في تطوُّر لافت أعلن الجيش السنغالي في 25 يناير 2022م عن مقتل اثنين من جنوده وفقد تسعة آخرين، ومقتل أحد المهربين وأَسْر ثلاثة منهم في قتالٍ وقع أثناء قيام قوة سنغالية ضمن قوات بعثة “ايكوميج” ECOMIG(*) الموجودة في جامبيا بمهامها في مجال مكافحة الجريمة المنظَّمة، وخاصةً تهريب الأخشاب، واتَّهم الجيش متمردي “حركة القوى الديمقراطية في كازامانس” Movement of Democratic Forces of Casamance “MDFC”، وقال: إن جنوده المفقودين ربما كانوا رهائن لدى الحركة([1]).
وكان صراع في “كازامانس” جنوب السنغال قد اندلع مطلع ثمانينيات القرن الماضي بين حكومة السنغال ومتمردين انفصاليين يقاتلون تحت لواء هذه الحركة، وعلى الرغم من المحاولات المتكررة استمر الصراع واستعصى على التسوية وازداد تشابكًا وتعقيدًا.
وقد طَرحت العديد من الدراسات تفسيرات ومقاربات مختلفة تهدف إلى تسوية هذا الصراع المستدام الذي لا يكاد يكمن حتى ينشط مرة أخرى مخلِّفًا خسائر فادحة في الأرواح والممتلكات، وعلى الرغم من وجاهة تلك المقاربات واعتمادها على طرق تحليل الصراعات وأدواتها المنهاجية المختلفة، إلا أن عدم صحة التفسيرات (المقدمات) أو مجافاتها للواقع يقود دائمًا إلى نتائج غير مرضية أو غير مرغوب فيها.
وتجادل هذه الورقة بأن استمرار الصراع لأربعة عقود دون تسوية، على الرغم من المحاولات المتعددة والمبادرات المختلفة؛ ينبئ عن أن أسبابًا رئيسية فعَّالة غير مُعلَنة هي التي تقف وراء استمرار الصراع دون تسوية، وتتمثل في المنافع الاقتصادية التي تعود على أطرافه.
وفى سبيلها إلى رصد وتحليل وتفسير الصراع وصولاً إلى طرح المقومات الضرورية للتسوية؛ تستخدم هذه الدراسة طرق تحليل الصراعات وأدواتها المنهاجية متَّبعة في التفسير “نظرية” الوظائف الاقتصادية للعنف في الصراعات والحروب الأهلية لـ”ديفيد كين” David Keen، وفي هذا الإطار تتناول الدراسة إشكاليتها في خمسة محاور:
الأول: نشأة وتطور الصراع.
الثاني: أطراف الصراع.
الثالث: الأسباب الجذرية للصراع.
الرابع: مؤشرات ودلالات.
الخامس: الأسباب الحقيقية المعاصرة لاستمرار الصراع.
السادس: ما العمل؟
أولاً: نشأة وتطور الصراع:
خضعت منطقة “كازامانس” جنوب السنغال للاستعمار الفرنسي ضمن أراضي السنغال الحالية، لكنها ونظرًا لطبيعة سكانها المختلفة اجتماعيًّا وثقافيًّا إلى حدّ ما عن الشماليين، فقد وضعتها فرنسا تحت إدارة حاكم إقليمي تابع لحاكم السنغال، ومنحت ذلك الحاكم الإقليمي بعض الاستقلالية، فكان يخاطب باريس مباشرة في بعض الأمور الإدارية، وكان يدير الإقليم بطريقة لا مركزية، بخلاف المركزية التي يُدَار بها الشمال، واستمر الوضع كذلك حتى أواخر عام 1889م، وحينها استقل حاكم الإقليم عن حاكم السنغال ليتبع مباشرة لسلطة حاكم غرب إفريقيا الفرنسية، ثم أُعيد دمجها تحت حاكم السنغال مرة أخرى عام 1939م، واستمرت كذلك حتى نالت السنغال استقلالها عام 1960م و”كازامانس” أحد أقاليمها([2]).
وقد خلف هذا التمييز بعض مشاعر الكراهية في نفوس سكان “كازامانس” تجاه سكان الشمال، وخاصةً أن الفرنسيين كانوا يستخدمون جنودًا شماليين ضد أهل “كازامانس”، وقد زادت الفوارق الثقافية والاجتماعية من تلك المشاعر؛ فقد كان الشماليون مسلمين بنسبة تتخطى 95%، بينما كثيرون في “كازامانس” (حوالى 40%) لا يزالون بين المسيحية والديانات التقليدية، هذا فضلاً عن اختلاف العادات والقيم التقليدية بين الشمال؛ حيث سكان الوديان والصحاري الخاضعون للسلطة المركزية الهرمية وبين سكان الغابات في “كازامانس” يتمتعون بالمركزية والمساواة، كما كان هناك نظرة ازدراء تقليدية لدى الشماليين تجاه سكان “كازامانس” ([3]).
