مقدمة:
واجهتُ أثناء محاولتي اختيار عنوان للموضوع حيرةً بالغةً، فهل يسمى “الجدار الأخضر العظيم”؟ أم “إفريقيا جنوب الجدار الأخضر”؟ أم “الجدار الأخضر ومطاردة التصحر”؟ أم إنه حنين إلى الماضي التليد بأن المنطقة كانت خضراء منذ آلاف السنين؟
فالأول هو الاسم الموجود في الصكوك والاتفاقيات والمعاهدات والتعهدات الدولية، ولكنه ليس موجودًا على أرض الواقع، وما أُنْجِزَ فيه فقليل.
أما الثاني، فقد تخيلتُ لوهلةٍ أن نقرأ في الأجل المتوسط حتى تغيير اسم منطقة إفريقيا جنوب الصحراء إلى إفريقيا جنوب الغابات الخضراء.
أما الثالث، فهي فعلًا محاولة لمطاردة التصحُّر في إقليم الساحل والصحراء، ولكنها مطاردة ساخرة على حسب الأرقام.
وأما الرابع، فإنه، وإن كان صحيحًا، لن يُغني من الأمر شيئًا.
غير أنني أفقتُ إفاقة المذعور؛ لأن السور أو الحائط أو الحزام أو الجدار الأخضر -الذي أيضًا ظهرت فكرته مع بداية دَحْر الاستعمار، وقيل: إن فكرته ووسمه جاءا من الصين سورًا أو حزامًا، أو من الجزائر سدًّا-؛ ليس طريقًا للربح السريع كالمناجم أو الآبار، أو مشروعًا “استعماريًّا” جديدًا في “ظاهره الرحمة وفي باطنه العذاب”؛ كمشاريع الطاقة الشمسية، وخط الغاز العابر للحدود، المدشَّنَين في نفس الإقليم، أو الكابلات البحرية على امتداد القارة. وإنما هو مشروع ضخم وحُلم كبير، وبه الكثير من التحديات.
وعليه، فقد حاولت سرد القصة كاملة من خلال المحاور التالية:
- المحور الأول: منطقة الساحل والصحراء… التحديات والفرص.
- المحور الثاني: الجدار الأخضر العظيم: الفكرة والنشأة والهدف.
- المحور الثالث: النجاحات والتحديات والدعم.
- المحور الرابع: التَّقدُّم المُحْرَز على مستوى الدول.
المحور الأول
منطقة الساحل والصحراء… التحديات والفرص
منطقة الساحل هي أرض الفُرَص بقدر ما هي أرض التحديات. وتتمتع المنطقة -التي هي موطن لأكثر من 135 مليون شخص- بوفرة الموارد البشرية، والثقافية، والطبيعية، وتوفّر إمكانيات هائلة للنمو السريع. ومع ذلك، تؤثر تحديات بيئية واجتماعية-اقتصادية عميقة الجذور –من الاستقرار والأمن الغذائي إلى التصحر وتغير المناخ– على ازدهار وسلام منطقة الساحل([1]).
إذ تفتقر مناطق إنجاز المشروع التي تغطي 780 مليون هكتار، ويسكنها 232 مليون شخص، إلى أساسيات الحياة العصرية، مثل شبكات الكهرباء والاتصالات، بالإضافة إلى هشاشة الأنظمة التعليمية والخدمات الصحية، خصوصًا في منطقة الساحل؛ وهي حاجيات يَعتبرها السكان مُلِحَّة بالنسبة لهم، وتأتي قبل زراعة الأشجار أو محاربة التصحر.
كما أن المنطقة تعاني من حالة عدم استقرار أمني، وتجذرت فيها لسنوات تنظيمات متطرفة مثل جماعة أنصار الدين، وحركة التوحيد والجهاد في غرب إفريقيا، والقاعدة ببلاد المغرب الإسلامي، وبوكو حرام، وكلها تغتني من الهجرة غير الشرعية، وتستغل الفراغ والانفلات الأمني في دول المنطقة، وعلى رأسها مالي والنيجر وتشاد ونسبيًّا موريتانيا. وقد عاشت معظم دول الساحل حروبًا أهلية ذات طابع عِرقي وديني، وانقلابات عسكرية عرقلت سير التنمية في هذه الدول وفرص نجاح مشروع “السور الأخضر” الذي يراهن على انخراط السكان المحليين([2]).
