د. الفاتح الشيخ يوسف (*)
ببزوغ فجر الإسلام في مكة المكرمة، ولما ضُيق على جماعة الإسلام الأولى، كانت الهجرة إلى الحبشة، وبفتح مصر وصل تيار الإسلام إلى شمال القارة الإفريقية وغربها، وإلى بلاد النوبة في السودان، ثم انتشر الإسلام في شرق القارة، كما انتشر في مناطق جنوب الصحراء الكبرى.
وبانتشار الإسلام في إفريقيا انتشرت الحضارة والثقافة الإسلامية في غربي القارة وساحلها الشرقي، ونشأت ممالك عدة، وبانتشار الاسلام وحضارته أصبحت اللغة العربية في مقدمة اللغات في إفريقيا، واتخذت أهم اللغات الإفريقية الحرف العربي حرفاً لها كاللغة السواحيلية، وكانت اللغة العربية من بين اللغات التي كُتب بها ميثاق منظمة الوحدة الإفريقية.
مساحة القارة وسكانها من المسلمين:
تبلغ مساحة القارة 11.700.000 مليون ميل مربع، وتعادل 22.3% من مساحة اليابسة (1)، ويشكّل المسلمون قرابة 45% من سكان القارة الإفريقية (2)، البالغ عددهم 1,022,234,000 مليار نسمة، أي أنهم حوالي 400 مليون نسمة (3) على وجه التقريب.
وتلتقي إفريقيا بشبه الجزيرة العربية بحكم الجوار، ولا يفصل بينهما إلا حاجز مائي، وهو البحر الأحمر، وكان عامل وصل بين القارة الإفريقية وشبه جزيرة العرب مهد الإسلام، وكان المحيط الهندي مجالاً لنشاط العرب منذ القدم.
العوامل التي ساعدت على انتشار الإسلام:
لا بد هنا أن نوضح العوامل التي ساعدت على انتشار الإسلام، والطرق التي سلكها الإسلام في انتشاره في القارة الإفريقية.
وقد ارتبط انتشار الإسلام بأربعة عوامل أساسية في إفريقيا (4):
الأول: طبيعة الشعوب التي نشرت الإسلام: وهي شعوب رعوية بدوية، لم تكن على خبرة بركوب البحر في بدء أمرها، بل كانوا قبائل تستخدم الإبل والخيل، ولا تتقدم إلا في المناطق المكشوفة، ويفسّر ذلك خطاب أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى عمرو بن العاص، حينما أراد عمرو بن العاص فتح مصر، فطلب منه عمر رضي الله عنه وصف البحر، فلما وصفه له كتب إليه الخليفة الراشد عمر بن الخطاب قائلاً: «والله! لا أحمل عليه مسلماً»، وهو ما يوضح عدم درايتهم بركوب البحر، وخوفهم من أن يحول بينهم وبين مدّهم بالمؤن والجيوش إذا لزم الأمر.
الثاني: طبيعة الأرض: وهي الأرض التي تحيط بالصحراء الكبرى شمالاً في المنطقة الممتدة من حدود مصر الغربية وحتى المحيط الأطلسي، وعبر وادي النيل حتى حدود النوبة، كما تشمل النطاق المحيط بالصحراء من الجنوب إلى مصبّ نهر السنغال حتى السودان (5).
الثالث: طبيعة الإسلام: فإن الإسلام هو دين الفطرة، سهل التناول، لا لبس فيه ولا غموض، يتسم بالبساطة؛ لذا فقد تقبّله الأفارقة، كما أن فكرة التوحيد لم تكن غريبة على الأفارقة الوثنيين؛ إذ كانوا في وثنيتهم يعتقدون بوجود إله أعظم خالق للكون.
الرابع: طبيعة الدعوة الإسلامية: كان الوثني الإفريقي حرّاً في أن يختار دين الإسلام أو يرفضه دون إكراه، فشعر الأفارقة بالأخوّة مع الدعاة المسلمين، وتقبّلوا الإسلام وتحمّسوا له، وكانوا ينظرون إلى المسيحية بوصفها دين الأوروبيين البيض، وقد أصابها الضعف في تلك الفترة.
وكان الطابع الأساسي لنشر الدعوة هو السلم والإقناع؛ مما جعل الأفارقة يُقبلون عليها، لهذا نشط الدعاة والتجار في نشر الإسلام، والتفوا حول الملوك، وحبّبوا إليهم دين الإسلام، وشرحوا لهم أحكامه (6).
الطرق التي سلكها الإسلام في إفريقيا:
نفذ الإسلام إلى قارة إفريقيا بطرق يمكن حصرها في الآتي:
1 – طريق شمال إفريقيا: مصر، برقة، طرابلس، تونس، المغرب الأوسط، ويشمل الجزائر وجزءاً من مراكش، وبلاد السوس الأقصى إلى مصبّ نهر السنغال، ويتبع هذا الطريق طريق بحري نشأ بعد نمو البحرية الإسلامية من ثغور الشام ومصر إلى المغرب الأقصى.
2 – طريق صحراوي: ويبدأ من واحات مصر الغربية ماراً بجنوب بلاد المغرب حتى غربي القارة الإفريقية.
3 – طريق القوافل: ويبدأ من بلاد المغرب الأقصى إلى شمال السودان، مروراً بجنوب تونس وبلاد برنو غربي بحيرة تشاد، ومن جنوبي الجزائر إلى بلاد الهوسا شمالي نيجيريا، ومن جنوبي مراكش إلى مصبّ السنغال ومنحنى نهر النيجر.
4 – طريق الصحراء الشرقية ووادي النيل إلى بلاد النوبة وشمال السودان.
5 – من جنوب بلاد العرب إلى ساحل إفريقيا الشرقية (7).