ويكاد يجمع المحلِّلون على أنه مع استقلال السنغال عام 1960م لم يكن هناك مطالب انفصالية في “كازامانس”، واستمر الوضع كذلك حتى مطلع الثمانينيات، غير أن السياسات الخاطئة لحكومة داكار طيلة هذين العقدين في التعامل مع الواقع الاقتصادي والسياسي والاجتماعي والثقافي في “كازمانس” خلَّفت مظالم كثيرة، وغذَّت مشاعر الاستياء من الحكومة المركزية، الأمر الذي مهَّد لظهور المطالب الانفصالية لأول مرة في 26 ديسمبر 1982م في مظاهرات في “زيجينشور” عاصمة “كازامانس”، بعدها تشكَّلت “حركة القوى الديمقراطية في كازامانس” متخذة اسمها من اسم حزب سياسي كان قائمًا في أواخر عهد الاستعمار، منادية بانفصال “كازمانس” عن السنغال، فدارت رحا الحرب الأهلية في الإقليم، وتوالت الصدامات بين الحركة والحكومة المركزية([4]).
بعد ما يقارب العشر سنوات من عمر الصراع؛ استجاب الطرفان لنداءات السلام، وعُقِدَ أول اتفاق لوقف إطلاق النار عام 1991م، لكنه انهار سريعًا، ثم عُقِدَ اتفاق جديد عام 1993م، وما لبث أن انهار هو الآخر، ثم توالت الاتفاقات التي لا يحترمها طرفاها فتنهار، واستمر الصراع هكذا يكمن أحيانًا، وينشط أخرى حتى وقتنا هذا (2022).
ثانيًا: أطراف الصراع:
يمكن تقسم أطراف الصراع إلى طرفين مباشرين رئيسيين؛ هما الحكومة السنغالية، و”حركة القوى الديمقراطية في كازامانس”، وطرفين مباشرين هامشيين هما نخبة وسكان إقليم “كازامانس”، وبعض المسؤولين الحكوميين السنغاليين (مدنيين وعسكريين)، وطرفين غير مباشرين هما حكومة جامبيا، وحكومة غينيا بيساو.
1- “حركة القوى الديمقراطية في كازامانس”:
بعد نشأتها تشكّل للحركة جناحان أحدهما سياسي والثاني عسكري:
– الجناح السياسي([5]):
قاده القس الكاثوليكي “أوجاستين دياماكون سنغور” Augustin Diamacoune Senghor حتى وفاته في يناير 2007م، وكان قد تفاوض أكثر من مرة مع الحكومة السنغالية، وعقد معها أكثر من اتفاق لوقف إطلاق النار، لكنه اختلف مع “سيدي بادجي” قائد الجناح العسكري الذي وقَّع اتفاقًا لإطلاق النار مع الحكومة عام 1999م، على إثر ذلك انقسمت الحركة إلى جبهتين: جبهة الشمال وجبهة الجنوب، وبعد وفاة القس انقسم الجناح السياسي إلى مجموعة الداخل ومجموعة الخارج، ومقرها فرنسا، وتنافس كثيرون على قيادة المجموعات؛ فانقسمت كل مجموعة إلى عدة فروع يصعب حصرها، ويتصارع حاليًا على القيادة السياسية ومنصب الأمين العام للحركة عدد من الأشخاص من أبرزهم “مامادو نكروما ساني” المقيم في فرنسا منذ عدة سنوات.
– الجناح العسكري “أتيكا” Atika([6]):
قاده “سيدي بادجي”، وبعد توقيعه اتفاق وقف إطلاق النار مع الحكومة وانقسام الحركة انضم “بادجي” إلى جبهة الشمال، والتزموا بالاتفاق، ووضعوا أسلحتهم، لكنهم احتفظوا بها وبالسيطرة على مناطق نفوذهم، وانضم باقي الجناح العسكري إلى جبهة الجنوب المتشددة، وقاده “ليوبولد ساجنا”، ومعه “ساليف ساديو” كقائد ثان، لكن “ساديو” ذاع سيطه ونافسه على القيادة، وعندما تفاوض “ساجنا” مع الرئيس “عبده ضيوف” تم القبض عليه عند عودته بمعرفة “ساديو” وأنصاره وقتلوه، وهنا تفرقت قوات “أتيكا” إلى ثلاث مجموعات متنافسة: مجموعة متطرفة سميت “باراكا مانديوكا” Baraka Mandioka، ويقودها “ساليف ساديو”، ومجموعة “كاسولول” Cassolol بقيادة “سيزار أتوت باديات”، ومجموعة “دياكاي” Diakaye بقيادة “كاموجوي دياتا”.
