقرار السياسي في بلد ما.([16])
وبالتعرف إلى ما إذا كانت الديمقراطية ودرجتها تدفع إلى تغييرات في التصنيف الائتماني السيادي أو ما إذا كانت تغييرات التصنيف الائتماني السيادي تؤثر على الديمقراطية، تبين أن التصنيف الائتماني السيادي المنخفض له تأثير ضارّ طويل الأمد على الديمقراطية والحقوق السياسية وله تأثير إيجابي قصير الأمد على الحريات المدنية. كما وُجِدَ أنه يؤثر على الديمقراطية طويلة الأمد في بلدان المنطقة التي هي أكثر ديمقراطية نسبيًّا، ولكنها أكثر عُرضة لدفع تعميق الديمقراطية في البلدان الأقل ديمقراطية.([17])
خامسًا: المساعدات الخارجية والديمقراطية في إفريقيا جنوب الصحراء
إن دراسة العلاقة بين المساعدات الخارجية والديمقراطية لا تزال تعاني من عدد من الغموض المفاهيمي والمنهجي، مما يتركنا مع إجابات متناقضة لأسئلة مهمة. وفي المستقبل، نحتاج إلى فَهْم أكثر دقة للعمليات والآليات التي تُحرِّك عملية التحول الديمقراطي، فضلًا عن طبيعة الاقتصادات السياسية المحلية في البلدان المانحة التي غالبًا ما تُوجّه تقديم المساعدات الخارجية.
على مدى العقدين الماضيين، ربط المانحون بشكل متزايد المساعدات الخارجية بأهداف الديمقراطية في إفريقيا جنوب الصحراء. ومع ذلك، تركز الأبحاث المنهجية حول هذا الموضوع عادة على كيفية تأثير المساعدات على التحولات الديمقراطية. وببحث ما إذا كانت المساعدات الخارجية تؤثر على عملية ترسيخ الديمقراطية في المنطقة، وكيف تؤثر عليها من خلال فحص آليتين محتملتين: (1) استخدام المساعدات الاقتصادية وسيلة ضغط لشراء الإصلاح السياسي، و(2) الاستثمار في المعارضة. باستخدام تحليل النتائج عن الفترة من 1991 إلى 2008م، وجد أن مساعدات الديمقراطية والحكم لها تأثير إيجابي ثابت على ترسيخ الديمقراطية. وليس للمساعدات الاقتصادية أيّ تأثير على ترسيخ الديمقراطية.([18])
فبعد الحرب الباردة، زاد المانحون من استخدامهم للمساعدات الفنية في حزم المساعدات، مما أدَّى إلى تحسين قدرتهم على الرصد، وبالتالي الحد من قدرة المستبدّين على استخدام المساعدات للمحسوبية. وللبقاء في السلطة، وقد وُجِدَ أن هناك عوامل أخرى لعبت أدوارًا محورية في التحرير السياسي في إفريقيا، غير أن المساعدة الفنية ساعدت في تفسير توقيت ومدى التحول الديمقراطي في المنطقة.([19])
فبعد عقود من الحكم الاستبدادي، انهارت أغلب الأنظمة المستبدة بشكل مفاجئ وغير متوقع في تسعينيات القرن العشرين. وكان التحرُّر السياسي في إفريقيا بطيئًا في البداية. وقد أسَّس بعض الحكام المستبدين لبعض الحقوق المدنية، مثل السماح بتنظيم أحزاب المعارضة. وسمح آخرون بحرية الصحافة. كما أنشأ آخرون لجانًا لفحص دستور البلاد. وفي أغلب البلدان، أدَّت هذه الحركات الأولية في نهاية المطاف إلى انتخابات متعددة الأحزاب، بحيث عقدت 29 دولة بحلول عام 1994م: 54 انتخابات، واعتبر المراقبون أن الأغلبية كانت “حرة”. وقد تميزت هذه الانتخابات بإقبال كبير على التصويت وانتصارات عديدة للمعارضة؛ فقد أزاح الناخبون أحد عشر رئيسًا في السلطة، ورفض ثلاثة آخرون الترشح في هذه الانتخابات.
