عند مناقشة مظاهر محدَّدة للقيادة السوداء، فمن الأهمية التركيز على تلك الشخصيات التي قدَّمت جهودًا متواصلة للعثور على إجابات عن معضلة حياة السود داخل أمريكا. كان أحد هؤلاء القادة السود هو “صمويل كورنيش” (1795-1858م) Samuel E. Cornish، القس المشيخي المناوئ للعبودية والعنصرية، والخصم الأبرز لجمعية الاستعمار الأمريكية.
أولًا: النشأة والسمات والخبرات الشخصية:
وُلد “صمويل كورنيش” Samuel E. Cornish حرًّا بولاية” ديلاوير” Delaware الأمريكية في حوالي عام 1795م. كان والده رجلاً أسود يتمتع باحترام كبير، وكانت والدته امرأة سوداء متعلمة تعليمًا جيّدًا. لا يُعرف عن حياته المبكّرة سوى القليل جدًّا. تلقَّى تعليمًا أوليًّا على يد والدته، ومع ذلك كان في شبابه طَمُوحًا، وترتَّب على ذلك أنه في عام 1815م انتقل إلى ولاية “فيلادلفيا” Philadelphia؛ حيث كان في سنّ العشرين. وهناك بدأ العمل بحقل التدريس في مدرسة يديرها “جون جلوستر” (1776-1850م) John Gloucester؛ أول أمريكي من أصل إفريقي يتم ترسيمه قسًّا مشيخيًّا داخل الولايات المتحدة، وهو كذلك مؤسّس “الكنيسة المشيخية الإفريقية” African Presbyterian Church.
وبعد أن تلقَّى “كورنيش” تعليمًا قصيرًا في “فلادلفيا”؛ بدأ يشرع في التدريب ليصبح قسًّا مشيخيًّا في عام 1817م، ومُجازًا رسميًّا للوعظ بعد ذلك بعامين. وفي الوقت ذاته كان أخواه قساوسة بـ”الكنيسة الأسقفية الميثودية الإفريقية” African Methodist Episcopal Church.
وبعد أن خدم كمبشّر للعبيد على الشاطئ الشرقي لـولاية “ماريلاند” Maryland. دفعته كراهيته “لممارسات مالكي العبيد المسيحيين” إلى الانتقال إلى مدينة “نيويورك” New York في عام 1820م؛ حيث واصل خدمته مع “الجمعية الإنجيلية التبشيرية للشباب في نيويورك” New York Evangelical Missionary Society of Young Men. وبعد ذلك بعام واحد من وصوله، شارك في تأسيس أول “كنيسة مشيخية إفريقية” داخل مدينة “نيويورك”.
كان “كورنيش” أيضًا نَشِطًا في العديد من المجموعات والجمعيات داخل أمريكا، بما في ذلك “جمعية الهجرة الهايتية” Haytian Emigration Society، والتي انفصل عنها –فيما بعد-؛ نتيجة شعوره بالإحباط تجاه الهجرة، وظل معارضًا للاستعمار الإفريقي حتى وفاته. وبجانب عمله في الكنيسه قام بالتعاون مع “جون براون روسورم” (1799-1851م) John Brown Russwurm من أجل تأسيس وإصدار “صحيفة الحرية” Freedom’s Journal في عام 1827م.
وخلال سنواته الأخيرة عصفت بحياته العديد من المآسي والمِحَن، بدءًا بغرق ابنه الصغير في عام 1838م أثناء رحلته إلى إفريقيا مهاجرًا. ووفاة زوجته بعد حادث ابنه بفترة قليلة في عام 1844م. وبينما كان يستفيق من صدمته بوفاة زوجته؛ توفيت ابنته الكبرى في عام 1846م، بينما أُصيبت ابنته الصغرى باضطراب عقلي، وتوفيت في عام 1855م. ليصبح “كورنيش” في عزلة نسبية اضطرته إلى الانتقال أخيرًا إلى “بروكلين” Brooklyn بولاية “نيويورك”، ليقضي السنوات الأخيرة من عمره هناك؛ حيث توفي في عام 1858م.
وفي وقت من الأوقات عمل كورنيش كوكيل للمدارس الإفريقية الحرة African Free Schools في الولايات المتحدة. وكان له دور من خلال طرح قضايا الأمريكيين من أصل إفريقي، وعمل مع الجمعية الأمريكية لمكافحة الرق American Anti-Slavery Society حتى انتقد ما اعتبره “أبويتها” Paternalism.