وقد انتشر الإسلام في القارة فيما بعد، فاخترق نطاق الغابات في غربها، وعلى طول الساحل الشرقي، ومن المهاجرين إلى الكنغو، ومن الشرق إلى جنوب السودان وهضبة البحيرات وقلب الهضبة الحبشية، ومن الساحل الشرقي إلى المناطق الداخلية إلى كينيا وتنجانيقا، ثم إلى جنوب إفريقيا مع المهاجرين، من الملايو وسكان شبه القارة الهندية.
وقد انتشر الإسلام في القارة الإفريقية بوسائل عدة، نوجزها في الآتي:
1 – التجارة وحسن التعامل: ويبدو ذلك واضحاً في أن حركة الإسلام ظلت لأكثر من عشرة قرون محصورة في الساحل، ولم توغل إلى ما وراءه إلا في القرن التاسع عشر، حتى حينما بدأت انتشارها هناك فإنها كانت محكومة إلى حدٍّ كبير بطرق التجارة وعلاقات التجار، ولم تتغير تلك القاعدة إلا في ظل الاستعمار حينما بدأت عناصر جديدة تمارس دورها في انتشار الإسلام وترسيخه.
2- الهجرات: فقد وفد المهاجرون من المسلمين العرب إلى سواحل شرق إفريقيا منذ القرن الأول الهجري، ثم هجرتهم بعد ذلك.
3- نشأة المدن وقيام الممالك.
4 – انتشار التعليم وجهود العلماء.
5 – القبائل الإفريقية التي أسلمت: من ذلك السيجيجو الذين يسكنون منطقة فانجا شيموني على الحدود بين كينيا وتنزانيا، فقد اعتنقوا جميعاً الإسلام بنهاية عام 1854م، نتيجة لعلاقتهم بالفيمبا VUMBA السواحيليين من سكان جزيرة واسون WASIN ، ذلك أن الفيمبا كانوا قد اتخذوا لهم مزارع في أرض السيجيجو، ثم بدؤوا يستقرون في وسطهم، ويتزوجون منهم، مما أدى بهم لاعتناق الإسلام وبناء مساجدهم الخاصة في قراهم، ولم يكتف السيجيجو بذلك بل حملوا مشعل الدعوة لجيرانهم من الماكجندا جنوب ديجو في تانجا (1988م SPERLING : ).
تلك العلاقة نفسها حدثت بين سكان تانجا السواحيليين، وأهل ديجو جنوب ممبسا الذين أقاموا مزارع بينهم وتزاوجوا معهم، أدى ذلك لنشأة علاقة متينة، ترجمت بنهاية 1870م باعتناق الكثير من الديجو للإسلام.
هذه الصورة نفسها نجدها تتكرر في منطقة ساحل المريما المواجه لزنجبار، فهناك الكثير من الدلائل التي تشير لاستقرار السواحيلية المسلمين من سكان الساحل وسط جماعات الأفارقة من الزرامو والبوندي والديجو، والتصاهر معهم من خلال العلاقات التجارية والزراعية؛ مما ساعد على تأثر تلك الجماعات بالإسلام.
6- الفتح: وكان الإذن بالقتال لردّ العدوان والدفاع عن النفس، قال تعالى: ﴿وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبِّ الْمُعْتَدِينَ﴾ (البقرة : 190)، وقوله تعالى: ﴿… فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ﴾ (البقرة : 194).
7- الطرق الصوفية، والتجار من المسلمين: فقد انتشرت في القارة كثير من الطرق الصوفية، أبرزها التيجّانية والقادرية والسنوسية، وكان منهج التصوف والتجار مبنياً على الإرشاد والتسامح، واستخدام وسائل الترغيب بتأسيس المساجد والمدارس وحسن المعاملة، ومصاهرة سكان البلاد وتعليم مبادئ الدين الإسلامي، مع نشر مبادئ الحرية والإخاء والعدالة بين الناس، وكان الطابع الأساس لنشر الدعوة هو السلم والإقناع .
نشأة الممالك الإسلامية في إفريقيا:
شهدت فترة القرون الوسطى من القرن الثامن إلى القرن السادس عشر الميلادي قيام ممالك إسلامية، سيطرت لفترة من الزمان على مناطق إفريقيا في شرق القارة وفي وسطها وفي غربها، وقد تمكّنت هذه الممالك من نشر الإسلام ونقل الحضارة الإسلامية، وأدّت دوراً بارزاً في تاريخ المنطقة الاقتصادي والاجتماعي والسياسي، حتى إن العصور الوسطى في إفريقيا أضحت عصوراً ذهبية على عكس الحال في أوروبا التي كانت فيها عصوراً مظلمة.
وبالنظر لتاريخ هذه الممالك يظهر جلياً أثر العرب والمسلمين في نقل الحضارة الإسلامية، ونشر القيم الإسلامية والتعليم والتقاليد الإنسانية المنطلقة من التصور الاسلامي للحياة، وهو أمر له أثره الواضح في نشأة هذه الممالك.
أولاً: الممالك الإسلامية في غرب إفريقيا:
انتشر الإسلام في غرب إفريقيا عبر الصحراء الجنوبية حتى ساحل إفريقيا الغربي عن طريق التجارة، وكانت غانا أقدم هذه الممالك.
مملكة غانا:
أول ممالك غرب إفريقيا وأقدمها، وقد دخل الإسلام مملكة غانا في أواخر النصف الأول من القرن الأول الهجري، وفي عام 60 هجرية / 569م تم بناء اثنا عشر مسجداً في مدينة كوبي صالح عاصمة مملكة غانا في الجزء الذي يسكنه المسلمون في المدينة، وكان بالمدينة فقهاء وأئمة وعلماء وحملة علم، وربطت بين غانا في القرن الحادي عشر الميلادي ودولة بني العباس صلات.