ووفقًا لمنظمة الأغذية والزراعة (الفاو) (2016)، فقد عانت إفريقيا من أكبر خسارة في مساحة الغابات من عام 1990 إلى عام 2015م مقارنةً ببقية مناطق العالم، على الرغم من أن معدل الخسارة في الغابات في إفريقيا قد انخفض بدرجة كبيرة من عام 2010 إلى عام 2015م. والتدهور في الغابات ناتج عن أنشطة البشر بدرجة كبيرة، وأدى إلى زيادة الأراضي الجافة وتغيير النظم الإيكولوجية للصحاري، بما في ذلك الموجودة في الصحراء الكبرى.
وتشير التقديرات إلى أن التصحر يؤثر في حوالي 33% من مساحة الأراضي العالمية، وأن إفريقيا هي الأكثر عُرضة للتصحُّر، مع تأثيره على حوالي 45% من مساحة أراضي إفريقيا، منها 55% في خطر عالٍ أو عالٍ جدًّا لمزيد من التصحر.
ومن المتوقع أيضًا أنه بحلول عام 2030، سيزيد عدد السكان في الأراضي الجافة في شرق وغرب إفريقيا بنسبة تتراوح بين 65 إلى 80%. ويمكن لتغيُّر المناخ في نفس الفترة أن يَنتج عنه توسُّع للمنطقة المصنَّفة على أنها أراضٍ جافة، وذلك بنسبة تصل إلى 20% وفقًا لبعض السيناريوهات([3]).
وقد سجلت إفريقيا أكبر معدل سنوي لصافي فقدان الغابات في الفترة 2010-2020م؛ حيث بلغ 3.9 مليون هكتار. وقد زاد معدل صافي فقدان الغابات في إفريقيا في كل عقد من العقود الثلاثة منذ عام 1990م وفقًا للشكل البياني التالي:
شكل (1) صافي التغير السنوي في مساحة الغابات، حسب العقد والمنطقة 1990-2020م
Fao,Global Forest Resources Assessment 2020 (FRA 2020).at: https://www.fao.org/interactive/forest-resources-assessment/2020/en/
ويبين الشكل التالي معدل اختفاء الغابات في الحزام المستهدَف، والتي كانت إجماليها تقريبًا في ظل غياب بيان عن دولة جيبوتي 1,7 مليون هكتار سنويًّا، وتحديدًا في عام 2005؛ أي مع خروج المشروع للنور مرة أخرى، وأعلى هذه الدول: السودان ونيجيريا.
شكل (2) معدل اختفاء الغابات في بلدان الجدار الأخضر بالهكتار 2005م
المصدر: من إعداد الباحث من خلال بيانات منظمة الأغذية والزراعة، 2005م.
يُعدّ تغيُّر المناخ أحد مُحرّكات الجوع. وفي منطقة الساحل، يعاني سكان الريف الذين يعتمدون على الزراعة البعلية والرعي بالفعل من ارتفاع درجات حرارة، وتقلُّص مدة المواسم الممطرة، وزيادة تواتر العواصف التي تُلْحِق الدمار بالمحاصيل والأراضي. وخلال عام 2020م، عانى حوالي 22% من سكان إفريقيا جنوب الصحراء من الجوع، ويمثل ذلك زيادة تعادل 60 مليون جائع منذ عام 2010م. ومع تضاعف عدد السكان بحلول عام 2050م، يواجه الملايين من الشباب الريفيين في منطقة الساحل حالةً من انعدام اليقين في المستقبل نتيجة تراجع الغلات الزراعية، والنقص الشديد في الاستثمارات وفرص العمل، الأمر الذي يُؤجّج الهجرة والصراعات الدائرة حول قاعدة هشَّة من الموارد الطبيعية([4]).
وقد أظهر تقييم أُجري في 42 بلدًا إفريقيًّا أن الفائدة التي تَجنيها الإنتاجية الزراعية من إعادة تأهيل الأراضي المتدهورة وحفظها أكبر إلى حدٍّ يتراوح بين 3 إلى 26 ضعفًا من كلفة الإحجام عن العمل. وقد تبين في سيناريوهاتٍ لبلدان الجدار الأخضر العظيم، أن تكاليف إعادة تأهيل الأراضي (كلفة العمل) أقل من كلفة الإحجام عن العمل، ويبرز في هذه النتيجة مبرّر اقتصادي قويّ يدعم أنشطة إعادة تأهيل الأراضي في منطقة الساحل.
