كتبه: أحمد صدقي اليماني
باحث يمني مهتم بشؤون الشرق الإفريقي
مقدمة عامة: السياق التاريخي والسياسي للصراع في شرق الكونغو الديمقراطية
تمثل منطقة شرق جمهورية الكونغو الديمقراطية إحدى أكثر بؤر النزاع تعقيدًا في إفريقيا، بل وفي العالم بأسره، نظرًا لتشابك الأبعاد التاريخية والسياسية والعرقية والاقتصادية والأمنية التي تتقاطع داخلها. فما يظهر للعالم كصراع محلي بين الدولة ومجموعات مسلحة متمردة، أو مجرد اقتتال قبلي أو نزاع حدودي، يخفي في جوهره صراعات أعمق بكثير تتجذر في تاريخ الاستعمار، وتتشكل عبر علاقات القوة الإقليمية والدولية، وتتغذى على موارد طبيعية هائلة لم تجلب لسكان المنطقة سوى الفقر والعنف والتهجير.
لا يمكن فهم الصراع في شرق الكونغو دون الإحاطة باللحظة التأسيسية للدولة الكونغولية، حينما كانت مستعمرة بلجيكية تُدار كإقطاعية خاصة للملك ليوبولد الثاني، في نموذج بشع من الاستعمار الاستغلالي الذي رسخ سياسات النهب والعنف والعلاقات الاقتصادية غير المتكافئة. ومنذ الاستقلال عام 1960، دخلت الكونغو في دوامة من الانقلابات، والصراعات الداخلية، والتدخلات الأجنبية، بدءًا من دعم القوى الكبرى لانقلاب موبوتو سيسي سيكو، ومرورًا بالحروب الكونغولية الأولى والثانية، التي يُنظر إليها على نطاق واسع كـ”حرب إفريقية عالمية” نظراً لتورط أكثر من تسع دول إفريقية فيها.
شرق الكونغو، وعلى وجه الخصوص إقليمي شمال وجنوب كيفو، شكل المسرح الأكثر اشتعالًا لهذه الصراعات. فبعد الإبادة الجماعية في رواندا عام 1994، شهدت المنطقة تدفق مئات الآلاف من اللاجئين، بينهم مقاتلون سابقون في نظام الهوتو، مما أوجد تهديدًا أمنيًا مباشرًا لجارتها رواندا، التي اتخذت من ذلك مبررًا دائمًا لتدخلها المباشر وغير المباشر في الشأن الكونغولي. هذا التدخل تجلى بشكل خاص من خلال دعم حركات مسلحة مثل “حركة 23 مارس (M23)”، التي أصبحت رمزًا لتدويل الصراع وتعقيده، حيث تُتهم رواندا بدعمها سياسيًا وعسكريًا، بينما تتبادل معها الاتهامات بحماية مصالحها في الكونغو عبر أدوات غير نظامية.
إضافة إلى ذلك، تبرز في الصراع قضايا بنيوية كضعف الدولة الكونغولية، وانعدام الاحتكار الحكومي لاستخدام العنف، وغياب التنمية في مناطق شاسعة من الشرق، ما أتاح المجال لنمو الميليشيات، وتفاقم مظاهر التهريب العابر للحدود، خصوصًا للمعادن النادرة مثل الكولتان والذهب، مما أوجد اقتصادًا حربيًا موازياً يمول العنف ويطيل أمده.
كل ذلك يحدث في ظل حضور دولي باهت، تقوده الأمم المتحدة عبر بعثتها “مونوسكو”، التي وُصمت بعدم الفعالية رغم كونها من أكبر بعثات حفظ السلام في العالم. كما أن القوى الكبرى – كالولايات المتحدة والصين – تتعامل مع الصراع من زوايا جيوسياسية ومصالح استراتيجية في إفريقيا، ما أضاف بعدًا دوليًا للصراع، غالبًا ما غلب عليه منطق المصلحة لا منطق الحلول الجذرية.
