نجم الدين السنوسي (*)
اختلفت الآراء حول أصل الشعوب الإفريقية، فهناك رأي يؤكد أن أصل الأفارقة يرجع إلى هجرات من خارج القارة، حدثت عن طريق باب المندب وامتدت في أنحاء القارة، مستندين في نظريتهم هذه على تشابه العناصر الإفريقية مع عناصر ذات صفات زنجية في جزر المحيط الهادي، في حين يرى آخرون أن وجود الزنوج بهذه الكثرة والتنوع في القارة الإفريقية يمكن أن يكون دليلاً على أن إفريقيا هي الموطن الأصلي لهذه الشعوب.
تقطن إفريقيا مجموعات بشرية عديدة تنقسم إلى عدة عناصر رئيسة، وهي:
1 – الساميون: ويسكنون شمال إفريقيا، ويتكلمون لغات سامية، ويسهل تمييزهم عن غيرهم لوضوح طابع الجزيرة العربية عليهم.
2 – الحاميون: وهم الذين لا يتكلمون لغات سامية ولا زنجية، وفيهم سمات الجنس القوقازي مع بعض العناصر الزنجية، وهؤلاء سكان الصومال وإثيوبيا وبعض مناطق شمال إفريقيا.
3 – الزنوج: وينقسمون بدورهم إلى قسمين:
أ – البانتو: وهو اسم اللغة التي يتحدثون بها، وأُطلقت عليهم.
ب – الزنوج: وهم يسكنون غرب إفريقيا، ولا يتكلمون لغة البانتو.
4 – النيليون: وجاءت تسميتهم نسبة إلى النيل الذي يعيشون حوله.
5- النيليون – حاميون: وهم جنس خليط من النيليين والحاميين.
6- البوشمان والهوتنتوت: وهم بقايا أجناس قديمة، ويعيشون في خط يمتد من الصومال إلى أنغولا وفي جنوب هذا الخط (1).
أفرزت البيئة الإفريقية وجود قبائل ذات تأثير ونفوذ قوي داخل دولها، بل تعدّاها إلى الدول المجاورة لها التي لها فيها امتداد؛ حيث تتميز هذه القبائل بالقوة البشرية والاقتصادية والأمنية نتيجة لهيمنة القبيلة على الواقع الإفريقي بشكل عام.
وهنا يمكن الإشارة إلى عدة قبائل ذات ثقل في إفريقيا، ومنها الآتي:
1 – قبائل الهوسا:
يمتد الموطن التقليدي لقبائل الهوسا من «جبل الهواء» في النيجر إلى منطقة «جوس بلاتو» في وسط نيجيريا، ومن بحيرة تشاد مروراً بإمبراطورية السونغاي القديمة على طول وادي نهر النيجر، وهي المنطقة التي تُعرف حالياً باسم جمهورية مالي، وكانت تُعرف من قبل باسم إقليم السودان الأوسط.
ومن المعروف أن كلمة «هوسا» اسم اللغة التي تتحدث بها القبائل المنتشرة في هذه المنطقة، والتي ما لبثت أن عُرفت بهذا الاسم منذ القرن السادس عشر الميلادي, وقبله كانت تُعرف بأسماء مدنها أو ممالكها المختلفة، وتُصنف لهجة «الهوسا» على أساس أنها واحدة من فصيلة اللغات (الإفريقية الآسيوية)، وعلى الرغم من ذلك فإن من يتحدثون بها اليوم ليسوا جميعهم منحدرين من عرق واحد.
يُعدّ أبناء قبائل الهوسا الموزعين على مساحة جغرافية واسعة المجموعة العرقية الكبرى بالأقاليم الشمالية لنيجيريا، أو كما يُشار إليها عادة باسم «الشمال الأقصى» أو «مسلمو الشمال»، فيما تُدعى المجموعة العرقية التي تليها في الحجم باسم «فولاني»، ولأن قبيلتي الهوسا والفولاني ترتبطان بعلاقات وثيقة؛ فإن النيجيريين اعتادوا القول بأنهما مجموعة قبلية واحدة، ومع ذلك فإن بعضهم يرى كلاً منهما مجموعة متميزة عن الأخرى.
