نشر المعهد الألماني للشؤون الدولية والأمنية (SWP) مقال رأي في قسم “Megatrends Afrika” للباحثة “نانسي روشهورا/ Nancy Rushohora”- مُحاضِرة في قسم الآثار وحفظ التراث بجامعة دار السلام، وتتركز أعمالها على الاستعمار وتداعياته-؛ استعرضت خلاله كيف كان للاستعمار الألماني في تنزانيا تأثير ممتدّ على التنمية الاجتماعية والاقتصادية والاستقرار السياسي في إفريقيا.
تشرح “نانسي روشهورا” الكيفية التي أثَّر بها الاستغلال والتعسُّف السائدان خلال حقبة الاستعمار الألماني على المجتمعات المتضررة في تنزانيا على مدار أجيال متعاقبة.
بقلم: نانسي روشهورا
ترجمة: شيرين ماهر
إنّ إرث الاستعمار في إفريقيا متجذّر، ولا تزال آثاره محسوسة في جميع أنحاء القارة، وخاصةً على صعيد التنمية الاجتماعية والاقتصادية، والاستقرار السياسي، وديناميكيات الصراع. لقد اتسم الاستعمار الألماني، الذي شمل مناطق في شرق القارة الإفريقية بما في ذلك ما يُعرَف الآن بـ(تنزانيا)، بممارسات اقتصادية استغلالية وهياكل سياسية تعسُّفية أثَّرت، بشدة، على المجتمعات المحلية.
وفي جنوب تنزانيا، لا يزال من الممكن استشعار الآثار الثقافية الممتدة للاستعمار الألماني حتى اليوم. ولا يزال تأثيرها على الصراعات المتعلقة بالموارد ملموسًا؛ حيث باتت تُشكّل أنماط استخدام الموارد والعلاقات العرقية والوصول إلى الموارد عبر الأجيال. ويمكن تسليط الضوء على جنوب تنزانيا الحالية؛ حيث تُعدّ الصراعات المجتمعية وصراعات الموارد نِتاجًا لتأثيرات الاستعمار المتراكمة عبر الأجيال.
كان الاستعمار بمثابة سياسة توسُّعية عنيفة ذات دوافع اقتصادية تهدف إلى تأكيد الهيمنة الاقتصادية. وقد أدى استخدام العنف في إنشاء مزارع القطن في جنوب تنزانيا إلى ظهور العديد من حركات المقاومة، وأهمها: مقاومة (ماجي ماجي) في الفترة من 1904 إلى 1908م. وقد شملت الآثار التي خلَّفها الاستعمار عبر الأجيال العواقب الدائمة للقمع التي توارثتها الأجيال، مما راح يُؤثِّر على الرفاهة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية للسكان حتى بعد مُضِي قرن.
لقد شهدت جنوب تنزانيا صدمة اجتماعية واقتصادية طويلة الأمد تعود جذورها إلى سياسات الحقبة الاستعمارية عندما صُنِّفَت المنطقة باعتبارها “منطقة تمرُّد” لا تستحق التنمية؛ بسبب تورطها في حركة مقاومة (ماجي ماجي). كما أشار المؤرخ “جوس ليبينو” (1971م) إلى جنوب تنزانيا باسم “سندريلا”، في إشارة إلى الفتاة الفقيرة التي رغم جمالها أخذت تعاني الظروف القاسية والتهميش في المنطقة.
هناك، أصبحت الصدمات المستمرة وتاريخ الفقر المدقع أرضًا خصبة لنمو التطرف والعنف. كما أدى الافتقار إلى المشاركة الشعبية في إدارة واستخدام الموارد الطبيعية والثقافية (بما في ذلك احتياطيات الغاز الطبيعي في المحيط الهندي والمواقع التراثية في محمية سيلوس للصيد) وإرث النهب الاستعماري؛ إلى خلق مناخ خصب لتنامي الصراع في جنوب تنزانيا.
وهنا نسوق ثلاث حالات لتوضيح تلك المسألة. تتعلق هذه الحالات بالصراعات حول استخراج الموارد في جنوب تنزانيا، ودور الاستعمار في تفاقم الصراعات على استخدام الأراضي حول منتزه “نيريري” الوطني، والتعامل مع حفريات الديناصورات المنهوبة.
اضطرابات متعلقة بالموارد في جنوب تنزانيا:
لقد نشأ أحد أحدث أشكال الصراعات على موارد تنزانيا في عام 2010م، احتجاجًا على نقل خط أنابيب الغاز الطبيعي المُكتشَف في خليج منازي (منطقة متوارا) إلى “دار السلام”؛ بهدف تحسين إمدادات الكهرباء في البلاد، التي تعتمد، بشكل كبير، على الطاقة الكهرومائية. وفي جنوب تنزانيا، كان يُنظَر إلى تقاسُم الغاز الطبيعي مع بقية البلاد باعتباره عائقًا أمام تنمية المنطقة المُهمَّشة تاريخيًّا، بعد حدوث طفرة اقتصادية خلال مرحلة الاستكشاف. وقد عارض السكان نقل خط أنابيب الغاز، والذي من شأنه أن يحرم المنطقة من ثرواتها، وهددت حركة شعبية بالانفصال.