إن هذه الورقة تهدف إلى تحليل الصراع في شرق الكونغو الديمقراطية من منظور شامل، يجمع بين البعد التاريخي والسياسي، ويُسقط عليه نظرية مركب الأمن الإقليمي لفهم كيفية تفاعل الأزمات المحلية مع الديناميات الإقليمية والدولية. سنبدأ أولاً بتتبع جذور الصراع وتطوره التاريخي حتى فبراير 2025، قبل الانتقال إلى تحليل دور حركة M23، والأطراف الفاعلة، ثم نقاش الأبعاد الإنسانية والنظرية، وصولاً إلى طرح السيناريوهات المحتملة لهذا الصراع الممتد.
المحور الأول: جذور الصراع في شرق جمهورية الكونغو الديمقراطية
إن البحث في جذور الصراع في شرق جمهورية الكونغو الديمقراطية يستلزم العودة إلى البنية التاريخية والسياسية للدولة الكونغولية، التي لم تعرف في يوم من الأيام حالة من التوازن أو الانسجام بين السلطة المركزية والهامش، أو بين القوميات والمكونات الاجتماعية المتعددة. فمنذ الحقبة الاستعمارية وحتى الزمن المعاصر، كانت هذه المنطقة بالذات – أي الشطر الشرقي من البلاد – بمثابة فضاء هش ومفتوح للتدخلات، تضعف فيه سلطة الدولة وتنتشر فيه الفوضى، وتتداخل فيه مصالح محلية وقبلية بأخرى إقليمية ودولية، ضمن بنية أمنية معقدة لا يمكن فصلها عن تاريخ الحرب في إفريقيا.
تبدأ جذور هذا الصراع في الواقع من الإرث الاستعماري البلجيكي. لقد أنشأ الاستعمار حدودًا مصطنعة جمعت تحتها مجموعات إثنية متباينة، دون أي مشروع حقيقي لبناء دولة وطنية موحدة. بل إن الاستعمار أسس نظام حكم قائم على الاستغلال ونهب الموارد، ورسخ علاقات تبعية اقتصادية جعلت من شرق الكونغو – بثرواته الطبيعية الضخمة – هدفًا للسيطرة من قبل النخب الاقتصادية المحلية والدول الإقليمية والدولية على حد سواء.
عقب الاستقلال في 1960، دخلت الكونغو في نفق طويل من الفوضى. وفي الوقت الذي كانت فيه العاصمة كنشاسا تسعى لتأسيس سلطتها، كانت مناطق الشرق – بما فيها كيفو وإيتوري وتنجانيقا – خارجة عن السيطرة. تفجرت في تلك الفترة تمردات محلية طالبت بالحكم الذاتي، مستغلة ضعف الدولة المركزية، وهو ما مهّد مبكرًا لنمو حركات مسلحة تحمل هويات إثنية ومطالب جغرافية. ومنذ ذلك الحين، أصبحت منطقة الشرق تمثل ساحة مفتوحة لتصادم الهويات والمصالح، وساحة خلفية لتصفية الحسابات بين القوى الإقليمية.[1]
غير أن التحول الجذري في طبيعة الصراع جاء عقب الإبادة الجماعية في رواندا عام 1994، والتي شكّلت نقطة مفصلية في تاريخ القرن الإفريقي. فقد تدفقت إلى شرق الكونغو – وتحديدًا إلى كيفو الشمالية – أعداد هائلة من اللاجئين الروانديين، بينهم عشرات الآلاف من مقاتلي “الإنترahamwe” (الميليشيات الهوتوية التي نفذت الإبادة)، والجنود السابقين في الجيش الرواندي الذي أطاح به الجبهة الوطنية الرواندية بزعامة بول كاغامي. وقد نظرت الحكومة الرواندية الجديدة إلى وجود هؤلاء في الأراضي الكونغولية كتهديد وجودي لأمنها، فبدأت أولى أشكال التدخل العسكري في شرق الكونغو.