أسلم أهل غانا أول الفتح الاسلامي، فأسلم ملكها السونانكي (تلوتان أوبولاتان) ابن تكلان حوالي سنة 222هـ / 836م، وحارب جيرانه الوثنيين، وأسلم ملك غانا تنكامين عندما فتح أمير المرابطين أبو بكر بن عمر اللمتوني وابنه الأمير أبو يحيى عاصمة غانا 469هـ / 1076م، وأصبحت غانا مسلمة منذ ذلك الوقت حكومة وشعباً (8)، وفي هذا التاريخ سقطت غانا على يد عبد الله بن أبي بكر بن زعيم المرابطين.
مملكة صوصو:
أقامها الفولانيون الذين هاجروا من بلاد التكرور في كانياجا، وعُرفت بإمبراطورية صوصو، وتغلب عليهم الماندنجو، واستولوا على هذه البلاد، وباستيلاء الماندنجو على صوصو عاد أهلها إلى بلاد التكرور وأسسوا فيها أسرة حاكمة حتى 1350م.
مملكة مالي:
تُعرف عند العامة ببلاد التكرور، تقع بين برنو شرقاً والمحيط الأطلسي غرباً وجبال البربر شمالاً، وتُعد أعظم ممالك السودان الإسلامية، بلغت المملكة أقصى اتساعها في عهد منسي موسى بن أبى بكر الذي حكم 712 – 738 هجرية.
ومالي من أغنى ممالك السودان الغربي وأقواها، وازدهارها كان يمثّل أعظم فترات التاريخ الإفريقي تطوّراً وتقدّماً، وحكامها لهم دور مهم في نشر الإسلام في غرب إفريقيا، واشتهرت باسم مملكة مالي، كما عُرفت بمملكة الماندنجو، وتارة أخرى ببلاد أو مملكة التكرور (9).
والماندنجو مؤسّسو مملكة مالي من أكثر شعوب إفريقيا تحمّساً للإسلام، وقد اشتهر أن كنكن موسى أشهر ملوك مالي كان يبنى مسجداً في كلّ مكان تدركه فيه الجمعة، وقد اقترن اتساع المملكة بالدعوة إلى الإسلام.
مملكة (سنغاي) صنغاي:
تقع في المناطق الواقعة بين حوض نهر السنغال والنيجر، ومن أعظم الممالك التي نشأت في هذه المنطقة استجابة للمؤثرات الثقافية الإسلامية.
ازدهرت علاقاتها التجارية مع غانا وتونس وبرقة ومصر، من أشهر ملوكها: أسكيا محمد الذي نظّم شؤون المملكة الإدارية، ونظّم الجيش، ونهض بالشؤون الدينية، ووحّد إقليم غرب إفريقيا تحت حكم واحد، ووسع من رقعة المملكة، وامتاز بحسن الإدارة، ومعاونة التجار والعلماء.
أقام في العاصمة إدارة حديثة، شملت العدل والداخلية والزراعة والغابات والمالية، كما أنشأ وزارة لشؤون البيض في شمال إفريقيا.
اشتهرت تمبكتو بوصفها مركزاً حضارياً وعلمياً وفكرياً، وهي أعظم مدن المملكة، وكانت العلوم الدينية تُدرس في جامعاتها، وزارها أساتذة من قدامس والقاهرة (10)، ومن المدن العلمية كذلك غاو وجني.
مملكة كانم:
نشأت في السودان الأوسط، عرفت بمملكة البرنو، تقع الشرق من بحيرة تشاد، توسّعت حتى سيطرت على جميع الأراضي الواقعة إلى الغرب والشمال من بحيرة تشاد – ملتقى للطرق التجارية المارة عبر غرب إفريقيا –، نشأت في القرن الثامن الميلادي، واتّسعت خلال القرنين التاسع والعاشر بفضل انتشار الإسلام، العاصمة مدينة (أنجمي) شمال شرق بحيرة تشاد، وقد شيّدها أحفاد الملك سيف بن ذي يزن، وهي أول عاصمة شُيدت بعد انتشار الإسلام.
وقد عمرت الدولة فترة طويلة من الزمان تحت اسم كانم حينما كانت شرق البحيرة، ومملكة برنو حينما انتقلت إلى غرب البحيرة، وقيل سلاطين الدنيا أربع: (بغداد – مصر – مالي – برنو).
مملكة باقرمي:
نشأت في القرن الخامس عشر الميلادي في منطقة تشاد، على الضفة الغربية لنهر شاري جنوب بحيرة تشاد، العاصمة ماسينيا، قامت بدور مهم في نشر الإسلام والحضارة الإسلامية، أشهر ملوكها عبد الله مالو الذي أقام شعائر الدين، وأصلح نظام الحكم، وطبق الشريعة الإسلامية.
وقد شهدت العاصمة ماسينيا حضوراً علمياً، أمّه العلماء وطلاب العلم، وأضحت معلماً من المعالم الحضارية الإسلامية في وسط إفريقيا.
مملكة وداى:
تقع شمال شرق مملكة باقرمي، تأسّست على يد السلطان عبد الكريم جامع 1835هجرية، وتعاقب أبناؤه على حكمها، حتى مجيء الاستعمار الفرنسي الذي استولى عليها في عام 1909م.
سكانها من العرب والمايا، التاما، الداجو، المساليت، الميمي، القرعان، الموبي والمسمجة، ويتحدثون عدة لغات، وتُعد العربية هي اللغة المشتركة للتفاهم بين السكان، وقامت المملكة بنشر الإسلام واللغة العربية.
مملكة الهوسا:
تقع بين برنو وسنغاي في حوض النيجر الأعلى، والهوسا تكوّنت من مزيج قبلي تكوّن عبر القرون من أصول مختلفة، وكان يُعتقد بأنهم جنس قائم بذاته، إلا أنه اتضح بأنه اصطلاح لغوي يُطلق على جميع الشعوب التي تتكلم بهذه اللغة، وليس هنالك جنس يمكن أن يُسمّى بجنس الهوسا، وينتشرون في كلّ من صُكُتو، كانم، زاريا وباوتشي (11)، يحترفون التجارة، وتقع مناطقهم على مراكز التجارة الرئيسة مع شمال إفريقيا، ولغة الهوسا هي لغة التجارة.