وبسبب الإمكانات التي تنطوي عليها الحراجة الزراعية([5]) للمساعدة في التخفيف من آثار تغيُّر المناخ والتكيُّف معه، وردت الحراجة الزراعية في اقتراحات 40% من البلدان غير المدرَجة في الملحق الأول باتفاقية الأمم المتحدة الإطارية بشأن تغيُّر المناخ، فقد ورد استخدام الأراضي لأغراض الحراجة الزراعية كحلّ في المساهمات المحددة وطنيًّا الخاصة بها، وكان اعتماد هذا المقياس على أوسع نطاق في إفريقيا (وردت في 71% من المساهمات المحددة وطنيًّا)، تليها الأمريكيتان (34%)، وآسيا (21%)، فأوسيانيا (7%)([6]).
المحور الثاني
الجدار الأخضر العظيم: الفكرة والنشأة والهدف
في عام 1952م، اقترح Richard St Barbe Baker، عالم البيئة البريطاني، زراعة مجموعة من الأشجار عبر الأطراف الجنوبية للصحراء. ستمنع الأشجار الرياح والرمال التي تتحرك جنوبًا من الصحراء وتُحسِّن جودة التربة عن طريق ربط الرواسب معًا، وإضافة العناصر الغذائية إلى المزيج. وعلى الرغم من أن “بيكر” لم يتمكن من إقناع الآخرين بخطته خلال حياته، إلا أن الفكرة ترسخت منذ ذلك الحين([7]).
وفي السبعينيات خرجت فكرة الجدار الأخضر العظيم إلى النور مع بدء تدهور منطقة الساحل، واكتسبت زخمًا في ثمانينيات القرن الماضي([8]).
وهو حزام يبلغ عرضه 15 كيلو متر من الأشجار يمتد من السنغال إلى جيبوتي (71000كم) (عبر 11 دولة)، وهو مُستلهَم من التجربة الجزائرية في مجال مكافحة التصحُّر، خاصةً المشروع المتعلق بالسد الأخضر([9]). كذلك اقتبست تسمية المشروع من “سور الصين العظيم”، وهو اقتباس كانت الصين أيضًا سبّاقة إليه في مشروعها للحزام الأخضر الذي مَكَّنها خلال أربعة عقود من التشجير، من زيادة المساحة الإجمالية للغابات، لتُمثّل ما يقرب من ربع إجمالي مساحة الصين. ورغم ارتفاع الأصوات المُشكّكة في إمكانية تحقيق الأهداف المسطرة؛ زاد عدد الدول الداعمة للمشروع ليصل إلى 21 دولة حاليًّا([10]). كما أن توماس سانكارا، رئيس بوركينا فاسو حينذاك كان أول من اقترح بناءه في الثمانينيات كوسيلة لوقف زحف الصحراء. ثم عادت الفكرة لتُطرَح مجددًا على الاتحاد الإفريقي من جانب الرئيس النيجيري الأسبق أولوسيجون أوباسانجو([11]).
حيث أطلقت المبادرة في يونيو 2005م في واجادوجو، خلال مؤتمر القمة السابعة لقادة ورؤساء دول الساحل والصحراء من قبل “أولوسيغون أوباسانجو”، وتم اعتمادها بشكل رسمي من طرف الاتحاد الإفريقي في مؤتمر رؤساء دول وحكومات الاتحاد في يناير 2007م([12]).
وعلى هامش اجتماع دولي في “بون”، للجنتي العلوم والتكنولوجيا، لاستعراض تنفيذ اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة التصحر. تعهَّد مرفق البيئة العالمي بتخصيص 115 مليون دولار لدعم بناء هذا الجدار. كما تعهَّدت غيره من مؤسسات التنمية الدولية بدعم الاستثمار في بنائه بما يصل إلى ثلاثة مليارات دولار([13]).
في البداية، كانت الخطة هي ملء منطقة تبلغ مساحتها 10 أميال في 4350 ميلاً من منطقة الساحل بالأشجار. يمكن أن تساعد في إبطاء تآكل التربة، وامتصاص ثاني أكسيد الكربون، وتعزيز التنوع البيولوجي. ومع ذلك، بدأ النقاد في الإشارة إلى العيوب، وواجه المشروع عدة عقبات. إحدى المشاكل الكبيرة في خطة زراعة الأشجار كانت الأشجار نفسها. بعض الشتلات إما نمت بشكل سيئ أو ماتت. وتم زراعتها في مناطق نائية مما جعل من الصعب العناية بها. كما أسهم ارتفاع درجات الحرارة وانخفاض هطول الأمطار في حدوث المشكلة. واعتقدت بعض المجتمعات أن حكومتها لم تقم بإشراك السكان المحليين والسكان الأصليين بشكل كامل في مشاريعها. وحكومات أخرى قامت عمدًا بتهجير مجموعات من السكان المحليين من منازلهم في الغابات والمناطق المحمية([14]).