بقيت الدولة الكونغولية حينها – بقيادة موبوتو سيسي سيكو – عاجزة عن السيطرة على الوضع. بل إن سقوط نظامه عام 1997، كان نتيجة مباشرة لتدخل رواندا وأوغندا في دعم التمرد المسلح بقيادة لوران كابيلا، في ما عُرف بـ”الحرب الكونغولية الأولى”. وبعد فترة قصيرة، اندلعت الحرب الثانية (1998–2003)، حيث شاركت فيها تسع دول إفريقية ومئات الميليشيات، وأودت بحياة أكثر من خمسة ملايين شخص، ما جعلها أكثر الحروب دموية منذ الحرب العالمية الثانية.
هذه الحرب لم تنتهِ باتفاق شامل، بل بتسوية هشة أبقت على جذور المشكلة. فقد خرجت القوات الأجنبية رسميًا، لكن بقي نفوذها قائمًا عبر دعم الفصائل المحلية. واستمرت رواندا وأوغندا تحديدًا بدعم جماعات متمردة في الشرق، بحجة الدفاع عن أمنهما القومي[2]، بينما كانت في الواقع تحافظ على نفوذها السياسي والاقتصادي، مستفيدة من تهريب المعادن الثمينة، وخلق شبكات اقتصادية غير رسمية تدر أرباحًا طائلة.
ضمن هذا السياق، تطورت الحركات المسلحة إلى مزيج من الميليشيات الإثنية، والجماعات المتمردة السياسية، والعصابات الإجرامية، وقوات الدفاع المحلية، بل وحتى مجموعات إسلامية متطرفة كتحالف القوى الديمقراطية (ADF) المرتبط بداعش لاحقًا. وتشكلت منظمات كـ”القوات الديمقراطية لتحرير رواندا” (FDLR) التي تضم بقايا الهوتو، و”ماي ماي” المحلية التي تدّعي الدفاع عن السكان الأصليين، فيما برزت “حركة 23 مارس” كامتداد مباشر للتمرد المدعوم من رواندا، وتسببت في واحدة من أخطر موجات النزوح والاقتتال في العقدين الأخيرين.
أما البعد الاقتصادي لجذور الصراع، فهو لا يقل أهمية عن العوامل السياسية والأمنية. فشرق الكونغو غني بمعادن نادرة مثل الذهب، والقصدير، والكولتان (المستخدم في الهواتف المحمولة والتكنولوجيا المتقدمة). هذه الموارد لم تُستخدم لتنمية البلاد، بل أصبحت لعنة على سكانها، حيث تسعى الجماعات المسلحة للسيطرة على مناجمها، وتقوم بتهريبها عبر حدود رواندا وأوغندا مقابل أسلحة وأموال. وتظهر تقارير عديدة صلات وثيقة بين شركات أجنبية وجماعات مسلحة، ما يجعل الاقتصاد الحربي عاملًا حاسمًا في ديمومة النزاع.
من جهة أخرى، فإن غياب الدولة كعامل مؤسسي فاعل في الشرق يرسخ بيئة الصراع. لا وجود لمؤسسات أمنية قوية، ولا بنى خدمية حقيقية، ولا سياسات لإعادة الإعمار أو دمج المجتمعات المحلية. بل إن النخب الحاكمة في كنشاسا غالبًا ما تستخدم الصراع كورقة ضغط أو تفاوض سياسي، دون أن تملك إرادة حقيقية لبناء دولة شاملة تضمن العدالة والمواطنة. كل ذلك أدى إلى تفشي منطق الميليشيات بوصفه شكلًا من أشكال “السلطة البديلة”، ما يعمق دوامة العنف والانقسام الإثني.
ختامًا، فإن جذور الصراع في شرق الكونغو ليست أحادية أو ظرفية، بل هي مركبة ومتشابكة، تتداخل فيها العوامل التاريخية بالسياسية، والعرقية بالاقتصادية، والمحلية بالإقليمية والدولية. هذا التعقيد البنيوي يجعل من فهم الصراع مهمة شاقة، ويجعل من معالجته تحديًا هائلًا. وفي المحور القادم، سننتقل إلى تتبع تطورات الصراع حتى فبراير 2025، لنرصد كيف استمرت هذه الديناميات في التفاعل، وكيف صعدت من جديد حركة M23 إلى الواجهة، في سياق إقليمي ودولي بالغ الحساسية.