دخل الإسلام إلى بلاد الهوسا إلى مدينة كانو في القرن الرابع عشر، وانتشر بفضل جهاد الفولاني عام 1804م تحت قيادة الشيخ عثمان دان فوديو (12).
ثانياً: الممالك الإسلامية في شرق إفريقيا:
ارتبطت شرق إفريقيا ارتباطاً وثيقاً ببلاد العرب، وأقدم اتصال عرفته شرق إفريقيا ببلاد العرب كان اتصال شعبي وادي الرافدين في عهد سيرجون الأكادي الذي حكم العراق في عام 1709 ق. م (13).
كما وفد السبئيون، وهم عرب جنوب شبه الجزيرة العربية إلى الساحل الشرقي لإفريقيا بغرض التجارة، واختلطوا بأهل الساحل، وتصاهروا معهم، في منتصف الألف التي سبقت ميلاد المسيح عليه السلام، وبدأ الطابع العربي يظهر على الساحل (14).
وبظهور الإسلام في القرن السابع الميلادي أخذت الصلات مع ساحل شرق إفريقيا طابعاً يختلف عن فترة ما قبل الإسلام؛ إذ إن العرب المسلمين سيطروا على الساحل، وبسطوا نفوذهم، وشيّدوا مدناً على طول الساحل بالرغم من عدم وجود وحدة سياسية تجمع كل هذه المدن.
وقد كان لوجودهم الأثر الواضح، فهم الذين أخذوا بأيدي السكان الأصليين في مسالك الحضارة، وأضفوا على حياتهم طابعاً ثقافياً واجتماعياً وإسلامياً، وظهر في المنطقة مجتمع جديد نتيجة لامتزاج الدماء العربية بالدم الإفريقي، وعُرف المجتمع بالمجتمع السواحلي، وتفرد بمميزاته الثقافية.
ومن أبرز مظاهر ذلك المواءمة بين الإسلام والتقاليد المحلية بما لا يتعارض مع تعاليم الإسلام، كما ازدهرت التجارة في مدن الساحل، وعمّ الرخاء، وارتفعت مستويات الحياة، وانتشر الإسلام واللغة العربية.
وشرق إفريقيا حالياً تشمل دول إثيوبيا والصومال وكينيا ويوغندا وتنزانيا ورواندا وبورندي، ونعني هنا بساحل شرق إفريقيا المطل على المحيط الهندي، وبخاصة المنطقة الممتدة من مقديشو في الشمال إلى سفالة في الجنوب، ومنطقة الساحل هي التي أوصلت الحضارة الإسلامية والروابط التجارية الثقافية إلى داخل الهضبة في شرق إفريقيا.
وقد شهدت المنطقة هجرات وتحولات سكانية، وأبرز من هاجروا إليها أهل عمان وأهل حضرموت الذين استوطنوا بعض الجزر والمناطق الساحلية في هجرات صغيرة، فطبعت المنطقة بلغتها ودينها كما اختلطوا بالسكان المحليين، ثم توالت هجرات من الإحساء والبحرين وعمان وحضرموت واليمن بشكل أوسع بهدف الاستيطان الدائم (15).
ثم كان الساحل الشرقي لإفريقيا ملاذاً للفارّين إليه من شبه الجزيرة العربية في القرون الأولى لانتشار الدعوة الإسلامية، فكانت الهجرة الأولى إلى الحبشة، وذلك حينما قال صلى الله عليه وسلم لأصحابه: «تفرقوا في الأرض؛ فإن الله سيجمعكم»، قالوا: إلى أين نذهب؟ قال: «ها هنا» وأشار بيده الشريفة إلى أرض الحبشة، «فإن بها ملكاً لا يُظلم عنده أحد، وهي أرض صدق، حتى يجعل الله فرجاً مما أنتم فيه»، فخرج عند ذلك المسلمون من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أرض الحبشة، فكانت أول هجرة في الإسلام (16).
ثم في عصور إسلامية لاحقة في عهد الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان 65 – 86 هجرية جاءت هجرات عربية فراراً من التنكيل والبطش السياسي في دولة بني أمية إلى شرق إفريقيا، ودعموا جهود تأسيس المدن الإسلامية بعد أن انضموا لمن سبقهم.
وفي الفترة من 75 – 85 هجرية كانت أبرز الهجرات السياسية المكوّنة من سليمان وسعيد أبناء عباد بن الجلندة من قبيلة الأزد العمانية، والتي كانت تحكم عمان في فترة بني أمية، وقد كانوا يؤيدون عبد الله بن الزبير في ثورته في خلافة عبد الملك بن مروان، وكان عبد الملك بن مروان قد وجّه إليهم الحجاج بن يوسف الثقفي 75هـ / 694م، فكان ملاذهم منه ساحل إفريقيا الشرقي.
ثم كانت هجرات الزيدية من اليمن في 757م، فانتشروا في ساحل بنادر، وتوغلوا في الداخل، واتسع ملكهم حتى ضم مدينة مقديشو، وهي مدينة أسّسها العرب المسلمون (17).
وباستقرار هذه الجماعات في شرق إفريقيا ظهرت إرهاصات قيام الممالك الإسلامية في شرق إفريقية؛ إذ تحوّلت الإقامة إلى نظام اجتماعي وسياسي يدير شؤونهم الداخلية، ويحدّد العلاقات الخارجية مع من حولهم، فتطوّرت التجمعات إلى قيادة مركزية، فبدأت الممالك والسلطنات، ومنها:
إمارة شوا:
كانت إمارة شوا في أرض الحبشة في القرن الأول الهجري، وهو ما يُشير إلى انتشار الإسلام، وهي أقدم مملكة نشأت ببلاد الحبشة 886 – 1289م، أنشأها المهاجرون من بني مخزوم في مرتفعات الحبشة، في موقع أديس الحالية، فتكوّنت المراكز والمعاهد والجامعات والمساجد ومدارس تحفيظ القرآن، وتأسّست مدن وحضارات.
