د. راوية توفيق (*)
في أبريل 2011م وضع رئيس الوزراء الإثيوبي الراحل (ميليس زيناوي) حجر الأساس لأكبر سدٍّ في منابع النيل (سدّ النهضة الإثيوبي العظيم)، وبرغم أنه ليس السدّ الأول الذي تبنيه إثيوبيا على منابع النيل؛ فإنّ حجم هذا السدّ، وكيفية التخطيط له وبناءه، وتوقيت هذا البناء، قد أثار خلافات سياسية حادة بين مصر وإثيوبيا، ودشّن مرحلة جديدة في تاريخ العلاقات بين دول حوض النيل بصفةٍ عامّة، ودول حوض النيل الشرقي (مصر، والسودان، وإثيوبيا) بصفةٍ خاصة.
وفي هذا الإطار؛ تحاول هذه الورقة الإجابة عن عدد من التساؤلات، هي :
1 – ماذا يعني سدّ النهضة بالنسبة لإثيوبيا؛ دولة المنبع الأهم التي تزود النيل بأكثر من 85% من مياهه، وبالنسبة لمصر؛ دولة المصبّ التي تعتمد بشكلٍ كاملٍ تقريباً في احتياجاتها المائية على مياه النيل؟
2 – وكيف تعاملت الدبلوماسية المصرية مع هذا الملف بوصفه التحدي التاريخيّ الأكبر الذي واجهته السياسية المائية المصرية؟
3 – وإلى أي مدى عالج إعلان مبادئ سدّ النهضة الذي وقّعته: (مصر وإثيوبيا والسودان)، في مارس الماضي في الخرطوم، القضايا الخلافية المحورية بين القاهرة وأديس أبابا حول السدّ؟
أولاً: مصر ومياه النيل: قضية مهمّة وسياسة قاصرة:
كان الحفاظ على تدفّق مياه النيل إلى مصر، وما زال، أحد أهم أهداف السياسة الخارجية المصرية، فمياه النيل تمثّل المصدر الأهم لتوفير احتياجات مصر المائية، وهي المصدر الوحيد تقريباً للريّ في مجال الزراعة، الذي يستحوذ على (85 – 90%) من الموارد المائية (1) ، وقد كان ارتباط الحضارة المصرية القديمة بالنيل، ورمزيته في تلك الحضارة، باعثاً على الاهتمام المصري بمدّ العلاقات السياسية والتجارية مع دول منابع النيل.
كما سعت الدولة المصرية الحديثة إلى تأمين تدفّق مياه النيل بوسائل، كان من بينها الغزو العسكري الذي وصل في عهد الخديوي إسماعيل إلى أوغندا وغرب إثيوبيا.
وفي عهد الاستعمار البريطاني لمصر وشرق إفريقيا حرصت الإدارة البريطانية على تأمين احتياجات مصر والسودان من مياه النيل للحفاظ على مصالحها الاقتصادية في الدولتين، لذا تم إدراج موضوع مياه النيل في جميع اتفاقيات ومعاهدات ترسيم الحدود السياسية بين مناطق القوى الاستعمارية في شرق إفريقيا، ومن ذلك البروتوكولات التي وقّعتها بريطانيا مع إيطاليا عامي 1891م و1901م، والمعاهدة الموقّعة مع الحبشة عام 1902م، والاتفاق بين إيطاليا وبلجيكا عام 1906م، والمعاهدة التي شملت بريطانيا وإيطاليا وفرنسا حول الحبشة في العام نفسه.
وقد نصّت هذه الاتفاقيات على عدم القيام بمشروعات تؤثّر على تدفق مياه النيل إلى مصر (بما في ذلك إنشاء السدود، وتحويل مجرى المياه) دون الاتفاق المسبق مع بريطانيا، ومثّلت هذه الاتفاقيات مصدراً قانونيّاً لحقّ مصر المكتسب في مياه النيل، وقد جاءت اتفاقية 1929م (بين بريطانيا – نيابة عن مستعمراتها في شرق إفريقيا-، ومصر) لتؤكد هذا الحقّ، وتحدّد حصة مصر في مياه النيل بمقدار 48 مليار متر مكعب، وحصة السودان بمقدار 4 مليارات متر مكعب سنويّاً (2) .
ومع حصول دول حوض النيل على استقلالها تباعاً، منذ نهاية خمسينيات القرن الماضي، أبدت بعض حكومات هذه الدول مواقف رافضة للاتفاقيات الاستعمارية السابقة المنظِّمة لاستغلال مياه النيل، فبرغم أنّ إثيوبيا كانت قد وقّعت اتفاقية 1902م مع بريطانيا، بوصفها دولة مستقلة ذات سيادة، فإنها أصدرت بياناً عقب استقلال السودان في يناير عام 1956م يؤكد عدم التزامها بالاتفاقيات السابقة، وأنها تحتفظ بحقّها في استخدام مواردها المائية في حدود أراضيها، كما أرسلت مذكرة بالمعني نفسه في العام التالي لكلٍّ من مصر والسودان. وقد تبنّت تنزانيا وأوغندا وكينيا مواقف مماثلة.
واعتبرت إثيوبيا أنّ صياغة اتفاقية 1902م لا تمنعها من إقامة مشروعات على منابع النيل؛ لأنّ الاتفاقية نصّت على الالتزام بعدم القيام بمشروعات توقف تدفّق المياه، وبالتالي فلا تنسحب الاتفاقية على ما عدا ذلك من المشروعات التي لا تؤثّر على تدفق المياه، كما احتجت إثيوبيا بأنّ الاتفاقية لم تحقّق مصالحها، وأنّ تغيّر الظروف يقتضي أن يكون هناك اتفاقية جديدة تنظّم استغلال مياه النيل (3) .