ثانيًا: السياق التاريخي والسياسي المعاصر لـ”صمويل كورنيش”
كانت الكنيسة أول مجال مهني مفتوح للسود داخل أمريكا؛ حيث جذبت الرجال الذين أصبحوا قادة للنضال المجتمعي الأسود الساعي إلى الحرية. لذلك كان ظهور المؤسسات السوداء المنفصلة تعبيرًا عن الرغبة في الاستقلال والمساواة. كانت هذه القِيَم هي المعادل الشمالي لتمرُّد الرقيق في الجنوب، الذي أوضح أن السود ليسوا الخدم الخاضعين المطيعين، هذه الصورة التي كان يقوم بتقديمها المدافعون عن العبودية.
كما أصبح التعليم الديني والخدمة الكنسية اتجاهًا تعويضيًّا في الشمال لتكوين طبقة نخبوية من السود داخل أمريكا، هذه النخبة التي تشكّلت من القساوسة السود خصَّصت جزءًا كبيرًا من وقتها لتقديم المساعدة لنضال شعبها الساعي إلى حقوقه الاجتماعية والسياسية.
وفي أثناء “حقبة جاكسون Jacksonian، كانت حرية التعبير أحد المكاسب التي استفاد منها الأمريكيون السود داخل أمريكا، وهو ما سمح لهم بمجابهة التحريف، وضبط المعلومات، وتطوير شكل من أشكال السيادة الخطابية، على الرغم من الضغوط والقيود التي كانت تحول بين حرية التعبير وشكل السيادة.
كذلك كانت أكبر التحديات التي واجهت الأمريكيين الأحرار من أصل إفريقي داخل الولايات المتحدة خلال عصر جاكسون؛ غياب الكيانات التي يُمكنها تبنّي قضيتهم، والتعبير عن طبيعة محنتهم، وافتقادهم لآلية يستطيعوا من خلالها الردّ على المؤسسات التي كان يُهيمن عليها الأمريكيون البيض. لذا فقد سعى البعض بشكل فرديّ وجماعيّ، وبشكل شخصيّ أو من خلال التجمعات الدينية واللجان السياسية إلى ممارسة حقهم في الاحتجاج على العبودية، وسوء المعاملة السياسية والاجتماعية لأصحاب البشرة السوداء داخل الولايات المتحدة، ومارسوها قدرًا لا بأسَ به من “السيادة الخطابية”، كان من بين هؤلاء المفكّر والمحرّر “صمويل كورنيش”، الذي وعلى الرغم من الصعوبات الشخصية والمهنية التي واجهها، يستمر الاحتفاء به بوصفه مؤسّسًا للصحافة الأمريكية الإفريقية، وداعية للتقدم الإفريقي الأمريكي.
ثالثًا: منطلقات “صمويل كورنيش” الفكرية
دعا “صمويل كورنيش” إلى اندماج السود داخل المجتمع الأمريكي، وطالب بنفس الحقوق والفرص المدنية. وكان أول من تناول إشكالية ازدواجية الرجل الأسود داخل أمريكا والتي ناقشها “دوبوا” (1868-1963م) W. E. B. Du Bois بشكل مفصّل فيما بعد. فقد كانت وجهة نظر “كورنيش مغايرة لتصوُّر رفيقه وشريكه “روسورم” (1799-1851م) John Brown Russwurm حول الهجرة إلى إفريقيا. فقد ترسَّخ لديه أن “الاندماج هو النتيجة الطبيعية للنضال داخل أمريكا، ومع ذلك كان يعتقد أن هذه العملية لن تحدث في حياته، ولكنّها من الممكن أن تتحقق في المستقبل. وحتى يتمّ الاستيعاب الكامل؛ يتعين على السود بناء مؤسسات موازية لتلك التي كانت موجودة داخل المجتمع المهيمن للبقاء على قيد الحياة، وإزالة الآثار المنهكة للعنصرية البيضاء”.