تغيرت فكرة الجدار الأخضر مع نهاية عام 2020م بصورة كبيرة؛ حيث تطورت في طموحها ونطاقها، وذلك بالترادف مع التغيرات السياسية والاقتصادية الهائلة التي شهدتها القارة خلال السنوات الفاصلة. وتسعى المبادرة اليوم إلى تنشيط المناطق الريفية؛ من خلال عدد من الطرق المختلفة. وهي تدمج الجهود الرامية إلى الإبطاء أو التخفيف من آثار تغيُّر المناخ، وفقدان التنوع البيولوجي، والتصحر وتدهور الأراضي مع خطط استحداث فرص عمل خضراء، مع الحرص على أن تُشكِّل المراكز الريفية ركائز للنمو مثل المراكز الحضرية.
وفي الآونة الأخيرة، قامت حكومة فرنسا، والصندوق الأخضر للمناخ، واتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة التصحر بإنشاء هيكل دعم طموح. وتُخطّط المبادرة للعمل مع الحكومات الوطنية للبلدان المشاركة من أجل تصميم أنظمة تحويلية بالاستناد إلى أولوياتها الخاصة. وسيسمح ذلك للمبادرة بتوفيق أعمالها في مجال استعادة المساحات الخضراء مع الجهود الوطنية الساعية إلى تعزيز الإنتاج الزراعي، ومساعدة صغار المزارعين على إيجاد أسواق لمنتجاتهم، وتحسين التغذية والأمن الغذائي. ولتلبية احتياجات الدول الإحدى عشرة المشاركة، وتهدف المبادرة إلى الالتزام سنويًّا بما يتراوح بين 3 مليارات و4.5 مليار دولار([15]).
ومن المُقرَّر أن يغطي الجدار الأخضر 11 بلدًا إفريقيًّا، وتتمثل أهدافه بحلول عام 2030 فيما يلي([16]):
- إصلاح 100 مليون هكتار من الأراضي المتدهورة.
- احتجاز 250 مليون طن من الكربون.
- إيجاد 10 ملايين فرصة عمل خضراء في المناطق الريفية.
- إلى جانب المساهمة في تحسين المناخ.
- ومن المُقرَّر أن يسهم في تحقيق الأمن الغذائي والمائي، ومكافحة الفقر، وتوفير الطاقة المستدامة، وتأمين الفرص الاقتصادية. وهو ما يدعم 15 هدفًا من أهداف التنمية المستدامة.
المحور الثالث
النجاحات والتحديات والدعم
يوضّح تقرير حالة تنفيذ الجدار الأخضر والطريق إلى عام 2030 أنه في الفترة ما بين 2007 وحتى 2018م، تمت استعادة 20 مليون هكتار من الأراضي، وبلغت إيرادات الأنشطة المُدِرَّة للدَّخْل 90 مليون دولار في جميع البلدان الأحد عشر([17]). واعتبارًا من سبتمبر 2020م تم خلق 335 ألف فرصة عمل([18]). وفي عام 2023، أفاد برنامج الأمم المتحدة الإنمائي أن المشروع قد اكتمل بنسبة 18%، مما أدى إلى استعادة أكثر من 49 مليون فدان من الأراضي، وخلق 350 ألف فرصة عمل. ولكن لم تشهد جميع البلدان نفس القدر من النجاح([19]).
وقد تحقق هذه القدر من النجاح على الرغم من بعض التحديات القائمة مثل الافتقار إلى الرصد والتقييم، فإنَّ الوضع التمويلي، للجدار يُمثِّل عقبةً رئيسيةً. في يناير 2021م، أعلن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون عن مبادرة تسريع تنفيذ الجدار الأخضر التي تشمل جهات فاعلة متعددة من أجل تيسير التنسيق والتعاون بين الجهات المانحة وأصحاب المصلحة وتحسين جهود الرصد تحت مسمى “مُسرّع مبادرة الجدار الأخضر” عام 2021م؛ لضمان دعم أكثر تنسيقًا للدول الأعضاء والمؤسسات([20]).
سيقوم المسرّع بمراقبة وتشجيع الاستثمارات نحو خمس ركائز([21]).
1- الاستثمار في المزارع الصغيرة والمتوسطة، وتعزيز سلاسل القيمة والأسواق المحلية وتنظيم الصادرات.
2- استعادة الأراضي والإدارة المستدامة للنظم البيئية.
3- إنشاء البنى التحتية القادرة على التكيُّف مع المناخ والحصول على الطاقة المتجددة.
4- إطار اقتصادي ومؤسسي مناسب للحكم الفعَّال والاستدامة والاستقرار والأمن.
5- تعزيز بناء القدرات.