ولكن مصر مضت في إبرام اتفاقية أخرى استبعدت إثيوبيا؛ مما ساهم في زيادة التوتر بين البلدين حول مياه النيل، ففي عام 1959م وقّعت مصر والسودان (اتفاقية الانتفاع الكامل بمياه النيل) التي اتفقت الحكومتان بموجبها على قيام مصر بإنشاء السدّ العالي في أسوان؛ «كأول حلقة من سلسلة مشروعات التخزين المستمر على النيل»، وإنشاء السودان لخزان الروصيرص وأي مشروعات أخرى لاستغلال نصيبها في مياه النيل. وقد وزّعت الاتفاقية صافي عائد السدّ العالي بين الدولتين بمقدار 14.5 مليار متر مكعب لمصر (ليصبح نصيبها السنوي بعد حساب الفواقد 55.5 ملياراً من متوسط الإيراد)، و 7.5 مليارات متر مكعب للسودان (ليصبح نصيبها 18.5 مليار متر مكعب).
وقد أنشأت الاتفاقية هيئة فنية مشتركة لتيسير التعاون الفنّي بينهما، كما نصّت الاتفاقية على أن تقوم الدولتان ببحث مطالب الدُّول النيلية الأخرى؛ على أن يُخصم نصيب الدول الأخرى مناصفة بين مصر والسودان في حالة قبول الطلب (4)، وقد مثّلت الاتفاقية الأساس القانوني لتحالف دولتي المصبّ فيما يخصّ مياه النيل، والذي ظلّ قوياً برغم التوتر الذي شهدته العلاقات السياسية بين البلدين في بعض الأحيان.
وقد طلبت إثيوبيا، بوصفها الدولة التي تساهم بأكثر من 85% من مياه النيل، الانضمام إلى المفاوضات التي أجرتها مصر والسودان واحتجت على استبعادها منها. ومع الرفض المصري للمشاركة الإثيوبية في المفاوضات، وتمسّكها بحقوقها المائية استناداً إلى الاتفاقيات التاريخية، أصدر الإمبراطور الإثيوبي «هيلا سيلاسي» بياناً بأنّ من واجب إثيوبيا استخدام مياه النيل بما يخدم اقتصادها المتنامي وسكانها المتزايدين، وأنها قد كلّفت عدداً من الخبراء بالقيام بدراسات مفصلة لتحقيق هذه الاستفادة (5).
ومن ناحية أخرى: اعتبرت إثيوبيا أنّ إنشاء مشروعٍ ضخمٍ بحجم السدّ العالي لتخزين مياه النيل دون التشاور مع الدول الأخرى لا يعدّ فقط انفراداً بالقرار حول نهرٍ دوليٍّ تشترك فيه عدة دول، وإنما هو أيضاً إهدارٌ لموارد النهر، حيث إنّ كمية البخر أقل في دول المنابع، وبخاصة إثيوبيا، وبالتالي فهي الأَوْلى بتطوير مشروعات لتخزين المياه (6)، وقد كانت تلك هي بداية تطوير خططٍ لبناء مشروعات سدود على النيل الأزرق، فيما سوف يتم التفصيل فيه في القسم التالي.
وقد استندت مصر، في تمسّكها بحصّتها المائية المقررة في الاتفاقيات التاريخية، إلى أنها الأكثر اعتماداً على مياه النيل، وأنّ دول المنابع هي دول وفرةٍ مائية، كما احتجّت مصر بأنّ ما يسقط من مياه أمطار على الحوض يزيد على 1600 مليار متر مكعبٍ سنويّاً، لا يصل منها لخزان أسوان في المتوسط سوى 84 ملياراً، يتم تقاسمها بين مصر والسودان، أما الباقي فيُفقد سواء من خلال البخر أو في منطقة المستنقعات في جنوب السودان.
وبناء عليه؛ فبينما يبدو أنّ مصر تحصل على نصيب الأسد من مياه النيل، فإنها في الواقع لا تحصل إلا على حوالي 3% من مياهه، ومن ثمّ فإنّ حصول الدول الأخرى على حصّةٍ من مياه النيل يتطلب القيام بمشروعات تساهم في زيادة الإيراد المائي للنهر؛ بما يسمح بحصول هذه الدول على حصة إضافية دون المساس بحصة مصر المائية (7).
كما ركنت مصر إلى أنّ دول المنابع لا تمتلك من الموارد المالية ما يمكّنها من بناء مشروعات ضخمة تمثّل تحديّاً لحصة مصر المائية، وأنّ الثقل السياسي لمصر وعلاقتها مع المؤسسات والدول المانحة يسمح لها بممارسة الضغوط على هذه الأطراف لحثّها على عدم تمويل مشروعات لا تحظى بموافقة مصر، هذا بالإضافة إلى التلويح بين الحين والاَخر لاستعداد مصر لاستخدام القوة العسكرية في حال أقدمت إثيوبيا على خطوة إنشاء مشروعٍ يؤثّر على حصة مصر من المياه.
لم تدرك القيادات المصرية المتعاقبة أنّ هذه الأدوات لا تحلّ القضايا العالقة، وأخذت مصر الوضع القائم الذي تمتعت فيه بميزة نسبية في استغلال مياه النيل بحكم الحقوق المكتسبة التي أصّلتها الاتفاقيات التاريخية كأمرٍ مسلّم به وغير قابل للتفاوض، ولم تدرك مصر خلال العقد الأخير من حكم الرئيس مبارك أنّ هناك تغيّراً تدريجيّاً في القوة الاقتصادية لدول المنابع، وبخاصة إثيوبيا، وفي خريطة القوى الدولية الفاعلة في المنطقة مع دخول الصين باستثماراتها في مجال البنية التحتية في هذه الدول، وهما العنصران الذين مكّنا إثيوبيا من تدشين مشروعٍ يمثّل تحديّاً لحقوق مصر المكتسبة في مياه النيل على النحو الذي يبيّنه القسم التالي.