ويمكن تحليل توجهات “صمويل كورنيش” الفكرية من خلال النقاط التالية:
1- القومية السوداء
تبلور الفكر القومي لدى “كورنيش” من خلال تأسيسه في 16 مارس 1827م “صحيفة الحرية” Freedom’s journal داخل “نيويورك”، كأول صحيفة يقوم بتحريرها رجال من السود داخل أمريكا، والتي كانت تهدُف إلى مخاطبة الأمريكيين من أصلٍ إفريقي، وقد شاركه في التحرير والتأسيس “جون براون روسورم” أول حاكم أسود لمستعمرة “ماريلاند” بغرب إفريقيا (1836-1851م).
كانت الصحيفة مكرَّسَة بالأساس للطعن على الظلم العنصريّ والمطالبة بإلغاء العبودية؛ حيث تضمَّن العدد الأول من الصحيفة على افتتاحية عبَّرت عن تَوْقٍ عميق الجذور للاحترام من حيث الحماسة والبلاغة: “لدينا رغبة شديدة في الدفاع عن قضيتنا بأنفسنا، فلقد تحدَّث آخرون نيابةً عنا لزمنٍ طويلٍ”، وتُعتبر هاتان الجملتان من بين أكثر المقاطع تداولًا في الخطاب الأفرو-أمريكي خلال القرن التاسع عشر.
كان من أهم ما يميز “صحيفة الحرية” -بوصفها أول صحيفة سوداء داخل أمريكا- أن مؤسسيها ومحرريها كانوا من الأمريكيين ذوي الأصول الإفريقية، وهو ما أعطى للأمريكيين الأفارقة متنفَّسًا للتعبير عن وجهة النظر الخاصة بالملونين، في سياق وجهة النظر الواحدة التي كان يقدمها البيض.
وعلى الرغم من أنها لم تستمر لأكثر من عامين، فقد حددت بداية الإصدار الأول مهمة معظم الصحف السوداء التي جاءت فيما بعد. فهي بطبيعة الحال لم تكن تسعى مطلقًا إلى الموضوعية، فمثلها مثل معظم الصحف التي كانت تصدر في ذلك الوقت. كان هدفها الرئيس هو الدفاع عن الأمريكيين من ذوي الأصول الإفريقية. وكما يظهر من عنوانها سعت أيضًا إلى إنهاء العبودية. كما طالبت الصحيفة بالمساواة والمعاملة العادلة للأمريكيين ذوي الأصول الإفريقية. وقامت بالإشارة إلى العنصرية البيضاء، وكيف أخفقت الولايات المتحدة في الوفاء بوعودها الديمقراطية.
ومنذ إصدارها قامت “صحيفة الحرية” بالموازنة بين معارضتها للاستعمار الإفريقي والاحتفاء بإفريقيا؛ حيث سعت الصحيفة كذلك إلى توفير المعرفة “بكل ما يتعلق بإفريقيا”؛ اعتقادًا منها بأن “هذه القارة الشاسعة إذا زال عنها الغطاء، فستخرج أشياء كثيرة إلى النور”، هذه الأشياء التي تدلل على أن السكان الأصليين لهذه القارة ليسوا جُهلاء ولا أغبياء كما كان يتم الافتراض عمومًا”، وهي المهمة التي كانت تسعى إليها الصحيفة من خلال عددها الأول.
واهتمت الصحيفة كذلك بالنشاط التبشيري في إفريقيا، وأشارت إلى اجتماع كان يهدُف إلى تقديم المساعدة للصحيفة، والذي تم عقده بمنزل وكيلها في “بوسطن” الناشط “ديفيد ووكر” David Walker، وتضمنت كذلك إشعارًا بالإشادة بدولة “هايتي” والهجرة إليها. وأدرجت الأخبار الأجنبية والمحلية والبحرية المعتادة والشائعة بالصحف الأخرى، لكنها تضمنت أيضًا قصيدة بعنوان “الزعيم الإفريقي” The African Chief. هذا التوازن المتمثل في الاحتفاء بإفريقيا والتعاطف معها ومعارضة الاستعمار في الوقت نفسه؛ كان يعكس وجهات نظر جمهورها المقصود، “والمتمثل في خمسمائة ألف شخص ملون من الأحرار”، والذين تمت الإشارة إلى آرائهم في الصحيفة أكثر من مرة. وعلى الرغم من أن “كورنيش” قد غادر الصحيفة بعد ستة أشهر من تأسيسها، إلا أن الانفصال كان وديًّا واستمر رفيقه “روسورم” في نشر إصدارات مماثلة حتى ربيع عام 1829م.