ولم تستقبل قبائل الهوسا المهاجرين من الشمال فحسب، لكن بعض الباحثين يعتقد أنهم هم أنفسهم هاجروا إلى الجنوب من منطقة الصحارى إلى أرض غنية بالأعشاب؛ فراراً من الجفاف والنزاعات مع المجموعات العرقية المنافسة الأخرى بمن فيهم بربر الطوارق، وقد سهّل هذا التنقل لقبائل الهوسا الاحتكاك بالمجموعات القبلية التي كانت تقطن أقصى جنوب الصحراء؛ الأمر الذي فرض على هذه المجموعات تبنّي لغة الهوسا وعاداتها، ومع أن هنالك من يرى أن قبائل الهوسا من أصل عربي من العراق؛ فإن آخرين يقولون: إنها كانت قبائل تمتهن الزراعة وصيد السمك والصيد البري على طول الشاطئ الغربي لبحيرة تشاد(2).
يشير التاريخ القديم لدولة الهوسا إلى أنها تشكلت في عام 999م على يد الملك (كانو)، حيث كانت مجموعات صغيرة من المستوطنات, تحولت فيما بعد إلى مدن ودول، وكان أقوى جيرانها امبراطورية «كانيم – برونو» إلى الشرق، وامبراطورية «السونغاي» إلى الغرب. وفي عام 1500م أصبحت «زاريا» أقوى دول الهوسا، وكانت تسيطر لبعض الوقت على ممالك «النوبة» و «جوكون» بالجنوب، ويُذكر أن انتشار اللغة العربية والدين الإسلامي بمناطق الهوسا أضعف البنية السياسية للسلطات المحلية التي كانت ترى أن الإسلام يشكل تهديداً لها، وعلى كل حال فإن عملية الأسـلمة لم تستبعد بشكل كامل المعتقدات الدينية التقليدية سواء بالمناطق الريفية أو المناطق الأخرى.
أصبح الإسلام هو الدين السائد بين قبائل الهوسا، حيث تم نشره على أيدي المسلمين القادمين من شمال إفريقيا ومن مالي والدول المجاورة الأخرى، علماً بأن الإسلام كان معروفاً لدى قبائل الهوسا منذ عام 1300م، لكن تأثيره ازداد مع تدفق المهاجرين والتجار إلى المدن والقرى، في البدء كانت قبائل الهوسا تنظر إلى الإسلام بعين الريبة، حيث استمروا لفترة طويلة متمسكين بديانتهم التقليدية، وفي عام 1400م اعتنقه أهالي كانو وكاتسينا، ثم تعزز هناك على أيدي العلماء المسلمين، لكن التحول الكبير نحو الإسلام حدث عام 1800م، حيث أعلن جميع ملوك الهوسا اعتناقهم للإسلام، وجعلوه الدين الرسمي لدولهم.
وقد بُذلت محاولات لنشر النصرانية من قبل أولئك المتمسكين بديانتهم التقليدية فقط، ولكن لقوة التيار الإسلامي النامي بين القبائل لم يتمكن المنصرون من التأثير في مناطق الهوسا إلا في فترة الحكم الاستعماري فقط، وبخاصة في منطقة «زاريا».
يربي الهوسا أبناءهم على الإسلام منذ الصغر، فبعد إجراء الختان الذي يتم عادة في سنّ السابعة أو التاسعة يُدفع بالأولاد إلى معلمي القرآن الكريم لحفظ ما تيسر منه، علماً بأن كثيراً من الهوسا يخلطون بين الإسلام ومعتقداتهم التقليدية.