المحور الثاني: تطورات الصراع في شرق جمهورية الكونغو الديمقراطية حتى فبراير 2025
شهدت التطورات في شرق جمهورية الكونغو الديمقراطية خلال السنوات الأخيرة تسارعًا دراماتيكيًا في وتيرة العنف وعودة مأساوية لسيناريوهات الحرب والانقسام، مع بروز حركة “23 مارس” (M23) كأهم الفاعلين المسلحين في المشهد العسكري، وصعود خطاب إثني متطرف، وتعمق التشظي السياسي في ظل ضعف حكومة كينشاسا وتخاذل المجتمع الدولي. أما حتى فبراير 2025، فقد أصبح المشهد أكثر تعقيدًا، حيث عادت الحرب إلى الواجهة بقوة، وتعمقت الأبعاد الإقليمية للنزاع.
لعل الانطلاقة الجديدة لتدهور الأوضاع يمكن تأريخها بوضوح إلى أواخر عام 2021، عندما عادت حركة M23 للظهور بعد سنوات من السكون النسبي، وبدأت هجماتها ضد القوات الحكومية في شمال كيفو، واستولت سريعًا على مناطق استراتيجية قريبة من مدينة غوما، المركز الحضري الأهم في شرق البلاد. وقد بررت الحركة هذه العودة بـ”فشل الحكومة في تنفيذ اتفاق نيروبي 2013″، وهو الاتفاق الذي نص على نزع سلاحها ودمج مقاتليها في الجيش، لكنّه لم يُنفذ بالكامل.
منذ تلك اللحظة، أخذ الصراع مسارًا تصاعديًا. لم تكن حركة M23 مجرد جماعة متمردة، بل بدت أشبه بجيش محترف ومدعوم لوجستيًا واستخباراتيًا من قبل رواندا، كما أكدت تقارير خبراء الأمم المتحدة في 2022 و2023. فقد استخدمت الحركة تكتيكات حربية متقدمة، ونفذت عمليات التفاف وتطويق ضد قوات FARDC (الجيش الكونغولي)، واستولت على بلدات استراتيجية مثل روتشورو وبونياغانا، وقطعت طرق الإمداد، ما أربك الخطط العسكرية الحكومية.
حاولت كينشاسا في البداية احتواء الوضع من خلال نشر وحدات عسكرية إضافية، لكنها سرعان ما اصطدمت بمحدودية قدراتها العسكرية والتنظيمية، وبتواطؤ بعض الفصائل المسلحة المحلية مع M23. كما اتجهت إلى تشكيل “تحالف غير رسمي” مع بعض ميليشيات الماي ماي وميليشيات الهوتو، في خطوة زادت من الطابع الإثني للصراع، وأثارت اتهامات بارتكاب جرائم حرب ضد المدنيين من التوتسي الذين يُنظر إليهم كخزان دعم شعبي لـM23.
في المقابل، أظهرت رواندا – رغم نفيها المتكرر – مؤشرات دعم مباشر لـM23، سواء من حيث التسليح أو الإسناد التكتيكي، وهو ما أثار موجة من الاتهامات الدولية. تصاعدت التوترات بين كينشاسا وكيغالي بشكل علني، فاتهمت الأولى الثانية بانتهاك سيادتها، بينما اتهمت كيغالي الكونغو بـ”التواطؤ مع القوات الديمقراطية لتحرير رواندا” (FDLR) – وهي جماعة هوتوية متهمة بالمشاركة في الإبادة الجماعية في 1994، ما يمنح للصراع بُعدًا ذا حساسية تاريخية قصوى.