– مطالب وأهداف الحركة:
تمر الحركة حاليا بمستوى غير مسبوق من الارتباك التنظيمي؛ فالجناح المسلح انقسم إلى ثلاثة فصائل على الأقل، والجناح السياسي تعدد قادته ولا يوجد بينهم أي توافق سواء فيما يتعلق بكيفية هيكلة الحركة أو من هي القيادة الحالية، ومن خلال تتبع مسار انقسامات الحركة يبدو جليًّا أن مطالب الانفصال لم تكن أولوية قصوى حتى بالنسبة للمتشددين من الحركة وإنما كانت غطاءً لأهداف عدم الخضوع لسيطرة الحكومة المركزية، وورقة ضغط لتحقيق مكاسب سواء كانت مكاسب شخصية لقادة الحركة أو مكاسب عامة لصالح سكان إقليم “كازمانس”. وقد كانت الأهداف العامة تطغى نسبيًّا على الأهداف الشخصية مع بداية نشأة الحركة؛ إلا أنها تراجعت لتطغى المكاسب الشخصية على مطالب قادة الحركة، ويتوارى معها مطالب الانفصال، وليس أدل على ذلك من أنه في أعقاب اتفاق وقف إطلاق النار مع الحكومة عام 1999م عمدت جبهة الشمال بقيادة “بادجي” إلى وضع السلاح مع الاحتفاظ به لتأمين بسط سيطرتها على مناطق نفوذها وهو ما أدَّى إلى رواج تجارة البضائع المهربة من الأخشاب والقنب الهندي والكاجو، وغيرها([7]).
2- نخبة وسكان إقليم “كازامانس”:
تُعد نخبة وسكان “كازامانس” طرفًا مباشرًا في الصراع، غير أنهم في هذه القضية لا يتعدى دورهم دور الضحية والمسعف، ولا تأثير لهم على طرفي الصراع الرئيسيين، فالسكان يتعرضون للهجوم والاعتداء جراء الصراع المسلح أو يفرون نازحين، ولا تملك مؤسسات المجتمع المدني والنُّخب سوى مد يد الغوث بالمساعدات والتأهيل وإعادة الإدماج.
3- تعامل حكومة السنغال مع الأزمة:
ولئن كان اندلاع الصراع قد وقع في بداية تولي الرئيس “عبده ضيوف” الحكم؛ إلا أن جذور الصراع والمشاعر العدائية التي تنامت ترجع إلى حقبة الرئيس “سنجور”، وقد تغيرت استراتيجية الحكومات المتعاقبة في التعامل مع القضية من العنف إلى التفاوض إلى التجاهل النسبي، ويعيب مسلك الحكومة أنه لم يتبنَّ استراتيجية شاملة وافتقد للاستمرارية، وتهدف الحكومة إلى إخماد التمرد والقضاء عليه وبسط سيطرة الدولة على كافة التراب الوطني.
وكما هو الحال في العمل المؤسسي يندر أن تتفق مصالح كافة أفراد المؤسسة القائمين على العمل، وخاصةً كلما كثر عددهم، وكان بإمكانهم الإفلات من الرقابة المؤسسية الصارمة، ولا يستبعد في مثل قضية صراع “كازامانس” وجود منتفعين من استمرار الصراع من بين القادة القائمين على معالجة القضية، سواء كانوا مدنيين أو عسكريين، وقد تكون أدوار هؤلاء مؤثرة وبشكل فعَّال على مسار الصراع([8]).
– دور حكومة جامبيا في الأزمة:
كانت حكومة جامبيا تحت الرئيس “يحيى جامع” تُظهر دائمًا وقوفها على الحياد، وتدخلت عدة مرات كوسيط للتسوية، فيم يخفي الرئيس “جامع” ومعاونوه الحكوميين والمتعاونون معه من شبكات التهريب المحلية والدولية دعمًا وتمويلاً وإمدادًا بالسلاح واللوجستيات التي تعين “حركة القوى الديمقراطية في كازامانس” على الاستمرار في صراعها مع الحكومة السنغالية، والقيام بأعمالها القذرة في مجال الجريمة المنظمة في الإقليم الغني بالموارد الطبيعية والثروات([9]).