لم يكن تأسيس صحيفة “الحرية” على مُثُل الديمقراطية الأمريكية فحسب، بل قامت بتبنّي ونشر فضائلها بقوة، مثل التقدم المادي والحقوق القائمة على الحرية في جميع قضاياها. علاوة على ذلك فقد استخدم “كورنيش” في كتاباته أسلوبًا تعليميًّا واضحًا. وهذا يعني أن مقالاته الافتتاحية غالبًا ما اتخذت نبرة إرشادية أو أخلاقية كان يأمل من خلالها أن يُمكّن قراءه بالتفرد اجتماعيًّا سياسيًّا.
كانت مساهمات “كورنيش” البارزة في “صحيفة الحرية” قد طغى عليها أحيانًا موقف “روسورم” الصارخ من الاستعمار؛ وهو ما دفع “كورنيش” إلى الاستقالة طوعًا من الصحيفة بعد ستة أشهر من إنشائها. وفيما يتعلق بشعبية الصحيفة؛ كان هناك بعض النقاد يعتقدون أن “كورنيش” وليس “روسورم” هو من دفع الصحيفة إلى شهرتها التاريخية. حتى إن الشعار الشهير للصحيفة؛ “البِرُّ يَرْفَعُ شَأْنَ الأُمَّةِ”، لم يكن مجرد اختيار “كورنيش” فحسب، بل كان أيضًا مؤشرًا على المبادئ الروحية التأسيسية للصحيفة؛ والتي اختفت بشكل ملحوظ في القضايا التي تم تناولتها في أعقاب استقالة “كورنيش”.
عمل “كورنيش” كمحرر في أوقات مختلفة لصحف أخرى مملوكة لرجال ملونين؛ مثل صحيفة “حقوق الجميع” The Rights of All ، وصحيفة “الأمريكي الملون”.The Coloured American كتب في “حقوق الجميع”: “لقد أتيحت لنا الفرصة للكتابة والتعبير عن ذاتنا، ووعظنا، وصلينا لأجل شعبنا، سواء وُصِفُوا بأنهم زنوج أو أفارقة أو سود، بقصد التقليل من شأنهم، لكنّها مسميات مقبولة لدينا. لكن دعونا نتحد نحن وأصدقاؤنا لترسيخ مصطلح “الأمريكيين الملونين”، ليكون من الآن فصاعدًا مصطلح يقبله الجميع”. كانت فلسفته من هذا المصطلح هو إزالة أي فوارق ظاهرية بين السود في اللون، أو استغلال أي مصطلح آخر لتشويه صورة الأمريكيين من أصل إفريقي داخل المجتمع الأمريكي، للنيل أو التقليل منهم.
2– معارضة الاستعمار الإفريقي
عارض “كورنيش من خلال “صحيفة الحرية” نقل الأمريكيين من أصل إفريقي إلى مستعمرة إفريقية. كانت وجهة نظره أن الأمريكيين الأفارقة مواطنون متساوون، وبالتالي لا يمكن للسود الأحرار التخلي عن إخوانهم المستعبدين.
جاء موقف محرري الصحيفة في النهاية لتمثيل رأيين متناقضين حول الاستعمار الإفريقي ما بين معارض وداعم له، وهو ما كشف عن اختلاف فيما بينهم حول فهم الهوية الإفريقية، فقد تبنَّى “كورنيش” معارضة الهجرة، وهو الرأي الذي كان أكثر انتشارًا بين الأمريكيين ذوي الأصول الإفريقية داخل أمريكا.
كان “كورنيش” مدافعًا عن هجرة الأمريكيين من أصل إفريقي إلى هايتي في بدايات حياته؛ لكنه سرعان ما تراجع عن رأيه بعد أن وصل إلى سَمْعه تقارير تتحدث عن عودة المهاجرين إلى أمريكا مرة أخرى. وتلخيصًا لوجهة نظره بشكل مجمل حول الاستعمار؛ قدم “كورنيش” من خلال العدد الصادر في 18 أبريل 1827م في مجلة “الحرية” نظرته النقدية للهجرة: “إن جمعية الاستعمار تمتاز بالتخطيط الجيد، فمبادئ الحرية تنمو لديها بشكل سريع، وهذا يتضح من خلال دفعهم لمليوني شخص عبر المحيط الأطلسي للهجرة على الرغم من المصاعب التي يستوجب عليهم مواجهتها”. واستطرد بأن “التحرُّر يجب أن يتم في المكان الذي توجد فيه العبودية”. كانت هذه المشاعر تدل ضمنيًّا بأن “كورنيش” ظل معارضًا دائمًا لـجمعية الاستعمار الأمريكية؛ ليس فقط خلال الفترة القصيرة التي قضاها في “صحيفة الحرية”؛ ولكنها استمرت كذلك خلال عمله كمحرّر ومؤسّس لكل من “صحيفة الأمريكي الملون” Colored American و”صحيفة حقوق الجميع” The Rights of All.