على المستوى الإقليمي، تفجرت الخلافات بين دول منطقة البحيرات الكبرى. فبينما تبنت أوغندا موقفًا متذبذبًا، متأرجحة بين دعم عمليات عسكرية مشتركة ضد قوات ADF في إيتوري، وبين الحذر من استفزاز رواندا، فضّلت بوروندي الانخراط بشكل مباشر عبر إرسال قوات تحت مظلة قوات “مجموعة شرق إفريقيا” (EACRF) لحماية بعض المناطق. ومع الوقت، بدأ يظهر التباين في أجندات هذه الدول، حيث لم تكن أهدافها موحدة، بل حملت مصالح متضاربة، خصوصًا في ما يتعلق بالموارد والتأثير العسكري.
قامت كينشاسا كذلك باستدعاء المجتمع الدولي، ودعت الأمم المتحدة إلى تفعيل دور بعثة مونوسكو، لكن البعثة الأممية كانت تعاني أصلاً من أزمة ثقة ومحدودية في التفويض والفعالية. وعلى خلفية احتجاجات شعبية مناهضة للوجود الأممي، أعلنت الحكومة الكونغولية في أواخر 2023 بدء انسحاب تدريجي للبعثة، ما أفرغ الساحة من القوة الأممية الوحيدة التي كانت تملك وجودًا رمزيًا رادعًا في بعض المناطق. هذا الانسحاب، الذي اكتمل جزئيًا في 2024، ساهم في تسريع الانهيار الأمني في بعض المناطق الحدودية.
ومع بداية 2024، دخلت الأزمة مرحلة جديدة من التدويل، بعد أن بدأت واشنطن وباريس في الضغط الدبلوماسي على رواندا، وفرضت بعض العقوبات المحدودة على مسؤوليها الأمنيين. كما صعدت كينشاسا من خطابها القومي، وعقدت تحالفات أمنية جديدة مع بعض الدول الإفريقية مثل أنغولا وجنوب إفريقيا. ومع ذلك، فإن تأثير هذه التحركات ظل محدودًا على الأرض، لأن M23 واصلت توسعها واستهدفت مواقع استراتيجية جديدة، ما أدى إلى موجة نزوح هائلة تجاوزت مليون شخص بحسب تقديرات الأمم المتحدة.
تدهور الوضع الإنساني بدوره أصبح كارثيًا. آلاف المدنيين أصبحوا عالقين في مناطق النزاع، وجرى استخدامهم كدروع بشرية في بعض الأحيان. ازداد استهداف البنية التحتية الإنسانية، وتعرض عمال الإغاثة للاختطاف، وانهارت الخدمات الصحية والتعليمية. كما انتشرت المجاعة في بعض مناطق روتشورو ونييراغونغو، وسط صمت دولي غير مفهوم.
في موازاة ذلك، سُجل تمدد واضح لنفوذ “تحالف القوى الديمقراطية” (ADF) في مقاطعة إيتوري وتنجانيقا، وهو تنظيم محسوب على داعش، زاد من تعقيد المشهد، وجعل من الحرب في شرق الكونغو ذات طابع متعدد الجبهات، إذ لم تعد M23 هي التهديد الوحيد، بل باتت المنطقة ساحة مفتوحة للجماعات المتطرفة، في ظل انسحاب القوات الأممية وضعف التنسيق الإقليمي.
حتى فبراير 2025، بلغ الصراع ذروته مع استمرار الاشتباكات في محيط غوما، وتوسع M23 في محاور جديدة باتجاه الجنوب، وتهديدها بخنق المدينة بشكل كامل. وظهر خطر انهيار الخط الدفاعي للجيش الكونغولي، ما دفع كينشاسا إلى إعلان التعبئة العامة، وطلب مساعدات عاجلة من الاتحاد الإفريقي والمجتمع الدولي.
في ظل هذا المشهد، عاد الحديث عن احتمال اندلاع حرب شاملة بين الكونغو ورواندا، خاصة بعد تقارير عن تبادل إطلاق نار مباشر عبر الحدود، وتحليق طائرات استطلاع رواندية داخل المجال الجوي الكونغولي. كما شهدت بعض المناطق الحدودية اشتباكات متقطعة بين قوات البلدين، وهو ما ينذر بتدويل الصراع بشكل خطير.