وقد تم التعهُّد دوليًّا بمبلغ 20 مليار دولار، من ضمنها 14.3 مليار خلال قمة “كوكب واحد من أجل التنوع البيولوجي”، ومبلغ مليار دولار من Jeff Bezos، مؤسس شركة أمازون. إلا أن النزاعات المسلحة التي تنتشر في المنطقة شكّلت مصدر قلق إزاء التقدم في المشروع. ولا يمكن الوصول إلى حوالي 50% من الأراضي المعنية في الوقت الراهن لأسباب أمنية([22]).
وتماشيًا مع هذه الرؤية، التزم بنك التنمية الإفريقي في عام 2021م بتعبئة 6.5 مليار دولار من أجل تنفيذ الجدار الأخضر العظيم([23]).
كما تم الكشف عن مرصد الجدار الأخضر العظيم، وهو عبارة عن منصة رقمية من شأنها أن تساعد في تتبُّع التقدُّم المُحرَز في أكبر مبادرة لاستعادة الأراضي في إفريقيا([24]).
واعتبارًا من مارس 2023م تم صرف 2.5 مليار دولار من هذا التعهد([25]). ومن المتوقع أن يصل المبلغ المتبقي البالغ 17.5 مليار دولار بحلول نهاية عام 2025م؛ إلا أن هذا لا يزال أقل من مبلغ 33 مليار اللازم لتحقيق الهدف([26]).
وبدعم من الصندوق الأخضر للمناخ، تم تدشين البرنامج الشامل لمبادرة الجدار الأخضر العظيم، والذي سيُحفّز ويساعد في رَصْد وتنفيذ مشروعات الصندوق الأخضر للمناخ والاستثمارات المصمَّمة لبناء الموارد الحرجية، وتعزيز الممارسات الزراعية الرعوية، وتوفير المياه والوصول إلى الأسواق المحلية؛ بالتزامن مع المساعدة في الحد من انعدام الأمن السياسي.
وتعد مبادرة التمويل الأخضر الشمولي مثالًا على أحد مشروعات البرنامج الشامل لمبادرة الجدار التابع للصندوق الأخضر للمناخ. ويتمثل هدف مبادرة التمويل الأخضر الشمولي في دعم وصول الاستثمارات الزراعية الخضراء إلى الائتمان. وستساعد المبادرة مصارف التنمية العامة المحلية على إنشاء خطوط ائتمان ومُواءَمة مجالات استثماراتها وأنظمة الحوكمة فيها نحو التوافق مع المساهمات المحددة وطنيًّا للبلدان المشاركة -والتزاماتها الفردية فيما يخص أهداف اتفاق باريس للمناخ-؛ لمساعدتها على تحقيق أهداف اتفاق باريس وأهداف التنمية المستدامة للأمم المتحدة([27]).
كما يسعى الصندوق إلى مساعدة صغار المزارعين في النيجر على زيادة قدرتهم على الصمود في وجه الآثار السلبية لتغيُّر المناخ عبر الانخراط مع مجموعة من الجهات الفاعلة المختلفة، بما في ذلك منظمات وتعاونيات المزارعين المحلية، والمنظمات النسائية والشبابية، والمؤسسات بالغة الصغر والصغيرة والمتوسطة، والمؤسسات المالية. وسيعزز أيضًا التبنّي الواسع لأنظمة الطاقة الشمسية (بما في ذلك الشبكات الصغيرة، والأنظمة المستقلة، والحزم)، بغية الحد من انبعاثات الغازات الدفيئة الناتجة عن توليد الطاقة المتعلقة بالممارسات الزراعية([28]).
كذلك تعززت الآمال خلال مؤتمر الأطراف “كوب 15” الذي أُقيم في العاصمة الإيفوارية مايو 2022م، الذي أكد مجددًا على هذا الالتزام العالمي بتمويل المشروع إلى غاية 2025م. كما جرى خلال المؤتمر الوقوف عند نتائج الشراكات التي أطلقها الصندوق الدولي للتنمية الزراعية والصندوق الأخضر للمناخ وعدد من مؤسسات التنمية المحلية. وسعت هذه الشراكات لحشد مليار دولار لصالح مبادرة السور الأخضر قبل نهاية سنة 2022م، من أجل تمويل المشاريع الصغيرة والمتوسطة([29]).