أصبحت وجهات نظر “كورنيش” أقل راديكالية بشكل متزايد مع مرور السنين، مما تسبب على ما يبدو في فَقْد مستوى كبير من تأثيره خاصة مع النشطاء الشباب. فقد لاحظ “بيكون” Jacqueline Bacon، “أنه بحلول عام 1839م؛ شعر البعض أن وجهات نظره لم تعد ذات صلة”، ورأى آخرون أن آراءه وأفكاره باتت مكررة ومُعادة، وبأنه “يقف بجانب المسارات القديمة وغير قادر على التجانس مع الأفكار الجديدة”. ومع ذلك انتهت أيام “كورنيش” الأخيرة كمحرّر لصحيفة “الأمريكي الملون” كنتيجة مباشرة لإحباطه المتزايد من إخوانه أكثر من أيّ شيء آخر، وهي تجربة توازي بشكل غريب تجربة “روسورم”.
وانصبّ نقده في أيامه الأخيرة على جمهوره من الملونين، فعلى سبيل المثال في 12 أبريل 1838م، أدان “كورنيش” انخفاض معدل اشتراك الأمريكيين من أصل إفريقي الذي كان في تزايد مستمر، واتهم العازفين عن دعم الجريدة بأنهم “حمقى وغير مهذبين وجبناء”، وبأنهم “لا يستحقون الحرية”.
3– مناهضة العبودية
من أهم القضايا المُلِحَّة التي حددت إلى حد كبير الصراع بين “صحيفة الحرية” و”صحيفة المحقق” New-York Enquirer كانت العبودية. وهذا يعني أن المجتمع الأمريكي كان يخشى من الصحافة السوداء الناشئة. وكان هناك قلق كبير داخل مؤسسة العبودية كذلك؛ نظرًا لتزايد أعداد العبيد الأحرار بشكل مستمر. وتحدثت الصحيفة عن التمثيلات العرقية غير العادلة؛ وذلك حسبما جاء في العدد الصادر بتاريخ 23 مارس 1827م: “إن الافتراءات اليومية تستوجب وجود قناة للتواصل بيننا وبين جمهورنا من الملونين، والتي يمكن من خلالها سماع صوت واحد للدفاع عن خمسمائة ألف شخص حرّ منهم؛ ونعتقد أن الوقت قد حان الآن لدحض افتراءات أعدائنا من خلال الحجج المنطقية”.
هذا ومثَّلت الصحيفة نوعًا من الضغط المجتمعي لظهور وبروز الطبقة الوسطى للنخبة الأمريكية الإفريقية الناشئة، والتي كانت في ذلك الوقت مزدهرة في شرق الولايات المتحدة. نظرًا لأن “نيويورك” نفسها كانت موطنًا “لعشرات من الجمعيات الأدبية الأمريكية الإفريقية”، بما في ذلك المسرح الإفريقي African Theatre (1821م)، و”جمعية الفيلوماثيان” Philomathean Society (1830م)، و”جمعية فينيكس بنيويورك” Phoenix Society of New York (1833م)، والتي ضمَّت مئات من المثقفين التقدميين من الأمريكيين الأفارقة الأحرار، والغالبية العظمى منهم كان لديهم اهتمام خاص بآراء مجلة “الحرية”. فلم يكن من المستغرب أن صحيفة “الحرية” كانت ستغض الطرف عن أيّ ملاحظة تجاه توصيفات خاطئة واحتيالية للطبقة الوسطى السوداء داخل أمريكا، وخاصة ما كانت تقوم صحيفة “المحقق” بنشره.