2 – قبيلة الفولا (الفلاتة):
توجد قبائل الفولا أو فولاني أو الفلاتا أو فولي في أرجاء من شمال إفريقيا من نهر النيجر حتى نهر السنغال، والفـولا يشكلون الطبقة الحاكمة السياسية في نيجيريا الشمالية، ويتمركزون بصفة خاصة في مديريات «سوكوتو» و «كانو» و «أدامو»، وتُعد الفولا من فروع مجموعـة الحاميين الشماليين الذين انتشروا في السودان الغربي وأعالي السنغال في أثناء قيام امبراطورية غانا، ومن ثم شقوا طريقهم إلى شمال نيجيريا في أواخر القرن الثالث عشر الميلادي، واستطاعت قبيلة الفولا أن يبسطوا نفوذهم على هذه المنطقة عندما خاضوا الحروب ضد القبائل الوثنية التي كانت موجودة في تلك المناطق؛ حيث قادهم الإمام عثمان دان فوديو الذي ينتمي إلى عشيرة «تورتكاوا» من الفولا ضد الوثنيين, والذي استطاع أن يبسط نفوذه على سائر ولايات الشمال في نيجيريا, واتخذ من مدينة «سوكوتو» عاصة لمملكته.
وتنقسم الفولا في غرب إفريقيا في الوقت الحاضر إلى قسمين:
«الفولا رعاة الماشية»: أنقى العناصر التي تمثل الدماء الحامية في نيجيريا، ويتميزون بالمحافظة على الدين الإسلامي, والتمسك بالعادات والتقاليد الطيبة، ويتصفون بالذكاء بشدة مقارنة بغيرهم(3).
أما «الفولا المستقرون»: وهم القسم الثاني من الفولا, فقد امتص الزنوج عناصرهم عن طريق التزاوج, وبرز ذلك في تشابه أشكالهم مع الزنوج.
ويتكلم الفولا لغة «فوفولدي»، وهي على جانب كبير من الأهمية لفهم كثير من مشكلات اللغة في قارة إفريقيا، وبوجه خاص مشكلة طائفة الأسماء عند قبيلة «البانتو».
ولقبيلة الفلاتة تأثير في غرب إفريقيا بحكم انتشارها ونفوذها؛ حيث تنتشر في عدة دول مثل: نيجيريا والكاميرون وتشاد وإفريقيا الوسطى والسودان، وهو ما جعلها من القبائل ذات الثقل الاقتصادي والاجتماعي والسياسي.
3 – قبائل البانتو:
يُعرف البانتو بأنهم الزنوج الذين يستعملون شكلاً من أشكال الكلمة «نتو» على أنه يعني (إنسان) أي رجال القبيلة؛ ومن هنا يأتي لفظ كلمة «بانتو»، ويحتل البانتو ثلثي إفريقيا من خلال تحديدهم بالمعيار اللغوي، وينقسمون إلى المجموعات الآتية:
1 – البانتو الشرقيين: وينتشر توزيعهم في أوغندا شمالاً إلى كينيا وتنزانيا وزامبيا وموزمبيق وحتى شمال نهر الزمبيزي.
2 – البانتو الجنوبيين: في جنوب نهر الزمبيزي وكونتي، وهو إقليم فسيح يشمل زيمبابوي وموزمبيق وبتسوانا وجنوب غرب إفريقيا وناميبيا.
3 – البانتو الغربيين: ويمتد توزيعهم من الأطلنطي شمال نهر كوتني إلى غرب زيمبابوي, ومحور البحيرات العظمى حتى غرب إفريقيا وجنوب الكاميرون والكنغو والغابون إلى جنوب السودان(4).
وقد حدث اختلاط بين البانتو و «البوشمن» و «الهوتنتوت»، وهو ما ترك آثاراً سلالية في البانتو، وخصوصاً في قبائل «الزولو» و «السوازي» و «الماديل»، وتُـعد قبائل «الزولو» أهم قبائل البانتو في منطقة جنوب إفريقيا، وتعيش قبائل البانتو في قرى تتألف من بيوت مستديرة من الطوب اللبن ومغطاة بالقش والطين، ويعملون في تربية الماشية وزراعة الحبوب والدّخن.
أدى الانتشار الواسع لقبائل البانتو إلى تحولها إلى قوة اجتماعية واقتصادية في عدة دول، مثل جنوب إفريقيا حيث يبلغ عددهم (24) مليون نسمة, وزامبيا وزيمبابوي وأوغندا وكينيا، وذلك ما جعلها قبيلة مؤثرة في إفريقيا.
