آية محسب عبد الحميد مصطفى
باحثة دكتوراه/ معهد البحوث والدراسات الإفريقية ودول حوض النيل- جامعة أسوان
تمهيد حول المؤتمر: خلفية وأهداف
جاء انعقاد مؤتمر الاتحاد الإفريقي حول الديون في مدينة لومي، توغو، خلال الفترة من 12 إلى 14 مايو 2025م، استجابةً لتفاقم أزمة الدَّيْن العام في القارة الإفريقية، والتي باتت تُهدِّد الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي في العديد من الدول، لا سيما بعد تداعيات جائحة كوفيد-19، وارتفاع أسعار الفائدة العالمية، وتزايد الاعتماد على الديون التجارية ذات التكلفة المرتفعة.
وقد عكست هذه الديناميكيات ضعف النظم المالية الوطنية، وعدم ملاءمة الإطار المالي الدولي لخصوصيات الاقتصادات الإفريقية، مما دفَع إلى الدعوة لعقد مؤتمر قاري يهدف إلى صياغة موقف موحَّد وشامل بشأن إدارة الدَّيْن واستدامته.
سعى المؤتمر إلى تحقيق جملة من الأهداف الإستراتيجية، في مقدمتها: تعزيز الحوكمة المالية والشفافية؛ من خلال إنشاء قاعدة بيانات موحدة للديون السيادية الإفريقية، وإرساء آلية إفريقية لإعادة هيكلة الديون تُيسِّر التفاوض الجماعي وتُخفّض التكاليف المرتبطة بذلك. بالإضافة إلى تشجيع أدوات التمويل المستدام والمبتكَر، بما في ذلك السندات الخضراء، ومقايضات الدَّيْن مقابل المناخ.
كما هدف المؤتمر إلى إعادة تموضع إفريقيا في النظام المالي الدولي، عبر الدعوة إلى إصلاح “الإطار المشترك” لمجموعة العشرين، والمطالبة بتمثيل عادل وشامل للدول النامية في عمليات اتخاذ القرار المتعلقة بالديون.
مقدمة:
تُعدّ أزمة الدَّيْن العام في إفريقيا واحدة من أبرز التحديات الاقتصادية التي تُواجه القارة في ظل المتغيرات المالية والاقتصادية العالمية المتسارعة. فقد شهدت نسبة الدَّيْن العام إلى الناتج المحلي الإجمالي ارتفاعًا مستمرًّا خلال السنوات الأخيرة؛ حيث بلغ متوسط هذه النسبة حوالي 60% وفقًا لتقرير صندوق النقد الدولي لعام 2023م، مع تفاوت ملحوظ بين الدول، مما أثار قلقًا متزايدًا بشأن قدرة الدول الإفريقية على تحقيق استدامة مالية تُمكّنها من تمويل النمو والتنمية المستدامة.
في هذا السياق، انعقد مؤتمر الاتحاد الإفريقي حول الديون في الفترة من 12-14 مايو 2025م بمدينة لومي في جمهورية توغو، ليشكل نقطة تحوُّل مهمة في جهود القارة لإعادة هيكلة وإدارة ديونها بشكلٍ مُوحَّد يأخذ في الاعتبار الخصوصيات والتحديات المالية المتنامية.
يهدف هذا المقال إلى تقديم تحليل شامل لمخرجات مؤتمر الاتحاد الإفريقي؛ من خلال استعراض الأبعاد الاقتصادية لأزمة الدَّيْن، ومناقشة التوصيات والإستراتيجيات التي تم اعتمادها خلال المؤتمر.
كما يتناول المقال التحديات المؤسسية والتمويلية التي قد تَعُوق تنفيذ هذه التوصيات، مع التأكيد على ضرورة إصلاح النظام المالي الدولي لدعم استقرار واستدامة المالية العامة في إفريقيا.
يسعى هذا التحليل إلى إبراز الآفاق المستقبلية لتحقيق استدامة مالية تُعزّز قدرة الدول الإفريقية على مواجهة الصدمات الاقتصادية الخارجية وضمان استقلاليتها المالية.