فقد كشفت تقارير عن أن “جامع” كان ضالعًا في التعاون مع الحركة، والانتفاع من شبكات تهريب السلاح والبضائع من “كازامانس” عبر جامبيا مثل: أخشاب الورد وأخشاب الساج، وهي من أثمن وأندر الأخشاب والتي كانت تنتشر بكثافة في “كازامانس”، ويتم تقطيعها وتهريبها إلى الأسواق الخارجية وخاصةً إلى الصين، والقنب الهندي المنتشر زراعته في “كازامانس”، فضلاً عن تهريب جوز الكاجو بعيدًا عن السلطات السنغالية([10]) .
– موقف حكومة غينيا بيساو من الأزمة:
على الرغم من أن بيساو لعبت دورًا مهمًّا في مجال تسوية الصراع أكثر من مرة، إلا أن التقارير تتحدث عن وجه آخر ودور خفي في تأجيج الصراع لعبته بعض حكومات بيساو، وخاصةً عبر تجارة السلاح؛ حيث تشير التقارير إلي تورُّط الرئيس “جواو برناردو فييرا” وقادة كبار في الجيش في تجارة الأسلحة إلى متمردي “كازمانس”، وخلال الحرب الأهلية في غينيا بيساو (1998-1999م) انضمت قوات من “حركة القوى الديمقراطية في كازامانس” إلى متمردي غينيا بيساو التي كان يقودها رئيس المجلس العسكري “أنسوماني ماني”، كما تُعدّ غينيا بيساو ملاذًا آمنًا لمتمردي “كازامانس” بسبب العلاقات المتبادلة بين عرقيَّة “ديولا” و”بالانتيس” و”ماندينجو” المنتشرة في كل من شمال غينيا بيساو و”كازامانس”([11]).
ثالثًا: الأسباب الجذرية للصراع:
تطورت أسباب الصراع بشكل لافت حيث تراجعت أهمية بعضها وازدادت أهمية البعض الآخر بمرور الزمن نظرًا لطول أمد الصراع، وتركّز الدراسة في هذا المحور على الأسباب الجذرية للصراع، والتي صاحبت نشأته واستمر دورها القوي لعقد ونيف من عمر الصراع قبل أن تتراجع، وتتحول إلى أسباب ثانوية في المرحلة اللاحقة:
1- الاستيعاب وعدم مراعاة التنوع الثقافي([12]):
كانت سياسة الاستيعاب أولى سياسات الدولة إثارة لاستياء سكان “كازامانس” من الحكومة، فقد تبنَّاها الرئيس “ليوبولد سنجور” في طريقه لبناء الهوية الوطنية عبر توحيد المجموعات العرقية المختلفة تحت هوية سنغالية واحدة عن طريق فرض لغة واحدة على الكل دون مراعاة اللغات التقليدية الأخرى، وقد لاقى ذلك مقاومة كبيرة في منطقة “كازامانس”؛ حيث نظر إليه سكانها على أنه تمييزي ونخبوي.
كما كانت المركزية ثانية السياسات التي لفظها سكان “كازامانس”؛ لما تتمتع به مجتمعاتهم من درجة عالية من اللامركزية والمساواة، ورفضهم لأيّ سلطة مركزية، وبخاصة الـ”ديولا” التي تمثل أغلبية السكان، وهو على النقيض من الأنظمة السياسية المركزية والمجتمعات الطبقية الهرمية السائدة في شمال السنغال.
2- تعزيز التصورات الذهنية السلبية ([13]):
هناك نظرة ازدراء تقليدية لدى سكان الشمال تجاه سكان “كازامانس” عزّزها نظرة الشماليين (مسلمون) للكازامنسيين من أتباع الديانات التقليدية وهم كثيرون وإن لم يمثلوا أغلبية السكان.
ومن بين ما عزّز مشاعر الكراهية لدى سكان كازامانس” مبادرة سكان الشمال إلى شراء الأراضي في “كازامانس” من فقراء الديولا، وهو ما اعتبره أهل “كازمانس” احتلالاً أو استعمارًا جديدًا.
وكانت صعوبة تقبل الكازامانسسين في مجتمعات الشمال عندما يهاجرون طلبًا للعمل من أهم أسباب تعزيز التصورات الذهنية السلبية لدى سكان “كازامانس”.