وتتميز طبيعة احتجاجات عام 2010م بمحاكاتها لأيديولوجية مقاومة (ماجي ماجي) في الحقبة الاستعمارية. فعلى سبيل المثال، كان التهديد الذي أطلقه ممارسو الطقوس والشعائر المعروفة باسم (بيبي وا مسيمباتي) بأن الغاز الذي يجري الاستيلاء عليه بالقوة سيتحول إلى ماء، وهو ما يذكرنا بأيديولوجية (ماجي ماجي) في الفترة ما بين 1905-1907م، عندما ظن مقاتلو المقاومة أن بنادق الألمان ستتحول إلى ماء. لقد لعبت (بيبي وا مسيمباتي) دورًا مماثلًا لدور زعيم (ماجي ماجي) كينجيكيتي نغوالي؛ الذي مثَّل عاملًا حاشدًا لجمع الشباب وتحديد مسار الاحتجاجات. وانتهى الاحتجاج بعد زيارة رئيس الوزراء “كايانزا بيتر بيندا”، الذي قدَّم وعودًا بالتنمية لشعب جنوب تنزانيا. وبمرور الوقت، ثبت أن كل ذلك مجرد حلم قصير الأمد. ففي عام 2015م، عادت جنوب تنزانيا مرة أخرى إلى منطقة متخلّفة اقتصاديًّا، ولا تزال كذلك حتى يومنا هذا.
يوضح هذا المثال العواقب طويلة الأمد للتهميش الاستعماري؛ حيث ظل جنوب تنزانيا يشعر بالإقصاء من التنمية الوطنية في فترة ما بعد الاستعمار. لقد شهدت المنطقة فترة وجيزة من الأمل الاقتصادي أثناء طفرة الغاز، ثم تعرَّضت للتهميش مرة أخرى عندما أعطت الحكومة الأولوية لنقل مواردها إلى “دار السلام”، وهو ما كان بمثابة استمرارًا لسيناريو الاستغلال الخارجي.
إنّ أوجه التشابه بين حركة مقاومة (ماجي ماجي) واحتجاجات عام 2010م تتجاوز مجرد فكرة الرمزية الروحية. وإنما يمثل كلاهما نمطًا أوسع من المقاومة الإقليمية للقوى الخارجية التي تستغل الموارد المحلية لصالح الآخرين وتؤدي، في نهاية الأمر، إلى إفقار السكان المحليين. ويُسلّط التهديد بالانفصال في عام 2010م الضوء على الندوب العميقة الناجمة عن الإهمال الاقتصادي والسياسي، وإعادة التذكير بالإحباطات التي غذَّت حركة مقاومة (ماجي ماجي) قبل قرن مضى.
الاستعمار والصراعات على استخدام الأراضي في منتزه نيريري:
لقد عمل الاستعمار على تقويض الاقتصاد التقليدي لجنوب تنزانيا؛ من خلال اتباع سياسات استغلالية مُصمَّمة لتشجيع الاعتماد على الهياكل الاستعمارية. وفي المناطق ذات الموارد الطبيعية الثرية مثل المطاط أو الصيد، غالبًا ما أدَّت اللوائح الاستعمارية إلى عمليات نقل قسرية وفصل المجتمعات عن أراضيها.
وتُعدّ حديقة “نيريري” التي أُعيدت تسميتها مؤخرًا (محمية سيلوس للصيد سابقًا) مثالًا على هذا الإرث. وتغطي الحديقة مساحة تبلغ حوالي 50 ألف كيلو مترًا مربعًا، وهي واحدة من أكبر المحميات الطبيعية في إفريقيا، وتُمثّل حوالي 6 في المائة من إجمالي مساحة تنزانيا. وقد تم حماية المنطقة، لأول مرة، مِن قِبَل الحاكم الألماني “هيرمان فون فيسمان” في عام 1896م، وأُعلِنَت موقعًا للتراث العالمي لليونسكو في عام 1982م. ولا تزال النزاعات حول استبعاد المجتمع من أراضي الأجداد وتراثه الثقافي وموارده قائمة ومستمرة. وقد أدت التطورات الأخيرة إلى تفاقم التوترات. وفي أعقاب بناء مشروع الطاقة الكهرومائية في مضيق “ستيجلر” على نهر روفيجي، نظرت اليونسكو في شطب الحديقة من القائمة بسبب المخاوف البيئية مع تجاهل تداعيات الصراعات الثقافية الداخلية.