أولًا: السياق العام لتصاعد أزمة الدَّيْن الإفريقي
شهدت القارة الإفريقية خلال العقد الماضي تحولًا عميقًا في ديناميكيات الدَّيْن العام؛ حيث اتجه المنحنى التصاعدي لنسبة الدَّيْن إلى الناتج المحلي الإجمالي نحو مستويات تُنْذِر بالخطر في العديد من الدول. ووفقًا لتحليل صندوق النقد الدولي(IMF, 2023) ، ارتفع متوسط نسبة الدَّيْن العام إلى الناتج المحلي الإجمالي في دول إفريقيا جنوب الصحراء من 28.8% في عام 2012م إلى 59.1% في عام 2022م، أي بزيادة تقارب 30 نقطة مئوية خلال عقد واحد، في انعكاس واضح لتدهور الاستدامة المالية في المنطقة.
الأسباب الهيكلية والطارئة لتفاقم أزمة الدين:
1- توسع الإنفاق العام استجابة للأزمات المتعاقبة:
شهدت الحكومات الإفريقية زيادة كبيرة في الإنفاق العام لمواجهة جائحة كوفيد-19، من خلال دعم الأنظمة الصحية، والتحويلات الاجتماعية، والإعفاءات الضريبية، ما أدَّى إلى اتساع العجز المالي وتزايد الاقتراض.([1])
2-تراجع الإيرادات وتباطؤ النمو الاقتصادي:
تسببت الجائحة في انكماش اقتصادي واسع النطاق، أعاق قدرة الدول على توليد الإيرادات الضريبية، وزاد من اعتمادها على الاقتراض الخارجي لتغطية النفقات الأساسية.([2])
3-الضغوط التضخمية الناتجة عن صدمات العرض العالمية:
ارتفعت أسعار الغذاء والطاقة والأسمدة بشكلٍ حادّ نتيجة الحرب الروسية الأوكرانية، مما فرَض ضغوطًا مالية على موازنات الدول الإفريقية المستوردة للسلع الأساسية.([3])
4-ضعف النظم الضريبية والمؤسسات المالية:
تعاني العديد من الدول الإفريقية من ضعف قدرة تحصيل الإيرادات المحلية، وضيق القاعدة الضريبية، وغياب إصلاحات هيكلية ضرورية لتحديث الإدارة المالية العامة.( ([4]
ونتيجة لذلك، تضاعف عبء خدمة الدين؛ حيث ارتفعت مدفوعات الفوائد كنسبة من الإيرادات الحكومية (باستثناء المِنَح) من متوسط 4.6% عام 2012م إلى 10.4% عام 2022م. هذا الاتجاه التصاعدي في كلفة خدمة الدَّيْن أدَّى إلى تقليص “المساحة المالية”(Fiscal Space) المتاحة للإنفاق على القطاعات التنموية الأساسية كالصحة والتعليم والبنية التحتية.([5])
الشكل رقم (1): تطور مستويات الدين العام في إفريقيا جنوب الصحراء (2009–2023)
المصدر: منظمة ONE Campaign، 2024م
https://data.one.org/analysis/african-debt
يظهر الشكل (1) الاتجاه التصاعدي الحادّ في مستويات الدَّيْن العام كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي لدول إفريقيا جنوب الصحراء خلال الفترة من عام 2010 إلى 2023م. ويتضح من الرسم أن منطقة إفريقيا جنوب الصحراء شهدت ارتفاعًا ملحوظًا في متوسط الدَّيْن العام بعد عام 2014م، متأثرة بتراجع أسعار السلع الأساسية، ثم تسارع هذا الارتفاع بصورة أكبر مع تداعيات جائحة كوفيد-19، وما تبعها من اضطرابات اقتصادية عالمية.
ويعكس هذا الاتجاه تزايد اعتماد الدول الإفريقية على الاقتراض لتمويل العجز المالي، في ظل محدودية البدائل التمويلية المحلية، الأمر الذي رفَع مستويات المخاطر المرتبطة بالاستدامة المالية، وفرض تحديات إضافية على جهود تحقيق الاستقرار الاقتصادي والنمو المستدام.