3- الصلات العرقية والتقارب الثقافي بين سكان “كازامانس” وامتداداتهم في الدول المجاورة ([14]):
ينحصر إقليم “كازامانس” حدوديًّا بين جامبيا شمالاً وغينيا وغينيا بيساو جنوبًا، ويكاد يكون معزولاً عن بقية السنغال في الشمال، ومن هنا نجد أن قبائل كازمانس” لهم امتدادات داخل حدود هذه الدول من حيث القربى، ومن حيث التقارب الثقافي عبر الدين واللغة والعادات والقيم والتقاليد، ولقد كانت هذه الامتدادات بمثابة ملاذ آمن لمتمردي “كازامانس”، وهو ما حدا ببعض متشددي “حركة القوى الديمقراطية في كازامانس” إلى الدعوة إلى إيجاد شكل من أشكال الاتحاد بين جامبيا و”كازامانس” وغينيا بيساو.
4- التهميش وغياب التنمية والأمن:
كان إقليم “كازامانس” بمثابة سلة غذاء السنغال، فهو أكثر تنوعًا وإنتاجًا للمحاصيل الزراعية من شمال السنغال، ومع ذلك لم يحظَ بما يستحق من المشروعات التنموية، ما أدَّى به إلى أن أصبح تراكميًّا أكثر أقاليم السنغال فقرًا، ومما يعزَّز غياب التنمية عن الإقليم حرمانه من التوزيع العادل لموارده وموارد الدولة بصفة عامة.
يعد غياب سلطان وسيطرة الدولة على بعض المناطق من أهم أسباب نشأة وتفاقم الصراعات، وهو الحال في إقليم “كازامانس”؛ حيث تفقد الدول السنغالية سيطرتها على مناطق كثيرة في غابات “كازمانس”، وعلى كثير من المناطق الحدودية، وخاصةً أن حدود الإقليم طويلة مع دول الجوار، وهو ما يعزّز غياب الأمن ويوفر ممرات وملاذات آمنة للمتمردين.
5- مقابلة المطالب بالعنف:
اتسم تعاطي الدولة السنغالية مع قضية سكان “كازمانس” بالعنف، وغياب العقلانية والحكمة، وليس أدلّ على ذلك من رفض الدولة تحت رئاسة “عبده ضيوف” للحوار مع متمردي “كازامانس” رفضًا قاطعًا، وردّها على مطالبهم بالعنف الشديد من قتل واعتداء واعتقال، ومن المعلوم أن العنف لا يولّد إلا عنفًا، وخاصةً أن مطالب الكازامانسيين وإن تضمنت الانفصال عند اندلاع احتجاجات عام 1982م إلا أن نظرة ثاقبة للاحتجاجات التي سبقتها عامي (1980-1981) التي خلت من مثل هذه المطالب، كانت جديرة باكتشاف أن حل القضية قبل استفحالها كان يكمن في رفع المظالم ([15]).
رابعًا: مؤشرات ودلالات:
تركز الدراسة في هذا المحور على الظواهر والديناميات الرئيسية ذات الدلالة في مسار الصراع، للوقوف على تفسيرات منطقية للتحولات التي مر بها الصراع منذ اندلاعه وحتى الآن 2022م، توطئة لتقدير الأسباب الحقيقية المعاصرة لاستمرار الصراع دون تسوية لأربعة عقود، وفيما يلى أبرز هذه المؤشرات ودلالاتها:
كان انتهاج العنف ورفض الحوار هو أول رد فعل للحكومة السنغالية على رفع شعارات الانفصال لأول مرة في احتجاجات الكازامنسيين في 26 ديسمبر 1982م؛ حيث أصيب عشرات المحتجين واعتُقِلَ أكثر من 60 محتجًّا بما فيهم القس “أوجاستين” زعيم الحركة، ثم تطور العنف إلى القتل؛ حيث قتل 26 شخصًا في احتجاجات 18 ديسمبر 1983م، وصاحب ذلك العنفَ تضييقٌ شديدٌ على المتمردين؛ حيث اعتُقل أكثر من 150 منهم لمجرد حضورهم اجتماع للحركة، وهكذا تنبئ هذه المؤشرات عن رفض الرئيس “ضيوف” مبدأ الحوار في ذلك الوقت، وهو ما أخَّر الجلوس على أول طاولة المفاوضات لما يقارب العشر سنوات([16]).
ومن اللافت أيضًا أنه كلما عزم الأطراف على الجلوس إلى طاولة المفاوضات استبقتها عملية عنف أو أكثر من جانب بعض قوات المتمردين، ومن ذلك على سبيل المثال: قيام عناصر مسلحة مرتبطة بحركة المتمردين بقصف مدينة “زيجينشور” ثلاث مرات في أبريل عام 1999م، ما أسفر عن ستة قتلى على الأقل وعشرات الجرحى من السكان، وذلك عشية اللقاء المرتقب آنذاك بين الرئيس عبده ضيوف والقس “أوجاستين”.