وخلال الفترة 1995-1997م، نظمت 16 دولة انتخابات الجولة الثانية، وبحلول عام 1998م لم يكن هناك سوى أربع دول فقط في إفريقيا جنوب الصحراء لم تنظم أيّ نوع من المنافسة. ونظرًا لسجل القارة الضعيف في الانتخابات التنافسية في فترة ما بعد الاستقلال، فإن التحرير السياسي السريع خلال هذه الفترة كان بمثابة تغيير سياسي هائل. وتشير بعض الدراسات إلى أن المساعدات الأجنبية ربما ساهمت في التحول الديمقراطي. وبعد سقوط الاتحاد السوفييتي، أَوْلَى المانحون اهتمامًا متزايدًا للإصلاحات السياسية، وبدأوا في ربط مساعداتهم بشروط؛ وتشير عدد من الحكايات إلى أن الانتخابات كانت جزئيًّا استجابة لهذه الضغوط. ([20])
ومن جانب آخر تتلقى المنطقة مساعدات خارجية ضخمة، وهي أيضًا المكان الذي تحدث فيه الحروب الأهلية المتكررة. ووفقًا لمنظمة الشفافية الدولية، فإن دولها لديها أعلى معدلات الفساد. وبشكل غير مباشر، أسهمت المساعدات في تطوير الفصائل السياسية. وانتشار الإرهاب، ويشير هذا الرأي أنها تؤدي إلى تآكل الديمقراطية. وزيادتها لا يعني أنها ستساعد في تغيير المؤسسات السياسية وبناء الديمقراطية. بسبب ضعف سلطة الدولة في الإدارة وظهور السياسيين المستبدين. ونظرًا لأن الدول الإفريقية محدودة في قدرتها على تحديد أهداف المساعدات؛ من حيث استقبالها واستخدامها، فإنها تعتمد على الشروط الملزمة للمانحين. ونتيجة لذلك، فإن المساعدات المقدَّمة لغرض التنمية صغيرة، ولكنها تخدم في المقام الأول غرض المانح نفسه. حيث تهدف المساعدات الأمريكية إلى ممارسة نفوذ شامل في إفريقيا، من السياسة إلى الاقتصاد، وصولًا إلى التأثير في المجتمع. وتهدف مساعدات الاتحاد الأوروبي لإفريقيا إلى تعزيز دورها ونفوذها السياسي، وترويج السلع إلى القارة، والحد من الهجرة الإفريقية إلى أوروبا؛ وتهدف المساعدات الصينية إلى جلب الناس إلى القرى الصغيرة لبناء القرى واستغلال الموارد.
كما أسهم الفساد الناجم عن المساعدات في كبح عملية بناء حكومة ديمقراطية. ففي عام 2008م، اشترى رئيس مالاوي بينجو موثاريكا طائرة داسو فالكون 900EX فور تلقيه المساعدات من الاتحاد الأوروبي، بينما اشترى الرئيس الأوغندي طائرة نفاثة من طراز جلف ستريم جي 550، وبنى قصوره الفخمة بأموال مساعدات الاتحاد الأوروبي، بينما يعيش معظم الشعب الأوغندي في فقر.
ومن المحزن أن نرى أن مساعدات المجتمع الدولي لا تصل للمواطنين ولا تساعد الناس في التخلص من الفقر بسبب المؤسسات السياسية الفاسدة. وفي النضال من أجل الديمقراطية، أصبح الفساد مرضًا يُقوّض المساواة والحرية للأشخاص. والجهود المبذولة لصدّ الفساد ليست مستمرة ومنسقة بين المانحين والسلطات المحلية؛ مما أدى إلى إبطاء وتيرة التنمية بشكل عام؛ حيث أصبحت عملية البناء الديمقراطي أكثر هشاشة.([21])
خاتمة:
إن البلدان الإفريقية لا تستطيع أن تتحمَّل التكلفة المرتفعة للانتخابات في مواجهة أولويات الإنفاق العام. والاعتماد على دعم المانحين لسد العجز في ميزانية الانتخابات يؤدي إلى تآكل السيادة الوطنية وتعريض البلدان للتلاعب الأجنبي.
لقد تزايدت الدعوات على مستوى القارة لوضع ضوابط لتمويل الانتخابات. والواقع أن تكلفتها المرتفعة تُشوِّه العملية الانتخابية، وتُعتبر إهدارًا للموارد الوطنية، وخاصةً عند النظر في مدى نزاهتها. كما أن التداعيات المترتبة على العنف الانتخابي اقتصادية بقدر ما هي سياسية، وتنعكس آثارها على الجميع.
والواقع أن الجهود المحلية والدولية الرامية إلى ترسيخ الديمقراطية في بلدان المنطقة تُشكّل أهمية بالغة في حد ذاتها. وقد توفر فوائد إضافية من خلال الحفاظ على الاستقرار في الاقتصادات والمجتمعات التي قد تواجه ضائقة شديدة بسبب الاضطرابات التي قد تلحق بالاستثمار الأجنبي.
ومن الممكن أن يكون الاتحاد الإفريقي، غير قادر على التعامل مع هذه القضايا بفعالية، وفي هذه الحالة، يمكن تطوير المعايير وآليات مراجعة الأقران على المستوى دون الوطني، وينبغي لهيئات الرقابة على التمويل أن تعمل بنشاط لمناقشة ومراجعة النهج المتَّبع، من أجل الإشراف على الامتثال للوائح التمويل السياسي. وينبغي لمنهجيات مراقبة الانتخابات أن تشمل بشكل أكثر صراحة قضايا التمويل السياسي. وقد يؤدي المانحون الدوليون إلى تفاقم مشكلة إساءة استخدام موارد الدولة من خلال توفير مبالغ كبيرة من التمويل لـ “الأنشطة غير السياسية” خلال فترات ما قبل الانتخابات، مما يسمح للنظام الحالي بالاستشهاد بمشاريع جديدة كدليل على جهوده الإنمائية.