وتُعدّ المؤشرات الكمية المتعلقة بنسبة الدَّيْن العام إلى الناتج المحلي الإجمالي مدخلًا تحليليًّا أساسيًّا لفهم ملامح أزمة المديونية في إفريقيا جنوب الصحراء، كما تكشف التفاوتات البنيوية بين الدول في إدارة الدين العام. ويبرز عرض البيانات للفترة 2020– 2023م الخلفيات المالية التي دفعت نحو انعقاد مؤتمر الاتحاد الإفريقي حول الديون، في ظل الحاجة إلى معالجة جماعية لأزمة تتسم بالتعقيد والتفاوت الإقليمي.
الجدول رقم (1) نسبة الدين العام إلى الناتج المحلي الإجمالي (%) (2020– 2023م)
المصدر: صندوق النقد الدولي
يعكس الجدول رقم (1) ديناميكيات متباينة لمسارات المديونية العامة في عددٍ من دول إفريقيا جنوب الصحراء خلال الفترة 2020– 2023م، مع وجود توجُّه عام نحو تصاعد نِسَب الدَّيْن إلى الناتج المحلي الإجمالي، لا سيما في الدول ذات الهشاشة الاقتصادية أو المحدودية التمويلية. فعلى سبيل المثال، تجاوزت النسبة في زامبيا حاجز 129% في عام 2023م، فيما حافظت بوتسوانا على مستويات منخفضة نسبيًّا، مما يعكس تفاوتًا مؤسسيًّا وماليًّا حادًّا داخل الإقليم.
تعكس هذه المؤشرات ضغوطًا اقتصادية مُركَّبة شهدتها القارة في السنوات الأخيرة، تمثلت في تراجع الإيرادات العامة، وارتفاع النفقات المرتبطة بالصدمات الصحية والاقتصادية، إضافةً إلى تغيرات بيئية في بيئة التمويل الدولية. وبالنظر إلى هذا السياق العددي والتفاوتي، يكتسب انعقاد مؤتمر الاتحاد الإفريقي حول الديون (12-14 مايو 2025م) مشروعيته من الحاجة الموضوعية لبناء إطار قاري مشترك لمعالجة أزمة الدين التي تتسم بالتعقيد، وتتجاوز قدرة الحلول الوطنية الفردية.
ثانيًا: نتائج مؤتمر لومي حول الديون: نحو إطار إفريقي موحّد لإدارة الدَّيْن
مثّل مؤتمر الاتحاد الإفريقي حول الديون، الذي عُقِدَ في مدينة لومي بجمهورية توغو في الفترة من 12-14 مايو 2025م، نقطة تحوُّل إستراتيجية في مساعي القارة لمواجهة أزمة الدَّيْن العام. فقد اتفق القادة الأفارقة، وممثلو المؤسسات المالية الإقليمية والدولية، على أن أزمة الديون لم تُعدّ أزمة مالية ظرفية، بل تحوَّلت إلى أزمة هيكلية تتطلب موقفًا جماعيًّا، وتنسيقًا إقليميًّا، وإصلاحًا مؤسسيًّا. نتج عن المؤتمر ما بات يُعرَف بـ”إعلان لومي”، الذي تضمَّن عددًا من المبادئ والإجراءات المحورية لإعادة هيكلة مقاربة القارة لإدارة الدَّيْن العام تتمثل فيما يلي:
1- تعزيز الشفافية المالية وبناء قاعدة بيانات موحدة للديون
أكد المؤتمر على ضرورة تعزيز الشفافية والمساءلة في إدارة الدَّيْن؛ من خلال إنشاء قاعدة بيانات قارية موحدة للديون السيادية الإفريقية بحلول عام 2026م. وتهدف هذه المنصة إلى تمكين الدول الأعضاء من تقديم تقارير دقيقة حول ديونها، وتحسين القدرة التفاوضية الجماعية، وزيادة ثقة الأسواق في أدوات الدَّيْن الإفريقية.([6])
2-آلية إفريقية لإعادة هيكلة الديون
أوصى “إعلان لومي” بإنشاء آلية إفريقية موحدة لإعادة هيكلة الديون، تُدار تحت مظلة الاتحاد الإفريقي. وتهدف هذه الآلية إلى تسهيل التفاوض الجماعي مع الدائنين، خصوصًا غير التقليديين، وتقليص الوقت والتكاليف المرتبطة بإجراءات إعادة الجدولة، وهو ما اعتبرته الدول الإفريقية أداة إستراتيجية لتعزيز السيادة المالية وتقليص الاعتماد على مبادرات خارجية.([7])
3- تعزيز التمويل المستدام والمناخي
شدَّد المؤتمر على أهمية توجيه جزء متزايد من التمويل التنموي نحو أدوات تمويل خضراء ومستدامة. وتم الاتفاق على هدف تخصيص 20% من إجمالي تمويل التنمية في القارة لأدوات مثل السندات الخضراء، ومقايضات الدين مقابل المناخ، بحلول عام 2030. ويُنظَر إلى هذه الأدوات كآليات لخفض الاعتماد على الديون التجارية ذات الكلفة العالية، وتعزيز التماهي مع أهداف التنمية المستدامة.([8])
4- إصلاح الإطار المالي الدولي ومراجعة “الإطار المشترك” لمجموعة العشرين
طالب القادة الأفارقة خلال المؤتمر بإصلاح آليات التعامل الدولي مع الديون، لا سيما ما يُعرَف بـ”الإطار المشترك لمعالجة الديون”(Common Framework) التابع لمجموعة العشرين وصندوق النقد الدولي. واعتبروا أن هذا الإطار يُضعف الدول النامية من خلال استبعاد الدائنين التجاريين، وتأخير عمليات إعادة الهيكلة. ودعا “إعلان لومي” إلى إدماج الدائنين الجدد –لا سيما الصين والمؤسسات الخاصة– ضمن أيّ مفاوضات جماعية.(([9]
5- إنشاء وكالة تصنيف ائتماني إفريقية
اقترح المشاركون في المؤتمر تسريع إنشاء وكالة تصنيف ائتماني إفريقية، بهدف تقديم تقييمات موضوعية تعكس الأوضاع الاقتصادية في إفريقيا بشكل أكثر عدالة، في ظل الانتقادات المتكررة لوكالات التصنيف الغربية التي تتّهم بإعطاء تقييمات سلبية قد تضر بفرص تمويل الدول الإفريقية.([10])
6- تعليق خدمة الدَّيْن خلال فترات التفاوض
من أبرز التوصيات العملية التي تضمنها “إعلان لومي”: الدعوة إلى تعليق خدمة الدين مؤقتًا أثناء فترات التفاوض على إعادة الهيكلة، لتقليل الضغط على موازنات الدول المدينة، وتوجيه الموارد نحو الأولويات الاجتماعية مثل الصحة والتعليم. وقد لقي هذا المقترح ترحيبًا واسعًا من عدد من منظمات المجتمع المدني والجهات المانحة.([11])
ثالثًا: التحديات المؤسسية والتمويلية في سياق مؤتمر الاتحاد الإفريقي حول الديون – مايو 2025م
يُعدّ مؤتمر الاتحاد الإفريقي حول الديون الذي عُقِدَ في الفترة من 12-14 مايو 2025م محطة مهمة للتباحث في التحديات الجوهرية التي تُواجه الدول الإفريقية في مسار تحقيق الاستدامة المالية. ورغم التوصيات البنّاءة التي خرج بها المؤتمر، إلا أن تنفيذ هذه التوصيات يُقابَل بعقبات مؤسسية ومالية مُعقَّدة، تتطلب تفصيلًا دقيقًا لفهم عمقها وأبعادها.
1- ضعف البنية المؤسسية والإدارية: تُعدّ البنية المؤسسية المتينة من الركائز الأساسية لإدارة الدَّيْن العام بفعالية، غير أن واقع العديد من الدول الإفريقية يُظهر ضعفًا في هذا الجانب. فقد أشارت تقارير صندوق النقد الدولي (2023) إلى أن نقص الكفاءات الفنية في مؤسسات إدارة الدَّيْن، بالإضافة إلى ضعف نظم المعلومات المالية، يَحُدّ من قدرة هذه الدول على متابعة وتحليل التزاماتها المالية بشكل دقيق وشفَّاف. هذا النقص في الشفافية والبيانات الموثوقة يؤدي إلى عدم وضوح الصورة الحقيقية لمستوى المديونية، مما يعرقل عمليات التخطيط واتخاذ القرار المالي السليم.([12])
كما أشار تقرير البنك الإفريقي للتنمية (2024م) إلى أن بعض الدول الإفريقية ما تزال تعاني من تداخل الصلاحيات بين المؤسسات المالية والموازنة، ما يخلق بيئة مؤسسية غير متجانسة تُعيق تنسيق السياسات المالية والديون.
2- تعقيد هيكل الدين وتنويع الدائنين: يزداد هيكل الدَّيْن العام للدول الإفريقية تعقيدًا بفعل تنوع مصادر الدين، ما بين الديون الرسمية من المؤسسات متعددة الأطراف، والديون التجارية، وسندات اليوروبوند، والديون الصينية، وغيرها من مصادر التمويل غير التقليدية. هذا التنوع يصعب من مهام إعادة الهيكلة أو التفاوض على شروط الدَّيْن؛ حيث تختلف شروط السداد، ومواعيده، وأدوات الضمان، مما يجعل المسارات التقليدية لإدارة الدين أقل فاعلية([13]). كما يشير البنك الإفريقي للتنمية (2024م) إلى أن بعض هذه الديون، مثل سندات اليوروبوند، تفرض شروطًا مالية صارمة وأسعار فائدة مرتفعة، مما يزيد من الضغط المالي على الدول المدينة، خصوصًا في ظل الأوضاع الاقتصادية العالمية المتقلبة.
3-ارتفاع تكلفة الاقتراض وتحديات التمويل: في ظل تشديد السياسات النقدية في الدول المتقدمة وارتفاع أسعار الفائدة عالميًّا، شهدت الدول الإفريقية ارتفاعًا ملحوظًا في تكلفة الاقتراض الخارجي، مما أثَّر سلبًا على إمكانية حصولها على تمويل مستدام وبشروط مناسبة([14]). هذا الواقع يزيد من المخاطر المرتبطة بتمويل العجز المالي، ويَحُدّ مِن فُرَص الاستثمار في القطاعات التنموية الحيوية. بالإضافة إلى ذلك، أدَّت التقلبات الاقتصادية العالمية إلى ارتفاع في مخاطر الأسواق المالية الخارجية، مما دفَع بعض المستثمرين إلى تخفيض تعرُّضهم لديون الأسواق الناشئة، ومن ضمنها إفريقيا، مما يزيد من تعقيد عملية الوصول إلى التمويل. وقد أشار مؤتمر الاتحاد الإفريقي 2025م إلى أهمية تطوير آليات التمويل المحلية وتعزيز الموارد الذاتية للدول الإفريقية كحل طويل الأمد للتخفيف من الاعتماد على التمويل الخارجي، كما دعا إلى تحسين التنسيق بين الدائنين الرسميين والتجاريين لخلق إطار عمل أكثر تناسقًا لإدارة الدين.(([15]
رابعًا: إصلاح النظام المالي الدولي والدور الإفريقي
سلّط مؤتمر الاتحاد الإفريقي حول الديون، المنعقد في لومي خلال الفترة من 12-14 مايو 2025م، الضوء على الحاجة الملحّة لإصلاح النظام المالي الدولي من أجل دعم استدامة الديون في إفريقيا. ورغم أن المؤتمر لم يُوصِ بشكل مباشر بإنشاء آلية قانونية ملزمة لإعادة هيكلة الديون، فقد ركَّز على أهمية تعزيز الشفافية في إدارة الدين، وبناء قدرات الدول الإفريقية على التفاوض الجماعي، لا سيّما في ظل تزايد تنوع الجهات الدائنة وتعقيد أدوات الدين المستخدَمة([16]).
في هذا السياق، شدّد المؤتمر على ضرورة زيادة تمثيل الدول الإفريقية في المؤسسات المالية الدولية، بما يضمن مراعاة خصوصياتها التنموية والتحديات التي تواجهها عند تصميم السياسات المالية العالمية. وقد تم التأكيد على دور الاتحاد الإفريقي واللجان الاقتصادية الإقليمية في تنسيق مواقف الدول الإفريقية ضمن المحافل الدولية المعنية بإدارة الديون والسياسات النقدية.([17])
من جانب آخر، تطرّق تقرير صندوق النقد الدولي (2023م) إلى تأثير تشديد السياسة النقدية العالمية وارتفاع أسعار الفائدة على قدرة الدول النامية، خاصة الإفريقية، في الوصول إلى التمويل الخارجي بشروط ميسّرة. وهو ما يُبرز الحاجة إلى إعادة النظر في الآليات الحالية لمنح التمويل، ومن ضمنها توسيع استخدام أدوات مثل حقوق السحب الخاصة(SDRs) ، بما يُتيح للدول الإفريقية تعزيز احتياطاتها النقدية لمواجهة الأزمات الخارجية([18]).
كما أشار تقرير البنك الإفريقي للتنمية (2024م) إلى أهمية إصلاح الحوكمة المالية العالمية، بما يشمل رفع صوت الدول الإفريقية في عمليات اتخاذ القرار داخل مؤسسات مثل صندوق النقد والبنك الدوليين. وقد ركّز التقرير على تعزيز التعاون القاري وتوفير الدعم الفني لمواجهة تحديات إدارة الدين، بوصفه جزءًا من أجندة التحول الاقتصادي في القارة([19]).
خامسًا: نحو نموذج إفريقي لإدارة رشيدة للدَّيْن العام
في ضوء تصاعد مستويات المديونية في عددٍ من الدول الإفريقية، وما يرافق ذلك من تعقيدات في هيكل الدَّيْن ومصادره، دعا مؤتمر الاتحاد الإفريقي رفيع المستوى حول الديون (مايو 2025م) إلى تبنّي نموذج إفريقي مستقل ومتكامل لإدارة الدَّيْن العام، يُعزز من قدرة الدول على اتخاذ قرارات سيادية مستندة إلى بيانات دقيقة وأولويات تنموية واقعية.
وقد ارتكز هذا الطرح على مجموعة من المبادئ الأساسية التي تضمنتها تقارير المؤسسات المالية الدولية، وعلى رأسها البنك الدولي والبنك الإفريقي للتنمية تتمثل فيما يلي:
1- يشدّد النموذج المقترح على دمج أدوات تقييم القدرة على تحمُّل الدين (Debt Sustainability Analysis – DSA) ضمن الخطط الوطنية؛ بحيث لا تظلّ هذه الأدوات حكرًا على المؤسسات الدولية، بل تُعاد صياغتها لتراعي الخصوصيات الاقتصادية والاجتماعية لكل دولة. ويُعدّ ذلك شرطًا أساسيًّا لوقف النزعة التوسعية غير المدروسة في الاقتراض، وضمان توجيه الموارد نحو مشروعات إنتاجية تُولِّد عوائد كافية لسداد الديون وتحقيق النموّ.