المحور الرابع
التقدُّم المُحرَز على مستوى الدول
قبل بدء مبادرة الجدار الأخضر، بدأ السكان المحليون في أجزاء من النيجر وبوركينا فاسو في استخدام تقنية تسمى التجديد الطبيعي الذي يديره المزارعون؛ حيث دفعت فترات الجفاف في الثمانينيات إلى العودة إلى الأساليب السابقة. وبدلاً من زراعة أشجار جديدة، شجَّع المزارعون في جنوب ووسط النيجر نموّ الشجيرات والأشجار الموجودة. وقد ساعدت هذه الممارسة في إعادة تشجير 12 مليون فدان وزراعة مليوني شجرة. وفي بوركينا فاسو، اعتمد المزارعون على المعرفة التقليدية للتكيُّف بعد موجات الجفاف في السبعينيات والثمانينيات. لقد حفروا حفرًا عميقة تسمى “زاي”([30])، وقاموا بتجميع الحواجز الحجرية للمساعدة في التقاط الرطوبة والاحتفاظ بها. وحقَّق أحد المزارعين، ويدعى “ياكوبا سوادوغو”([31])، نجاحًا كبيرًا لدرجة أنه تم إنتاج فيلم عن عمله في عام 2010م بعنوان “الرجل الذي أوقف الصحراء”. وفي السنغال، بدأ المزارعون بزراعة حدائق “زاي” أثناء عمليات الإغلاق التي فرضها تفشي فيروس كورونا. من خلال إنشاء حُفَر نصف قمرية -والحفر معروفة باسم “تولو كور” في لغة الولوف- وملئها بالمياه وتوجهها نحو النباتات. وقاموا بزراعة كل شيء من الذرة الرفيعة والدخن إلى النعناع والكركديه. وتتميز بسهولة البناء ولا تشغل مساحة كبيرة، وتحتاج فقط إلى حوالي 10 أشخاص لصيانتها. وقد قامت إثيوبيا والنيجر والسنغال بإعادة تخضير أجزاء من أراضيها. وبالإضافة إلى حدائق “زاي”، وقامت السنغال بزراعة 50 ألف فدان من الأشجار، وفقًا لما ذكرته مجلة ناشيونال جيوغرافيك. وفي عام 2023م، أفاد برنامج الأمم المتحدة الإنمائي أن المشروع قد اكتمل بنسبة 18%، مما أدى إلى استعادة أكثر من 49 مليون فدان من الأراضي، وخلق 350 ألف فرصة عمل. ولكن لم تشهد جميع البلدان نفس القدر من النجاح([32]).
وقد قام أحد عشر بلدًا مشاركًا في مبادرة الجدار (إثيوبيا وإريتريا وبوركينا فاسو وتشاد وجيبوتي والسنغال والسودان ومالي وموريتانيا والنيجر ونيجيريا) بأنشطة لإعادة تأهيل الأراضي وإدارتها على نحوٍ مستدامٍ في الصحراء الكبرى ومنطقة الساحل بهدف زيادة التكيُّف مع تغيُّر المناخ والتخفيف من آثاره والقدرة على الصمود في وجهه ومكافحة التصحر والحفاظ على التنوع البيولوجي وضمان التنمية المستدامة([33]).
بحسب ما أظهرته دراسة جديدة لمنظمة الأغذية والزراعة؛ فإن مقابل كل دولار تم ضخّه في الجهود الرامية إلى وقف تدهور الأراضي في مجمل القارة الإفريقية، من السنغال غربًا إلى جيبوتي شرقًا، يمكن للمستثمرين أن يتوقعوا عائدًا متوسطًا قدره 1.2 دولار، فيما تتراوح النتائج بين 1.1 دولار و4.4 دولارات (كما في جدول 1). وتقوم المجتمعات المحلية بزراعة أنواع من الأشجار الصلبة والقادرة على الصمود مثل نبتة الأكاسيد التي تعطي الصمغ العربي، وشجرة السنط الأبيض التي تساعد في إخصاب التربة. وبفضل الدعم الفني من المنظمة، تمكَّن أكثر من 500 مجتمع محلي من تحسين الأمن الغذائي وفرص زيادة الدخل([34]).
جدول (1) تكاليف وفوائد استصلاح الأراضي في منطقة الساحل (بملايين الدولارات الأمريكية في عام 2007)
Mirzabaev and etal, Economic efficiency and targeting of the African Great Green Wall, Nature Sustainability, VOL 5, January 2022 ,17–25 .at www.nature.com/natsustain.p.20.
وتعتبر إثيوبيا أكثر الدول الإفريقية المعنية انخراطًا في المشروع؛ إذ استطاعت لوحدها استصلاح مليوني هكتار من الأراضي، وخلق أكثر من 218 ألف وظيفة، وتمكنت في 2019م من زراعة أكثر من 224 مليون شجرة في يوم واحد، واعتُبِرَ آنذاك رقمًا غير مسبوق.