ثانياً: سدّ النهضة: تنفيذ لخطط السدود الإثيوبية أم خروج عنها؟:
تعود الخطط الإثيوبية لبناء مشروعات سدودٍ على مياه النيل إلى نهاية خمسينيات القرن الماضي، فقد طورت إثيوبيا بالتعاون مع المكتب الأمريكي لاستصلاح الأراضي خطةً شاملة لاستغلال النيل الأزرق الذي يزوّد نهر النيل بحوالي 59% من مياهه، وأوصت هذه الخطة، التي تم الانتهاء منها عام 1964م، بإقامة أربعة سدودٍ لتوليد الكهرباء على النيل الأزرق، هي: (كارادوبي، و مندايا، و مابيل، و سدّ الحدود)، وقد عزّز الدعم الأمريكي لإثيوبيا القيام بهذه الخطط في ظلّ الصدام المصري مع الولايات المتحدة في الخمسينيات والستينيات من التخوف المصري من تأثير هذه المشروعات على حصتها المائية، حتى بعد التحالف (المصري – الأمريكي) في العقود التالية.
والجدير بالملاحظة: أنّ السدود الأربعة كانت بإجمالي سعة تخزين حوالي 73 مليار متر مكعب، وطاقة إنتاجية تصل إلى حوالي 5570 ميغاوات (8) .
وبالنسبة لسدّ الحدود، وهو السدّ الذي يُبنى في موقعه المقترح تقريباً سدّ النهضة الحالي، فقد أوصى المكتب الأمريكي بأن يكون ارتفاعه في حدود 80 متراً؛ على اعتبار أن أي ارتفاع أكبر سيحتّم بناء سدٍّ جانبيٍّ مرتفع التكلفة لحجز مياه الخزان، وكانت سعة السدّ المقترحة تصل إلى حوالي 11 مليار متر مكعب، وطاقة إنتاجية 1400 ميغاوات (9).
وقد منعت الظروف الاقتصادية والسياسية الدولة الإثيوبية من إقامة المشروعات التي أوصى بها المكتب الأمريكي لما يزيد على ثلاثة عقود، فلم يتم إنشاء سوى سدود صغيرة، أهمها (سدّ فينشا) على النيل الأزرق.
ومع وصول (الجبهة الديمقراطية الثورية الشعبية) للحكم في إثيوبيا، وإطاحتها بنظام «منجستو هيلا ماريام» عام 1991م، بدأت الحكومة الإثيوبية في تطوير خططٍ لتنمية مواردها المائية وأنهارها الدولية، وعلى رأسها نهر النيل، وظلت المشروعات المقترحة من قِبل المكتب الأمريكي قبل نحو ثلاثة عقود هي محور هذه الخطط الجديدة، ففي عام 1999م بلورت الحكومة الإثيوبية سياسة لإدارة الموارد المائية بهدف تطوير هذه الموارد بما يخدم التنمية الاقتصادية والاجتماعية، وفي عام 2001م أعلنت الحكومة استراتيجية وطنية للمياه رصدت عدداً من المشروعات على أنهارها الدولية، وطرحت فيها مشروعات: (كارادوبي، و مندايا، و سدّ الحدود) بالمواصفات المحددة نفسها في الدراسة الأمريكية تقريباً للدراسة التفصيلية (10).
وقد انضمت إثيوبيا للمرة الأولى، عضواً كاملاً وليس مجرد مراقب، إلى إطارٍ إقليميٍّ للتعاون بين حوض النيل، وهو (مبادرة حوض النيل) التي أُسست عام 1999م (11)، لسببين: الحصول على تمويلٍ دوليٍّ لمشروعات السدود المقترحة، وتطوير اتفاقية قانونية شاملة تنظّم استغلال مياه النيل.
وقد قدّمت إثيوبيا هذه المشروعات بالفعل للمبادرة لتعبئة الموارد المالية اللازمة لتنفيذها، وفي إطار المكتب الإقليمي الفني لدول حوض النيل الشرقي (الذي يضمّ: مصر والسودان وإثيوبيا) التابع للمبادرة، وبتمويلٍ نرويجيٍّ بدأت شركات نرويجية وألمانية إعداد الدراسات الخاصة بهذه المشروعات (12)، وفي الوقت نفسه شرعت إثيوبيا في بناء بعض السدود على الروافد الأخرى لمياه النيل، ومنها: (سدّ تيكيزي) الذي تمّ الانتهاء من بنائه عام 2009م على نهر عطبرة، ويزوّد النهر بحوالي 12% من مياهه، وقد ساعدت الحكومة الصينية في تمويل هذا المشروع، وشارك في بنائه (شركة صينوهيدرو)، و (شركة الصين الوطنية للموارد المائية وأعمال هندسة الطاقة المائية) (13) .
وعلى مسارٍ موازٍ؛ كانت مفاوضات الاتفاقية الإطارية لحوض نهر النيل تشهد خلافات بين دول المنبع والمصبّ، فبرغم تأكيدات وزير الري المصريّ السابق (محمود أبو زيد) بأنه قد تمّ الاتفاق على 99% من بنود الاتفاقية؛ فإنّ التغيير المفاجئ لأبو زيد في مارس 2009م، ومحاولة الوزير الجديد (محمد نصر الدين علام) إعادة التفاوض على بعض البنود التي اعتبرها مجحفة للحقوق المصرية، أدى إلى أزمة حقيقية، حيث قادت إثيوبيا بعض دول المنابع لغلق باب التفاوض والدعوة للتوقيع على الاتفاقية دون الوصول إلى صيغة توافقية مع مصر والسودان، وقد وقّع على الاتفاقية في عنتيبي بأوغندا في مايو 2010م: (إثيوبيا، وأوغندا، وتنزانيا، ورواندا)، ثم انضمّت: (كينيا) في الشهر نفسه، ولحقت بهم: (بوروندي) في فبراير 2011م ليكتمل النصاب القانوني المطلوب للتصديق على الاتفاقية.
وقد تركّزت نقاط الخلاف في رغبة دول المصبّ في الإشارة إلى الاستخدامات الحالية والحقوق المكتسبة في المادة الخاصة بالأمن المائي (المادة 14 الفقرة (ب))، وكذا رغبتها في تضمين الإخطار المسبق كشرطٍ للقيام بمشروعاتٍ على منابع النيل، وليس مجرد تبادل المعلومات حول هذه المشروعات، وتغيير قواعد التصويت لتكون بالإجماع، أو بأغلبيةٍ تشمل دول المصبّ؛ بدلاً من الأغلبية فقط.