4 – قومية الأورومو:
كبرى القوميات الإثيوبية, يعيش أفرادها في الجنوب في مناطق (وللجا، روسي، شواء، بلوا باربورا)، ويشكلون تقريباً ما يعادل50% من العدد الكلي للسكان، ولغتهم لغة مكتوبة وتعد من اللغات الحامية، وينقسم الأورومو إلى خمس مجموعات تُدعى أحياناً قبائل، لكنها تجمّع لأشخاص ينحدرون من سلف مشترك، ويتكلمون لغة مفهومة فيما بينهم, ويتقاسمون ثقافة مشتركة.
قومية الأورومو غالبيتها مسلمة 80% منهم مسلمون، ومع ذلك فإن دورهم في الحياة السياسية والاقتصادية لا يتناسب مع عددهم في إثيوبيا البالغ أكثر من نصف السكان، ولا مع غنى مناطقهم، ولهذا سعى الأورومو إلى تشكيل جبهات تحرير ضد قومية «الأمهرا» المسيحية؛ حيث شكلت «جبهة تحرير الأورومو الإسلامية» عناصر لتمكين الهوية الإسلامية لمناطق العمق الإسلامي في إثيوبيا الشرقية، كما توجد في المقابل أقلية مسيحية من الأورومو يتم دعمها من قبل المنظمات الكاثوليكية, وبخاصة المنظمات الكنسية الألمانية.
إن سيطرة قومية الأورومو على وسط إثيوبيا أتاحت لها امتلاك أكثر مناطق الهضبة الإثيوبية الاستوائية استراتيجية، والتي تُعد قلب الهضبة الإثيوبية(5).
5 – قبيلة النوير:
توجد قبيلة النوير في أعالي النيل بالسودان، وتمتد إلى داخل الأراضي الإثيوبية, وهي من القبائل النيلية، ويبلغ عددهم مليون نسمة إلا قليلاً، وتكثر المستنقعات في منطقتهم، وهو ما أدى إلى صعوبة اختراق مناطقهم، وقد زاد ذلك من عزلتهم ونزوعهم إلى الاستقلال والاعتزاز بالنفس.
وتنقسم قبيلة النوير إلى فرعين هما:
أ – لاو.
ب – راياث.
تُعد قبيلة النوير نموذجاً للقبائل البدائية، وتشكل القرية الوحدة الاجتماعية والإدارية لحياتهم، ويُعد الرجل الكبير في القرية هو صاحب النفوذ والرأي وكلمته مسموعة في الشأن العام(6).
النوير من قبائل جنوب السودان التي ضُم جزء منها لإثيوبيا نتيجة للترسيم غير المدروس، والقائم على أساس خطوط تقسيم المياه لمجموعة أنهار السوباط والبيبور والخيران (مجاري مياه الأمطار والسيول)، حيث تم ضم جزء من النوير إلى إقليم «غامبيلا»، فهناك قرابة (20) ألفاً من قبيلة النوير يعيشون بصفة دائمة داخل الأراضي الإثيوبية في قطاع «بارو»، ويُعرفون باسم «نوير إثيوبيا»، وهناك قرابة (50) ألفاً من النوير يعبرون إلى إثيوبيا طلباً للرعي, لكن أغلبهم يقضي شهور السنة داخل السودان(7)، لذلك لم يجدوا ما يدعوهم إلى توثيق انتمائهم لإثيوبيا, وهو ما دعاهم لتكوين «حركة تحرير شعب قمبيلا»، خصوصاً بعد أن سعى الإمبراطور «هيلاسلاسي» إلى توطين بعض المجموعات السكانية من «الأمهرا» و «الجوجام» و «الأورومو» في مناطقهم لتغيير الخريطة الديموغرافية.
وتُعد قبيلة النوير من القبائل المؤثرة في جنوب السودان؛ حيث تُعرف بالقوة وخوض الحروب على القبائل الأخرى، ولها تاريخ في محاربة الاستعمار البريطاني؛ حيث شكلوا ضده ثورات عديدة؛ وذلك لما يمتازون به من عزة النفس وعدم قبول هيمنة الآخر عليهم.