وبوصفه رجل دين وعضوًا بالكنيسة المشيخية، فقد كان يدير في السابق إحدى دور العبادة التي كانت مُخصَّصة للعبيد بولاية “ماريلاند”، وهناك أصابته خيبة أمل بسبب “الانفصام المسيحي لغالبية البيض”. وبوصفه شاهدًا بشكل مباشر على قسوة مالكي العبيد البيض الذين ينتمون لطائفته المشيخية؛ فقد تركت هذه الممارسات عظيم الأثر على نفسه، وعبَّر عن ذلك فيما بعد بأن “مالكي العبيد المسيحيين.. الذين أعلنوا عن معتقداتهم الدينية هم أنفسهم الذين كانوا يسيئون معاملة عبيدهم”.
وقضى “كورنيش” وقتًا كبيرًا من حياته للدفاع بقوة عن العبيد والترويج لإلغاء العبودية، على الرغم من وجود مقاومة شرسة لأيّ نقاشات أو طرح في أواخر عشرينيات القرن التاسع عشر حول العبودية، وخاصة في الجنوب. وأشارت الصفحة الأولى من صحيفة “الحرية” إلى هذه المقاومة: “إن كل محاولة لإجراء مناقشة شاملة لموضوع العبودية قد قُوبِلَتْ دائمًا بصرخة الخطر. يقولون: “أنتم تدفعون العبيد إلى التمرد. وتشبه هذه الرواية خطاب سياسييّ الجنوب الذين كانوا يخشون تمرُّد العبيد، وكذلك من زوال اقتصادهم القائم على العبودية”. على سبيل المثال، أعرب “وايتمارش سيبروك” Whitemarsh Benjamin Seabrook، عضو الهيئة التشريعية لولاية جنوب كارولينا الجنوبية وحاكمها اللاحق، عن قلقه منذ عام 1825م بشأن المدّ المتصاعد لمشاعر إلغاء العبودية، قائلاً: إن الصحف الشمالية الشرقية أصبحت تطالب بإلغاء العبودية.
بينما كان كورنيش مالكًا ومحررًا لصحيفة “حقوق الجميع”، لم يكرّس الموضوعات التي كان يقوم بنشرها لموضوع إلغاء العبودية، لكنَّه خلال هذه الفترة قام بربط معاناة الأمريكيين من أصل إفريقي داخل الولايات المتحدة بمعاناة الجماعات العرقية الأخرى خارجها. كان من بين هذه المقالات؛ مقاله المثير للاهتمام “الحقوق المدنية لليهود”، والذي تحدث فيه بشكل متوهج عن الجهود التي بذلها اليهود داخل إنجلترا لمطالبة البرلمان “بتوسيع حقوقهم المدنية”.
4- العمل الصحفي الحُر:
بوصفه رجلاً ينتمي للطبقة الوسطى من المثقفين الحاصلين على تعليم جيّد، كان “كورنيش” دليلاً حيًّا على أن الشخص الأمريكي الإفريقي لا يستطيع البقاء على قيد الحياة فحسب، بل يمكنه أيضًا الازدهار وتطوير ذاته داخل المجتمع الأمريكي، على الرغم من العنصرية والعقبات الأخرى التي كانت تحول بينه وبين هذا التطوُّر.
كان “كورنيش” نموذجًا واقعيًّا لنضج الرجل الملوّن الذي يستطيع امتلاك حرية الاختيار. هذه الحرية التي استنكر “كورنيش” غيابها عن الكثير من شعبه: “لقد عانينا كثيرًا من الصحافة والمنابر الإعلامية؛ بسبب تمثيلنا بشكل غير صحيح؛ فالرجال الذين نحبّهم ونعجب بهم بنفس القدر، لم يترددوا في تمثيلنا على نحو غير ملائم، دون أن يتلمّسوا الحقيقية التي تميز بين الفضيلة والرذيلة”.
وبوصفه مسيحيًّا ومبشرًا رأى أن مهمته إرسالية ونبوية في طبيعتها. في عدد مبكر من مجلة “الأمريكي الملون” نشر مقالًا بعنوان: “لماذا يجب علينا أن نمتلك صحيفة؟”، عبَّر من خلال هذا المقال عن رؤيته الصحفية بقوله: “يجب على الرجال الملونين أن يفعلوا شيئًا، ويجب أن يبذلوا بعض الجهد لإخراج أنفسهم من (رجسة الخراب)؛ وعليهم أن يؤسّسوا صحافتهم الخاصة ويحافظوا عليها، والتي من خلالها يستطيعوا امتلاك الكلمة وأن يكون لهم صوت مسموع”.