وقد عملوا بالتجارة، وأثروا ثراءً عظيماً، وحكمت حوالي أربعة قرون من الزمان، واستمرت حتى سقطت بسبب التناحر الداخلي والتنازع الخارجي مع السلطنات المجاورة،
إمارة لامو:
وقد نشأت ممالك وسلطنات قديمة، أبرزها إمارة لامو التي أنشأها أزد عمان بزعامة سعيد وسليمان بن عباد بن الجلندة 684م، وهي من أقدم الإمارات ظهوراً في المنطقة (18).
إمارة باتا:
ثم كانت إمارة باتا، وأسّس المسلمون عدة مدن ساحلية، هي مالندي – زنجبار – ممبسا – لامو- كلوة – باتا، وقد أدت الأسرة النبهانية دوراً بارزاً في تاريخ الإسلام في شرق إفريقيا بتأسيس هذه الإمارة.
مملكة مقديشو:
ومن الممالك كذلك مملكة مقديشو 908م التي أسّسها أفراد من قبيلة بني الحارث، وقد ساد مقديشو الرخاء، واتسع فيها العمران (19).
سلطنة كلوة:
كما أنشئت سلطنة كلوة 975 – 1499م، وقد أسّسها الشيرازيون بقيادة علي بن الحسن الشيرازي، وعاصمتها كلوة، وكانت مركزاً عظيماً لنشر الإسلام والثقافة الإسلامية.
وقد بسطت كلوة سيطرتها على مناجم الذهب والحديد في روديسيا الحالية، وأخضعت لنفوذها جزر بمبا وزنجبار، وامتد نفوذها إلى جزر القمر، واعترف بسلطانها من قِبل سلاطين المدن والسلطنات الممتدة من مقديشو شمالاً إلى سفالة وموزمبيق جنوباً، وهي الأعظم مقاماً ورفعة (20)، وهي مدينة ساحلية عظيمة العمارة، ومن أشهر مدن الساحل، وعمارتها متقنة، وكلها من الخشب، ويُذكر أنه كان بها ثلاثمائة وستون مسجداً.
ممالك الطراز الإسلامي:
هذا، وقد نشأت بعد ذلك سلطنات عُرفت باسم «ممالك الطراز الإسلامي» في منطقة القرن الإفريقي، وقد عُرفت بـ «بلاد الزيلع»، وهي البلاد المقابلة لبر اليمن على أعالي بحر القلزم والمحيط الهندي، وقد عُرفت باسم «ممالك الطراز» لأنها على جانبي البحر كالطراز له.
ومن دول الطراز التي اشتهرت سبع ممالك، وهي مملكة ايفات أو أوفات جبرت، ومملكة هدية، مملكة داراو، مملكة بالي، مملكة اربيني، مملكة شرخا، مملكة دارة.
ايفات جبرت:
كانت «ايفات جبرت» أكبر وأقوى هذه الممالك (ممالك الطراز)، ويُنسب إليها عبد الرحمن بن حسن الجبرتي، الذي ولد في مصر في حي الأزهر بالصنادقية، ودرس فيه على يد والده وعلى مشايخ الأزهر، وهو المؤرّخ المعروف، وأشهر كتبه كتابه (عجائب الآثار في التراجم والأخبار)، وكتاب (مظهر التقديس بزوال دولة الفرنسيس)، وكانت تمثّل مركزاً للتجارة ومنارة للعلم.
وممن اشتهر من ملكوها الإمام أحمد إبراهيم قران، وتعني الأعسر، وقد ضمّ إليه معظم الدويلات الصغيرة، وضمّت جماعات من التغراي والأمهرة وقبائل الحبشة والصومال.
وأصل الجبرت من المهاجرين العرب الذين دخلوا من الجزيرة العربية إلى بلاد الحبشة في فترة الخلاف السياسي في الدولة الإسلامية، وقد نسبهم البعض إلى بني خزيمة، بينما يرى آخرون أنهم ينتمون إلى عقيل بن أبي طالب، وتذهب رواية أخرى إلى نسبتهم إلى عثمان بن عفان رضي الله عنه (21)، والقول الفصل أنهم عرب ينتمون إلى القبائل القرشية.
اشتهروا بالتمسك بالدين، ومذهبهم الغالب المذهب الشافعي، وعُرفوا بالتقوى والأمانة في العبادة.
وقد انتهت الدولة باستشهاد الإمام أحمد بن إبراهيم قران في معركة مع الحبشة النصرانية بمعاونة الأوروبيين.
وينتشر الجبرت في معظم مدن إثيوبيا وقراها، وقد عمل النصارى على تشتيتهم في مناطق مختلفة وتغيير أسمائهم وفقاً للمناطق التي يستقرون فيها بدلاً من اسم الجبرت، وينتشرون الآن في كلٍّ من إريتريا والصومال والسودان الذي اختلطوا فيه ببعض القبائل كالجعليين في بعض بطونهم.
كما ينتشرون في اليمن والمملكة العربية السعودية بين مكة والمدينة، وفي منطقة وادي قديد ووادي قليص، ويوجدون في مصر والشام والعراق، وممن اشتهر منهم عبد الرحمن بن حسن الجبرتي، واشتهر في العصر الحديث الشيخ عبد المجيد الجبرتي إمام الحرم النبوي الشريف وقاضي مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم وعضو هيئة التمييز (22).