ولم تر مصر النصّ الحالي في الاتفاقية على تأجيل البت في الفقرة الخاصة بالأمن المائي إلى بعد إنشاء آلية التعاون الجديدة (مفوضية حوض النيل التي ستحل محلّ المبادرة) كافياً (14).
ولا يمكن فصل هذا الخلاف حول الاتفاقية الإطارية عن الخطوة الإثيوبية بالإقدام المنفرد على إنشاء سدّ النهضة، فبعد تجميد مصر والسودان عضويتيهما في مبادرة حوض النيل، على إثر توقيع دول المنابع على الاتفاقية، أدركت إثيوبيا أنه لا مجال للمضي قُدماً في تنفيذ مشروعات المبادرة المشتركة، خصوصاً مع استمرار التحفظ المصري على بناء مشروعات سدودٍ على النيل الأزرق، لكن بعد اندلاع ثورة الخامس والعشرين من يناير 2011م في مصر، وتحديداً في أبريل 2011م، وجد رئيس الوزراء الإثيوبي الراحل ميليس زيانوي الفرصة سانحة لوضع حجر أساس المشروع الأكبر على منابع النيل الأزرق.
ولكن اللافت للنظر أنّ إثيوبيا لم تقدم على تنفيذ أيٍّ من المشروعات التي كانت مطروحة للدراسة والتنفيذ منذ الستينيات، وإنما أقدمت على بناء مشروعٍ ضخمٍ يتجاوز في حجمه ومواصفاته كلّ الخطط المقترحة، فسدّ النهضة، الذي يتمّ بناؤه بالقرب من موقع السدّ الحدودي المقترح من قِبل المكتب الأمريكي، يصل ارتفاعه إلى 145 متراً، ويستوعب خزانه 74 مليار متر مكعب من المياه (وهو ما يعادل مرة ونصف الإيراد السنوي للنيل الأزرق)، بطاقةٍ إنتاجيةٍ تقدّر بحوالي 6000 ميغاوات، وبتكلفة تقدّر بحوالي 4.8 مليارات دولار أمريكي (15) . ويعني ذلك أنّ إثيوبيا أقدمت على بناء مشروعٍ واحد يستوعب ما كان يمكن أن تستوعبه السدود الأربعة المقترحة منذ الستينيات، والتي أقرتها الخطط الإثيوبية في بداية الألفية الجديدة، وطرحتها لطلب التمويل في إطار مبادرة حوض النيل.
كما يعني أيضاً أنها تجاوزت المواصفات المقترحة من قٍبل المكتب الأمريكي؛ مما أدى إلى ارتفاع تكلفة البناء نتيجة للحاجة إلى سدّ جانبيٍّ بارتفاع حوالي 50 متراً ليزيد سعة بحيرة السد، وبإنشاء مشروع بهذا الحجم؛ تكون إثيوبيا قد حقّقت حلمها القديم باستغلال نهر النيل، وتحدي الهيمنة المصرية عليه.
ولكن الإسراع الإثيوبي بإنشاء مشروع بهذا الحجم دون اكتمال بعض الدراسات الخاصة به، وبخاصة تلك المتعلقة بتأثير المشروع على دول المصبّ، قد أثار العديد من الانتقادات والتساؤلات، فقد وجهت (شبكة الأنهار الدولية)، وهي منظّمة دولية غير حكومية تُعنى بالاستغلال العادل للموارد المائية المشتركة وحماية حقوق الجماعات المحلية التي تعتمد على هذه الموارد، وجهت انتقادات حادة للنهج الإثيوبي المتسرّع والمفتقد للشفافية في إنشاء السدّ، والمتجاهل لآثاره السلبية المحتملة على دول المصبّ (16)، كما أثار بعض الخبراء شكوكاً حول الجدوى الاقتصادية للمشروع، فقد توقّع الخبير الإثيوبي- الأمريكي «أسفاو بييني»، مدير مركز الطاقة المتجددة بجامعة سان دييجو، ألا ينتج السدّ الطاقة المتوقعة، مشيراً إلى أنه صُمّم استناداً إلى مواسم الفيضان، وأنّ إنتاجه الفعلي سيكون حوالي 30% من المتوقع (17) ، ويعني ذلك أنّ هناك عدة تساؤلات وشكوك حول المشروع من الناحيتين الفنية والاقتصادية، وهي الشكوك التي دفعت بعض المتابعين إلى التساؤل حول ما إذا كان الهدف الرئيس من المشروع هو توليد الطاقة، أو تخزين المياه للتحكم في تدفق مياه النيل (18) ؟!
وفيما يتعلق بالتأثير المحتمل للمشروع على مصر، فقد أشار تقرير اللجنة الدولية التي شُكّلت من خبراء من الدول الثلاث (مصر، وإثيوبيا، والسودان)، بالإضافة إلى أربعة خبراء دوليين، إلى عدم كفاية المعلومات التي وفّرها الجانب الإثيوبي للوصول إلى تقديرٍ دقيقٍ لآثار المشروع على دول المصبّ، وعدم وجود أية معلومات بشأن تشغيل السدّ، وعليه فقد أشار التقرير إلى الحاجة إلى تعاون الدول الثلاث للقيام بدراسة لتقدير هذه الآثار.
وقد أشارت التقديرات المبدئية للجنة، استناداً إلى دراسة التصميم الحالي للسدّ، إلى أنّ كمية المياه الواصلة إلى مصر قد لا تتأثر عند الملء الأول لخزان السدّ إذا ما تمّ هذا الملء في المواسم المتوسطة أو مواسم الفيضان، مع انخفاض الطاقة المولدة من السدّ العالي بحوالي 6%، أما إذا تمّ الملء خلال مواسم الجفاف فإنّ ذلك يعني انخفاض المياه الواصلة إلى مصر بشكل ملاحظ وتوقّف توليد الكهرباء من السدّ العالي لفترات طويلة، كما لاحظت اللجنة أنّ الوثائق الإثيوبية المقدمة إليها لم تشر إلا إلى الآثار الإيجابية المحتملة للمشروع على السودان، ولم تتضمن الآثار السلبية وكيفية معالجتها (19) .