القبلية والدين في إفريقيا:
يشهد الواقع الإفريقي تنوعاً وتعدداً في الأديان والمعتقدات, وهو الأمر الذي يجعل تحليل الظاهرة الدينية في إفريقيا يثير أكثر من متغير واحد، فالديانات السماوية (الإسلام والمسيحية) لها وجود في إفريقيا بشكل كبير، وبخاصة الدين الإسلامي الذي انتشر فيها منذ الهجرة الأولى, فانتشر في بلاد الحبشة وشرق إفريقيا، وذلك للقرب الجغرافي من الجزيرة العربية، بالإضافة إلى دور التجارة والهجرات العربية؛ وهو ما سهل نشر الإسلام دون عوائق, وأدى إلى قيام ممالك إسلامية في مختلف البقاع الإفريقية وبخاصة في وسط وغرب إفريقيا.
أما المسيحية فقد انتشرت هي الأخرى، لكنها ارتبطت بالاستعمار في انتشارها الأخير الذي اتخذها وسيلة من أدواته للتغيير الاجتماعي للشعوب الإفريقية؛ حيث استطاع أن يحوّل بعض القبائل الإفريقية من الوثنية إلى المسيحية عبر المدارس التنصيرية، ويُعد جنوب السودان مثالاً لذلك.
أيضاً توجد في إفريقيا بعض الأديان التقليدية والمعتقدات الخاطئة التي ترتبط بالعادات والتقاليد القبلية بدرجة كبيرة، وطبقاً للمفهوم الإفريقي للإنسان فإنه يجمع بين المادة والروح، ويعتقد الأفارقة أن المجتمع لا يتألف فقط من عالم الأحياء، فهو يشمل كذلك أرواح الأسلاف الذين يعتقد أنهم أعضاء فاعلون في المجتمع وإن رحلوا بأجسادهم؛ من خلال نفـح بركاتهم ومشاركتهم الأحياء في السراء والضراء، وقد عبّر الإفريقي عن هذا الاعتقاد من خلال تقديم القرابين للأرواح تضرعاً وزلفى.
نلاحظ أيضاً في حياة القبيلة الإفريقية؛ أن المعتقدات والعبادات التقليدية والسحر الأسود تؤدي دوراً في عملية اتخاذ القرار، كما أن التعاويذ والرقيات والأضاحي والقرابين ورقصات الطقوس واستخدام كل أنواع الشعوذة جـزء من العادات والتقاليد للشعوب الإفريقية، وعبادة الأسلاف مؤثرة في الرؤى الدينية لمعظم القبائل الإفريقية، وهي دلالة على المغزى الكبير الذي ما زالت تتمتع به صلات قرابة الدم والتقاليد في القبيلة الإفريقية(8).
وتعتقد بعض القبائل الإفريقية بأن وراء عالم الأشياء المحسوسة والمنظورة تقف قوى غيبية تشكل الطبيعة الحقيقية لهذا الكون؛ وعليه فإن الدين بمفهومه الإفريقي التقليدي يتمثل في مجموعة المعتقدات والممارسات المترتبة على الإيمان بقوى غيبية معينة، فثمة اعتقاد في المقام الأول بوجود إله تتعدد أسماؤه وصفاته المحلية بتعدد الجماعات العرقية في إفريقيا، وأياً كان اسمه فإن الاعتقاد العام بأنه هو خالق العالم وهو المحيي والمميت، وأصل كل القوى وهو الحكم والعدل الذي يجازي كل إنسان بعمله؛ وعليه فإن الإفريقي على استعداد فطري لقبول فكرة التوحيد(9).
إن غياب دين إفريقي تقليدي واحد ووجود عدد من الأفكار الدينية والعبادات؛ أدى إلى أن يكون لكل شعب إفريقي عباداته الخاصة، وطرقه الخاصة لمراعاة هذه العبادات على الرغم من السمات المشتركة، مثل وجود الأفكار الطوطمية العتيقة وعبادة الأسلاف، بالإضافة إلى ذلك فإن التوزيع الإقليمي للديانات الإفريقية لا يكون في بعض الأحيان مقصوراً على الجماعات العرقية ذات الصلة الوثيقة ببعضها، وإنما يكون أيضاً على القبائل المنفصلة حتى أقسامها الفرعية، فقبائل «اليوربا» و«الأشانتي» و«البالوبا» و«الباجندا» والشعوب الخاصة أقامت دولها الخاصة وكانت لها آلهتها الخاصة.