كان لـ”كورنيش” عميق الأثر على المجتمع من خلال مهنته الصحفية؛ فقد دافع عن حرية التعبير ولا سيما حرية الصحافة، وتصدَّى لحوادث وأفكار كانت تهدّد تلك الحرية. هذه الحرية التي كان يعتقد أنها ستُمَكِّنه من معالجة التمثيل الخاطئ للأمريكيين الأفارقة في الصحف والمجتمع الأبيض.
5- الاستيعاب والارتقاء العرقي
استخدم “كورنيش” المنتدى التحريري للصحف التي عمل بها لتوسيع فلسفته الاجتماعية والسياسية حول بقاء السود داخل أمريكا. وأكَّد من خلال كتاباته المبكرة بصحيفة “الحرية” على ضرورة استمرار التعليم للملونين. وفي وقتٍ لاحقٍ من افتتاحيات صحيفة “حقوق الجميع” تناول التعليم بشكل مستفيض، وعمل على إيضاح أهميته بشكل كبير. وادعى أن أهم عنصر للمساعدة الذاتية -والذي كان يعتقد أنه ضرورة لبقاء الملونين داخل أمريكا- هو التعليم.
أوصى “كورنيش” كذلك جميع السود بضرورة الانضمام إلى إحدى جمعيات إلغاء الرقّ التي كانت موجودة داخل مدينتهم. وأعرب عن اعتقاده أن الاتحاد بين الملونين والمناوئين للعبودية، من الممكن أن يساهم في إنشاء برنامج لتثقيف وتوطين السود كمزارعين داخل البلاد. وهو ما جعله يؤكّد باستمرار على ضرورة أن يقوم جميع السود بتثقيف بعضهم البعض للتعرُّف على السمات الشخصية الجيدة للسود. “فعندما يمتلك السود الفضيلة والموهبة نتيجة التعليم الجيد، فإنَّ السود الآخرين سيدعمون حتمًا أعمالهم أو قضاياهم بدلاً من تجاهلها أو تركها لرعاية الآخرين”.
وكشف “كورنيش” عن خطة أكثر تفصيلاً من أجل إنشاء مؤسسات موازية، تهدف في النهاية إلى استيعاب جميع السود داخل المجتمع المهيمن. وعبَّر عن ذلك بقوله: “يجب أن تكون هناك جمعيات للسود في كل بلدة أو مدينة يوجد بها عدد كبير من السكان السود”.
طالب كذلك بضرورة تكوين لجان خاصة بالسود داخل البلدات أو المدن الأخرى لتشكيل هيئة وطنية بغرض إنشاء كلية وطنية للملونين. وطالب بضرورة احتواء المناهج التعليمية للكلية على جميع الفنون الميكانيكية، والتعليم الكلاسيكي الشامل. وأكَّد على ضرورة تأسيس مكتبة ملحقة بالكلية، وأن تكون الرواتب المقدَّمة للأساتذة العاملين بالكلية من الصندوق العام الذي سيتم تمويله بواسطة الجمعيات السوداء، كما طالب بعدم تحميل الطلاب أيّ رسوم دراسية.
رابعًا: دلالات “صمويل كورنيش” الفكرية
كانت الظروف التي أدت إلى تشكيل الصحافة الأمريكية الإفريقية -ومجلة الحرية على وجه الخصوص-فريدة إلى حدٍّ ما. أثبت من خلالها “صمويل كورنيش” وصديقه “جون روسورم” أنهما محرِّران رائدان؛ قاما بعملهما في وقت كان بالكاد يتم الاعتراف بالملونين كبشر؛ حيث كانت الصحافة الأمريكية الإفريقية بمثابة أرشيف لتوثيق الظلم الذي وقع على السود، وذاكرة في كثير من الأحيان “للمسودات الأولى للفكر الأسود”، وهي مهمة ضرورية للسرد الاجتماعي الأسود؛ لكي لا يذهب إلى هامش الذاكرة الثقافية، أو يتم تجاهله تمامًا.