وتعني هذه الحقائق أنّ الإدارة المنفردة للسدّ يمكن أن تؤدي إلى أضرار واضحة على دولتي المصبّ.
وبالرغم من أنّ إقدام إثيوبيا على تنفيذ هذا المشروع أحاديّاً أدى إلى اضطرارها لتمويل هذا المشروع ذاتيّاً، وعدم حصولها على دعمٍ ماليٍّ خارجيٍّ لتمويله، فإنها حاولت الترويج للمشروع، على الأقل لتحييد القوى الخارجية في خلافها مع مصر، وقد قامت إثيوبيا في هذا الإطار بجهدٍ واضح من خلال سفاراتها بالخارج، والتي أصدرت منشورات تصوّر المشروع بوصفه منقذاً للبلاد من الفقر، وحجر الزاوية في الانتقال إلى «الاقتصاد الأخضر» عن طريق تطوير موارد الطاقة النظيفة، وقاطرة للتكامل الإقليمي الذي سيتحقق من خلال توفير الطاقة الرخيصة لدول المصبّ (20)، كما حرصت إدارة المشروع على اللقاء بشكلٍ مستمرٍ مع المراسلين الأجانب في موقع المشروع لاطلاعهم على التقدم المحرز في البناء، وفي تعبئة الموارد المحلية من خلال السندات المباعة للمواطنين في الداخل والخارج للمساهمة في المشروع، وخلال ذلك رفضت إثيوبيا عدة مرات التوقف عن بناء المشروع إلى حين إتمام الدراسات الخاصة بتأثيره على دول المصبّ.
ثالثاً: الإدارة المصرية لملف سدّ النهضة:
في مقابل السياسة الإثيوبية الماضية في تنفيذ (سدّ النهضة) دون توقف، والمروّجة له في الداخل والخارج، مرّت الإدارة المصرية لأزمة سدّ النهضة بعدة مراحل، وتأثرت بالتغيّرات السياسية التي شهدتها السنوات الأربع التالية على ثورة الخامس والعشرين من يناير، ويمكن التمييز بين ثلاث مراحل للتعامل مع الأزمة:
المرحلة الأولى: امتدت من وضع حجر أساس المشروع في أبريل 2011م، وحتى مايو 2013م حينما اقدمت إثيوبيا على تحويل مجرى النيل الأزرق لبداية بناء جسم السدّ. تميزت هذه المرحلة باستخدام الوسائل الدبلوماسية لإثناء إثيوبيا عن نهجها الأحادي في بناء المشروع، فخلال زيارة رئيس الوزراء السابق (عصام شرف) إلى إثيوبيا في مايو 2011م؛ تم الاتفاق على تشكيل لجنة خبراء دولية لبحث الوثائق الخاصة بالمشروع وتقديم تقرير حوله. ولم تقتصر الوسائل الدبلوماسية التي استخدمتها مصر في تلك الفترة على الدبلوماسية الرسمية، وإنما شملت أيضاً الدبلوماسية الشعبية التي تمثلت في زيارة وفدٍ من الأحزاب والقوى الثورية لأديس أبابا في أبريل 2011م، ولقاء رئيس الوزراء الراحل ميليس زيناوي، وقد خرجت تلك الزيارة بتعهد من زيناوي بعدم التصديق على الاتفاقية الإطارية إلا بعد الانتخابات الرئاسية في مصر.
ولكن إثيوبيا رفضت وقف بناء السدّ إلى حين انتهاء اللجنة من عملها، وعمدت إلى استهلاك الوقت لوضع حقائق على الأرض وإجبار مصر على الاعتراف بها، فلم تبدأ اللجنة الدولية عملها إلا في مايو 2012م، وفي الوقت الذي كانت تروّج فيه إثيوبيا لوجهة نظرها في بناء السدّ، فإنّ مصر المنشغلة بإعادة ترتيب البيت من الداخل لم تستطع أن تجاري النشاط الإثيوبي في الترويج لوجهة نظرها حول السدّ، وانتظرت تقرير اللجنة الدولية.
المرحلة الثانية: هي مرحلة التصعيد، وبدأت من يونيو 2013م وحتى يونيو 2014م، وقد بدأت هذه المرحلة كردّ فعلٍ على إقدام إثيوبيا على تحويل مجري النيل الأزرق في 28 مايو 2013م خلال زيارة الرئيس السابق محمد مرسي لأديس أبابا لحضور القمة الإفريقية، وذلك قبل ثلاثة أيام من تسليم اللجنة الدولية لتقريرها حول المشروع.
وقد بدأ هذا التصعيد بالدعوة التي وجهها الرئيس مرسي للرموز السياسية لحضور اجتماع للتباحث حول كيفية التعامل مع أزمة سدّ النهضة في الثالث من يونيو 2013م، وجاء إذاعة هذا الاجتماع على الهواء دون الإخطار المسبق للمشاركين ليُضعف الموقف المصري، لما طُرح في الاجتماع من اقتراحات بمساندة المعارضة الإثيوبية أو التلويح باستخدام الأداة العسكرية، وهو ما استغلته إثيوبيا إعلاميّاً لإبراز النيات المصرية تجاه المشروع.
وقد تلا ذلك خطابٌ للرئيس مرسي في العاشر من يونيو؛ أكد فيه أنّ جميع الخيارات مفتوحة للتعامل مع هذا الملف، وبرغم إشارته إلى أنّ مصر لا تسعى للحرب فإنه حذّر من المساس بأمن مصر المائي، مشيراً إلى أنه إذا نقصت قطرة واحدة من المياه فدماء المصريين هي البديل، وعلى أثر هذه التهديدات زادت حدة التوتر بين البلدين، حيث أعلن وزير الدفاع الإثيوبي استعداد بلاده للدفاع عن السدّ ضدّ أي هجمات محتملة، وصدّق البرلمان في الثالث عشر من يونيو على الاتفاقية الإطارية.