تستخدم بعض المجموعات القبلية الإفريقية معتقداتها الدينية التقليدية للسيطرة على المجموعات الأخرى، فقبيلة «الماساي» في كينيا على سبيل المثال تعتقد أن خلق العالم يجري تناقله من عشيرة إلى أخرى ومن جيل إلى جيل، وطبقاً لهذه الأساطير فإن الإله قد منح الماشية ذات مرة لأحد أبنائه، وهو السلف الذي تنتمي إليه قبيلة «الماساي»؛ وعليه فهم يُعدون أنفسهم مالكي كل الماشية ويرون أن الشعوب الأخرى ليس لها الحق في امتلاك الماشية؛ ولذلك فإنهم يقومون بسلب الماشية من القبائل الأخرى؛ لأنها حق شرعي لهم. أيضاً يتمتع كهنة العبادات والأطباء والسحرة المشعوذون في المجتمع الإفريقي بمكانة كبيرة، فقد كانوا يضمون إلى مهامهم نشاطاً إدارياً وحزبياً؛ فالاعتقاد بأن لديهم قوى غير طبيعية ساعدهم في عملهم الإداري مع الجماهير، ففي كينيا كان من يُعتقد فيهم بأنهم «صانعو الأمطار» يشتركون في اجتماعات الأحزاب والمنظمات، وكان المسؤولون يعتمدون عليهم في بعض الأحيان عند اتخاذ بعض الإجراءات(10).
أما الدين الإسلامي بالنسبة للشعوب الإفريقية هو دين قد انتشر بقوته الذاتية وخصائصه المميزة وهو دين الفطرة؛ لذلك وجد فيه الإفريقي ما ينشده وتتحقق به كرامته، أما المسيحية فإنها مثلت الدين الاستعماري، فهي امتداد للغرب المتعصب صاحب مفاهيم الاستعلاء على الشعوب الأخرى.
دور القبيلة في الواقع الاجتماعي والسياسي والأمني في إفريقيا:
تؤدي العوامل القبلية العرقية دوراً كبيراً في عدم الاستقرار والصراعات والحروب التي تشهدها القارة الإفريقية.
كان للاستعمار الغربي دور كبير من خلال التقسيم (الجغرافي – السياسي) للقارة في وجود التعدد العرقي داخل الدول الإفريقية، واستغلاله في تفتيت كياناتها وتأجيج الصراعات بينها؛ وذلك من خلال تخطيط هذه الحدود التي حرص فيها على عدم الأخذ في الحسبان الحدود العرضية للقبائل الإفريقية، وهو ما أفرز وجود جماعات مختلفة الثقافات والأعراق داخل الدولة الواحدة، ووجود امتدادات لتلك الكيانات والجماعات في عدد من الدول المتجاورة، مثل قبائل «النوير» و «الزغاوة» في السودان، وجاءت سياساته من بعد لتركيز هذا التباين والاختلاف، وسنّ القوانين واللوائح, وهو ما أدى إلى إيجاد أزمة اندماج وانسجام في كيانات الدول الإفريقية، وبخاصة الدول الإسلامية منها كالسودان.
ومن التعقيدات التي أوجدها الاستعمار من خلال تلك الأوضاع العرقية في العديد من الدول الإفريقية؛ أنه مكّن لبعض الجماعات العرقية وإن لم تكن ذات أغلبية، فقد مكّن لأقليات نصرانية في بعض الدول ذات الأغلبية المسلمة، مثل سيطرة «الأمهرا» في إثيوبيا، و «التوتسي» في بوروندي ورواندا، وقد أثر ذلك في الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية في هذه الدول؛ حيث رفضت الجماعات العرقية الأخرى سيطرة تلك المجموعات المستفيدة من الاستعمار عقب الاستقلال، وهو ما أسفر عن حدوث اضطرابات عنيفة وعدم استقرار في العديد من تلك الدول؛ ذلك لأن المواطنين في هذه الدول ينظرون إلى كل سياسة أو برامج تطرحها الحكومة المركزية لتحقيق الوحدة الوطنية؛ على أنها لا تعدو أن تكون دعوة للجماعة العرقية الأخرى أو الإقليم الذي ينتمي إليه رئيس الدولة.