وقد تحدّث المؤرخون، كالعمري والقلقشندي، عن دول الطراز الإسلامي من حيث الموقع والجغرافيا والمساحة والقوة العسكرية.
ومما هو جدير بالذكر هنا؛ أنه بالنظر في نشأة ممالك الطراز الاسلامي، وما شهدته منطقة القرن الإفريقي بسبب الهجرات المتبادلة من جزيرة العرب وبلاد الأحباش، يبدو لنا الأثر في لغة الجعييز، وهو الاسم الذي عُرفت به اللغة الحبشية القديمة، وتنسب إلى قبيلة Geez ، فقد أصبحت هذه اللغة هي لغة التخاطب، والأجعزيات قبيلة عربية هاجرت إلى بلاد الحبشة، واستقرت في الجانب الشمالي الشرقي منها (23).
وقد تعاظم نفوذ هذه القبيلة في بلاد الحبشة، وأصبحت لغتهم لغة الدين والكتابة حتى القرن الثالث عشر الميلادي، ثم غلبت عليهم اللغة الأمهرية التي حكمت منذ ذلك الوقت، والأمهرية لغة من اللغات السامية كلغة الجعيز والتجرينية، وقد تأثرت اللغات بعضها ببعض فيما يُعرف عند علماء اللغة بالاقتراض اللغوي، كما هو معروف في اللغة السواحلية التي احتوت على كلمات عربية؛ مما يدل على تأثرها باللغة العربية، وتأثرت العربية بلغة الحبشة، وصارت الألفاظ المقترضة جزءاً من العربية، وهي ظاهرة معروفة في تطوّر اللغات.
أبرز مظاهر الحضارة الإسلامية في الممالك الإفريقية:
مما سبق من عرض؛ يتضح لنا أنه، وبفضل الإسلام، تحوّلت المنطقة إلى قيم الحضارة الإسلامية، وكان نتاج ذلك حضارة عظيمة في شرق إفريقيا وفي غربها، وفيما عُرف بممالك الطراز الإسلامي.
ويمكن إبراز معالمها في الآتي:
النظم والإدارة:
لقد أدت الممالك الإسلامية التي غطت أجزاء واسعة في بلاد غربي إفريقيا وشرقي إفريقيا، كغانا ومالي وصنغي وكانم و برنو وغيرها دوراً مهماً، وأسهمت إسهاماً ايجابياً في نقل الفكر الإسلامي إلى داخل إفريقيا، ففي مجال النظم السياسية والإدارية حكم الملوك المظاهر الإسلامية في حياتهم وأنظمة بلادهم، وحمل البعض لقب الإمام ولقب البعض بلقب أمير المؤمنين، وعملوا بمبدأ الشورى الوارد في قوله تعالى: ﴿… وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ… ﴾ (الشورى : 38)، من هؤلاء إسكيا محمد ملك صنغاي 1453م، وبعض مايات دولة كانم، وكان النظام السائد في كانم نظاماً ملكياً انتخابياً في كلّ الأوقات، وقد كان العلم والكفاية والعدالة أهم شروط الرئاسة عندهم (24).
كما استخدم ملوك برنو لقب خليفة، ولقب أمير المؤمنين، وكذلك الحال في الخلافة السكتية.
هذا، وقد عرفت ممالك إفريقيا نظام الوزارة منذ دخول الإسلام إليها، وقد عرف بدولة مالي باسم صندكي (25)، وكان عمل الوزراء مقصوراً على تنفيذ أوامر الخليفة، والإلمام بشؤون الإدارة والمال وأحوال الولايات.
ومن المناصب التي عرفتها ممالك إفريقيا الإسلامية الكتابة والحجابة، وقد ذكر العمري والقلقشندي أن ملك مالي يستعين بطائفة من الكتّاب الذين يلمّون إلماماً تاماً بالقراءة والكتابة (26).
كما حافظت هذه الممالك على النظام المالي الذي سار وفق النظم الإسلامية المستمدة من تعاليم القرآن الكريم، مثل الزكاة والجزية والغنيمة، وكانت تُدفع لبيت المال.
أما القضاء؛ فقد كان مستقلاً عن السلطة التنفيذية، ويطبق الشريعة الإسلامية.
وقد عملت هذه الممالك بنظام المظالم، وكان خلفاء الدولة الصكتية ينظرون المظالم بأنفسهم، كما كان في أول دولة الإسلام، كما ظهرت ولاية الحسبة (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)، وازدهرت هي الأخرى في خلافة صوكتو للحاجة لهذا المنصب لضبط أمور الدولة في الاجتماع والاقتصاد.
التعليم:
شهدت الممالك الإفريقية نهضة علمية، فكانت المدن مليئة بالعلماء والفقهاء والأئمة، وكانوا يتمتعون بالاحترام، ويمنحون الرواتب السخية.
وكان الطلب مشتداً على الكتب، وقد راجت تجارة الكتب، ويذكر ابن بطوطة أنه رأى كتاب (المدهش لابن الجوزي) في إحدى مدن مالي (27).
وقد اشتهرت مدن شتى بالعلم، وبرزت المراكز الثقافية، وأهم مركز ثقافي في تنبكت في مسجد سنكري أو جامعة سنكري.
وقد انتشرت المدارس في جميع المدن، والتعليم ينصبّ على تعليم القرآن واللغة العربية، وكانت اللغة العربية هي لغة الدواوين الحكومية والمراسلات الدولية والتجارة، وهي اللغة السائدة كما يقول توماس أرنولد: «غدت اللغة العربية هي لغة التخاطب بين قبائل نصف القارة الإفريقية» (28).
هذا، وقد تركت اللغة العربية أثرها في اللغات المحلية، ويظهر ذلك جلياً في لغة الهوسا، وفي اللغة السواحلية، وفي اللغة الأمهرية، ولا يزال الحرف العربي يستخدم في هذه اللغات.
