تمهيد:
لقد كان تعدين الذهب دائمًا جزءًا لا يتجزأ من اقتصاد دولة “غانا”، وعلامة على هويتها الوطنية، منذ ملوك الأشانتي إلى الاستعمار البريطاني، ولذا كانت تسمى سابقًا “ساحل الذهب”، واستمر ذلك حتى أصبحت “غانا” سادس أكبر مُصدِّر للذهب في العالم.
إلا أن حُمَّى التعدين غير القانوني في الذهب، أو ما يُعرَف محليًّا بـ”الجالامسي” أصبحت خارج السيطرة، وظهر لذلك آثار كارثية على النواحي الصحية والاجتماعية. بالإضافة إلى أن الذي يسيطر على هذا القطاع مجموعة من الزعماء الجدد، يُطلَق عليهم مجازًا اسم “ملوك الجالامسي”.
وعلى الرغم من الجهود المُعلَنة مِن قِبَل الحكومة لمكافحة ظاهرة التعدين غير القانوني للذهب؛ إلا أن الوضع ما يزال متفاقمًا، مما أدَّى إلى اندلاع احتجاجات مناهضة لهذه الظاهرة ومندِّدة بتداعياتها.
ومن هنا نحاول، من خلال هذه المقالة، تناول قطاع تعدين الذهب في غانا من ناحية الإنتاج والتصدير، وأسباب تفشّي الظاهرة الجديدة، وآثارها، وجهود الحكومة لمكافحتها، وذلك من خلال المحاور التالية:
- المحور الأول: قطاع الذهب في غانا: الإنتاج والصادرات والتعدين غير القانوني.
- المحور الثاني: الآثار السلبية للتعدين غير القانوني في الذهب.
- المحور الثالث: جهود الحكومة للحدّ من التعدين غير القانوني في الذهب.
- خاتمة.
المحور الأول:
قطاع الذهب في غانا: الإنتاج والصادرات والتعدين غير القانوني
قديمًا قال أحد المؤرخين: “بسبب وفرة الذهب في غانا، وتوارُث الملوك إيَّاه، فإن ملك غانا، ومن أجل تحقيق التوازن في السوق، كان يتدخل في شأن التجارة ومصادرة القطع الذهبية الكبيرة، تاركًا التِّبر الدقيق، ولولا ذلك؛ لكثر الذهب بأيدي الناس حتى يهون”.([1])
وفي هذا العصر أصبحت “غانا” أكبر مُنتِج للذهب في إفريقيا، وسادس أكبر مُصدِّر للذهب في العالم، ورغم ذلك تعاني الدولة من تفشي الفقر والبطالة؛ بسبب تردي الوضع الاقتصاد، حتى دُفِنَ تاريخ ملوك الأشانتي، وكَثُر ملوك “الجالامسي”.
أولًا: إنتاج الذهب وصادراته
بلغ إنتاج الذهب في غانا 90 مليون كجم في ديسمبر 2023م، مُسجِّلًا زيادة عن عام 2022م البالغ 88 مليون كجم. وبلغ متوسط الإنتاج منه سنويًّا 72.375 مليون كجم للفترة ما بين 1990 و2023م. وبلغت البيانات أعلى مستوى لها عند 148.336 مليون كجم في عام 2018م، وأدنى مستوى قياسي عند 16.800 مليون كجم في عام 1990م([2])؛ كما يتضح من الشكل التالي:
شكل (1) إنتاج الذهب في غانا بالمليون كيلو جرام خلال الفترة 2012-2023م
Source: https://www.ceicdata.com/en/indicator/ghana/gold-production
وقد ارتفعت صادرات الذهب إلى مستوى قياسي في النصف الأول من عام 2024م. من إجمالي الصادرات البالغة 9.2 مليار دولار للنصف الأول من عام 2024م، وقد شكَّل الذهب وحده 54٪ من إجمالي الصادرات التي بلغت 5 مليارات دولار. نتيجة لارتفاع أسعار الذهب خاصةً في الربع الثاني من عام 2024م، وزيادة الإنتاج من العمليات الصغيرة والكبيرة.
