لاندري سيني
زميل أول – الاقتصاد العالمي والتنمية، أستاذ مبادرة نمو إفريقيا، والمدير العام – مدرسة ثندربيرد للإدارة العالمية، جامعة ولاية أريزونا- زميل متميز – جامعة ستانفورد- معهد بروكينغز للدراسات, واشنطن
ترجمة: باسل هشام الحمامي
زار وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن والوفد المرافق له, إفريقيا جنوب الصحراء في أغسطس الجاري من يوم 7 حتى 12، وشملت جولته الإفريقية: جنوب إفريقيا, وجمهورية الكونغو الديمقراطية، ورواندا. وهي الزيارة التي تأتي في أوقات عصيبة؛ بسبب الجائحة العالمية والحرب في أوكرانيا؛ وهما الأمران اللذان كان لهما تأثير بالغ على القارة الإفريقية.
بشكل عام، هدف بلينكن من الزيارة هو البناء على زيارته التي قام بها في نوفمبر من العام الماضي، وتعزيز العلاقات بين الدول الإفريقية والولايات المتحدة من أجل تقوية المصالح المشتركة، وحتى يتمكن كلا الطرفين من التعاون الإيجابي والبنَّاء في بيئة عالمية معقدة.
كما تأتي الزيارة في سياق المنافسة الشديدة بين القوى المتقدمة والناشئة في العالم، وقدرة البلدان في إفريقيا على المساهمة في حلّ التحديات العالمية.
ومن أجل تعزيز العلاقات الإيجابية أعلن بلينكن عن استراتيجية الولايات المتحدة في إفريقيا جنوب الصحراء، هذا الإعلان عن الاستراتيجية أثناء زيارته للزعماء الأفارقة بمثابة رسالة احترام وتقدير من الولايات المتحدة، وصرح كذلك بأنَّ الدول الإفريقية تلعب دورًا جيواستراتيجيًّا مهمًّا، بالإضافة إلى أن القادة الأفارقة شركاء مُهمّين في القضايا الأكثر إلحاحًا في يومنا هذا.
ويتمثل الهدف الرئيس الثاني للزيارة في تعزيز العلاقات الثنائية عن طريق التركيز على القضايا المهمة داخل البلدان الثلاثة التي زارها بلينكن, وخاصةً القضايا التي لها تأثير بالغ على القارة بشكل عام، وعلى العلاقات بين هذه الدول والولايات المتحدة بشكل خاص.
وتأتي هذه الزيارة رفيعة المستوى في وقت فريد مليء بالضغوط الاقتصادية والصحية والجيوسياسية، ومن المرجح أن يتم فيه إعادة ترتيب الأولويات، واتخاذ المزيد من الإجراءات. ولا تزال البلدان الإفريقية تعاني من صدمات اقتصادية شديدة، مع محاولتها التعافي من اضطرابات وباء كورونا وإدارة الأزمات الناجمة عن الغزو الروسي لأوكرانيا.
فمع توقف الصادرات الغذائية والزراعية من كلا البلدين تُهدّد الحرب في أوكرانيا سلسلة الإمدادات الغذائية -الهشّة بالفعل- في إفريقيا.
كما أحدثت الحرب في أوكرانيا أيضًا توترات جيوسياسية أخرى, ولذا زار بلينكن إفريقيا بعد أيام فقط من زيارة وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف لأربع دول إفريقية (أوغندا, جمهورية الكونغو الديمقراطية, إثيوبيا، ومصر), في زيارة تهدف إلى توسيع الوجود الروسي في إفريقيا، كما تسعى للحصول على الدعم في حربها.
وتأتي زيارة بلينكن أيضًا في أعقاب إعلان إدارة بايدن عن قمة إفريقية-أمريكية على مستوى القادة ستُعقد في العاصمة واشنطن في ديسمبر 2022م. ومن أهداف الزيارة أيضًا رغبة واشنطن في طمأنة الدول والزعماء الأفارقة بأنهم شركاء مهمّون؛ حيث إن لكل دولة في مسار الرحلة خلفية فريدة وفرصة لتطوير علاقة الولايات المتحدة بإفريقيا.
جنوب إفريقيا.. أهم البلاد الإفريقية بالنسبة للولايات المتحدة:
محطة بلينكن الأولى كانت في جنوب إفريقيا, وهي واحدة من أهم البلاد الإفريقية بالنسبة للولايات المتحدة، لا سيما في مجال الصحة والبيئة والتعليم والاقتصاد الرقمي. وخلال زيارته ترأس بلينكن وفد الولايات المتحدة في الحوار الاستراتيجي بين البلدين؛ حيث تم التركيز على “الأولويات المشتركة، بما في ذلك الصحة والبنية التحتية والتجارة والاستثمار والمناخ”.