ومن هذه الزاوية تبرز صحيفة “الحرية” (1827-1829م) ليس فقط باعتبارها سجلاً تاريخيًّا، ولكن باعتبارها كذلك بداية للفكر الأسود الصحفي. بالطبع كانت هناك بالتأكيد دوريات أخرى جديرة بالملاحظة كان يقوم عليها النشطاء داخل أمريكا في أوائل القرن التاسع عشر، والتي تناولت قضية الأمريكيين من أصل إفريقي كذلك. ومع ذلك تم ترخيص وتشغيل الغالبية العظمى مِن قِبَل دعاة إلغاء العبودية البيض مثل “ويليام لويد جاريسون” William Lloyd Garrison، و”جيريت سميث” Gerrit Smith، و”آرثر ولويس تابان” Arthur and Lewis Tappan.
وكما لاحظ “توماس بيل” Thomas Beal على نحو ملائم؛ أن صحيفة “الحرية” كانت استثنائية؛ من حيث إنها “أول صحيفة داخل الولايات المتحدة يقوم على تأسيسها وتحريرها الأمريكيون من أصل إفريقي”، حيث قامت باستكشاف “القضايا المهمة للمجتمع الإفريقي الأمريكي في نيويورك وخارجها”.
وأهمّ ما ميَّز صحيفة “الحرية” عن غيرها من الصحف هي مسألة “الذاتية السردية” Narrative Subjectivity. نظرًا لكونها وسيلة للمقاومة التكتيكية الأكثر قدرة. ففي العدد الأول أعلنت الصحيفة صراحةً أن الأمريكيين من أصل إفريقي “يرغبون في الدفاع عن قضيتهم بأنفسهم؛ فلقد تحدث آخرون نيابة عنهم منذ فترة طويلة”. وهو ما دلَّل على أن هذه الرغبة في الاستقلال الذاتي لم يتم العثور عليها في أدبيات “فريدريك دوجلاس” Frederick Douglass، و”فيليب بيل” (1808-1889م) Philip Alexander Bell، وغيرهما من محرري الصحف الرُّوَّاد في ذلك الوقت، ولكنها شكَّلت أيضًا لحظة تاريخية في تطوُّر الوعي الثقافي الأسود.
وختامًا:
لقد رد “صمويل كورنيش” مثل غيره من الكُتَّاب بقوة على التحريفات التي طالت عِرْقه، وكذلك على التهديدات التي استهدفت حرية الصحافة. كانت مواقفه تتميز بالقوة والرسوخ. وعلى نحوٍ آخر استفاد الأمريكيون الملونون من حرية التعبير داخل أمريكا خلال عصر جاكسون؛ حيث ساعدتهم على ضبط المعلومات، ومحاربة التحريف، وتطوير شكل من أشكال السيادة الخطابية.
__________
أهم المراجع المستخدمة في البحث:
John B. Russwurm and Samuel E. Cornish, eds., Freedom’s Journal (1827-29) March 16, 1827.
Bacon, Jacqueline. “The history of Freedom’s Journal: a study in empowerment and community.” The Journal of African American History 88.1 (2003): 1-20.
Bourne, Wendell. “Power of the Printed Word: Freedom’s Journal-The First Black Newspaper.” Black History Bulletin 69.2 (2006): 21.
Fortenberry, Lawrence. “Freedom’s Journal: The First Black Medium.” The Black Scholar 6.3 (1974): 33-37.
Gross, Bella. “Freedom’s Journal and the Rights of All.” The Journal of Negro History 17.3 (1932): 241-286.
Helwig, Timothy. “Black and White Print: Cross-Racial Strategies of Class Solidarity in” Mechanics’ Free Press” and” Freedom’s Journal”.” American Periodicals 19.2 (2009): 117-135.
Hetrick, Matthew J. African American colonization and identity, 1780-1925. University of Delaware, 2013.
Kemper, Kevin Ray. William Apess, Elias Boudinot, and Samuel Cornish: Native Americans and African-Americans looking for freedom of expression, representation, and rhetorical sovereignty during the age of Jackson. Diss. University of Missouri–Columbia, 2006.
Nunez, Arturo Romero. Freedom’s Journal and El Clamor Publico: African American and Mexican American Cultural Fronts in Nineteenth-Century Newsprint. Diss. UC Berkeley, 2010.
Simmonds, Yussuf J. “Samuel E. Cornish/ John B. Russwurm.” Sentinel 72.64 (2007). Web. 01 January 2008.
Swift, David E. “Black Presbyterian Attacks on Racism: Samuel Cornish, Theodore Wright and Their Contemporaries.” Journal of Presbyterian History (1962-1985) 51.4 (1973): 433-470.