وقد بلغ متوسط سعر الذهب مستوى قياسيًّا بلغ 2338 دولارًا للأوقية في الربع الثاني، بزيادة 18٪ على أساس سنوي، و13٪ أعلى على أساس ربع سنوي. وبلغ متوسط سعر الذهب لشهر يوليو حوالي 2396 دولارًا للأوقية. وسجَّل رقمًا قياسيًّا جديدًا بلغ 2482 دولارًا للأوقية في 17 يوليو 2024م. ووفقًا للتوقعات إذا ظل سعر الذهب حول المتوسط لشهر يوليو أو الربع الثاني؛ فإن توقعات العام الكامل للذهب تصل إلى 10 مليارات دولار أو أكثر. وقد بلغت الصادرات من التعدين على نطاق صغير للنصف الأول من عام 2024م حوالي 1.7 مليار دولار، وتمثل حوالي 36٪ من الذهب المصدر. ومن المتوقع على خلفية السعر القياسي، أن تتجاوز الصادرات من التعدين على نطاق صغير 3 مليارات دولار بحلول نهاية عام 2024م([3])، ويُوضِّح الشكل التالي (2) تطوُّر صادرات الذهب في غانا.
شكل (2) قيمة صادرات الذهب من غانا من 2015 إلى 2023م
https://www.statista.com/statistics/1172220/value-of-gold-exports-from-ghana/
ثانيًا: التعدين غير القانوني للذهب “الجالامسي”
التعدين غير القانوني، هو ممارسة بدأت قبل الاستقلال عندما كانت المستعمرة البريطانية السابقة تسمى الساحل الذهبي. ويُعرف باسم “Galamsey”، وهو اختصار لعبارة “اجْمَعْهم وبِعْهم”، في إشارة إلى الطريقة التي يجمع بها الحرفيون الرواسب المنتشرة بسبب نشاط شركات التعدين. وقد انتشرت الممارسة بعد أن قام قانون عام 1989م بإضفاء الطابع الرسمي على التعدين الحِرَفِيّ. ومع ارتفاع معدلات البطالة؛ شكَّل التعدين غير القانوني أكثر من ثلث الإنتاج السنوي للذهب؛ حيث يُمارَس في 14 منطقة من أصل 16 في الدولة، مما يُكلِّف ما يُقدَّر بنحو 2 مليار دولار سنويًّا من عائدات الضرائب المفقودة.([4])
في عام 2023م، تم إنتاج 4 ملايين أوقية من التعدين غير القانوني، مساهمًا بنحو 7٪ من الناتج المحلي الإجمالي، و40% من الذهب المنتج في الدولة. حتى أصبح هذا التعدين الحرفي أو غير القانوني أو على نطاق صغير هو الأكثر شعبية. على الرغم من أنه مُعتَرَف به بموجب القانون كمصدر رزق مشروع، إلا أن الأدلة تشير إلى أن أكثر من 85٪ من عمليات التعدين على نطاق صغير لا تزال تحدث في القطاع غير الرسمي وغير القانوني، وأصبح مصدرًا مهمًّا للإيرادات والدخل للفقراء.([5])
وأطلقت غانا، أول مصفاة لها في أغسطس2024م؛ حيث كانت تنقل الشركات الأجنبية الذهب الخام إلى المصافي خارج غانا. بينما تعتمد الحكومة على الأرباح والضرائب من الشركات الكبرى، ويوجد أكثر من مليون عامل منجم صغير في غانا يدعمون سبل عيش أكثر من 4.5 مليون شخص، وهو مُخصَّص فقط للغانيين الحاصلين على تصاريح.([6])
ولكن وفقًا لدراسة أجراها بنك غانا؛ فإن أقل من 1.7% من عائداته فقط تعود إلى الحكومة. وهذا يعني أن (98.3%) تديرها كيانات خارجيةـ أو ما بين 5.2 مليار دولار من الذهب المنتج في الفترة من 1990 إلى 2002م، لم تتلقَّ الحكومة سوى 87.3 مليون دولار في هيئة ضرائب دخل الشركات ومدفوعات الإتاوات.([7])
يتم تهريب معظم الذهب المستخرج بشكل غير قانوني من خلال شبكات سرية إلى الخارج. خسرت غانا نحو 1.1 مليار دولار من عائدات صادرات الذهب من عام 2019م إلى عام 2021م. ويتم تهريبه لصالح جهات فاعلة رفيعة المستوى. مما يؤكد أن المصالح السياسية والفساد هما المفتاحان لاستدامة تلك الممارسة.