2-أوصى المؤتمر بإنشاء منصات رقمية متكاملة لإدارة الدَّيْن، تتيح التتبُّع اللحظي لهيكل المديونية، وتوفر تقارير تحليلية للجهات الرقابية والتشريعية، بما يُعزّز من الشفافية والمساءلة. ويدخل ذلك ضمن توجه أوسع نحو رقمنة المالية العامة، بما في ذلك إدارة العجز، وتتبع الإنفاق، وتحسين كفاءة النماذج التنبؤية المتعلقة بخدمة الدَّيْن. وتؤكد بيانات البنك الدولي([20])، أن الدول التي اعتمدت هذه الأدوات الرقمية استطاعت تحسين مستويات التنسيق بين وزارة المالية والبنك المركزي، وتقليص فجوات البيانات التي تُعوق اتخاذ القرار السليم.
3-ربط المشاركون بين إدارة الدين وتنمية الموارد المحلية؛ حيث اعتبروا أن أيّ نموذج مستدام لإدارة الدين يجب أن يُبنى على قاعدة مالية قوية، ترتكز على إصلاح السياسات الضريبية، وتوسيع الوعاء الضريبي، ومعالجة التهرب الضريبي والتسرب المالي. وفي هذا السياق، شدّد تقرير البنك الإفريقي للتنمية([21]) على أن تحسين تعبئة الإيرادات المحلية يمثل حجر الزاوية في أيّ إستراتيجية ناجحة لتقليص الاعتماد على الاقتراض الخارجي، لا سيما في ظل ارتفاع تكاليف التمويل، وضعف شروط السوق الدولية بالنسبة للدول النامية.
4-يبرز البُعد المؤسسي في صلب هذا النموذج؛ حيث تتطلب إدارة فعّالة للدَّيْن وجود أُطُر قانونية مستقرة، وكوادر فنية مؤهلة، وتنسيق فعّال بين الجهات الحكومية المختلفة. ويُعدّ غياب هذه العناصر من أبرز أسباب تفاقم المديونية في عدة دول، كما ورد في تقرير البنك الدولي، الذي أشار إلى أن أكثر من 40% من الدول الإفريقية منخفضة الدخل تعاني من هشاشة مؤسسية تُعيق قدرتها على إدارة الديون بشكل استباقي([22]).
إن النموذج الإفريقي المنشود لإدارة الدَّيْن لا ينفصل عن السياق العالمي، بل يتفاعل معه من خلال المطالبة بآليات دولية عادلة لإعادة الهيكلة، وتوسيع حقوق السحب الخاصة، وتخصيص موارد إضافية للقارة. إلا أن هذا التفاعل يفترض وجود قاعدة داخلية صلبة، تقوم على الملكية الوطنية لإستراتيجيات الدين، وتكامل السياسات المالية، والحوكمة الرشيدة. وهو ما يُعزّز، في نهاية المطاف، من قدرة الدول الإفريقية على التصدي للصدمات الخارجية وتحقيق الاستدامة المالية المنشودة.
ختامًا، يمثل مؤتمر الاتحاد الإفريقي حول الديون الذي انعقد في مايو 2025م نقطة محورية في مسيرة القارة نحو تحقيق استدامة مالية شاملة. فقد أتاح المؤتمر فرصة لتوحيد الرؤى وتبادل الخبرات بشأن إعادة هيكلة الديون وإدارة التحديات المالية المتنامية التي تواجه الدول الإفريقية. ورغم التقدم الملحوظ في صياغة التوصيات، إلا أن تحقيق الأهداف المرجوة يتطلب تضافر الجهود على المستويين الوطني والقاري، عبر تعزيز القدرات المؤسسية، وتطوير أُطُر الشفافية والمساءلة، وتبنّي إستراتيجيات مالية مرنة قادرة على مواجهة الصدمات الاقتصادية الخارجية. علاوة على ذلك، يتطلب دعم الاستدامة المالية إصلاحًا عاجلًا للنظام المالي الدولي بما يضمن تسهيل وصول الدول الإفريقية إلى التمويل المستدام وتحسين شروط الدين الخارجي. ومن الضروري أيضًا تعزيز التعاون الدولي والإقليمي لتوفير أدوات مالية مبتكرة تدعم التنمية الاقتصادية المستدامة، وتقلل من اعتماد القارة على مصادر الدين التقليدية.