ومن ذلك أيضًا وقوع هجمات من المتمردين في نوفمبر عام 2006م غداة لقاء الرئيس عبد الله واد مع 100 من كبراء وزعماء “كازامانس” التقليديين، وطلبه منهم التوسط في صفقة سلام في “كازامانس”، ولا دلالة لمثل هذه العمليات الاستباقية سوى رغبة جانب من المتمردين في تخريب كل عمليات السلام ([17]).
من الظواهر الأبرز في مسيرة الصراع أيضًا: سرعة نقض الاتفاقيات، ففي 8 يوليو 1993م وقَّع وزير الدفاع “مادينج خاري دينج” مع زعيم الحركة القس “أوجاستين” اتفاقية لوقف إطلاق النار، بعدها بثلاثة أيام قُتِلَ جندي وأُصيب عدد آخر خلال اشتباك بين القوات الحكومية والانفصاليين، بعدها بشهرين قتلت القوات الحكومية شخصًا وأصيب آخر عندما رفض ثلاثة أشخاص يُعتقد أنهم انفصاليون الامتثال لفحص روتيني للهوية، بعدها بأسبوع قُتل ثلاثة من أفراد الشرطة السنغالية عندما ألقى مسلحون قنابل يدوية على مركز للشرطة، وعلى نفس الوتيرة سرعان ما كان يتم نقض وانتهاك اتفاقات وقف إطلاق النار، فيما لا دلالة له إلا الرغبة في استمرار الصراع وعدم الوصول لنقطة التسوية النهائية سواء من جانب بعض المتمردين أو بعض الحكوميين ([18]).
تعد انقسامات الحركة المتمردة على نحو ما أسلفنا إلى جبهتين شمالية وجنوبية، وكل جبهة إلى فصائل ومجموعات، وصراع هذه التكتلات مع بعضها البعض صراع يصل إلى درجة القتل كما حدث مع “ليوبولد ساجنا” قائد جبهة الجنوب للجناح المسلح للحركة الذي قُتل لمجرد تفاوضه مع الحكومة، فيما يُعدّ دليلاً واضحًا جليًّا على أن شهوة الترأس سيطرت على قادة الحركة، وهو ما لا يحدث في الأغلب الأعم إلا إذا كان استمرار التمرد يجني مغانم وفيرة.
من الظواهر المهمة أيضًا في مسيرة هذا الصراع المستدام أنه لم يكن شعبويًّا في أيّ من مراحله، أو على الأقل لم يستمر الزخم الذي اكتسبه في بدايته أكثر من عدة سنوات، ثم ما لبث أن اقتصر على نُخَب الحركة وقوات يتم تجنيدها تحت إغراءات التمويل السخي من أمراء الحرب ورعاتها، وهو ما لا دلالة له سوى أن الصراع ولئن حرَّكته مطالب عامة لها بعض الوجاهة إلا أنها كانت ستارًا يخفي المصالح المادية الشخصية لقادة حركة التمرد.
ومن الديناميات ذات الدلالة أيضًا، ما كان يُصِرّ قادة الحركة عليه في أغلب تفاوضاتهم مع الحكومة من التمسك باستمرار سيطرتهم على مناطق نفوذهم واحتفاظهم بأسلحتهم، وإن وضعوها وأوقفوا إطلاق النار، كما بيّنّا سلفًا في اتفاق “بادجي” قائد الجناح المسلح (جبهة الشمال) مع الحكومة عام 1999م، وهو ما يؤكد حرص قادة الحركة على حماية مصالحهم التي يُرجّح أن يكون في مقدمتها المصالح المادية.
إنَّ ما أبداه عدد من قادة حركة التمرد وفصائلها غير ما مرة من استعدادهم للتخلي عن مطالب الانفصال، ومن ذلك دعوة القس “أوجستين” أتباعه في يناير 1998م إلى وقف الأعمال العدائية، وإعلانه استعداده للتخلي عن مطلب استقلال “كازامانس” بشرط أن تتخذ الحكومة تدابير من أجل تنمية اقتصادية واجتماعية أكبر في الإقليم، وذلك قبيل لقائه الرئيس “ضيوف”، يُعدّ من أهم ديناميات الصراع التي تكشف عن أن مطالب الانفصال لا تعدو أن تكون ورقة ضغط على الحكومة السنغالية ووسيلة ناجعة للفت الانتباه وجذب الاهتمام الدولي للقضية.([19])
خامسًا: الأسباب الحقيقية المعاصرة لاستمرار الصراع:
من خلال التحليل السابق يمكننا، وبكل وضوح، استخلاص أن الأسباب الجذرية سالفة البيان توارت -مع التأكيد على أهميتها وفاعليتها- بدرجة كبيرة بمرور الوقت، وأن أسبابًا أخرى برزت تدريجيًّا حتى باتت المحرك المعاصر الرئيسي للصراع؛ ومن أهمها ما يلي:
1- انخراط قادة حركة التمرد في التجارة غير المشروعة في الأخشاب الثمينة والقنب الهندي والكاجو، وغير ذلك مما يشتهر به الإقليم من بضائع، عن طريق التهريب عبر الحدود مع دول الجوار وبخاصة جامبيا وغينيا بيساو([20]).