وبالتوازي، استمر الفاعلون الدوليون في تقديم الدعم الإنساني المحدود، بينما بدت الآليات الدبلوماسية – مثل مبادرة لواندا ومؤتمر نيروبي للسلام – عاجزة عن تحقيق أي تقدم ملموس، في ظل غياب الثقة بين الأطراف، وتداخل الأجندات الإقليمية، وتصلب مواقف M23 التي باتت تطالب علنًا بالحكم الذاتي في شمال كيفو.[3]
في المحصلة، يمكن القول إن تطورات الصراع حتى فبراير 2025 كشفت هشاشة النظام السياسي الكونغولي، وتعاظم الدور الإقليمي السلبي، وفشل الجهود الدولية في احتواء الأزمة. لقد أصبح الشرق الكونغولي مسرحًا مفتوحًا لحروب الوكالة والصراعات العابرة للحدود، ما يُمهّد لتحولات خطيرة، إن لم يتم تداركها ستقود إلى تفكك فعلي للدولة الكونغولية، أو إلى نشوء كيانات أمر واقع مسلحة تدير مناطقها بقوة السلاح والموارد.
المحور الثالث: دور حركة M23 في الصراع – النشأة، التحولات، والأهداف
تُعد حركة “23 مارس” (Mouvement du 23 Mars – M23) واحدة من أكثر الفاعلين المسلحين إثارة للجدل في المشهد الأمني والسياسي شرق جمهورية الكونغو الديمقراطية، ليس فقط بسبب قدرتها العسكرية والتنظيمية العالية، وإنما بسبب موقعها المتشابك ضمن معادلة الصراع الإقليمي، وارتباطها الوثيق برواندا، وتوظيفها لقضايا الهويات الإثنية ومظالم الحكم والتهميش، وهو ما منحها قدرة دائمة على التحول والعودة إلى المشهد كلما ظن البعض أنها انطفأت. إن فهم دور حركة M23 في النزاع الحالي يستلزم الرجوع إلى جذورها، وتفكيك تطورات بنيتها وتحالفاتها، وتحليل خطابها السياسي، وتقييم استراتيجيتها العسكرية.
نشأت الحركة رسميًا في أبريل 2012، عندما انشق مئات المقاتلين المنتمين لحركة “المؤتمر الوطني للدفاع عن الشعب” (CNDP) عن الجيش الكونغولي، متذرعين بفشل الحكومة في تنفيذ اتفاق السلام الموقّع في 23 مارس 2009، والذي كان قد نص على دمج مقاتلي CNDP في الجيش الوطني مع ضمانات خاصة بالتمثيل السياسي والحماية من الملاحقات القضائية. هذا الانشقاق مثّل لحظة ولادة M23 كجماعة متمردة جديدة، تبنّت اسم “23 مارس” لتأكيد مشروعية مطالبها المستندة إلى اتفاق تم نكثه – من وجهة نظرها.[4]
منذ نشأتها، تميزت الحركة ببنية تنظيمية واضحة[5]، وقيادة عسكرية متمرسة تضم ضباطًا سابقين تلقى بعضهم تدريبات في رواندا وأوغندا، وهو ما يفسر احترافيتها التكتيكية في تنفيذ العمليات، وقدرتها على تنفيذ هجمات خاطفة والاحتفاظ بالمواقع الحيوية. في نوفمبر 2012، أذهلت الحركة العالم حين سيطرت على مدينة غوما، عاصمة شمال كيفو، في عملية عسكرية كشفت ضعف الجيش الكونغولي وهشاشة أجهزة الدولة، ما دفع المجتمع الدولي – آنذاك – للضغط على رواندا وسحب دعمها، وهو ما أدى إلى انسحاب الحركة بعد أسبوعين فقط.
أعقب ذلك، توقيع اتفاق نيروبي في ديسمبر 2013، والذي نص على تفكيك الحركة، ونزع سلاحها، وإعادة دمج أعضائها في الحياة السياسية أو العسكرية، لكن التنفيذ الجزئي والانتقائي للاتفاق، وحرمان العديد من عناصر الحركة من الاندماج الكامل أو محاكمتهم، دفع ببعض قياداتها إلى الهروب إلى رواندا وأوغندا، حيث بقوا في نوع من “المنفى العسكري”، لكنهم لم يغيبوا عن المشهد.