كما تمكنت النيجر أيضًا من إعادة الحياة لأكثر من 800 ألف هكتار من الأراضي في إطار مبادرة “السور الأخضر العظيم”، ثم إريتريا بحوالي 500 ألف هكتار، واستعادت السنغال 119 ألف هكتار.
في المقابل فشلت جيبوتي في تحقيق نتائج ملموسة إلى حدود الساعة؛ إذ أعادت تأهيل 130 هكتارًا فقط من الأراضي، شأنها في ذلك شأن نيجيريا وموريتانيا ومالي، فهذه البلدان قد استعادت مساحات ضئيلة من الأراضي تتراوح بين 3-6 آلاف هكتار([35]).
الخاتمة:
يبدو دائمًا أن العقول الإفريقية لديها روح المبادرة والحلم، غير أن أحلامها تلك تُكتَب في ورق، وتُوضع داخل الأدراج، أو تأخذها الرياح؛ إما لأسبابٍ تتعلق بنقص التمويل، أو عدم توافر الإرادة السياسية، أو لعدم رغبة المستثمر أو المستعمر في انتظار تحقيق أرباح أو جَنْي ثمار في الأجل البعيد. وهذا هو حال الجدار الأخضر العظيم الذي لو تحقق لتحققت معه التنمية والأمن.
…………………………….
[1]– https://www.ifad.org/ar/ggwi
[2]– https://doc.aljazeera.net/earth-and-ocean
[3]– القمة الوزارية الإفريقية للتنوع البيولوجي، مشروع خطة العمل الإفريقية بشأن استعادة النظم الإيكولوجية من أجل زيادة القدرة على الصمود، ص 1-5. على الربط: https://www.cbd.int/doc/c/5d77/7a1e/fb56b65cab4ff23ce0216838/cop-14-afr-hls-04-ar.docx
[4]– إيفاد، لصندوق الدولي للتنمية الزراعية والصندوق الأخضر للمناخ يوسعان نطاق العمل الرامي إلى تحسين حياة الملايين من البشر واستعادة النظم الإيكولوجية في الجدار الأخضر العظيم في إفريقيا، بيان صحفي،2021. متاح على الرابط: https://www.greenclimate.fund/sites/default/files/article/JointPR-GGW-11Jan2021-AR.pdf
[5]– الحراجة الزراعية هي نهج متكامل لاستخدام المزايا التفاعلية من الجمع بين الأشجار والشجيرات مع المحاصيل و/أو الماشية. وهي تجمع بين التقنيات الزراعية وتقنيات الحراجة لخلق نُظُم انتفاع بالأرض أكثر تنوعًا وإنتاجية وربحية وصحة واستدامة. بينما يُعدّ التعريف الضيق للحراجة الزراعية هو «الأشجار في المزارع.
[6]– منظمة الأغذية والزراعة، حالة الغابات في العالم. متاح على الموقع:
https://openknowledge.fao.org/server/api/core/bitstreams/8286941a-7146-4e7a-bb57-09b26cd2ca34/content/src/html/land-restoration-productivity-agroforestry.html#note
[7]– J.A.R.B, What is Africa’s “Great Green Wall”?, The Economist.at: https://www.economist.com/the-economist-explains/2016/08/31/what-is-africas-great-green-wall
[8]– مؤسسة محمد إبراهيم، الطريق إلى الدورة السابعة والعشرين لمؤتمر الأطراف استعراض حالة إفريقيا في المناقشة العالمية بشأن المناخ، 2022. ص78.
[9]– د. بعلي محمد سعيد، تطور الجهود القانونية لمكافحة التصحر كمشكلة بيئية عالمية في ظل تضارب المواقف. إفريقيا نموذجًا. ص20. متاح على الرابط: https://law.tanta.edu.egf
[10]– https://doc.aljazeera.net/earth-and-ocean
[11]– بون: خوليو غودوي، جدار أخضر من جيبوتي إلى السنغال، العرب، 2011. متاح على الرابط:
[12]– UNCCD, African Union Commission, Great Green Wall for the Sahara and Sahel Initiative, Addis Ababa, 2016, p. 04.
[13]– بون: خوليو غودوي، مرجع سبق ذكره.
[14]– https://www.businessinsider.com/great-green-wall-regreen-africa-sahel-desertification-2024-4#with-2030-approaching-the-ggw-is-facing-setbacks-9
[15]– الاستثمار في السكان الريفيين (إيفاد)، تخضير الصحراء الكبرى: مبادرة الجدار الأخضر العظيم. متاح على الموقع: https://www.ifad.org/ar/web/latest
[16]– مؤسسة محمد إبراهيم، مرجع سبق ذكره، ص78.