وتُعد الانقلابات العسكرية في إفريقيا أبرز الظواهر للاستقطاب العرقي الذي يحدث فيها؛ حيث نجد أن هذه الانقلابات غالباً ما يكون سببها الدافع العرقي (الإثني)، وهو ما يدفع إلى قيام انقلاب مضاد له بدافع عرقي آخر، وتُعد نيجيريا نموذجاً صارخاً في التدخل القبلي والعرقي في الانقلابات العسكرية، فالانقلاب الأول في نيجيريا قاده شباب من ضباط قبيلة «الآيبو» في يناير 1966م، وسلّموا السلطة للجنرال «آيرونزي» الذي عين أقرباءه من «الآيبو» في المناصب العليا، وكان رد الفعل عنيفاً من قبل المجموعات الأخرى التي تنتمي إلى الشمال والشرق؛ حيث قامت هذه المجموعات بقتل «آيرونزي» انتقاماً منه لهيمنة «الآيبو» على الحكم(12).
كما تمارس الزعامات التقليدية دوراً كبيراً في الحياة السياسية في إفريقيا على الرغم من تقليل بعض الباحثين لأهميتهم؛ حيث يبرز دورهم في الانتخابات عندما يدعون أتباعهم إلى التصويت لمرشح معين في الهيئات الحزبية الرسمية التي يتم شغلها بالانتخاب، وتمثل دولة سيراليون نموذجاً لذلك؛ حيث كان حزب الشعب السيراليوني يعتمد على المؤسسات التقليدية، مثل الزعماء الكبار والسلطات القبلية لضمان تأييدهم السياسي وفوزهم في الانتخابات.
برز دور القبيلة في الصراع على السلطة في عدة دول إفريقية، وتمثل كينيا مثالاً لذلك؛ فالقبيلة أهم العناصر وأقوى العوامل للوصول إلى السلطة، كما أنها تمثل الحزب المعارض للآخر؛ فعندما تولي «جومو كينياتا» السلطة عقب الاستقلال تمتعت قبيلته «الكيكويو» بامتيازات كبيرة في إدارة الدولة، وبعد وفاته تولى الحكم «دانيال أراب موي» فتحولت دفة الحكم والامتيازات من قبيلة «الكيكويو» إلى قبيلة «موي الكلينجين»؛ حيث تقلّدوا المناصب العليا في جهاز الدولة والجيش.
كما يبرز الدور الأمني للقبيلة عندما تسعى إلى تكريس سلطتها على حساب المجموعات الأخرى، وبرز هذا الدور في تكوين حركات وجماعات عرقية مناوئة للسلطة القائمة وحمل السلاح ضدها؛ ففي إثيوبيا كونت مجموعة «التقراي» (الجبهة الشعبية لتحرير التقراي) ضد مجموعة «الأمهرا» المسيطرة على الحكم واستولت على السلطة.
أيضاً برز دور القبيلة في أوغندا عندما استعان «عيدي أمين» بقبائل «النوبيا» و«الباجندا» ليستولي على السلطة، وهو ما أدى إلى حدوث ردة فعل من المجموعات العرقية ضده التي تحالفت لإسقاطه(14).
أضحت القبيلة تشكل عقبة أمام عملية التحول الديمقراطي في إفريقيا طبقاً – للنموذج الغربي الذي يروج له -؛ حيث أصبحت قضية صراع بين الحداثة والتقليدية، وهي إشكالية خلافية سواء بين الأفارقة أو بين الأوروبيين، وقد حرص المستعمر الغربي على نقل تجربته في الحكم ونظام الديمقراطية الغربية على الرغم من عدم صلاحيتها وملاءمتها للبيئة الإفريقية، وقد حاول أن يجعل منها السمة المحورية لإفريقيا على طريق التحول.