خلال الفترة 2014-2020، ظلت M23 “تحت السطح”، لكن المؤشرات على إعادة التسلح والتدريب كانت تتزايد. ومع بداية 2021، ظهرت دلائل ميدانية على إعادة تمركز عناصرها في الحدود بين رواندا والكونغو، وتكثيف نشاطها الاستخباراتي، حتى أعلنت رسميًا في نوفمبر 2021 عودتها للعمل المسلح، متذرعة هذه المرة بتعرض التوتسي للتمييز والتطهير العرقي من قبل بعض الميليشيات الهوتوية المدعومة من الحكومة، إضافة إلى عدم تنفيذ بنود اتفاق نيروبي.
خلال هذه العودة، ظهرت M23 بحلّة جديدة. فقد طورت خطابها السياسي، وأعلنت رؤيتها لـ”حكم ذاتي” في شمال كيفو يضمن تمثيل التوتسي، ويوقف ما تسميه “تهميشهم التاريخي”. كما حسنت أداءها الإعلامي والدبلوماسي، وبدأت بتقديم نفسها كفاعل مسؤول يدير مناطق خاضعة له بشكل منظم، عبر فرض النظام وتقديم الخدمات – على محدوديتها – لسكان محليين في مناطق مثل بونياغانا وكيشيشي.
عسكريًا، تطورت الحركة إلى قوة شبه نظامية، حيث استخدمت تقنيات حربية حديثة، بينها الطائرات المسيرة، ومدفعية متوسطة المدى، ونفذت عمليات تطويق وخنق ضد القوات الحكومية. كما أظهرت قدرة على التنسيق مع فصائل أخرى، والانفتاح على بعض مجموعات المعارضة المسلحة، مما منحها عمقًا جيوسياسيًا جديدًا. وتفيد تقارير الأمم المتحدة بأن الحركة تحظى بدعم لوجستي مباشر من رواندا، يشمل التموين والتسليح والمعلومات الاستخباراتية، ما يعزز موقعها في الميدان ويقلل من كلفة الحرب.
على الصعيد السياسي، لم تعد الحركة تطرح فقط مطالب تتعلق باندماج مقاتليها أو حماية التوتسي، بل باتت تتحدث عن “إعادة هيكلة النظام الكونغولي”، و”إعادة توزيع الثروة”، و”إنهاء المركزية”، وهي شعارات تتجاوز طموحات المتمردين التقليديين، وتفتح الباب أمام تصور فدرالي أو حتى انفصالي في شمال كيفو. وفي هذا السياق، تزايدت مؤشرات على سعي الحركة لتوسيع تحالفاتها الإقليمية، بل ومحاولة كسب تعاطف دولي عبر تأطير خطابها ضمن مفاهيم العدالة والتمثيل المتوازن.
إلا أن هذه الصورة تتناقض مع ممارسات ميدانية وثقتها منظمات حقوقية، تتهم فيها M23 بارتكاب انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان، بما في ذلك الإعدام خارج القانون، وتجنيد الأطفال، وفرض الضرائب القسرية، وتهجير السكان المحليين. وقد أثارت هذه الممارسات سخطًا داخليًا وقلقًا دوليًا، ووضعت الحركة في مرمى انتقادات متزايدة.
إن تعقيد دور M23 ينبع أيضًا من موقعها بين هويتين: فهي من جهة تدعي تمثيل مكون إثني مضطهد، ومن جهة أخرى تمثل أداة جيواستراتيجية في يد رواندا – الخصم التاريخي للكونغو. هذا التناقض يُضعف مصداقيتها السياسية، لكنه لا يُقلل من فاعليتها العسكرية. كما أن طموحاتها تتجاوز كونها “حركة احتجاج مسلح”، لتصبح مشروع حكم أمر واقع، يعتمد على السيطرة الجغرافية وفرض النظام بقوة السلاح.[6]
من جهة أخرى، فإن قدرة M23 على التكيّف مع التحولات الإقليمية، واستغلالها للفراغ الأمني الناتج عن انسحاب قوات الأمم المتحدة، إضافة إلى استفادتها من هشاشة الدولة الكونغولية، يمنحها مجال مناورة واسع. فهي لا تواجه جيشًا قويًا، ولا توجد قوة دولية رادعة، بينما الحاضنة الإقليمية لها – خاصة رواندا – تضمن استمراريتها.