هذا، ويساعد الأجانب من الدول المجاورة والخارج في تفاقم الوضع؛ حيث تم القبض على العديد من الصينيين بتهمة إدارة عمليات تعدين غير قانونية. تتعلق إحدى القضايا البارزة الأخيرة بعائشة هوانغ، وهي امرأة صينية تُعرَف باسم “ملكة جالامسي”؛ حيث حُكِمَ عليها بالسجن لمدة أربع سنوات ونصف وغرامة قدرها 4000 دولار عام 2023م. وكانت تعمل في هذا المجال منذ عام 2017م، وتم ترحيلها عدة مرات، ثم تعود لتشغيل مناجم غير قانونية، بسبب مدة السجن التي تُطبَّق عليها أقل من الحد الأدنى البالغ 20 عامًا لغير الغانيين، قد يكون هذا لأن غانا تريد البقاء على علاقة جيدة مع الصين؛ لكونها أكبر مستثمر أجنبي لديها.([8])
لقد دفعت البطالة العديد من عمال المناجم في بعض المناطق الشمالية إلى التعاون والتعلم من عمال المناجم الأكثر خبرة من البلدان المجاورة، حتى باتت الحدود مناطق لنشوب نزاعات واشتباكات متعلقة بذلك، ولكن سرعان ما أصبحت مجتمعات متعددة الجنسيات مزدهرة ومتماسكة نسبيًّا، تضم عائلات عمال المناجم ورجال الأعمال من غانا وساحل العاج وبوركينا فاسو ونيجيريا والنيجر وتوغو. وأصبحت الحدود كذلك شبكة عبور لتهريب البضائع والاستغلال والفساد.([9])
وأصبحت الحكومة مؤخرًا أكثر اهتمامًا بالمجتمعات في شمال غانا؛ بسبب رواسب الذهب الضخمة في المنطقة، فمنذ العام 2019م، كانت تُنفّذ برامج تعدين اجتماعية؛ لمنع العمليات غير القانونية، وتحسين ظروف العمل؛ إلا أن طرح البرنامج كان بطيئًا، وعملية الحصول على ترخيص طويلة وشاقة.([10])
كما ركزت الحكومة لسنوات طويلة على التعدين على نطاق واسع، وتم إهمال التعدين على نطاق صغير حتى عام 1989م، حتى تم تمرير قانون جديد لتقنين وتنظيم القطاع. وعلى الرغم من ذلك، لا يزال العديد من عمال المناجم غير مرخصين وغير مسجلين رسميًّا.
وعلى مدى العقد الماضي، دخل عدد كبير من المستثمرين وعمال المناجم الصينيين سوق الذهب في غانا، واغتنم عمال المناجم الحرفيون الفرصة بسرعة، ودخلوا في شراكات غير رسمية مع المستثمرين الصينيين، وكان من الصعب السيطرة على التعدين غير القانوني، على الرغم من سَنّ أكثر من 30 قانونًا؛ إلا أن ناك فجوة بين واقع عمال المناجم غير القانونيين على نطاق صغير والنظام القانوني. وهناك ثلاثة أسباب تكمن وراء هذا الانفصال: ([11])
- المناجم مؤقتة، والحصول على ترخيص للتعدين يستغرق وقتًا طويلًا.
- من الصعب على الناس الامتثال للقواعد التي لا تتكيَّف مع ظروفهم.
- عدم تمكّن الحكومات المتعاقبة من فرض القانون؛ حيث إن الفساد يُشكِّل عقبة رئيسية.
وبعد فوز الرئيس الغاني “أكوفو أدو” في ولايته الأولى، قال: إنه مستعدّ لإنهاء “الجالامسي”. وبينما يستعد للخروج من منصبه، يقول كثيرون: إن حكومته فشلت في ذلك؛ لأنها تخشى خسارة الأصوات في الانتخابات المقبلة، بل وتم إصدار أكثر من 2000 ترخيص للتعدين الحِرَفِيّ بين عامي 2017 و2021م، وهو ما يعادل 95٪ من جميع التراخيص التي تم منحها بين عام 1989م وحتى ذلك الحين. وقد تم ربط بعض التراخيص بأعضاء الحزب الحاكم. مع اتهامات بأن أموال الجلامسي تُستخدَم لتمويل الانتخابات. واتهام الإداريين المحليين بالتورُّط. بينما طردت الحكومة السابقة 45 ألف مواطن صيني في عام 2013م.([12])
المحور الثاني:
الآثار السلبية للتعدين غير القانوني في الذهب
إن عمليات التعدين غير القانونية صغيرة الحجم تُسبِّب دمارًا للبيئة والزراعة وإنتاج الكاكاو وإمدادات مياه الشرب. وأغلب أنهار غانا أصبحت مُوحلة بسبب التربة التي جرَفتها المياه من الذهب، وكان الزئبق والمنظفات المُستخدَمة في عملية الغسيل هي المُحرّك الرئيسي للتدهور السريع للأراضي وإزالة الغابات والمخاطر الصحية. ويمكن أن يُؤدّي إلى تدمير مجموعات نباتية بأكملها وتقزم نموّ المحاصيل، بما في ذلك الكاكاو، الذي تُعدّ الدولة ثاني أكبر مُنتِج له في العالم وسلعة التصدير الرئيسية، ولكن بسبب الجالامسي يتم تدمير مزارع الكاكاو لإفساح المجال لمواقع تعدين الذهب غير القانونية.
أولًا: تأثير التعدين غير القانوني للذهب على الصحة والبيئة
في عام 2014م، كانت غانا واحدة من 18 دولة وقَّعت على اتفاقية “ميناماتا” بشأن الزئبق، بهدف تقليل تعرُّض السكان له، ومع ذلك، يستمر استخدامه في تعدين الجالامسي.([13])
هذا، ويدمر التعدين غير القانوني البيئة، ويسبّب إزالة الغابات، ويلوّث الماء والهواء والتربة؛ بسبب إطلاق المواد الكيميائية السامة. وتشير البيانات إلى أن المواد الكيميائية مثل الزئبق والسيانيد تُلوّث الماء والهواء والتربة من خلال العمليات الطبيعية والأنشطة الصناعية، وبالتالي تُشكّل تهديدًا مميتًا محتملًا للبشر. كما أن تلوث المسطحات المائية يُعرِّض صحة المجتمع للخطر. وغالبًا ما تكون العديد من مصادر المياه ملوثة بمسببات الأمراض البكتيرية مثل التيفوئيد. وبالمثل، تسبّب تلوث المعادن الثقيلة في بعض مصادر المياه في إغلاق محطات معالجة المياه، لدرجة أنه من الممكن أن يصبح المجتمع فجأة بدون مصدر مُحسِّن للمياه الآمنة.
وتشير البيانات الواردة في تقرير تقييم الوضع الصحي السريع في غانا لعام 2020م إلى ارتفاع معدل انتشار التيفوئيد، من بين أمراض أخرى، في مجتمعات التعدين. كما أظهرت التقارير أيضًا أن بعض المجتمعات لا يمكنها الوصول إلا إلى المياه الملوثة، وقد تسبّب هذا في زيادة حالات الإصابة بالعدوى الجلدية والأمراض المنقولة بالمياه. وفي منطقة شاما، الواقعة في المنطقة الغربية من غانا، وتتكون من ستة مجتمعات؛ حيث توجد زيادة في التعدين غير القانوني، زادت حالات الإسهال من 5000 إلى 10000 في غضون ثلاث سنوات.([14])
وفي عام 2024م، حذرت هيئة تنظيم المياه من أن البلاد قد تحتاج إلى استيراد المياه بحلول عام 2030م([15])، وقد انخفضت قدرة شركة مياه غانا على توفير المياه النظيفة لبعض أجزاء البلاد بنسبة 75٪.
كما ربط أحد اتحادات المعلمين بين الجلامسي وارتفاع تغيُّب التلاميذ؛ حيث يترك الأطفال المدرسة إما للتعدين أو بيع الطعام في مواقعه؛ حيث لا يذهب واحد من كل خمسة أطفال إلى التعليم بالفعل، حتى أولئك الذين يذهبون إلى المدرسة مُعرَّضون للخطر بسبب الحفر. كما يُواصل المُنَقِّبُون والعاملون في المجال التوافد من الخارج بحثًا عن الثروة، حتى أنشأ الصينيون “حيًّا صينيًّا” في غانا.([16])
وعلى الرغم من أن التقارير الإخبارية عن حوادث الجالامسي، والتي غالبًا ما تكون الوفيات فيها في سن المراهقة، كانت متكررة طوال العام الماضي، إلا أن عدد القتلى الحقيقي لا يزال غير معروف. في عام 2010م، أدى حادث تعدين بالقرب من دونكوا إلى مقتل ما يُقدَّر بنحو 150 عامل منجم. ولا يتم تسجيل معظم الوفيات رسميًّا لأن أفراد الأسرة يشعرون بالخجل أو القلق بشأن الملاحقة القضائية.([17])
ثانيًا: آثار التعدين غير القانوني في الذهب على المحاصيل والغابات
زُرِعَ الكاكاو لأول مرة في غانا في سبعينيات القرن التاسع عشر، وأصبحت ساحل الذهب أكبر مصدر لحبوب صنع الشوكولاتة للقرن التالي، حتى تم رسمه على عملة الدولة. وبعد عقدين من وصول الكاكاو، تم تأسيس منجم الذهب القانوني في “أوبواسي”. وبفضل التنظيم الدقيق، حوّلت العملية الصناعية الكبيرة قرية “أشانتي” الصغيرة إلى مدينة عالمية بها ملاعب تنس ونوادي جولف. ولعقود من الزمان، عمل عمال المناجم تحت الأرض في المجمع المترامي الأطراف. واليوم، لم يعد المنجم يُنْتِج الذهب، وسرعان ما ملأ عمال الجلامسي الفراغ، وأزالوا مزارع الكاكاو بحثًا عن الذهب.
وتُعدّ غانا ثاني أكبر مُصدِّر للكاكاو في العالم؛ حيث تُسهم بنحو 20% من إمدادات العالم. في عام 2011م، أنتجت غانا كمية قياسية من الكاكاو، تجاوزت المليون طن، ومع تزايد التعدين غير القانوني، انخفض الإنتاج منه إلى 740 ألف طن عام 2015م. ([18])
وكذلك تلقت عائدات صادرات الكاكاو في غانا ضربة مدمرة؛ حيث انخفضت بنحو 700 مليون دولار في النصف الأول من عام 2024م. وقد أدَّى التأثير المستمر للتعدين غير القانوني والتهريب وأمراض المحاصيل إلى شَلّ إنتاج الكاكاو، مما وضَع ضغوطًا هائلة على القطاع الذي كان لفترة طويلة العمود الفقري لاقتصاد البلاد. ووفقًا لأحدث ملخص للبيانات الاقتصادية الكلية والمالية لبنك غانا لشهر يوليو 2024م، انخفضت عائدات تصدير الكاكاو بشكلٍ حادّ من 1.45 مليار دولار في النصف الأول من عام 2023م إلى 760 مليون دولار فقط في نفس الفترة من هذا العام، ممّا يُمثِّل انخفاضًا مذهلًا بنسبة 47.7٪. وكانت عائدات تصدير الكاكاو قد انخفضت في فترة ما بعد الوباء؛ حيث كشفت التدفقات نصف السنوية عن انخفاض كبير بنسبة 134٪. وقد أدَّى هذا الانحدار إلى خسائر تجاوزت مليار دولار منذ عام 2021م، مما يُسلِّط الضوء على التحديات الشديدة التي تُواجه صناعة الكاكاو في غانا. وكان من المتوقع أن يبلغ حصاد الكاكاو في غانا في موسم 2023-2024م رقمًا كبيرًا، لكنه انتهى هذا الشهر، من 650 ألف طن إلى 700 ألف طن، مقابل توقعات أولية كانت تُقدَّر بـ850 ألف طن؛ وذلك لأسباب عدة من بينها التعدين غير القانوني. ([19]) والشكل التالي يُبيِّن تطوُّر عائدات تصير الكاكاو.
شكل (3) عائدات صادرات الكاكاو بالمليار دولار خلال الفترة 2021-2024م
Isaac Kofi Agyei, Ghana’s cocoa crisis deepens, 2024 half-year revenues crash by nearly $700 million, 12 September 2024.at: https://www.myjoyonline.com/ghanas-cocoa-crisis-deepens-2024-half-year-revenues-crash-by-nearly-700-million/
ونقلت صحيفة “الجارديان” أن ما يُقدَّر بنحو 4726 هكتارًا من الأراضي -أي أكثر من مساحة مدن أوروبية مثل أثينا وبروكسل-، دُمِّرت في سبع من مناطق البلاد الستة عشر، وكذا دُمِّرت 34 محمية طبيعية من بين 288 محمية غابات. وقد أدَّى التعدين إلى قطع الأشجار، وإزالة مساحات شاسعة من نباتات الغابات. ثم يتم استخدام الحفارات لحفر التربة السطحية والجوفية. ثم يتم ترسيب التربة في مصانع غسل الذهب المتمركزة في الأنهار، ويتم ضخ المياه لغسل التربة والأحجار المكسرة. خلال عملية الغسيل، يتم استخدام مواد كيميائية مختلفة، بما في ذلك الزئبق والسيانيد، للمساعدة في استخراج الذهب من التربة، مما يؤدي إلى تلويث الأنهار الكبيرة والصغيرة. والزئبق يمكن أن يؤثر على سلسلة الغذاء بأكملها؛ حيث يتراكم في الأسماك، ويمكن أن يدخل المحاصيل المروية بالمياه. كما قال مجلس الكاكاو الغاني في عام 2021م: “إن أكثر من 19 ألف هكتار من الأراضي الزراعية دُمِّرت في مناطق زراعة الكاكاو الرئيسية مثل المناطق الغربية وأشانتي. كما غذَّت حمى الذهب حقيقة ارتفاع السعر العالمي للمعدن النفيس إلى مستويات جديدة، ومن المتوقع أن يستمر في الارتفاع.([20])
المحور الثالث:
جهود الحكومة للحدّ من التعدين غير القانوني في الذهب
لقد كافحت حكومة غانا من أجل تحقيق التوازن بين الميزة الاقتصادية التي يُوفّرها التعدين على نطاق صغير وحماية البيئة والسلامة. وقد سَنّ قانون تعدين الذهب على نطاق صغير لعام 1989م نظامًا للحصول على تراخيص التعدين. وكان العمال الأوائل من عمال المناجم الحرفيين عبارة عن مجموعات تتألف من تسعة عمال مناجم أو أقل يعملون يدويًّا لحفر الذهب واستخراجه وغسله.
وفي عام 2006م، نص قانون مُحدَّث على أن المواطنين الغانيين فقط هم من يمكنهم الحصول على تراخيص التعدين. وعلى الرغم من أن بعض عمليات التعدين على نطاق صغير لديها تصاريح قانونية، فإن العديد منها لا تمتلك تصاريح، ويشارك العديد منها في أنشطة غير قانونية، مثل توظيف الأجانب أو أطقم العمل المكونة من مئات الأشخاص، أو استخدام الزئبق، أو استخدام الآلات الثقيلة. وبالتالي أصبح مصطلح عمال المناجم مرادفًا للإجرام بالنسبة للعديد من الناس في البلاد.([21])
وقد كثَّفت الحكومة الغانية جهودها لمعالجة التعدين غير القانوني، وشملت المبادرات تعزيز الرقابة التنظيمية، ونَشْر المزيد من قوات الأمن، والاستفادة من التكنولوجيا المتقدمة لمراقبة عمليات التعدين.
وتهدف هذه التدابير إلى الحد من الأنشطة غير القانونية، والحد من الأضرار البيئية التي تُسبّبها. لكن على الرغم من هذه الجهود، لا يزال التعدين غير القانوني يُشكِّل تحديًا كبيرًا. ويتم استغلاله تلك الممارسة مِن قِبَل جماعات الجريمة المنظمة. وتضاعف تهريب الذهب أكثر من الضعف، فضلاً عن العواقب الأمنية والبيئية الشديدة حتى أصبحت غانا فعليًّا Gala State([22])؛ حيث يتم تطبيع التعدين غير القانوني، وتعثرت جهود الحكومة لمكافحة الأزمة. ولتفكيك شبكات التعدين غير القانوني؛ يجب إصلاح مؤسسات متعددة، ومعالجة الفساد المتأصل. وفي حين نفّذت الحكومة العديد من الإستراتيجيات لمكافحة هذا النشاط، إلا أن المشكلة لا تزال قائمة، وتُكلِّف البلاد مليارات الدولارات سنويًّا. وسيكون الالتزام طويل الأجل بالإنفاذ والتعاون الدولي والاستثمار في الممارسات المستدامة ضروريًّا لاستعادة الثقة في قطاع الذهب في غانا وضمان تقاسم فوائده من قبل الجميع.([23])
ولمواجهة هذه المشكلات، نفّذت عملية “فانغارد” -وهي قوة مهام مشتركة بين الجيش والشرطة تأسست في عام 2017م- مداهمات منتظمة على مواقع التعدين، وكثيرًا ما اعتقلت عمال المناجم الحرفيين. ومع ذلك، تفشل العديد من التدخلات في استهداف “الرعاة” ذوي الموارد العالية الذين يقفون وراء تلك الممارسات. ويشمل ذلك الشبكات المحلية والأجنبية التي تشتري أدوات التعدين، وتتفاوض على الوصول إلى الأراضي مع الزعماء المحليين، مستغلة حقيقة أن 80٪ من أراضي غانا تخضع للحكم العرفي.
وبينما تطالب الحكومة بمناطق ذات موارد معدنية ضخمة للصالح العام، بعد تعويض الملاك التقليديين، لا تزال هناك أراض شاسعة غير مُطالَب بها مفتوحة للتعدين غير القانوني. ويحدث هذا أحيانًا بموافقة ضمنية من الزعماء العرفيين، الذين يتلقون إتاوات من عمال المناجم. كما يعمل عمال المناجم في المناطق النائية والمتنزهات الوطنية التي لا تستطيع السلطات العرفية والدولة مراقبتها بشكل كافٍ.([24])
وفي يناير من العام 2022م خفَّضت حكومة غانا الضريبة على الذهب من عمال المناجم الحرفيين من 3٪ إلى 1.5٪؛ في محاولةٍ للحدّ من تهريب الذهب. وقد أدَّى هذا إلى زيادة صادرات الذهب القانونية، لكنَّ التهريب لا يزال منتشرًا.([25]) وفي سبتمبر 2024م، قالت الحكومة: إن 76 شخصًا، بينهم 18 أجنبيًّا، أُدينوا بالتعدين غير القانوني منذ أغسطس 2021م، ويجري محاكمة أكثر من 850 آخرين.([26])
وبينما اندلعت الاحتجاجات في “أكرا” لتسليط الضوء على تلك القضية، ردَّ الرئيس الغاني بإصدار أمر بنشر الزوارق البحرية لضمان الوقف الفوري لجميع أنشطة التعدين، في المسطحات المائية وما حولها. لكنّ بعض كبار المسؤولين في الحزب الحاكم استبعدوا أن تكون الحملة صارمة؛ حيث يشارك العديد من أنصارهم في مناطق التعدين تلك، ولا يمكن المخاطر بخسارة أصواتهم في الانتخابات العامة.
وقد تأكدت شعبية “الجالامسي” من خلال استطلاع أجرته منظمة “ووتر إيد” في المجتمعات المتورطة في التعدين غير القانوني؛ حيث رأى أكثر من 75% من المشاركين في الاستطلاع أن هذه الممارسة مصدر مُربح للدخل على الرغم من اعتراف 97% منهم بأنها تَضُرّ بالبيئة. وعلى الرغم من أن 79% أفادوا بوقوع مشكلات صحية لديهم.([27])
وعليه، فإن جهود غانا لإنهاء التعدين غير القانوني للذهب لا بد أن تكون مصحوبة بإصلاحات كبيرة لمعالجة الفساد، وضعف تدابير الإنفاذ والبيروقراطية في عملية الترخيص والإدارة شديدة المركزية. وقد اقترح الأكاديميون عدة حلول([28])؛ من أهمها ما يلي:
- تفويض قرارات التعدين على نطاق صغير إلى الجمعيات البلدية والإقليمية، وهذا من شأنه أن يشمل إصلاح نظام الترخيص؛ بحيث تتوافق تكلفة إضفاء الطابع الرسمي على العمليات مع الحقائق الاجتماعية والاقتصادية المعقدة التي يعيشها أغلب عمال المناجم.
- إن سياسات التجريم لا تنجح، ويتعين على السياسات أن تُعالج الأسباب التي تدفع الناس إلى الانخراط في هذا السلوك غير القانوني.
- وقد تكمن الحلول المحتملة في أيدي السلطات التقليدية؛ فالأراضي في غانا مملوكة تقليديًّا للزعماء التقليديين مثل الزعماء ورؤساء الأُسَر وكبار العائلات. ويتطلب الحصول على الأراضي للتعدين منح الإذن بشكل غير رسمي مقابل رسوم رمزية من المالك التقليدي للأرض.
- إن الزعماء المحليين والعرفيين يجب أن يكونوا أيضًا جهات فاعلة ومساعدة للمؤسسات الحكومية المسؤولة عن الأراضي والموارد الطبيعية في حمايتها من الممارسات الضارة.
خاتمة:
كان تعدين الذهب والبحث عنه ممارسة راسخة منذ قديم الأزل في غانا، غير أن تفشّي الظاهرة منذ حوالي أربعة عقود، من خلال إصدار قوانين تقرّ بقانونية التعدين على نطاق صغير، استغله بعض الرعاة الأجانب، مستغلين حاجة عمال المناجم لبعض معدات الحفر والتنقيب من ناحية، وحاجة المجتمعات المحلية بسبب الفقر والفساد، إلى التورط في الكثير من الممارسات غير القانونية. صحيح زاد إنتاج الدولة من الذهب، غير أن تلك الممارسات غير القانونية قد أضرَّت بالبيئة وصحة الناس، بل وأضرَّت بمحصول التصدير الرئيسي في الدولة، وهو الكاكاو.
وعلى الرغم من قيام الحكومات المتعاقبة بمحاولات لمكافحة تلك المشكلات؛ إلا أن الوضع يظل كما هو عليه الآن؛ وذلك لوجود نفس الأسباب التي أدَّت إلى تفشي تلك الظاهرة من البداية، مما أدَّى إلى اندلاع احتجاجات في شهر أكتوبر الماضي لمناهضة هذه الممارسات الضارة.