وتعد جنوب إفريقيا أكبر شريك تجاري للولايات المتحدة، كما تستضيف أكثر من 600 شركة أمريكية, العديد منها مقره الرئيسي يقع في البلاد, وتساهم جنوب إفريقيا بنسبة 25 في المائة من إجمالي دخل الولايات المتحدة من القارة، كما تتلقى باستمرار معظم الاستثمار الأجنبي المباشر من الولايات المتحدة، ونصف عدد الشركات الإفريقية التي تبلغ قيمتها مليار دولار أو أكثر توجد في جنوب إفريقيا؛ مما يجعلها بوابة للوصول للأسواق الإفريقية الأخرى.
إلى جانب كل هذه المميزات الاقتصادية؛ تتمتع جنوب إفريقيا بأهمية جيوسياسية كبيرة, فهي تُعدّ القوة الإقليمية المهيمنة لمجموعة تنمية إفريقيا الجنوبية, وهي -إلى جانب نيجيريا ومصر- أحد أكبر ثلاثة اقتصادات في القارة، وتمثل أكثر من 50 في المائة من إجمالي الإنفاق الاستهلاكي والتجاري في القارة, وتلعب جنوب إفريقيا أيضًا دورًا رئيسيًّا في صنع القرار المتعلق بالاتحاد الإفريقي, وكانت إحدى الدول المُؤسِّسة للشراكة الجديدة من أجل تنمية إفريقيا، والتي أصبحت الآن وكالة تنمية الاتحاد الإفريقي.
وحافظت جنوب إفريقيا حتى الآن على الحياد النسبي فيما يتعلق بحرب أوكرانيا، ويرجع ذلك على الأرجح إلى دعم موسكو لنضال حزب المؤتمر الوطني الإفريقي ضد حكومة الفصل العنصري. وكانت هذه العلاقات موضوعًا للنقاش خلال زيارة بلينكن؛ نظرًا للضغط الذي تمارسه القوى الغربية والمنظمات غير الحكومية ونشطاء حقوق الإنسان على جنوب إفريقيا لإدانة روسيا.
زيارة بلينكن، ولا سيما قيادته للحوار بين البلدين في جنوب إفريقيا، أكَّدت أن هذه العلاقة الثنائية تمثل أولوية للولايات المتحدة، وتعيد التأكيد على الدور المركزي لجنوب إفريقيا على المستوى الاقليمي، وفي القارة ككل من أجل تعزيز التكامل التجاري.
جمهورية الكونغو الديمقراطية.. موطن الثروات الهائلة:
ومن جنوب إفريقيا، سافر بلينكن إلى جمهورية الكونغو الديمقراطية؛ حيث تمت مناقشة الموضوعات ذات الأهمية المشتركة التي تشمل تحقيق السلام في منطقة البحيرات العظمى، ودعم العلاقات الاقتصادية المستقبلية من خلال التجارة والاستثمار، وتعزيز حقوق الإنسان والحريات، ومكافحة الفساد.
جمهورية الكونغو الديمقراطية هي أكبر دولة في إفريقيا جنوب الصحراء من حيث المساحة, وهي موطن لثروة هائلة من الموارد (تُقدّر قيمتها بنحو 24 تريليون دولار من الموارد المعدنية غير المستغلَّة)، وإمكانيات كبيرة للطاقة الكهرومائية، وتنوع بيولوجي كبير. ومع ذلك، على الرغم من هذه المميزات الكثيرة، كانت جمهورية الكونغو الديمقراطية تاريخيًّا، ولا تزال، عُرضة لعدم الاستقرار السياسي، والصراع العنيف، والأزمات الإنسانية.
ظهرت حركة 23 مارس المتمردة (ام23) بعد انتهاء حرب الكونغو الثانية في عام 2003م، واستمرت في ترويع المجتمع حتى هزيمتها على يد الجيش الكونغولي وقوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة في عام 2013م. ومنذ ذلك الحين ظهرت جماعات مسلحة أخرى تسبّبت في أعمال عنف شديدة وانتهاكات واسعة لحقوق الإنسان.
غذَّت ثروة الموارد في جمهورية الكونغو الديمقراطية أعمال العنف في المنطقة؛ حيث إن الجماعات المسلحة تموّل عملياتها في كثير من الأحيان من خلال نهب المناجم والتعاون مع المهربين. وتشير التقديرات إلى أن المنطقة الشرقية وحدها تنشط بها أكثر من 100 مجموعة مسلحة مختلفة؛ نتيجةً لذلك, فرَّ الملايين في السنوات الأخيرة بسبب العنف؛ حيث يوجد حاليًا 4.5 مليون نازح داخليّ في جمهورية الكونغو الديمقراطية، وأكثر من 800,000 لاجئ كونغولي في دول أخرى, وأدى ضعف الحكومة في البلاد إلى تغذية الصراع المسلح؛ حيث لا تسيطر القيادة على الإقليم بأكمله.