2- رخاوة يد الدولة وضعف سلطانها بما يعزز نشاط شبكات الجريمة المنظمة الدولية والمحلية في إقليم “كازامانس”([21]).
3- فشو الفساد والإفلات من العقاب بدرجة كبيرة، وخاصةً بين بعض المسؤولين الحكوميين (مدنيين وعسكريين)، وبعض وسطاء السلام، المتداخلين مع قضية “كازامانس” ([22]).
4- الدعم الخارجي من مسؤولين حكوميين، ومن شبكات الجريمة المنظمة، في دول الجوار، وإيواء فرنسا ودعمها لقادة الحركة المقيمين فيها.
سادسًا: ما العمل؟
لا شك أن الربط بين استمرار الصراع طيلة أربعة عقود، وبين ما يصاحبه من ملابسات، يُعدّ من أهم ما يضع أيدينا على التفسيرات الصحيحة للقضية، ويحدو بنا إلى طرح مقاربات فعَّالة للتسوية، تسهم في التئام جُرح يبدو للوهلة الأولى أنه لا يندمل، وصولاً إلى تغيير الواقع المرير وإحلال السلام، وفي هذا الصدد يرى الباحث بعض الخطوات والإجراءات المهمة، من أهمها ما يلي:
1- يمكن للسنغال بالتعاون مع حكومات دول الجوار -إذا ما توافرت الإرادة السياسية لدى الجميع- لضبط الحدود، وإحكام السيطرة عليها؛ لمنع التهريب، وقطع إمدادات الدعم والتموين والتمويل عن حركة التمرد.
2- يمكن لمزيد من بسط السيطرة والنفوذ ومحاربة الجريمة المنظمة في إقليم “كازامانس” أن يكون فعَّالاً، من ناحية أولى في إشاعة الأمن بين السكان، ومن ناحية ثانية في تضييق الخناق على نشاط المتمردين.
3- يمكن لمزيد من التدابير الفعَّالة في مكافحة الفساد لدى المسؤولين الحكوميين السنغاليين (مدنيين وعسكريين) فيما يتعلق بقضية “كازامانس” أن يمنح مساعي السلام فعالية أكثر، وأن يوفر مزيدًا من الوقت والجهد والمال.
4- يجب استخدام القوى الناعمة (الأدوات الثقافية والإعلامية)، وبكثافة في مجال تهيئة الرأي العام، وإزالة التصورات الذهنية السلبية لدى سكان “كازامانس”؛ ما يعمل عن عزل المتمردين عن المجتمع.
5- يمكن لمزيد من مراعاة الخصوصية الاجتماعية والثقافية لسكان الإقليم على المستوى المؤسسي أن يُحفّز الولاء الوطني لديهم، ويجعل بيئتهم طاردة للمتمردين.
6- يجب توفير حوافز عينية لجذب صغار المتمردين، وتحفيزهم على ترك السلاح بالتزامن مع إيجاد خطط وبرامج للتأهيل وإعادة الإدماج.
7- يجب إعادة النظر في خارطة الوظيفة التوزيعية للدولة وإيلاء “كازامانس” أولوية وأهمية خاصة، وصولاً في أقرب وقت إلى رفع المظالم الاقتصادية التراكمية عن سكان الإقليم، وإنهاء حالة التهميش التي تلازمهم.
(*)بعثة عسكرية من قبل المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا “إيكواس” ECOWAS لا زالت تعمل في جامبيا تحت مسمى “استعادة الديمقراطية”، وذلك في أعقاب رفض الرئيس السابق “يحيي جامع” تسليم السلطة إثر خسارته الانتخابات الرئاسية لعام 2016م لصالح الرئيس الحالي “أداما بارو” وتحمل البعثة الاسم الرمزي “إيكوميج”.