وللممالك الإسلامية في التاريخ القديم اهتمام بالتعليم، مثل مملكة مالي، صنغاي، سوكوتو، إذ كان لها دور كبير في نشر التعليم، وبدأت أولى تجارب التعليم النظامي، وعلى سبيل المثال ففي الدولة الإمامية في فوتاتورو بالسنغال بنى الشيخ عبد القادر كُن 40 مسجداً جامعاً، يضمّ كلّ مسجد حلقات علمية للصغار والكبار لدراسة القرآن الكريم والعلوم الشرعية واللغوية، وأسّس المدارس القرآنية والحلقات العلمية في أنحاء البلاد، وفي عهده أسّست مدينة جولون، وأضحت مدرستها من أشهر المدارس في الدولة المتخصصة في الدراسات الأدبية واللغوية، وأنجبت علماء في اللغة والأدب (29).
العمارة والمدن:
ظهرت في هذا المجال مدن عدة أشهرها مالي وكومبي صالح، جني، تمبكتو، وغيرها من المدن، فتم تخطيط المدن، وانتشر فن الزخرفة في الأبواب والشبابيك والجدران، ونظام النقش والحفر، واستخدمت الفسيفساء والرخام الملوّن، وقصور ومساجد مدينة مكوة تؤكد رقي هذا الفن.
وكانت المدن التي ظهرت عبارة عن مراكز حضارية تجارية حصينة ومنيعة، تحميها القوة البرية الضاربة، وتتسع الأسوار والحدائق الغنّاء، والمباني المزينة بالإطارات والنقوش الخشبية الزاهية والرسوم المعدنية البارزة، ويحيط بالمدن في بعض الإمارات سور كبير مبني من اللبن، وخندق متسع يجري فيه الماء للدفاع عنها إذا ما تعرضت للخطر، ونموذج ذلك بعض مدن إمارات بلاد الهوسا، وكانت مدينة كلوة على الساحل الشرقي من أحسن المدن وأتقنها عمارة، وقد شهدت ازدهاراً ورخاء في القرن الثاني عشر الميلادي.
كما بنيت المساجد الكبيرة بالحجارة، كما في كيزيمكازي KIZIMKOZE جنوب جزيرة زنجبار (30).
كما كانت مملكة مالي تتحكم في مناجم الذهب في مدينة ونقارة، ولذلك فقد كانت واسعة الثراء، وعُرف ملكها بملك الذهب (31)، وهذه نماذج على سبيل المثال لا الحصر.
وما أن حل القرن الحادي عشر الميلادي حتى نشأت مدن إسلامية في خريطة ساحل شرق إفريقيا، حملت السمات والطابع الاسلامي، وقضت على التأثيرات الخارجية، فكانت مقديشو وبراوة، قسماتو، بات، لامو، زنجبار، مكوة، موزمبيق، سفالة، وقد كانت المدن التي ذكرت بالجزر لطيفة الهواء معتدلة المناخ، امتازت بالموقع الحصين لوقوعها على البحر، أو قريبة من الساحل كجزيرة زنجبار وميسة وكلوة.
المجتمع:
أما في المجال الاجتماعي؛ فقد انصهر العرب المسلمون مع سكان هذه المناطق، ونتج من ذلك الانصهار مجتمع جديد، وثقافة جديدة، تعتمد في جوهرها على دين الإسلام، وكان نتاج ذلك ظهور طائفة من العلماء في معارف وفنون مختلفة، وأبرز هؤلاء المؤرخ عبد الرحمن الجبرتي 1168هـ /1754م وغيره من العلماء، فضلاً عن بروز مجتمع حضاري تُمارس فيه نظم الحكم، وتُطبق فيه الشورى، وحسن الإدارة.
كما انتشرت اللغة العربية في مساحات واسعة من بلاد القرن الإفريقي والساحل الشرقي، ليس ذلك فحسب، بل أصبحت المدن التي ذكرت مراكز للإشعاع الحضاري والثقافي والفكري، محافظة على ذلك حتى بعد مجيء المستعمر الأوروبي، وعلى روح ومكونات الثقافة الإسلامية، ولا تزال المساجد والمدارس الإسلامية تنتشر في كل البقاع، وهو ما أسّس لقيم من الأخلاق في مجال العادات والتقاليد، وخصوصاً أن الزواج حتى يومنا هذا يتم وفقاً للنظم والتقاليد الإسلامية.
الاقتصاد:
وفي مجال الاقتصاد؛ اشتغل التجار بنقل المحاصيل، فازدهرت تجارة البحر، ونقلت المعادن كالعاج والذهب والمحاصيل وريش النعام، العسل، الجلود، اللؤلؤ، اللبان، الموز والصمغ، فراجت هذه البضائع في بلاد الشام والعراق، وأضحت منسي وزنجبار وكلوة، كالمدن الفينيقية التي اشتهرت في البحر الأبيض المتوسط كصيدا وصور.
وفي المجال الصناعي؛ تم استخراج النحاس والذهب والفضة والحديد، واعتمد أهل الساحل على الذهب والحديد في معاشهم، وكانت سفالة مصدراً للذهب الذي يدخل الدولة الإسلامية، حتى عُرفت (بسفالة الذهب).
وفي مجال الثروة الحيوانية؛ أدخل المسلمون تربية الماشية من إبل وأغنام، وانتشرت تجارة الجلود، وعُرفت المنطقة بتصديره.
الزراعة والحيوان :
ارتقت الزراعة في الممالك الإسلامية الإفريقية، ونموذج دولة مالي ذات الأرض الخصبة يوضح ذلك، فكانت تنتج القطن والقمح والذرة وهو أكثر حبوبهم، ويزرعون الأرز، ولهم حبوب تشبه الخردل، ومن الخضروات اللوبيا والقرع والباذنجان، ومن حيواناتهم الخيل، ومن الطيور الإوز والدجاج والحمام، وقد وفدت إليهم هذه الحاصلات والحيوانات من مصر.