في الوقت نفسه، كان حوالي 60 مليون كونغولي -حوالي 73% من السكان- يعيشون على أقل من 1,9 دولار في اليوم، وذلك في عام 2018م. وسيكون من الأهمية بمكان بالنسبة للولايات المتحدة وجمهورية الكونغو الديمقراطية، على حد سواء، إيجاد حل من أجل السلام والاستقرار, فمع استمرار عنف المتمردين يتم إعاقة جهود التنمية في البلاد.
وعلى الرغم من كل هذه العقبات؛ تشير الجهود الأخيرة المبذولة في إصلاح القطاع العام والتعليم الابتدائي المجاني إلى إمكانية وجود علاقة جديدة بين الدولة ومواطنيها. وتدرك الولايات المتحدة هذه التغييرات، وتعمل على زيادة قدرات الدولة على تنفيذ الإصلاحات الضرورية, مع ضمان تحقيق الديمقراطية وتأمين الانتخابات المقبلة المقرر إجراؤها في عام 2023م.
تجدر الإشارة إلى أن النزاعات التي ذُكرت هي عوامل ساهمت في انخفاض مشاركة الولايات المتحدة في صناعة التعدين الضخمة في البلاد؛ وهي فرصة اقتصادية ضائعة بالنسبة للولايات المتحدة, على اعتبار أن جمهورية الكونغو الديمقراطية بها 70% من الكوبالت في العالم، و60% من الكولتان، وباعتبارها أيضًا رابع أكبر مُنْتِج للنحاس، ولذا فإن الكونغو في وَضْع يُمكِّنها من تحقيق الرخاء لشعبها والقارة الإفريقية أيضًا على نطاق أوسع.
وبما أن الكوبالت والكولتان من المعادن الرئيسية للتقنيات النظيفة؛ فإن ما تتمتع به جمهورية الكونغو الديمقراطية من موارد طبيعية يُمثّل فرصة كبيرة للمستثمرين الأمريكيين، ونظرًا لدور جمهورية الكونغو في تحقيق أكبر قدر من السلام والاستقرار في محيطها الجغرافي، يجب على الولايات المتحدة أيضًا أن تعمل على تحسين موقعها كلاعب رئيسي في قطاع التعدين في البلاد.
ومع ذلك، حتى الآن، فإن الصين تهيمن على قطاع تكنولوجيا الطاقة النظيفة، وهو أمرٌ سيستمر إذا نجحت محاولاتها للوصول الآمن إلى هذه المعادن في جمهورية الكونغو الديمقراطية.
وفي الواقع، وفقًا لصحيفة نيويورك تايمز، “فقد فشل الأمريكيون في حماية عشرات السنوات من الاستثمارات الدبلوماسية والمالية في الكونغو؛ حيث يتم التحكم في أكبر إمدادات الكوبالت في العالم مِن قِبَل الشركات الصينية المدعومة من بكين”.
ولا ينبغي أن تدفع هيمنة الصين الحالية على هذا القطاع الولايات المتحدة إلى التنازل، بل يجب أن تبدأ وتنفّذ بقوة أكبر نموذج لتسريع الاستثمار في جمهورية الكونغو الديمقراطية في قطاع التعدين والقطاعات الأخرى أيضًا.
خلال رحلته، انتهز بلينكن الفرصة لبدء محادثات حول كيفية تشجيع شركات التعدين على خَلْق قيمة مضافة بالنسبة لجمهورية الكونغو الديمقراطية، وبالتالي دعم التنمية المستدامة على المدى الطويل. وستكون مثل هذه الشراكات مفيدة لكلا الجانبين؛ لأن خلق القيمة المضافة محليًّا سيساعد جمهورية الكونغو الديمقراطية على تنويع صادراتها واقتصادها، مما يوفّر فرصًا استثمارية أكبر في مجالات رئيسية أخرى، ويؤدي إلى ميزة تنافسية تتفوق في الأداء على نماذج التعدين البحت للمنافسين. كما انتهز بلينكن الفرصة لمناقشة التحديات الرئيسية لجمهورية الكونغو الديمقراطية أمام الاستثمار عمومًا، والتي تشمل الفساد وضعف البنية التحتية ونظام الضرائب التعسفي.