وقد أدّت التغيّرات السياسية في مصر في يوليو 2013م إلى انشغال مصر من جديد عن هذا الملف، فلم تجتمع اللجنة الفنية الثلاثية المسؤولة عن متابعة تنفيذ توصيات اللجنة الدولية إلا في نوفمبر 2013م، لتعقد ثلاثة اجتماعات تنسحب بعدها مصر من المفاوضات في يناير 2014م، وقد تركزت نقاط الخلاف في تشكيل لجنة خبراء دولية جديدة، حيث تمسّكت مصر بوجود خبراء دوليين يقدّمون رأياً فنيّاً محايداً في حال الخلاف بين الدول الثلاث، بينما رفضت إثيوبيا وجود هؤلاء الخبراء، كما تمسّكت إثيوبيا بالمضي في بناء السدّ، رافضة وقف بنائه كأحد إجراءات بناء الثقة، وعليه انسحبت مصر من المفاوضات الفنية، التي لم تكن في الواقع مفاوضات حول السدّ ومواصفاته، وإنما مفاوضات حول كيفية استكمال الدراسات الخاصة بالسدّ.
وبدأت مصر متأخرة في الإعلان عن أسباب موقفها من السدّ في وثيقة نشرتها على موقع الخارجية المصرية (21) ، وقد أشارت الوثيقة إلى الأسانيد القانونية، ومنها الاتفاقيات التاريخية حول مياه النيل والاتفاقية التي وقعتها مصر وإثيوبيا عام 1993م، والتي تضمّنت التزاماً بعد قيام الدولتين بإجراءٍ يسبب ضرراً بالغاً بالدولة الأخرى، والقواعد القانونية بالإخطار المسبق عن المشروعات المقامة على مجارى الأنهار الدولية، كما بدأت بعض الدوائر في مصر في تلك الفترة ببحث إمكانية استخدام الوسائل القانونية، حيث أعدت المجالس القومية المتخصصة تقريراً لعرض القضية على الجمعية العامة للأمم المتحدة كقضية تمسّ السلم والأمن الإقليميين، خصوصاً أنّ اللجوء المباشر إلى التحكيم الدولي غير ممكنٍ لضرورة موافقة الطرفين على اللجوء للتحكيم (22) ، ويبدو أنّ هذا البديل لم يكن مفضّلاً لدى حكومة (إبراهيم محلب) التي فضلت الانتظار إلى حين انتخاب رئيسٍ جديدٍ في يونيو من العام نفسه.
وكانت تلك الفترة قد شهدت تحركاً مصريّاً دبلوماسيّاً لمنع استخدام المساعدات التنموية التي تحصل عليها إثيوبيا لتمويل السدّ، ولسحب تمويل إحدى الشركات الصينية لربط السدّ بشبكة الكهرباء الإثيوبية (23) ، وهو ما تمّ تصويره خطأً على أنه نجاحٌ مصريٌّ في وقف تمويل السدّ دوليّاً، وفي الوقت نفسه لم تغلق مصر في تلك الفترة باب التفاوض حول السدّ، فقد عرض وزير الخارجية المصري (نبيل فهمي) على الجانب الإثيوبي المشاركة في تمويل السدّ مقابل المشاركة في إدارته، وهو الاقتراح الذي رفضه الجانب الإثيوبي مؤكداً على لسان المتحدث باسم الخارجية الإثيوبية «دينا مفتى» أنّ إدارة السدّ هو أمرٌ سيادي وأنّ المشاركة في الإدارة أمرٌ غير مقبول (24) .
المرحلة الحالية: دخلت مصر مع وصول عبد الفتاح السيسي للحكم مرحلة جديدة من إدارة ملف سدّ النهضة، تعتمد على التهدئة والعودة للحوار، وبدأ ذلك مع (إعلان مالابو)، والذي جاء بعض مباحثات أجراها السيسي مع رئيس وزراء إثيوبيا «هيلا ماريام ديسالين»، خلال مشاركتهما في قمّة الاتحاد الإفريقي في غينيا الاستوائية في يونيو 2014م.
وقد أكد الإعلان احترام مبادئ القانون الدولي، والالتزام بالحوار، واستئناف المفاوضات في إطار اللجنة الثلاثية، والتزام إثيوبيا بتجنّب أيّ ضررٍ محتمل على استخدامات مصر من المياه (25) .
ولتوفير إطارٍ سياسيٍّ مناسبٍ للوصول إلى حلٍّ وسطٍ على المسار الفني، الذي كان يتعرض لتعثّر بعد استئنافه نتيجة للاختلاف حول معايير اختيار الشركات الدولية التي سيُعهد إليها تنفيذ الدراسات التي أوصت بها لجنة الخبراء الدولية، توصّل وزراء خارجية دول حوض النيل الشرقي الثلاث، في أوائل مارس الماضي، إلى إعلان مبادئ طُرح على رؤساء الدول للتوقيع عليه.
رابعاً: إعلان مبادئ سدّ النهضة: هل يحلّ القضايا الخلافية حول المشروع؟:
في 23 من مارس الماضي وقّع قادة دول حوض النيل الشرقي الثلاثة: (إعلان مبادئ) حول سدّ النهضة (26)، وقد مثّل الإعلان حلاً وسطاً في عدة قضايا؛ برغم كونه إجمالاً انعكاساً للأوضاع التي نجحت إثيوبيا في فرضها على الأرض، فبالرغم من أن الإعلان قد نصّ على الاتفاق على الخطوط الاسترشادية وقواعد ملء خزان السدّ، وكذا قواعد التشغيل السنوي، فإنه لم يلزم إثيوبيا بإعادة النظر في حجم السدّ ولا سعة خزانه التي تجاوزت- كما سبقت الإشارة- خُطط السدود الإثيوبية المنشورة سابقاً، ومع نصّ الإعلان على إنشاء آلية تنسيقية لاستمرار التعاون والتنسيق حول تشغيل السد؛ فإنه أعطى لإثيوبيا الحقّ في تغيير هذه القواعد المتفق عليها من وقتٍ لآخر مع «إخطار» دولتي المصبّ.