إن تبني هذه الرؤى وتنفيذها بفعالية يمكن أن يفتح آفاقًا جديدة لاستقلالية مالية حقيقية للقارة، مما يمكّن الدول الإفريقية من تعزيز قدرتها على تمويل خطط التنمية، وحماية اقتصاداتها من تقلبات الأسواق العالمية، والارتقاء بمستوى الرفاهية لشعوبها.
……………………………
[1] International Monetary Fund. (2023). Debt Dilemmas in Sub-Saharan Africa: Some Principles and Trade-Offs in Debt Restructuring. Regional Economic Outlook, Sub-Saharan Africa. Retrieved from https://www.imf.org/external/pubs/ft/ar/2023/in-focus/public-debt
[2] African Development Bank. (2024). African Economic Outlook 2024. Retrieved from https://www.afdb.org/en/documents/african-economic-outlook-2024
[3] International Monetary Fund. (2023). Debt Dilemmas in Sub-Saharan Africa: op.cit
[4] UNECA. (2024). First African Union Debt Conference convenes in Lomé: ECA Executive Secretary outlines five priorities. Retrieved from https://www.uneca.org/stories/first-african-union-debt-conference-convenes-in-lom%C3%A9-eca-executive-secretary-outlines-five
[5] International Monetary Fund. (2023). Debt Dilemmas in Sub-Saharan Africa: op.cit
[6] United Nations Economic Commission for Africa. (2025, May 12). First African Union debt conference convenes in Lomé: ECA Executive Secretary outlines five priorities. Retrieved from https://www.uneca.org/stories/first-african-union-debt-conference-convenes-in-lom%C3%A9-eca-executive-secretary-outlines-five
[7] African Union. (2025, May 12). African Union Conference on Debt. Retrieved from https://au.int/en/newsevents/20250512/african-union-conference-debt
[8] United Nations Economic Commission for Africa. (2025, May 12). First African Union debt conference convenes in Lomé:op.cit.
[9] African Business. (2025, May 15). Africa resolves to reform G20 debt framework at major gathering. Retrieved from https://african.business/2025/05/finance-services/africa-resolves-to-reform-g20-debt-framework-at-major-gathering
[10] African Development Bank. (2025, May). AU, AfDB, and Government of Togo Host Landmark Conference. Retrieved from https://www.afdb.org/en/news-and-events/events/african-union-african-development-bank-and-government-togo-host-landmark-conference-develop-african-common-position-debt-83522
[11]Africa24 TV. (2025, May 14). Africa – Lomé declaration on debt: Call for a new world financial order. Retrieved from https://africa24tv.com/africa-lome-declaration-on-debt-call-for-a-new-world-financial-order
[12] International Monetary Fund (IMF), World Economic Outlook Report, 2023
https://www.imf.org/en/Publications/WEO
[13] Ibid.
[14] African Development Bank. (2025, May). AU, AfDB, and Government of Togo Host Landmark Conference:op.cit.
[15]African Union (2025). African Union Conference on Debt Sustainability – 12–14 May 2025.
https://au.int/en/webforms/african-union-conference-debt
[16]Ibid.
[17]African Union (2025). African Union Conference on Debt Sustainability:op.cit.
[18]International Monetary Fund (2023). World Economic Outlook – October 2023.
https://www.imf.org/en/Publications/WEO/Issues/2023/10/10/world-economic-outlook-october-2023
[19]African Development Bank (2024). African Economic Outlook 2024.
https://www.afdb.org/en/knowledge/publications/african-economic-outlook
[20]World Bank. (2024, April 10). Africa’s Debt: Reforms and Innovations to Improve Management.
https://www.worldbank.org/en/news/feature/2024/04/10/africa-debt-management-reforms
[21]African Development Bank (AfDB). (2024). African Economic Outlook 2024: Driving Africa’s Transformation through Resource Mobilization and Debt Sustainability.
https://www.afdb.org/en/knowledge/publications/african-economic-outlook
[22]World Bank. (2024). Debt Sustainability Framework (DSF). Retrieved from https://www.worldbank.org/en/programs/debt-toolkit/dsa