وهذا لا يعني أن البرامج التي تساعدها الجهات المانحة لها دائمًا تأثير سلبي؛ حيث إن زيادة قدرة الأحزاب على التواصل مع الناخبين -ومساعدة أصحاب المصلحة في الإشراف على التمويل السياسي ورفع مستوى الوعي به- يمكن أن يساعد في تسوية الملف الانتخابي. وهذا لا يعني أن الكيانات الدولية لا يمكنها أن تلعب دورًا مهمًّا. كما أن حل المشكلات المتعلقة بدور المال في السياسة الإفريقية يكمن في نهاية المطاف في الأحزاب السياسية والسياسيين ومجموعات المجتمع المدني والناخبين الأفارقة.
……………………………………
[1]) africanarguments, Africa Elections 2025: All the upcoming votes,1 jan 2025.at: https://africanarguments.org/2025/01/africa-elections-all-upcoming-votes/
[2] ) https://www.stears.co/open-data/elections/upcoming-african-elections/
[3] ) GIGA Focus Africa, Ten Things to Watch in Africa in 2025, Number 1 | 2025.at: https://www.giga-hamburg.de/en/publications/giga-focus/ten-things-to-watch-in-africa-in-2025
[4] ) GIGA Focus Africa, Op.cit.
[5] ) Richard Oduor Oduku , High Cost of Elections is a Threat to Democracy in Africa, July 15, 2022.at: https://www.sisiafrika.com/high-cost-of-elections-is-a-threat-to-democracy-in-africa/
[6] ) https://aceproject.org/ace-en/focus/core/cra/default
[7] ) idea, Election costs: Informing the narrative December 21, 2017.at: https://www.idea.int/news/election-costs-informing-narrative
[8] ) Jaap van der Straaten, Of Democracy and Elections in Africa—In Reverse, 19—20 March 2019.pp.2-19.at:
https://www.researchgate.net/publication/332752300_Of_Democracy_and_Elections-in_Reverse_On_the_Exorbitant_Increase_in_the_Cost_of_Elections_in_Africa_SSRN_Electronic_Journal
[9] ) Richard Oduor Oduku ,Op.cit.
[10] ) Idem.
[11] ) Paul Collier† and Pedro C. Vicente, Violence, Bribery, and Fraud:
The Political Economy of Elections in Sub-Saharan Africa.pp.1-44.at: https://citeseerx.ist.psu.edu/document?repid=rep1&type=pdf&doi=6b07cdfb4c29ff474760d0a1a110e215fe523ffa
[12] ) Wilson Muna and Michael Otieno, Voting with the shilling the ‘Money Talks Factor’ in Kenya’s Public Policy and Electoral Democracy.pp.92-107.at: https://www.eisa.org/storage/2023/05/2020-journal-of-african-elections-v19n1-voting-shilling-money-talks-factor-kenyas-public-policy-electoral-democracy-eisa.pdf?x36597
[13] ) Karuti Kanyinga and Tom Mboya, The cost of politics in Kenya Implications for political participation and development (Netherland Westminster Foundation for Democracy,2021) pp.1-50.
[14] ) Jorge Gallego and etal,” Do gifts buy votes? Evidence from sub-Saharan Africa and Latin America”, World Development Volume 162, February 2023, 106125.at: https://www.sciencedirect.com/science/article/abs/pii/S0305750X22003151
[15] ) Correct citation: Ebeke, C. and Yogo, T. (2013), Remittances and the Voter Turnout in Sub-Saharan Africa: Evidence from Macro and Micro Level Data, Working Paper Series N° 185 African Development Bank, Tunis, Tunisia.pp.7-8.
[16] ) Austin Doctor and Stephen Bagwell, Electoral Violence in Sub-Saharan Africa and Its Economic Consequences, April 22, 2020.at: https://politicalviolenceataglance.org/2020/04/22/electoral-violence-in-sub-saharan-africa-and-its-economic-consequences/
[17] ) Gossel, S. and Mutize, M. (2025), “The effect of sovereign credit ratings on democracy in sub-Saharan Africa”, International Journal of Emerging Markets, Vol. 20 No. 13, pp. 223-243. https://doi.org/10.1108/IJOEM-10-2022-1570
[18] ) Simone Dietrich1 and Joseph Wright, Foreign Aid and Democratic Development in Africa, Working Paper No. 2012/20 (Helsinki,: UNU-WIDER,2012)pp.1-29.
[19] ) Clark C. Gibson and etal, Did Aid Promote Democracy in Africa? The Role of Technical Assistance in Africa’s Transitions. World Development Volume 68, April 2015, Pages 323-335.at: https://www.sciencedirect.com/science/article/abs/pii/S0305750X14003581
[20] ) Clark Gibson and etal, Did Aid Promote Democracy in frica?
The Role of Technical Assistance in Africa’s Transitions.pp.1-3.at: https://www.sciencedirect.com/science/article/pii/S0305750X14003581
[21] ) Hoang Nguyen, Foreign aid hinders the construction of Democracy in Africa by Hoang Nguyen, Apr 12, 2019.at: https://www.democratic-erosion.com/2019/04/12/foreign-aid-hinders-the-construction-of-democracy-in-africa-by-hoang-nguyen/