وتشير التوترات القائمة بين الحفاظ على البيئة والمجتمع المحلي في متنزه نيريري إلى تناقضات عامة بين الحفاظ على البيئة وحقوق المجتمعات المحلية. إن المواطنين في جنوب تنزانيا يدركون جذورهم التاريخية داخل المتنزه، لكنهم يواجهون محاولات الإقصاء، مما يؤدي إلى تفاقم الصراعات حول استخدام الأراضي وتوزيع الأرباح والحوادث المتعلقة بالحياة البرية. وتواصل الحكومة الألمانية تمويل جهود الحفاظ على البيئة، لكنّ فوائد المتنزه تظل تُرجّح كفَّة المصالح الدولية.
ويؤدي تفضيل مكاسب الصيد من الحياة البرية إلى تهميش المجتمعات المحلية وديمومة المظالم التاريخية. على سبيل المثال، قُتل الأشخاص الذين يعيشون بالقرب من المتنزه على يد حيوانات برية، وانتشر تدمير المحاصيل على نطاق واسع. والفقر والجوع ينتشران في القرى المحيطة بمحمية سيلوس. ولا يوجد في المتنزه منطقة مخصصة؛ حيث يُسمح للسكان المحليين بالوصول إلى موارده الطبيعية مثل الحيوانات البرية والأخشاب. وهذا يتطلب تصاريح صارمة لا تستطيع سوى الشركات والأفراد الأثرياء تحملها. وهذا مرتبط أيضًا بالحرب التي أضرمتها حركة مقاومة (ماجي ماجي). وكما يزعم “ثاديوس سونسيري”؛ فإن الغزو الاستعماري أدى إلى تراجع صيد الأفيال وتجارة العاج، الأمر الذي ثبت أنه كان عاملًا رئيسيًّا في حرب حركة مقاومة (ماجي ماجي).
الآثار المنهوبة:
وقعت إحدى أهم الغارات الاستعمارية في جنوب تنزانيا في أوائل القرن العشرين عندما قام علماء الحفريات الألمان بالتنقيب في موقع “تنداجورو” المقدس في منطقة “ليندي”. وتم استخراج عددٍ لا يُحْصَى من حفريات الديناصورات وشَحْنها إلى ألمانيا.
وحتى يومنا هذا، تُشكّل هذه الحفريات العمود الفقري لمعرض الديناصورات الشهير عالميًّا في متحف برلين للتاريخ الطبيعي، مما يُعزّز الفهم العلمي ويجذب الاهتمام العالمي.
لقد استفادت ألمانيا من هذه الحفريات، بينما تم حرمان جنوب تنزانيا من تراثها الأحفوري الغني. وتُعتبر حفريات “تنداجورو” واحدة من أهم اكتشافات الديناصورات في العالم، وتظل مثالًا صارخًا للظلم الاستعماري. فلقد تم حجب الثروة والهيبة والمعرفة العلمية المرتبطة بالحفريات عن المجتمعات المحلية، التي شهدت بدلًا من ذلك محو تراثها الثقافي. وعلى الرغم من أهمية الموقع التاريخي، إلا أنه لا يزال غير معروف في تنزانيا، بينما تستمر أوروبا في الاستفادة من إرث إفريقيا. وكانت الجهود المبذولة للحصول على اعتراف رسمي بموقع “تنداجورو” كموقع للتراث العالمي لليونسكو متلكئة، ولم يتم بعدُ معالجة الظلم التاريخي المرتبط بالنهب والسلب.
إن قصة “تنداجورو” هي تذكير صارخ بكيفية استمرار التاريخ الاستعماري في تشكيل الحاضر الثقافي المزيف، حيث تكافح جنوب تنزانيا مع استرداد الآثار المتبقية للاستغلال الاستعماري. وإن إعادة الحفريات وضمان استفادة تنزانيا من قيمتها من شأنه أن يساعد في محو هذا الإرث الطويل من السلب والسرقة التاريخية.
الطريق إلى الأمام:
إننا في حاجة ماسَّة إلى نَهْج مُتعدّد الجوانب لمعالجة التأثيرات المتواصلة للاستعمار في جنوب تنزانيا.
أولًا: لا بد أن تعطي الأُطُر الجديدة الأولوية لمشاركة المجتمع المحلي في إدارة الموارد الطبيعية لضمان الفوائد العادلة، والحدّ من الصراعات المتعلقة بالموارد. وهناك حاجة ماسَّة إلى الاستثمارات في البنية الأساسية العامة، بما في ذلك الطرق والرعاية الصحية والتعليم، لمعالجة التهميش الاجتماعي والاقتصادي في المنطقة وتعرُّضها للتطرف.
كما أن استعادة التراث الثقافي أمر بالغ الأهمية؛ فقد أدت سياسات الحقبة الاستعمارية إلى عزلة المجتمعات عن أراضيها ورموزها التاريخية، مما أدى إلى صدام الحضارات. وينبغي أن تركز الجهود على استعادة حفريات “تنداجورو” التي نهبها المستعمرون الألمان، وضمان استفادة تنزانيا من قيمتها الثقافية والعلمية. وسوف تكون هذه خطوة أولى نحو القضاء على الاستغلال طويل الأمد للمنطقة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
رابط التقرير: