يُعدّ المجتمع السنغالي واحدًا من أكبر المجتمعات الإسلامية من حيث النسبة وكثافة الوجود، بين جميع دول غرب إفريقيا؛ حيث تتجاوز نسبة المسلمين في السنغال الـ93% وفقًا لتقديرات استباقية([1])، كما يُعتبر واحدًا من أسرع المجتمعات الإفريقية في النمو السكاني؛ حيث تزايد عدد السكان من حوالي 4 ملايين في العام 1970م إلى أكثر من 16 مليونًا في العام 2018م، وبلغت نسبة النمو السكاني في ذلك العام 3% بحسب إحصائيات الأمم المتحدة، وذلك أن معدل الخصوبة لدى النساء السنغاليات عالٍ جدًّا؛ حيث يصل إلى 5 ولادات حية لكل امرأة سنغالية([2])، ويتوزع السكان بين المدن والقرى والبوادي والأرياف، وذلك تبعًا للمهن التي يمتهنونها؛ من رعي أو زراعة وصناعة، ويمثل سكان المناطق الحضرية 47.2% من جملة السكان([3]).
ويتركب المجتمع السنغالي من عدة مجموعات سلالية (إثنية)، تساكنت مع بعضها البعض منذ عهود عريقة في القدم، ورغم أن تلك المجموعات تمثّل كل منها جماعة لغوية وثقافية مختلفة عن الأخرى؛ إلّا أن المجتمع السنغالي هو واحد من بين المجتمعات الإفريقية التي تميّزت بالتماسك والوحدة الوطنية؛ حيث لم يشهد نزاعات عرقية تُذكَر منذ قيام دولته الوطنية المستقلة في العام 1960م، بخلاف ما هو عليه الحال في العديد من الدول في محيطه الإفريقي. ويُرجع بعض الباحثين السنغاليين تلك الوحدة الوطنية إلى عوامل منها؛ سهولة المواصلات، والاتصالات، وانتشار الإسلام([4]).
ولم تكن تلك المنطقة التي عاشت فيها الجماعات الإثنية المكوّنة للمجتمع السنغالي، معروفة بهذا الاسم قبل نهاية القرن التاسع عشر الميلادي، بل كان يوجد مكانها مجموعة من الممالك والقبائل، وإنما ظهر التكوين السياسي لدولة السنغال عندما عمل الاستعمار الفرنسي في العام عام 1895م على جَمْع قبائل المنطقة وممالكها في مملكة واحدة هي السنغال([5]) التي اكتسبت اسمها من نهر السنغال الذي ينبع من فوتا جالون (غينيا كوناكري)، ويجري على طول الحدود الشرقية والشمالية ويصب في المحيط الأطلسي.
أهم الجماعات السلالية في السنغال:
يشير مصطلح “جماعة سلالية” أو “جماعة إثنية” (Ethnic Group)، إلى الجماعات ذات صفات أو معايير عرقية واجتماعية تُميزها عن غيرها من المجمعات في محيطها، وبحسب تعريف شارلوت سيمور سميث، فإن مصطلح جماعة سلالية “يشير إلى جماعة من الناس يعزلون أنفسهم عن الجماعات الأخرى التي يتعاملون أو يعيشون معها، عن طريق معيار أو معايير مميزة قد تكون لغوية أو عرقية أو ثقافية”. ويرى سيمور أن هذا “التعبير فضفاض للغاية؛ حيث يُستخدم ليشمل الطبقات الاجتماعية، بالإضافة إلى جماعات الأقليات القومية أو العرقية في المجتمعات الحضرية والصناعية، كما يُستخدَم لوصف التجمعات الثقافية والاجتماعية المختلفة داخل المجتمعات الأصلية. وهكذا يشمل مفهوم الجماعة السلالية معايير اجتماعية وثقافية”([6]).
ولكن شاع استخدام المصطلح بصورة متكررة لوصف المجموعات التي تنتمي إلى أصل عرقي واحد، وتتميز بصفات ثقافية بناء على هذا الانتماء العرقي، مثل اللغة والعادات والتقاليد الموروثة، ولا يمنع ذلك من أن يُداخلها أفراد لا ينحدرون من نفس الأصل، ولكنهم التحقوا بالجماعة بالمصاهرة، أو الحماية والموالاة… إلخ.
وتتقاسم المجتمع السنغالي عدة مجموعات سلالية تمثل السكان الأصليين، بالإضافة إلى أقليات من الجماعات المهاجرة، التي تمثل نحو 6% من مجمل السكان([7])، وتتمثل المجموعات السلالية الأصلية في عدة قبائل وشعوب ترجع أصولها الأولى إلى أصول زنجية أو بربرية أو عربية، وصلت إلى المنطقة عن طريق هجرات متعددة نتيجة للظروف الطبيعية والمناخية، واندمجت في بعضها البعض بالمصاهرة، وبحثًا عن الحماية القبلية في بعض الأحيان([8]).
ومن أبرز تلك الجماعات السلالية:
1- جماعة “ولوف” (OULOF):
وهم سكان الساحل، وموطنهم الأصلي الشمال الغربي والغرب والوسط الغربي من البلاد، ويوجدون بكثرة في المناطق الحضرية، ويعتبرون المجموعة السكانية الأكبر في السنغال على الإطلاق؛ إذ يقدر بعض الباحثين نسبتهم بأكثر من 40% من مجموع سكان السنغال([9])، كما تعتبر لغتهم، المكتوبة بالحرف العربي، هي اللغة الأوسع انتشارًا في السنغال وتتفوق حتى على الفرنسية التي هي لغة الحكم والإدارة والتعليم.
ومجتمع الولوف مقسم إلى ثلاث أو أربع طبقات؛ الأحرار (جامبر)، وهم مرتبتان: الأشراف والنبلاء ورجال الدولة، ثم مشايخ الدين والفلاحون وعامة الشعب الذين يُطلق عليهم لدى بعض القبائل اسم (بادولو)، وتعني الفقراء المستضعفين.
ثم طبقة الحرفيين (جيج)، وهؤلاء هم أصحاب المِهَن من الصيادين والنساجين والحدادين ورواة السِّير والمغنين والعازفين.
ثم طبقة (جام)، وهم العبيد، وتضم السبايا والأرقاء، وقديمًا كانت هذه الطبقة قسمين؛ عبيد الملك وهم ركيزة العرش خدم السلطان، ويتميزون بميزات لا يتميز بها عامة الناس من الأحرار، والقسم الثاني العبيد الآخرون([10]).
ومفهوم الطبقة في المجتمع السنغالي لا يقوم على أساس المال والثروة، وإنما على أساس الأدوار الاجتماعية لكل طبقة من الطبقات، الأمر الذي شكَّل سياجًا اجتماعيًّا يصعب تخطيه، بالذات لدى الفئات المحافظة من المجتمع، خاصةً في يتعلق بالزواج والمصاهرة([11]).
ورغم التطور في أفكار السنغاليين وأنماط حياتهم، واضمحلال مفهوم الطبقية بشكله السابق؛ إلا أن الفوارق الاجتماعية ما زالت موجودة، خصوصًا فيما يتعلق بموضوع العبودية وآثارها الاجتماعية.
2- جماعة الماندينغ (Mandinke):
يتكلم الماندينغ لغة الماندي، ويقطن معظم المناطق الجنوبية الشرقية من السنغال، وهم من الشعوب القديمة في غرب إفريقيا، وتعتبر من أكبر الجماعات السلالية التي لها انتشار واسع خارج السنغال، في مالي والنيجر وغينيا وغامبيا؛ حيث تمتد مناطقهم من المحيط الأطلسي حتى النيجر([12]).
وتعني كلمة ماندينغ؛ الذين يتكلمون لغة الماندي، ولهم أسماء كثيرة بين قبائل غرب إفريقيا؛ فالفولاني يسمونهم (مالي)، والعرب يدعونهم (مليل)، أما البربر فيطلقون عليهم اسم (مليت)، وهم عند الهوسا يسمون (وانقارا) ([13]).
ويتفرع الماندينغ إلى عدة فروع من أشهرها السوننكي والبمبارا، وجاخانكي، وتاريخيًّا اشتهر السوننكي أكثر من غيرهم؛ لأنهم كانوا آخر السلالات التي حكمت مملكة غانا القديمة، قبل أن يفتحها المرابطون في النصف الثاني من القرن الخامس الهجري([14]).
3- جماعة الجولا (Diola):
يسكنون جنوبي السنغال الذي يسمى كازمنسي، ويتحدثون لغة الجولا، وهم مجاورون للماندينغ الذين كان لهم الفضل الأكبر في نشر الإسلام وسطهم([15]).
4- جماعة تكلور بول (Paul):
وهم من قبائل الفولان أو الفلاتة، التي تُعتبر من أكبر الشعوب في بلاد السودان الغربي، وتنتشر خارج السنغال، في منطقة واسعة تمتدّ من ساحل المحيط الأطلسي إلى بحيرة تشاد وحتى الكاميرون. ويتحدث الفُلان لغة تعرف بـ (الفولا) كانت تكتب بالحرف العربي، وقد اختلف المؤرخون في أصلهم، بين كونهم يرجعون إلى أصول عربية، وكونهم يرجعون إلى الفرس الذين نزحوا من آسيا إلى إفريقيا، وهناك من يرى أن أصولهم إثيوبية، بل هناك من يرى أنهم برزوا نتيجة للاختلاط بين العرب والزنوج والبربر([16]).
وقبيلتا بول وتكلور في السنغال، هم من رعاة الأبقار، ويسكنون حول ضفاف نهر السنغال، ولكنهم لا يتمركزون بأعداد كبيرة في منطقة معينة، شأنهم شأن القبائل الرعوية، وبعضهم امتهنوا الزراعة، وتأثروا بالنظام الاجتماع للولوف، ولذلك ينقسمون إلى ثلاث طبقات؛ الأشراف وأهل العلم، الفلاحون وأهل الحرف والمِهَن([17]).
5- جماعة السرير (SERERE):
تتمركز السرير بشكل كبير في الساحل الغربي والجنوب والوسط الغربي، وهم من الزُّرَّاع، وأبناؤها موزعون بين الإسلام والنصرانية والديانات الوثنية.
دخول الإسلام غرب إفريقيا وانتشاره في السنغال:
مهَّدت فتوحات القائد عقبة بن نافع الفهري في القرن الأول الهجري التي وصلت إلى تخوم الصحراء، الطريق إلى انتشار الإسلام في السودان الغربي، وأحدث تحوُّل قبيلة صنهاجة البربرية إلى الإسلام، بخاصة في القرن الثالث الهجري، أثرًا بالغًا في تاريخ المغرب والسودان الغربي؛ حيث نتج عن ذلك قيام حلف قوي من قبائل الملثمين من لمتونة وزناتة ومصمودة، واتَّجه هذا الحلف، إلى الجنوب بقصد الجهاد ونشر الإسلام بين القبائل الزنجية، وفي ذلك الوقت كانت مملكة غانة تمر بمرحلة الضعف بسبب الإغارات المتكررة عليها من الجنوب، فتوسع المسلمون جنوبًا، واستولوا على مدينة أودغشت التي كانت مركزًا تجاريًّا مهمًّا، ورغم أن غانة تمكنت بعد ذلك من استعادتها عقب تفكك حلف الملثمين في بدايات القرن الرابع الهجري، إلا أن الاحتكاك المتكرر سهَّل انتشار الإسلام بين الزنوج، من خلال حركة التجار المسلمين الذين كانوا يَفِدون إلى أودغشت، وينطلقون منها إلى بلاد السودان المختلفة خاصة تجار الملح([18]).
ومن ذلك الحراك المبكر، وصل الإسلام إلى الأراضي التي تقع داخل دولة السنغال اليوم، وكانت مملكة صنغي أو (صنغانا) التي امتدت على ضفتي نهر السنغال شاهدًا على عراقة الإسلام في هذه المنطقة؛ “حيث أورد البكري وصفًا لصنغانة المملكة التي سكنها الزنوج السودانيون، وأشار إلى أن ملكهم (وارجابي) اعتنق الإسلام وأقر بالشريعة الإسلامية في بلاده، وجعل الإسلام الدين الرسمي لدولته وشعبه”([19]).
ويعتبر شعب التكرور أول من اعتنق الإسلام في منطقة الساحل الإفريقي، بل هو الذي ساعد دولة المرابطين على إسقاط مملكة غانة الوثنية ودخول عاصمتها (كمبي صالح) عام 469هـ، وقَبِلَ ملك غانة تنكامنين الدخول في الإسلام والخضوع لسلطان المرابطين، وبإسلام الملك الإسلام، دخل الكثير من رعاياه الإسلام.
وبعد وفاة إمام المرابطين (أبو بكر بن عمر اللمتوني) عام 480هـ استطاع سكان غانة من السوننكي الاستقلال عن حكم المرابطين، وأعلنوا ارتباطهم بالدولة العباسية مباشرةً، وأصبحوا مسلمين شديدي الحماسة لنشر الإسلام، حتى أصبحت كلمة (سوننكي) مرادفة للداعية لدى كثير من قبائل الماندينغ، وكثرت المساجد وعمّ تعليم قواعد الدين واللغة العربية، وألحق بكل مسجد مدرسة، وأصبحت اللغة العربية لغة العبادة الثقافة والتجارة([20]).
ورغم تلك الجهود ظل الإسلام منحصرًا في رقعة محدودة من أرض غانة، وفي سكان المدن، إلى أن برزت للوجود إمبراطورية مالي (639 – 894هـ) التي كانت أعظم ممالك السودان الغربي وامتدت من بلاد البرنو في الشرق حتى المحيط الأطلسي في الغرب، ومن جبال أطلس في الشمال حتى نطاق الغابات في الجنوب([21])، واعتنى ملوك مالي بنشر الإسلام وترسيخ تعاليمه، خاصةً الملك (منسا موسى) صاحب رحلة الحج الشهيرة التي نثر فيها الذهب على الفقراء في طريقه.. هذا بجانب إسهام الهجرات البشرية في نشر الإسلام في أراضي السودان الغربي ومن بينها السنغال، ونشير هنا إلى الحملة التي قام بها أحد قواد الملك (سون جاتا كيتا) مُؤسِّس مملكة مالي، وهو القائد (تيراما خان تراوري)، الذي حمل جنوده معهم الإسلام ونشروه في جلوف وغامبيا وجنوبي السنغال، هذا بالإضافة إلى جهود التجار المانديكيين المعروفين بـ (جولا) ([22]) الذين نشروا الإسلام في منطقة الغابات الوعرة.
ويُعتقد أن (وارانجاي) هو أول أمير سنغالي يعتنق الإسلام، وأن ابنه (لابي) الذي اعتلى العرش من بعده، كانت له اليد الطولى في انتصار المرابطين على خصومهم من قبيلة جدالة البربرية، وباستثناء بعض المناطق في شرق البلاد وجنوبها، فإن سكان أغلب مناطق السنغال يدينون أهل منطقة فوتا بإسلامهم([23]).
وتعتبر منطقة فوتا تورو، التي تقع على ضفاف نهر السنغال، أول منطقة تمكن فيها الإسلام في بداية القرن العاشر الميلادي (الرابع الهجري)، وقامت فيها أول حكومة إسلامية تطبق شريعة الله تعالى، وهي التي عُرفت بنظام الإمامة، الذي نشأ على إثر حركة (سليمان بال) و(عبد القادر كان) الإصلاحية([24]).
ولكن الانتشار الواسع للإسلام لم يحدث إلا في القرن التاسع عشر الميلادي، مع دخول الطرق الصوفية إلى البلاد، مثل الطريقة التجانية والقادرية والمريدية.
تأثير الإسلام في الجماعات السلالية بالسنغال:
في سنغال اليوم تتجاوز نسبة السكان المسلمين الـ93%، بينما تتقاسم المسيحية والديانات الإفريقية التقليدية نسبة 7%، ويتفاعل الإسلام مع الثقافة المحلية والتقاليد لدى كل مجموعة سلالية بشكل مختلف؛ من حيث العمق ودرجة الاستجابة، التي تتأثر بقدم أو حداثة دخول الإسلام للجماعة، والطائفة الإسلامية التي ينتشر الانتماء إليها وسط الجماعة السلالية.
فجماعة الولوف مثلًا التي تمثل أكبر المجموعات السلالية، وتاريخ انتشار الإسلام وسطها قديم، ولكنه لم يعم جميع فئاتها إلّا في منتصف القرن التاسع عشر الميلادي، على يد الطرق الصوفية؛ حيث ينتمي غالبية الولوف اليوم إلى الطريقتين (التجانية) و(المريدية)، وتوجد قلة أتباع الطريقة (القادرية). وكذلك الحال بالنسبة لجماعة السرير، التي لم ينتشر وسطها الإسلام إلّا منذ فترة قريبة نسبيًّا. أما جماعة البول والتكلور فيتبعون الطريقة التجانية مثل سائر قبائل الفولان في غرب إفريقيا.. بينما تتبع غالبية جماعة الماندينغ وجماعة الجولا الطريقة القادرية، وإن كانت الطريقة التجانية قد بدأت تشق طريقها إليها في الآونة الأخيرة.
وقد وجدت النصرانية، بأعداد قليلة في جماعتي الجولا والسرير، كما أنه لا يزال أتباع العقائد الإفريقية الوثنية، والأرواحية موجودين ولهم كهنتهم ويزاولون طقوسهم.
لقد جاء الإسلام ووجد معظم هذه المجموعات السلالية تدين بالمعتقدات الإفريقية، وخاصة الأرواحية Animism، التي تقوم على عبادة أرواح الأسلاف وتعتبرهم وسطاء بين الأحياء والآلهة، ويعتقدون أن الموت ليس سببًا لقطع الصلات بين الأحياء والأموات، بل هو غفوة واسترخاء، والحياة لا تتوقف بمفارقة الروح الجسد، بل هي استمرار سرمدي للفاعلية والحيوية. وكان (البامبارا) يقدمون القرابين لجثة الميت عندما تُحمَل لمقرها الأخير، ويتقدم كبير العرافين فيقول مناشدًا الجثة: ” أتضرع إليك أن تتركنا وشأننا في سلام، نعدك بتقديم كل ما يُرضيك من طعام”([25]). بجانب اعتماد السحر كقوة لا ينبغي تجاوزها في كل شؤون الحياة.
وكان تأثير الإسلام حاسمًا في حياة هؤلاء الأرواحيين؛ حيث هدم الأساس الروحي لمعتقداتهم، فأبطل الاعتقاد في تأثير أرواح الأسلاف ووساطتهم بين الخالق والمخلوق، وثبت الاعتقاد في أن الأموات ليس لهم تأثير بالنفع أو الإضرار بالأحياء، وأبقى على توقير الأسلاف وأوجب الصلاة عليهم والدعاء لهم بالمغفرة والرحمة، وجعل لأجسامهم حرمة، وهكذا جعل الإسلام علاقة الأحياء بالأموات في إفريقيا وغيرها علاقة تعاطف ومحبة لا علاقة توجب خوفًا ورهبةً؛ كما في الديانات الأرواحية القديمة.
كما غيَّر الإسلام الكثير من الممارسات الطقسية مثل طقوس التطهر من الآثام والشرور التي عادةً ما تكون مصحوبة بكثير من مظاهر الخلاعة والمجون، واستبدلها بعبادة التوبة والاستغفار والذكر، والحج.. وأبطل كثير من المحرمات (تابو) التي كانوا يحيطون بها السلوك الاجتماعي ويفرضون عقوبات صارمة على منتهكيها، فألغى كثيرًا من الطقوس المتعلقة بمنع المعاشرة الزوجية بين الرجل وزوجته الحامل أو المرضع، وأبطل العقيدة القائمة على اعتبار تعثُّر المرأة في الولادة دليلًا على ارتكابها الفواحش، وألغى كثيرًا من العادات وأنماط السلوك المرتبطة باعتقاداهم، مثل شرب الخمور التي كانت في المجتمعات الأرواحية ظاهرة اجتماعية عقائدية في نفس الوقت؛ حيث كان شرب الخمر حتى حدّ السُّكر فرضًا دينيًّا على الطاعنين في السن([26]).
وتقول رسالة صادرة في 30 نوفمبر 1847م كتقرير في السنغال: “إن ارتباط الولوف في شبه جزيرة الرأس الأخضر بالديانة الإسلامية يعكس طهارة كبرى من القيم النابعة من تعدد الزوجات المعروف في الإسلام، إضافة إلى الاستقامة، النزاهة، احترام الزوجة، طاعة الأبناء لآبائهم، والكرم الأبوي، على نقيض ما تعكسه القيم الأوربية. وإن القتل والنهب والغش والتدليس تُعدّ أشياء غير معروفة في شبه جزيرة الرأس الأخضر”([27]).
هذا بجانب تأثيرات حضارية أخرى كبيرة في الملبس والاحتشام والنظافة على نحو ما تحدث عنه رحالة أجانب أمثال السير توماس أرنولد في كتابه الدعوة إلى الإسلام (Preaching of islam) الذي ذكر الاختلافات التي شاهدها في رحلته بالباخرة عبر نهر النيجر بين سكان المناطق الوثنية، والمناطق التي ينتشر فيها الإسلام عند اقترابه من حدود السودان الأوسط([28]).
ومع تلك التأثيرات الكبيرة للإسلام في المجموعات السلالية السنغالية إلا أن كثيرًا من تلك العادات الوثنية ظلت عالقة لدى كثير من معتنقي الإسلام، خاصةً من أتباع الطرق الصوفية، فلم يتخلصوا من كثير من الخرافات، كخرافة (مصاص الدماء)، كما أن صانعي الطلاسم حلُّوا محل الكهنة في المجتمع الأرواحي([29]).
وبجانب التأثير العقائدي والسلوكي أثَّر الإسلام على أنماط الحياة الاجتماعية، فحوَّل كثيرًا من مجتمعات الصيد التي كانت منتشرة في غرب إفريقيا إلى مجتمعات زراعية ورعوية، فقد شجَّع العمل الزراعي وجمع المحاصيل وتربية المواشي، وحرم تربية الخنزير، وحثَّ على الإكثار من تربية المواشي وهي حيوانات لها أهميتها الاقتصادية، وقد عملت قبائل (الفولان) النازحة من الشمال على إشاعة تربية الماشية في الفوتا جالون وفي مناطق الغابات في ساحل العاج، وفي بعض الأنحاء في مالي والسنغال وشمال نيجيريا، وكان ذلك خير معين للسكان على الإقلاع عن عادة أكل لحوم البشر؛ كما يقول العالم الفرنسي دي بلانول([30])
كما أسهم الإسلام في ترسيخ الأمن الاجتماعي، بإبطال غارات السلب والنهب التي كانت أساس العلاقات بين القبائل الوثنية، من خلال الموعظة الحسنة، وأحيانًا بالقوة والجهاد، مثلما حدث في قصة طائفة (تيدو) من جماعة الولوف؛ حيث كانت تيدو مثالًا للخبث والدناءة والخشونة، وكانت تعيش على السرقة والسلب والنهب، وتمارس كل أنواع الموبقات، وكانت تسطو على ممتلكات الضغفاء من عامة الشعب (بادولو)، وتزهق أرواحهم، وبلغت غطرسة أحد ملوك تيدو (داو دمبا) أنه كان يمنع رعاياه السود من الزواج، ويطرد العجزة من حضرته، ويحظر على (بادولو) لبس السراويل، وتمليح (بعض أنواع الطعام)؛ لأن الملح، باعتقاده، للأمراء فقط وليس لعامة الشعب، ولم ينقذ (بادولو) من حيف (تيدو) وظلمهم، إلا ظهور الدعوة الإسلامية وبلوغها إليهم، فكان شيوخ الإسلام ودعاته يفتحون بيوتهم للمستضعفين وعامة الشعب، فأقبل الناس على الإسلام مع تزايد حيف تيدو وبغيهم؛ حيث صعَّدت مناوشتها ضد المسلمين، مما أدى إلى نشوب ثورة الشيخ سيلا الذي أعلن الجهاد المقدس ضد تيدو فانتصر عليها ومزّقها شر ممزق([31]).
خلاصة:
خلاصة القول: إن الإسلام أحدث تأثيرات شاملة على الجماعات السلالية في السنغال، فهو الذي جمع الناس من مفهوم القبيلة والعشيرة إلى مفهوم الأمة، وصرف الولاء إلى العقيدة والدين، ولكن رغم الوصول المبكر للإسلام إلى الأراضي، التي أصبحت تسمى اليوم السنغال، إلّا أن الانتشار كان بطيئًا واستغرق قرونًا، وفي ذلك الوقت كانت الوثنية والعقائد الأرواحية هي المسيطرة على حياة تلك المجموعات السلالية.
ولم يحدث الانتشار الكبير للإسلام في المجتمع السنغالي إلا في منتصف القرن التاسع عشر الميلادي، على إثر وفود الطرق الصوفية مثل القادرية والتجانية والمريدية، وكما أثرت الحركات الجهادية التي نشطت في تلك المناطق والمناطق المجاورة لها في تدافع الناس إلى دخول الإسلام لرفع الحيف والظلم عنهم، وكان لجهاد الأئمة (المامي) في منطقة فوتا تورو دور كبير في نشر الإسلام وسط الجماعات السلالية في السنغال، حتى أصبح الإسلام في واقع اليوم هو دين الغالبية الساحقة من الشعب السنغالي.
تفاعلت الجماعات السلالية مع الإسلام كلّ بحسب أوضاعه؛ فمنهم من كان سبَّاقًا للإسلام مثل: الفولان والماندينغ، ومنهم من تأخَّر في إسلامه مثل الجولا، ومنهم من وصله الإسلام مبكرًا، لكنه لم يحقق فيه انتشارًا إلا في قرون متأخرة مثل الولوف.
كما أخذت تأثيرات الإسلام على الجماعات السلالية أشكالًا متعددة؛ منها ما يتعلق بالعقائد والتصورات حول الكون والإنسان والعلاقة بينهما، ومنها ما يتعلق بأنماط السلوك الطقوس المتبعة، ومنها ما يتصل بالسلوك الاجتماعي، وأحدث الإسلام نقلات حضارية كبرى في السلوك اليومي للناس؛ من النظافة والاحتشام في اللباس وستر العورة، والطهارة، وأعاد ترتيب العلاقات داخل الأسرة، كما أثَّر في شكل الأنشطة الحياتية والاقتصادية، فشجَّع الزراعة والرعي، وأحدث تحولًا في الجماعات فنقلها من مجتمعات الصيد إلى مجتمعات الزراعة والصناعة.
الطرق الصوفية مثلما كان لها أثر كبير في نشر الإسلام في السنغال، كانت لها مثالب تمثلت في إدخال كثير من البدع والتصورات الخاطئة، بل أبقت على كثير من الخرافات المتسربة من المجتمعات الأرواحية، فلم تحارب بصورة جادة ممارسة السحر والطلاسم، ولم تشجب تقديس المقبورين من المشايخ، والشطط في تعظيم الأحياء منهم.
ولكن المجتمع السنغالي بغالب مجموعاته السلالية هو مجتمع مُحِبّ للإسلام، ويظهر ذلك في اهتمامه بالمواسم الإسلامية والأعياد، واحتفائه بالقرآن وتعليمه ونشر الكتاتيب والرباطات، والاهتمام باللغة العربية، التي لم تفلح اللغة الفرنسية في عزلها عن حياة الناس كما فعلت في كثير من دول غرب إفريقيا، بل ظلت مُحافظة على قوتها ورونقها رغم انفراد الفرنسية بالتعليم النظامي والحكم الإدارة.
……………………………………………
[1] – Houssain Kettani, Muslim Population in Africa: 1950 – 2020, International Journal of Environmental Science and Development, Vol. 1, No. 2, June 2010
[2] – الأمم المتحدة، كتيب الإحصاءات العالمية، 2018م.
[3] – المصدر السابق.
[4] – عبد القادر محمد سيلا، المسلمون في السنغال: معالم الحاضر وآفاق المستقبل، الكتاب 12 من سلسلة كتاب الأمة الصادر عن رئاسة المحاكم الشرعية بدولة قطر، الطبعة الأولى، ص 26.
[5] – حسين حلاق، مدن وشعوب إسلامية، دار الراتب الجامعية، بيروت، ج 1، ص 389.
[6] – شارلوت سيمور سميث، ترجمة مجموعة من أساتذة علم الاجتماع، موسوعة علم الإنسان والمفاهيم والمصطلحات الأنثروبولوجية، المركز القومي للترجمة، القاهرة 2009م، ص 255- 256.
[7] – محمد أحمد لوح، التعليم العام ومناهجه: السنغال نموذجًا، ورقة علمية، نيامي 2009م.
[8] – محمد مولاي، القضاء والقضاة ببلاد السودان الغربي من أواخر القرن التاسع الهجري حتى الثاني عشر الهجري (15-18م)، أطروحة دكتوراه في علوم التاريخ والحضارة الإسلامية، جامعة وهران 1 أحمد بن بلة، ص 19- 20.
[9] – عبد القادر محمد سيلا، مصدر سابق، صفحة 27.
[10] – انظر: عبد القادر سيلا، وحسين حلاق، مصدران سابقان، الصفحات 30-31 عند سيلا، و390 عند حلاق.
[11] – عبد القادر محمد سيلا، مصدر سابق، ص 31.
[12] – مولاي محمد، مصدر سابق، ص 20.
[13] – محمود شاكر ونافذ أيوب بيلتو، مالي، المكتب الإسلامي، دمشق 1977م، ص 26.
[14] – المصدر السابق، ص 28.
[15] – عبد القادر سيلا، مصدر سابق، ص 28.
[16] – مولا محمد، مصدر سابق، ص 22.
[17] حسين حلاق، مصدر سابق، ص 390، بتصرف.
[18] – محمود شاكر ونافذ أيوب، مصدر سابق، ص 28.
[19] – محمد أحمد لوح، مصدر سابق.
[20] – انظر: محمود شاكر، ونافذ أيوب، مصدر سابق، ص 33-36.
[21] – المصدر السابق، ص 40.
[22] – وكلمة جولا (Dioula) هنا غير كلمة جولا (Diola) التي تُطلق على الجماعة السلالية المعروفة في جنوب السنغال.
[23]– انظر: عبد القادر سيلا، ص من 51 إلى 61.
[24] – المصدر السابق: ص 35.
[25] – هوبير ديشان، ترجمة أحمد صادق حمدي، الديانات في إفريقيا السوداء، المركز القومي للترجمة، القاهرة 2011م، ص 17.
[26] – انظر: مهدي ساتي، الإسلام والقِيَم الاجتماعية للجماعات الأرواحية في إفريقيا، معهد مبارك قسم الله للبحوث والتدريب، الخرطوم 2014م، ص من 11 إلى 18.
[27] – المصدر السابق، نقلًا عن: Etudes Islamiques, Rev, No 18, Ramadan, 1403 Juin 1983 Dakar
[28] – انظر: سير توماس أرنولد، الدعوة إلى الإسلام، القاهرة 1971م، ص 297.
[29] – عبد القادر سيلا، مصدر سابق، ص 45.
[30] – أثر الإسلام في الحياة الاقتصادية في غرب إفريقيا، مقال منشور بمجلة دعوة الحق، وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، المملكة المغربية، العدد 63.
[31] – عبد القادر سيلا، مصدر سابق، ص 65-67.