في النهاية، على الحكومة تغيير نهجها في التعامل مع التعدين غير القانوني، وتشديد إجراءات مكافحة الفساد، وعدم استغلال القضية سياسيًّا، وإشراك المجتمع المدني، والاستفادة من تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي في تحديد المواقع المخالفة، ومشاركة الزعماء المحليين والحكام العرفيين، وقبل كل ذلك معالجة الأسباب التي تدعو الناس لمخالفة التعدين القانوني، والتي هي في الغالب أسباب تتعلق بالفقر.
………………………………………..
[1]– ابن حوقل، أبو القاسم محمد النَّصيبي، صورة الأرض (بيروت: منشورات دار مكتبة الحياة، 1872) ص874.
[2]– https://www.ceicdata.com/en/indicator/ghana/gold-production
[3] – mlnr.gov, gold export to hit $10 billion by end of 2024. August 4, 2024.at: https://mlnr.gov.gh/index.php/gold-exports-to-hit-us-10billion-by-end-of-2024/
[4]– the guardian, Polluted rivers, uprooted farmland and lost taxes: Ghana counts cost of illegal gold mining boom.at: https://www.theguardian.com/world/2024/nov/25/polluted-rivers-taxes-ghana-illegal-gold-mining-boom
[5]– Godfred Boafo, Ghana is Africa’s largest gold producer, but it has an illegal mining issue: 5 essential reads, September 10, 2024.at: https://theconversation.com/ghana-is-africas-largest-gold-producer-but-it-has-an-illegal-mining-issue-5-essential-reads-238623
[6]– Ndubuisi Christian Ani, Mining and extractives / Illegal mining digs up multiple problems in Ghana, 31 OCT 2024.at: https://enactafrica.org/enact-observer/illegal-mining-digs-up-multiple-problems-in-ghana
[7]– Celina della Croce, 98.3% of Ghana’s Gold Remains in the Hands of Multinational Corporatins. June 2019 .at: https://www.twn.my/twnf/2019/4818.htm
[8]– Ndubuisi Christian Ani, Op.cit.
[9]– Ndubuisi Christian Ani, Op.cit.
[10]– Ibid.
[11]– Godfred Boafo, Ghana is Africa’s largest gold producer, but it has an illegal mining issue: 5 essential reads, September 10, 2024.at: https://theconversation.com/ghana-is-africas-largest-gold-producer-but-it-has-an-illegal-mining-issue-5-essential-reads-238623
[12]– theguardian, Op.cit.
[13]– Marisa Schwartz Taylor and Kevin Taylor, Illegal Gold Mining Boom Threatens Cocoa Farmers (And Your Chocolate). https://www.nationalgeographic.com/science/article/ghana-gold-mining-cocoa-environment
[14]– Venancious Ngmenkom Tuor, Illegal mining in Ghana: The negative impact on WASH, typhoid, and other infectious diseases,17 jan ,2023.at: https://www.coalitionagainsttyphoid.org/illegal-mining-in-ghana-the-negative-impact-on-wash-typhoid-and-other-infectious-diseases/
[15]– Ndubuisi Christian Ani, Op.cit.
[16]– theguardian, Op.cit.
[17]– Marisa Schwartz Taylor and Kevin Taylor, Op.cit.
[18]– Ibid.
[19]– Isaac Kofi Agyei, Ghana’s cocoa crisis deepens, 2024 half-year revenues crash by nearly $700 million, 12 September 2024.at: https://www.myjoyonline.com/ghanas-cocoa-crisis-deepens-2024-half-year-revenues-crash-by-nearly-700-million/
[20]– Mark Wilberforce & Favour Nunoo, ‘We are poisoning ourselves’: Ghana gold rush sparks environmental disaster. 20 October 2024 .at: https://www.bbc.com/news/articles/cn9dn8xq92jo
[21]– Marisa Schwartz Taylor and Kevin Taylor, Op.cit.
[22]– لقد تم وصف غانا بأنها “دولة غالام”، وهي دولة أسيرة ومرتبطة بقوة عليا من الفساد الكبير؛ حيث يتم تطبيع الممارسة بين الناس، ويتم إسكات المعارضين أو تقييد تأثيرهم على مجرد إحداث ضوضاء هامشية وغير مؤثرة.
[23]– gulfafricareview, Ghana Faces $2 Billion Annual Loss Due to Illegal Gold Mining, September 27, 2024.at: https://www.gulfafricareview.com/ghana-faces-2-billion-annual-loss-due-to-illegal-gold-mining/
[24]– Ndubuisi Christian Ani, Op.cit.
[25]– Ibid.
[26]– Mark Wilberforce & Favour Nunoo, Op.cit.
[27]– Ibid.
[28]– Godfred Boafo, Op.cit.