رواندا.. لاعب مهم على المستوى دون الإقليمي والقاري:
محطة بلينكن الأخيرة كانت في رواندا، وهناك ناقش خطط حفظ السلام، ودور رواندا في الحد من التوترات في جمهورية الكونغو الديمقراطية الجارة، كما ناقش المخاوف المستمرة بشأن حقوق الإنسان في البلاد.
جدير بالذكر أن رواندا تطورت كلاعب مهم على المستوى دون الإقليمي والقاري، وكذلك على المستوى الدولي, فبعد الإبادة الجماعية التي كادت أن تدمر البلاد، وفشل المجتمع الدولي في حماية الروانديين، ابتكر الروانديون نموذجًا ناجحًا للتعافي من خلال أمرين؛ أولاهما قدرة الدولة على تقديم السلع والخدمات بفعالية، والأمر الثاني هو دبلوماسية حفظ السلام الاستباقية في القارة.
كان يُنظَر إلى الرئيس بول كاغامي على أنه حليف مستقر للولايات المتحدة عندما تم تعيينه لأول مرة في عام 2000م، ونجح في تخفيف الحواجز أمام الأعمال التجارية، مما أدَّى إلى زيادة الاستثمار الأجنبي للولايات المتحدة.
وعلى الرغم من هذه الاتجاهات الإيجابية، فلم تكن كل رحلة بلينكن إلى كيغالي سهلة؛ فمثلاً توجد توترات بين رواندا وجمهورية الكونغو الديمقراطية بشأن زيادة نشاط الجماعة المسلحة (ام 23)، والتي تتخذ من جمهورية الكونغو الديمقراطية مقرًّا لها (والتي تدّعي كينشاسا أنها مدعومة من كيغالي، وهو أمر تنفيه الأخيرة). ونزوح 170,000 بسبب أعمال العنف منذ فترة.
وكان لدى بلينكن عدد من القضايا الحساسة الأخرى التي ناقشها مع كاجامي؛ فقد كتب السناتور بوب مينينديز، الذي يرأس لجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ الأمريكي، رسالة الشهر الماضي دعا فيها إلى مراجعة نهج الولايات المتحدة في رواندا؛ حيث أثار قضايا حقوق الإنسان في البلاد. وقد ذكر بلينكن نفسه أنه سيناقش هذه القضايا، بما في ذلك “الاحتجاز غير المشروع للمقيم الدائم الشرعي للولايات المتحدة بول روسسابجينا” إلى جانب الأولويات المشتركة مثل حفظ السلام.
زيارة بلينكن سلّطت الضوء أيضًا على الإمكانات الكبيرة لتوسيع الفرص الاقتصادية ذات المنفعة المتبادلة بين الولايات المتحدة ورواندا. فعلى الرغم من امتلاكها لسوق صغير، تُعدّ رواندا وِجْهة مهمة للاستثمار الأجنبي الأمريكي، وذلك بفضل جهودها الناجحة لخلق بيئة أعمال مناسبة.
وطوّر كاجامي علاقات مع رؤساء الشركات متعددة الجنسيات التي ترغب في الاستثمار في شرق إفريقيا؛ حيث قاد شركات كبرى مثل فولكس فاجن وستاربكس وفيزا إلى فتح المصانع وشراء السلع والاستثمار المالي في رواندا, ومن المرجّح أن تنمو فرص الاستثمار والأعمال لصالح كل من رواندا والولايات المتحدة (وبالطبع القارة ككل)، مع التنفيذ الناجح لمنطقة التجارة الحرة القارية الإفريقية.
خلال زيارته، كان يهدف بلينكن إلى موازنة نقاط القوة في رواندا -حفظ السلام، وفعالية الدولة، وبيئة الأعمال المؤيدة لأعمال الاستثمار في البلاد-، والعمل على التغلب على تحديات حقوق الإنسان، حتى تتمكن من توسيع نطاق وصولها كلاعب أساسي لدول أخرى في القارة.
بشكل عام، بينما زار بلينكن ثلاث دول فقط, وكان التركيز على تعزيز العلاقات الثنائية للولايات المتحدة مع جنوب إفريقيا وجمهورية الكونغو الديمقراطية ورواندا؛ فإن هذه الزيارات هي جزء من جهود الإدارة الأمريكية لتنشيط العلاقات الأمريكية الإفريقية.
ما يهم في نهاية المطاف, إلى جانب الإعلان عن استراتيجية الولايات المتحدة لإفريقيا جنوب الصحراء الكبرى؛ هو أن تقوم الولايات المتحدة بمواءمة الأهداف والطرق والوسائل بشكل ملموس لاتخاذ الإجراءات وتنفيذ هذه الاستراتيجية من أجل المنافع المتبادلة طويلة الأجل لإفريقيا والولايات المتحدة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
يمكن الاطلاع على المقال الأصلي عبر هذا الرابط :