وبالرغم من ذلك؛ فإنّ الإعلان يحجّم النهج الإثيوبي الأحادي في إدارة السدّ، وذلك بالنصّ على التنسيق بين الدول الثلاث، وعلى متابعة التشغيل السنوي للسدّ مع خزانات دول المصبّ (وهو أمر مهمٌّ للسدود الإثيوبية وللسدّ العالي)، وألزم الإعلان الطرف الإثيوبي بعدم إحداث «ضررٍ ذي شأن»، وبمحاولة تخفيف هذا الضرر في حال حدوثه، ومناقشة مسألة التعويض «كلما كان ذلك ممكناً».
وفي محاولة للحدّ من المماطلة الإثيوبية؛ حدّد الإعلان مهلة زمنية تقدّر بخمسة عشر شهراً من بداية إعداد الدراسات الموصى بها في تقرير اللجنة الدولية إلى الاتفاق على قواعد الملء والتشغيل، كما نصّ الإعلان على طلب التوفيق والوساطة في حال أخفقت الأطراف في التوافق حول تفسير الإعلان أو تطبيقه.
وبما أنّ الوثيقة هي مجرد: (إعلان مبادئ)؛ فإنّ الحكم على مدى نجاحها في تقليص الخلافات بين الطرفين المصريّ والإثيوبيّ وتقليص آثار المشروع السلبية المحتملة على مصر؛ يعتمد على ترجمة هذه الوثيقة إلى اتفاقات فنية حول مبادئ تشغيل السدّ، ثم بالتنفيذ الفعلي لهذه الاتفاقات، وقد تمّ الاتفاق في أبريل الماضي على تحديد مكتبَيْن استشاريّين دوليّين فرنسيّ وهولنديّ لإجراء الدراسات التي أوصت بها اللجنة الدولية (27).
خامساً: ماذا بعد؟:
لا شك أنّ مصر تتعامل في الفترة الحالية مع نتيجة أخطاء عقود ماضية من التعامل مع ملف مياه النيل، وأنّ دول المنابع بصفةٍ عامّة، وإثيوبيا بصفةٍ خاصّة، قد استغلت الظروف السياسية في مصر على مدى السنوات الأربع الماضية لخلق حقائق جديدة تغيّر بها واقع استغلال مياه النيل ومستقبله، وبرغم الجدل الذي يحيط بالجوانب الفنية والاقتصادية لسدّ النهضة؛ فإنّ مغزاه السياسيّ المهمّ هو تحقق الهدف الإثيوبي بقبول مصر الاضطراري لمشروعٍ ضخمٍ على منابع النيل بعد عقود طويلة من الإعاقة والممانعة، والمساهمة في تحقيق الرؤية الإثيوبية لدورها الإقليمي كمصدر للطاقة في منطقة القرن الإفريقي.
وإذا كانت مصر قد تحوّلت في إدارتها لهذا الملف من التفكير في الوسائل القانونية، والتلويح باستخدام الأداة العسكرية، إلى الأداة الدبلوماسية والوسائل السياسية، فإنها يجب ألا تكرر أخطاء الفترة السابقة، فيجب ألا تنتظر مصر مرة أخرى حتى انتهاء المكاتب الاستشارية من دراساتها، ويجب ألا يغيب هذا الموضوع عن مشاورات مصر مع الدول المانحة، وذلك لتوضيح أنّ القضايا الفنية الأهمّ في المشروع لم يتمّ الاتفاق عليها بعد، وأنّ مصر تحرص على عدم تأثير هذا المشروع على حقوقها المائية، ولقطع الطريق على أية محاولة إثيوبية لتعبئة موارد خارجية لتمويل المشروع استفادة من إعلان المبادئ.
كذلك يجب أن تحظى العلاقة مع السودان بأولوية أوضح في السياسة الخارجية المصرية في الفترة القادمة، ولا تعود أهمية ذلك فقط إلى نجاح إثيوبيا في استمالة الموقف السوداني، والحصول على دعمه الواضح للمشروع فيما يُعدّ خروجاً عن التحالف التاريخي لدولتي المصبّ في قضايا المياه، وإنما أيضاً لسعي السودان نفسه إلى استغلال حصته المائية التي لم يكن يستغلها كاملة من قبل، ووجود بعض الأصوات السودانية التي تنادي بزيادة هذه الحصة، وبإعادة التفكير في اتفاقية عام 1959م.
ولرأب الصدع الذي خلّفته سنوات من تهميش الدائرة الإفريقية في السياسة الخارجية المصرية، وسنوات التفاوض حول الاتفاقية الإطارية، والتي نجحت فيها إثيوبيا في قيادة معظم دول المنبع لأول مرة للوصول إلى موقفٍ تفاوضيٍّ موحدٍ في مواجهة دولتي المصبّ، فإنّ مصر بحاجة إلى جهدٍ دبلوماسيٍّ نشط للتقارب مع دول المنابع التي حاولت إثيوبيا عزل مصر عنها، والقيام بتحرّك مؤثّر، سواء من خلال الزيارات الرسمية، أو من خلال المؤسسات الجديدة، مثل (الوكالة المصرية من أجل التنمية ووحدة إفريقيا) التابعة لمجلس الوزراء، وهي أدوات تحتاج إلى الاستدامة، والتقييم المستمر، وقياس النتائج، حتى تكون أداة لتحقيق هدفٍ استراتيجيٍّ للتوجه نحو إفريقيا، وليس مجرد مظاهر لاهتمامٍ موسميٍّ يخبو مع تراجع أزمة العلاقات مع دول حوض النيل.
الاحالات والهوامش:
(*) مدرس العلوم السياسية- كلية الاقتصاد والعلوم السياسية – جامعة القاهرة.
(1) محمد سلمان طايع: مصر وأزمة مياه النيل: آفاق التعاون والصراع، القاهرة: دار الشروق، 2012م، ص ص (68 – 88).