ختاماً:
بفضل الإسلام تحوّلت هذه المناطق إلى قيم الحضارة الإسلامية، وكان نتاج ذلك حضارة عظيمة في شرقي القارة وغربها وفي ممالك الطراز، فكانت براوة، وهي جزيرة عربية على الساحل الشرقي لإفريقيا، مكاناً لانتشار العلوم العربية والإسلامية.
من ثم فلا بد من العناية بمناطق ساحل إفريقيا الشرقي ومنطقة القرن الإفريقي وغرب إفريقيا، والاهتمام بالدور العلمي والسياسي الذي اتسمت به في نهضتها، بما يخدم التراث والثقافة الإسلامية، ويرسّخ لحفظ جذوة الإسلام وحضارته، ويجذر لها في هذه المناطق.
الإحالات والهوامش:
(*) أستاذ مشارك جامعة الجزيرة – السودان.
(1) محمد عبد الغني سعودي: إفريقية.. دراسة في شخصية القارة وشخصية الإقليم، مكتبة الأنجلو المصرية 1976م، ص 73.
(2) هناك تباين شديد في تحديد نسبة المسلمين في إفريقيا نظراً لعدم وجود إحصائيات دقيقة وحديثة، وغالباً النسبة تتراوح ما بين 50 – 55%، (مجلة قراءات إفريقية).
(3) الشبكة العنكبوتية: الموسوعة الحرة ويكيبيديا.
(4) إسماعيل أحمد باغي ومحمود شاكر: تاريخ العالم الإسلامي الحديث والمعاصر، ج 2، ص 3.
(5) حسن إبراهيم حسن: انتشار الإسلام في القارة الإفريقية…، الطبعة الثانية – مكتب النهضة المصرية، 1984م، ص 10.
(6) محمد الأمين آية البقاري: نشأة الممالك الدويلات، الشبكة العنكبوتية، ص 1.
(7) حسن إبراهيم حسن: انتشار الإسلام في القارة الإفريقية، مرجع سبق ذكره، ص 36.
(8) نشأة الممالك والدويلات الإسلامية في إفريقيا.. ممالك وسلطنات الطراز الاسلامى في شرق إفريقيا، الشبكة العنكبوتية.
(9) حسن ابراهيم حسن: مرجع سبق ذكره، ص 108، محمد الأمين آية البقاري، مرجع سبق ذكره، ص 6.
(10) محمد أمين آية البقاري: مرجع سبق ذكره، ص 6، ونشأة الممالك والدويلات الإسلامية في إفريقيا.. ممالك وسلطنات الطراز الإسلامي في شرق إفريقيا، مرجع سبق ذكره، ص 1.
(11) حسن إبراهيم حسن: انتشار الإسلام في القارة الإفريقية، مكتبة النهضة المصرية، طبعة ثالثة 1984م، ص 116.
(12) حسن عابدين – السر العراقي: معالم التاريخ الإفريقي، مؤسسة التربية للطباعة والنشر، ط 10 – 1991م، ص 41، عثمان دان فوديو: مصلح ديني ومحارب، تأثر بمبادئ المصلح الشيخ محمد بن عبد الوهاب، عُرف بالورع والتقوى، ووحّد الجماعات المتناحرة في منطقة الهوسا.
(13) محمد حسن : هجرة العرب المسلمين إلى شرق إفريقيا، مجلة المؤرخ العربي، العدد 23 لعام 1983م، ص 96.
(14) محمود محمد الحويري: ساحل شرق إفريقية في فجر الإسلام حتى الغزو البرتغالي، مطبعة القاهرة الجديد 1986م، ص 3.
(15) محمد حسين الزبيدي، مرجع سبق ذكره، ص 104.
(16) ابن هشام: السيرة النبوية، دار الكتاب العربي ببيروت – لبنان، 1989م، ص 349.
(17) محمد حسين الزبيدي، مرجع سبق ذكره، ص 7.
(18) عوض الكريم إبراهيم نور الدين: أبحاث الندوة العالمية عن التعليم الإسلامي، جامعة الملك فيصل – أنجمينا 1425هـ.
(19) العمري: ممالك الأمصار، ج 2، الشبكة العنكبوتية، ونشأة الممالك في شرق إفريقية، مرجع سبق ذكره، ص 3.
(20) محمود محمد الحويري، مرجع سبق ذكره، ص 118 – 122.
(21) بدرية يوسف عبد الرحمن: مملكة جبرت كبرى ممالك الطراز الإسلامي، ص 4.
(22) بدرية يوسف عبد الرحمن، المرجع السابق، ص 10 – 24.
(23) نشأة الممالك والدويلات الإسلامية في إفريقيا، مرجع سبق ذكره، ص 5.
(24) السر سيد أحمد العراقي: بلاد غرب إفريقيا عبر التاريخ الدور الحضاري الثقافي، الشبكة العنكبوتية – منتديات سفر التاريخ.
(25) السر سيد أحمد العراقي، مرجع سبق ذكره.
(26) السر سيد أحمد العراقي: نظام الحكم في الخلافة الصكتية، جامعة الخرطوم 1983م، ص 44.
(27) حسن إبراهيم، مرجع سبق ذكره، ص 152.
(28) حسن إبراهيم حسن، مرجع سبق ذكره، ص 153.
(29) مقال: التعليم والتنمية، افتتاحية مجلة قراءات إفريقية، العدد 12 – أبريل – يونيو 2012م، ص 2.
(30) محمود محمد الحويري: ساحل شرق إفريقيا، مرجع سبق ذكره، ص 29.
(31) إبراهيم علي طرخان: دولة مالي الإسلامية دراسات في التاريخ القومي الإفريقي، الهيئة المصرية العامة للكتاب – 1973م.