[17] -African Development Bank, Great Green Wall initiative.at: https://www.afdb.org/en/topics-and-sectors/initiatives-and-partnerships/great-green-wall-initiative.
[18]– منظمة الأغذية والزراعة، برنامج الجدار الأخضر العظيم لإفريقيا يحقق عوائد مجدية على الاستثمارات، بحسب نتائج دراسة قادتها منظمة الأغذية والزراعة متاح على الرابط: https://www.fao.org/newsroom/detail/africa-s-great-green-wall-gives-viable-return-on-investments-fao-led-study-161121/ar
[19]– https://www.businessinsider.com/great-green-wall-regreen-africa-sahel-desertification-2024-4#with-2030-approaching-the-ggw-is-facing-setbacks-9
[20]– مؤسسة محمد إبراهيم، مرجع سبق ذكره، ص 78.
[21]– https://greenfue.com/%D9%85%D8%B1%D8%B5%D8%AF-%D8%AC%D8%AF%D9%8A%D8%AF-%D9%84%D8%AA%D8%AA%D8%A8%D8%B9-%D8%A7%D9%84%D8%AA%D9%82%D8%AF%D9%85-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%AD%D8%B1%D8%B2-%D9%81%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D8%AC%D8%AF%D8%A7/
[22]– منظمة الأغذية والزراعة، برنامج الجدار الأخضر العظيم لإفريقيا يحقق عوائد مجدية، مرجع سبق ذكره.
[23]– African Development Bank,Op.cit.
[24]– https://greenfue.com
[25]– Spoorthy Raman, Progress is slow on Africa’s Great Green Wall, but some bright spots bloom.at: https://news.mongabay.com/2023/08/progress-is-slow-on-africas-great-green-wall-but-some-bright-spots-bloom/
[26]– unccd, Progress accelerated but targeted action needed to realize Africa’s Great Green Wall ambition,at: https://www.unccd.int/news-stories/stories/progress-accelerated-targeted-action-needed-realize-africas-great-green-wall
[27]– الاستثمار في السكان الريفيين (إيفاد)، تخضير الصحراء الكبرى، مرجع سبق ذكره.
[28]– Green Climate Fund, Inclusive Green Financing for Climate Resilient and Low Emission Smallholder Agriculture.at: https://www.greenclimate.fund/project/sap012
[29]– https://doc.aljazeera.net/earth-and-ocean
[30]– حفر “الزاري”: تقنية زراعية خاصة تقضي بصنع حفر بواسطة مجرفة قصيرة اليد لتركيز الماء والسماد (من 1 إلى 3 طن لكل هكتار) في أحواض صغيرة بقُطْر يتراوح بين 30 إلى 40 سم، وبعُمْق من 10 إلى 15 سم، وتفصل مسافة 80 سم بين كل من هذه الأحواض المستخدمة لزراعة البذور، مثل الذرة الرفيعة، والدخن، إلخ.
https://www.unescwa.org/ar/sd-glossary/%D8%AA%D9%82%D9%86%D9%8A%D9%91%D8%A9-%D8%AD%D9%81%D8%B1-%D8%A7%D9%84%D8%B2%D8%A7%D9%8A
[31]– ياكوبا سوادوغو رجل مسلم من مواليد بوركينا فاسو. والمعروف باسم “الرجل الذي أوقف الصحراء”، وهو مزارع استخدم تقنية زراعية تقليدية تسمى “زاي” لاستعادة الأراضي التي كانت صحراوية ومهجورة. فيلم وثائقي طويل بعنوان “الرجل الذي أوقف الصحراء”، تم بثه لأول مرة في المملكة المتحدة، يصور حياته. ملخص الفيلم الذي يبلغ خمسين دقيقة متاح على الرابط: https://www.youtube.com/watch?v=r35WBadI7Ik
[32]– https://www.businessinsider.com/great-green-wall-regreen-africa-sahel-desertification-2024-4#with-2030-approaching-the-ggw-is-facing-setbacks-9
[33]– UN Convention to Combat Desertification. 2020. The Great Green Wall – Implementation status and way ahead to 2030. متاح أيضًا على الرابط : https://www.unccd.int/publications/great-green-wall-implementation-status-and-way-ahead-2030
[34]– A. Mirzabaev and etal, Economic efficiency and targeting of the African Great Green Wall, Nature Sustainability, VOL 5, January 2022 ,17–25 .at www.nature.com/natsustain.pp.17-23.
[35]– https://doc.aljazeera.net/earth-and-ocean