(2) عبد الملك عودة: السياسة المصرية ومياه النيل في القرن العشرين، القاهرة: مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بالأهرام، 1999م، ص ص (13 – 19).
(3)Yacob Arsano, Ethiopia and the Nile: Dilemmas of national and regional hydro-politics, Zurich: Swiss Federal Institute of Technology, 2007, 97-98.
(4) انظر: نصّ الاتفاق بين الجمهورية العربية المتحدة وبين جمهورية السودان للانتفاع الكامل بمياه النيل، نوفمبر 1959م.
(5) Arsano 2007 , pp.100-101;
(6) Simon Mason, From Conflict to Cooperation in the Nile basin, Zurich: Swiss Federal Institute for Technology, 2004, 190-191.
(7) محمد سلمان طايع، مرجع سابق، ص ص (118 – 123).
(8) Paul Block et al, Integrated Management of the Blue Nile Basin in Ethiopia, International Food Policy Research Institute, IFPRI Discussion Paper, May 2007, pp. 5-6; Giorgio Guariso and Dale Whittington, “Implications of Ethiopian water development for Egypt and Sudan”, International Journal of Water Resources Development, vol. 3, no.2, 1987, pp. 106-108.
(9) Ethiopian Ministry of Water and energy, Dams and hydropower, September 2007, http://www.mowr.gov.et/index.php?pagenum=4.3&pagehgt=1000px
(10) The Federal Democratic Republic of Ethiopia, Ministry of water Resources: Ethiopia Water Sector Policy, 2001 and Ethiopian water Sector Strategy, 2001.
(11) مبادرة حوض النيل: عبارة عن اتفاقية تضم دول حوض النيل العشر) مصر، السودان، أوغندا، إثيوبيا، الكونغو الديمقراطية، بوروندي، تنزانيا، رواندا، كينيا، إريتريا)، تم توقيعها في فبراير 1999م، في تنزانيا، بهدف تدعيم أواصر التعاون الإقليمي (سوسيو- اجتماعي) بين هذه الدول، وهي تنصّ على الوصول إلى تنمية مستدامة في المجال السياسي-الاجتماعي، من خلال الاستغلال المتساوي للإمكانيات المشتركة التي يوفرها حوض نهر النيل.
(12) Ethiopian Ministry of Water and energy, Dams and hydropower, September 2007, http://www.mowr.gov.et/index.php?pagenum=4.3&pagehgt=1000px
(13) لمزيد من التفاصيل حول المشروعات المقترحة والمنفذة للسدود الإثيوبية على منابع النيل والأنهار الدولية الأخرى انظر:
Adjoa Anyimadu, Major hydropower projects in Sudan and Ethiopia, in Harry Verhoeven, Black Gold for Blue Gold: Sudan’s oil, Ethiopia’s water and regional integration, Chatham House, Briefing Paper, June 2011.
(14) الهيئة العامة للاستعلامات: الموقف بعد التوقيع على الاتفاقية الإطارية لحوض النيل، على الرابط/http://www.sis.gov.eg/Ar/Templates/Articles/tmpArticles.aspx?CatID=1651#.VU8P1o6qqko
(15) المواصفات السد انظر: موقع الشركة المنفذة:
http://www.salini-impregilo.com/en/projects/in-progress/dams-hydroelectric-plants-hydraulic-works/grand-ethiopian-renaissance-dam-project.html
(16) International Rivers, No room for debate on Grand Ethiopian Renaissance Dam, April 17, 2014, http://www.internationalrivers.org/blogs/229/no-room-for-debate-on-grand-ethiopian-renaissance-dam
(17) ‘Ethiopia’s biggest dam oversized: experts say’, International Rivers interview with Asfaw Beyene, September 05, 2013, http://www.internationalrivers.org/resources/ethiopia%E2%80%99s-biggest-dam-oversized-experts-say-8082
(18) انظر على سبيل المثال: نادر نور الدين: مصر ودول منابع النيل: الحياة والمياه والسدود والصراع، القاهرة: دار نهضة مصر، 2014م، ص 369؛ وضياء الدين القوصي: إثيوبيا: الماء أم الطاقة أم الاثنان معاً؟، الأهرام اليومي، 8 ديسمبر 2013م.
(19) International Panel of Experts, The Grand Ethiopian Renaissance Dam: final report, May 2013, pp.36-41.
(20) انظر على سبيل المثال:
Consulate General of Ethiopia in Los Angeles, The Grand Ethiopian Renaissance Dam, n.d.
(21) Egyptian Ministry of Foreign Affairs, Egypt’s Perspective towards the Grand Ethiopian Renaissance Dam, March 2014.
(22) Walaa Hussein, Egypt considers referring Renaissance dam file to the Hague, Al-Monitor, March 26, 2014, http://www.al-monitor.com/pulse/originals/2014/03/egypt-renaissance-dam-dispute-icj.html#
(23) Aarom Maasho, Paying for giant Nile dam itself, Ethiopia thwarts Egypt, but takes risk, Reuters, April 23, 2014, http://www.reuters.com/article/2014/04/23/us-ethiopia-energy-insight-idUSBREA3M0BG20140423
(24) Daniel Berhane, Ethiopia rejects Egypt’s offer to finance the Renaissance dam, April 08, 2014, http://hornaffairs.com/en/2014/04/08/ethiopia-reject-egypt-finance-renaissance-dam/
(25) وزيرا خارجية مصر وإثيوبيا يعلنان بياناً مشتركاً للرئيس السيسي ورئيس وزراء إثيوبيا، بوابة الأهرام العربي، 27 يونيو 2013م.
(26) للاطلاع على الإعلان انظر: النصّ الكامل لاتفاقية إعلان مبادئ سد النهضة، الأهرام اليومي، 23 مارس 2015م، http://gate.ahram.org.eg/News/616679.aspx
(27) مصر والسودان وإثيوبيا يتفقون على المكتب الاستشاري المنفذ لدراسات سدّ النهضة، الأهرام اليومي، 10 أبريل 2015م، http://www.ahram.org.eg/News/101507/136/NewsPrint/377259.aspx