إن عملية التحديث التي شهدتها الدول الإفريقية في عهد الاستعمار اتجهت في مراحلها الأولى إلى تعميق الشعور بالهوية العرقية والقبيلة وتوجيهه ضد الآخر، وقد أدى ذلك إلى مزيد من التوترات العرقية، فقبل استعمار إفريقيا كانت معظم الجماعات العرقية تعيش في عزلة نسبية عن بعضها، مع شيء من الرضا بالتعايش في مواطن التماس، وقد عمل الاستعمار عند مجيئه إلى إذكاء روح المنافسة، وإيجاد محكّات لتوليد الصراع بين هذه القبائل، وهو ما أدى إلى تعميق الفوارق القبلية، بالإضافة إلى توسع بعض الحدود القبلية لتضم جماعات عرقية أخرى، وتقوم بدور فعال في المنافسة حول المكاسب الاقتصادية والسلطة السياسية.
ويفسّـر ذلك أن عدد القبائل الكبرى في إفريقيا، مثل «اليوربا» و «الآيبو» و «سوكوما» و «كيكويو»، لم يكن لديها عمق الشعور بالهوية العرقية، المقترن بروح العداء العرقي للآخر بصورة قوية قبل الفترة الاستعمارية، ولكن يمكن القول إنه في حالة وجود صراعات مع مجموعات أخرى فإن «اليوربا» يكونون مجموعة واحدة، وأما في الظروف العادية فإن بعض فروع «اليوربا» مثل (أويو، وأجبا) يمكن أن يتنافس بعضها مع بعضها الآخر إلى حد الصراع والقتال، وفي الغالب كانت الصراعات بسبب نزاعات حول الأرض والمراعي والمواشي.
إجمالاً يمكن القول إن القبيلة في إفريقيا تُعد أساس النظام في الجوانب الاجتماعية والاقتصادية والأمنية والسياسية؛ فهي الداعم لسيطرة النظام في المقام الأول, كما أنها تكون السبب الرئيس في نشوء الأزمات في معظم الأحيان.
الإحالات والهوامش:
(*) باحث بمركز السودان للبحوث والدراسات الاستراتيجية – دائرة إفريقيا.
(1) سعد ناجي جواد: قضايا إفريقية معاصرة، زهران للنشر والتوزيع، عمان، ط 1، ص 17.
(2) www.ansab-online.com
(3) س . ج سليجمان: السلالات البشرية في إفريقيا، مكتبة العالم العربي، القاهرة، ط 1، 1959م، ص 136 – 137.
(4) المرجع السابق، ص 163 – 164.
(5) الأمين عبد الرازق آدم: إثيوبيا التطورات السياسية والعلاقة مع دول الجوار (1991م – 2009م)، مطابع السودان للعملة المحدودة، ط 1، 2009م، ص 39 – 40.
(6) فؤاد محمد الصفا: دراسات في الجغرافيا البشرية، ط 3، الكويتي، وكالة المطبوعات، 1970م، ص 59.
(7) البخاري عبد الله الجعلي: نزاع الحدود بين السودان وإثيوبيا وإريتريا، مطبعة الخليج، الكويت، ط 1، 1980م، ص 64.
(8) حمدي عبد الرحمن حسن: التعددية وأزمة بناء الدولة في إفريقيا الإسلامية، مركز دراسات المستقبل الإفريقي، القاهرة، ط 1، 1996م، ص 47 – 48.
(9) عبد القادر محمد سيلا: المسلمون في السنغال.. معالم الحاضر وآفاق المستقبل، كتاب الأمة 12 – قطر- رئاسة المحاكم الشرعية والشؤون الدينية، 1986م، ص 128.
(10) رزوا اسماعلوفا: المشكلات العرقية في إفريقيا الاستوائية هل يمكن حلها، دار الثقافة الجديدة، القاهرة، ط 1، 1989م، ص 125.
(12) حمدي عبد الرحمن حسن: العسكريون والحكم في إفريقيا دراسة في طبيعة العلاقات المدنية والعسكرية، مركز دراسات المستقبل الإفريقي، سلسلة دراسات رقم (1)، القاهرة، 1996م، ص 14.
(14) جوزيف رامز أمين: الحروب الإثنية في إفريقيا، مركز زايد العالمي للتنسيق والمتابعة، الإمارات العربية المتحدة، 2003م، ط 1، ص 49