([1]) DW Website, Visited at 3 Feb. 12:45 pm, at link:
https://www.dw.com/en/senegal-2-soldiers-killed-9-missing-during-gambia-fighting/a-60553327
([2]) Aïssatou Fall, “Understanding The Casamance Conflict: A Background” (Accra, Ghana: Kofi Annan International Peacekeeping Training Centre “KAIPTC”, Monograph No. 7, Dec. 2010), Pp. 8-9.
([3]) Aïssatou Fall,Op. Cit., P. 10.
([4]) Sandra Tombe, The Casamance conflict : un-imagining a community, Unpublished Master Theses (Louisville, Kentucky: College of Arts and Sciences, University of Louisville, May 2016), Pp. 19-23.
([5]) Macartan Humphreys, Habaye Ag Mohamed, “Senegal and Mali”, in Paul Collier Nicholas Sambani (eds.), Understanding civil war: evidence and analysis (Washington D.C.: The International Bank for Reconstruction and Development, The World Bank, ,2005), Pp. 250-254.
([6]) Idem.
– Critical Investigations into Humanitarianism in Africa “CIHA” Blog, “Five (5) Reasons that Explain the Permanent Failure of Peace Agreements in Casamance”, Visited at 3 Feb. 1:45 pm, at link:
http://www.cihablog.com/five-5-reasons-that-explain-the-permanent-failure-of-peace-agreements-in-casamance/
([7]) Macartan Humphreys, Habaye Ag Mohamed, Loc. Cit..
([8]) Critical Investigations into Humanitarianism in Africa “CIHA” Blog, Loc. Cit..
([9]) Bruno Hellendorff , Ressources Naturalles , “Conflict et Construction de la Paix en Afrique de l’Ouest” (Bruxelles: Groupe de recherche et d’information sur la paix et la sécurité “GRIP”, Rapport No. 07, 2012), P. 21.
([10]) Khadija Sharife, Mark Anderson, “Jammeh ‘ran the country like an organised crime syndicate’”, on The Africa Report Website, Visited at 3 Feb. 2:45 pm, at link:
https://www.theafricareport.com/11138/jammeh-ran-the-country-like-an-organised-crime-syndicate/
([11]) Aïssatou Fall,Op. Cit., P. 20.
– Critical Investigations into Humanitarianism in Africa “CIHA” Blog, Loc. Cit..
([12]) Aïssatou Fall,Op. Cit., P.p. 9-11.
([13]) Ibid, Pp. 11-14.
([14]) Ibid, Pp. 15-20.
([15]) Center for International Development and Conflict Management “CIDCM”, Chronology for Diolas in Casamance in Senegal”, (Maryland: “CIDCM”, University of Maryland, Report Available at Link:
http://www.mar.umd.edu/chronology.asp?groupId=43301
([16]) Idem.
– Critical Investigations into Humanitarianism in Africa “CIHA” Blog, “Five (5) Reasons that Explain the Permanent Failure of Peace Agreements in Casamance”, Visited at 3 Feb. 3:45 pm, at link:
http://www.cihablog.com/five-5-reasons-that-explain-the-permanent-failure-of-peace-agreements-in-casamance/
([17]) Amnesty International, Casamance civilians shelled by the Democratic Forces of Casamance Movement “DFCM”, (London: Amnesty International, Report AFR 49/05/99, 30 June 1999). Avalable at Link:
https://www.refworld.org/docid/3ae6a9c74.html.
([18]) Center for International Development and Conflict Management “CIDCM”, Loc. Cit..
([19]) Idem.
([20]) Arne Aeris, Natural Resources in Casamance: Obstacles or Vectors for Peace?” in Studia Europaea (Cluj-Napoca City, Hungary: Universitatea Babes-Bolyai, Vol. 64, Issue 2, Dec. 2019), Pp. 295-306.
– Mouhamadou Kane, “The silent destruction of Senegal’s last forests” (Pretoria: Institute for Security Studies “ISS”, 17 Jan 2019), Avalsable at Link:
https://issafrica.org/iss-today/the-silent-destruction-of-senegals-last-forests
([21]) Etannibi E.O. Alemika, “The Impact Of Organised Crime On Governance In West Africa” (Bonn, Germany: Friedrich-Ebert-Stiftung “FES”, “FES” Peace and Security Series No. 9, August 2013), Pp. 33-39.
– United Nations Office on Drugs and Crime “UNODC”, “Transnational Organized Crime in the West African Region” (Vienna: “UNODC”, UN, Report Sales No. E.05.XI.1, 2005P, Pp. 5, 30.
– Organized Crime Index Website, “senegal Profile”, Visited at 3 Feb. 4:45 pm, at link:
https://ocindex.net/country/senegal.
([22]) Critical Investigations into Humanitarianism in Africa “CIHA” Blog, Loc. Cit..