حتى فبراير 2025، باتت الحركة تسيطر على مناطق واسعة شمال غوما، وتخوض مواجهات مع FARDC على عدة جبهات، مهددة العاصمة الإقليمية، ما يجعلها في موقع تفاوضي أقوى من أي وقت مضى. وفي ظل غياب أي مؤشرات حقيقية على نزع سلاحها أو احتوائها بالقوة، تبقى M23 أحد أبرز التهديدات لاستقرار جمهورية الكونغو الديمقراطية ووحدة أراضيها.
في الختام، فإن M23 ليست مجرد حركة تمرد تقليدية، بل هي نتاج تفاعلات معقدة بين الهويات المحلية، والمظالم الإثنية، والمصالح الإقليمية، والتحولات الجيوسياسية. لقد تحولت من جماعة متمردة إلى “نموذج حكم محلي مسلح”، مستفيدة من فشل الدولة، وداعمة لرؤية جديدة للكونغو تقوم على إعادة تعريف السلطة والهوية والتوازنات الداخلية – وهي رؤية قد تكون مدمرة إن تُركت بلا مساءلة أو احتواء.
المحور الرابع: الأبعاد الإقليمية للنزاع في شرق الكونغو الديمقراطية – أدوار رواندا، أوغندا، وبوروندي
النزاع في شرق جمهورية الكونغو الديمقراطية ليس مجرد أزمة داخلية نابعة من هشاشة الدولة أو التنافس على الموارد، بل هو في عمقه نزاع إقليمي بامتياز، تتشابك فيه مصالح وتوجهات ثلاث دول مجاورة هي: رواندا، وأوغندا، وبوروندي. لطالما تعاملت هذه الدول مع شرق الكونغو ليس فقط كجوار مضطرب، بل كامتداد استراتيجي لأمنها القومي، وساحة لتصفية الحسابات، وتوسيع النفوذ، وتأمين المصالح الاقتصادية، لا سيما في ظل ضعف الحكومة الكونغولية المركزية، وانعدام السيطرة على كامل التراب الوطني.[7]
أولاً: رواندا – الأمن أولاً، ثم النفوذ
تلعب رواندا دورًا محوريًا في النزاع، وهو دور متجذر تاريخيًا منذ الإبادة الجماعية عام 1994، عندما فرّ آلاف من المقاتلين الهوتو من ميليشيا “الإنتراهاموي” إلى شرق الكونغو، وأسسوا جماعة “القوات الديمقراطية لتحرير رواندا” (FDLR) التي أصبحت تهديدًا مستمرًا لحكم الجبهة الوطنية الرواندية بقيادة بول كاغامي. هذه الجماعة تمثل السبب المعلن لتدخلات رواندا المتكررة في الكونغو، حيث تؤكد كيغالي أن وجود مقاتلي FDLR في أراضي الكونغو يهدد الأمن الوطني الرواندي، وأن أي عملية لحماية حدودها تقتضي ملاحقتهم.
لكن دوافع رواندا تتجاوز الأمن، لتشمل أهدافًا استراتيجية أعمق: الهيمنة على المناطق الشرقية الغنية بالمعادن، والحفاظ على حلفاء محليين مثل M23، وإنشاء “عمق استراتيجي” داخل الكونغو. ولتحقيق هذه الأهداف، تبنت رواندا استراتيجية “الإنكار العقلاني”، حيث تقدم نفسها كوسيط إقليمي، بينما تشير تقارير الأمم المتحدة والأجهزة الاستخباراتية إلى تورطها المباشر في تسليح وتوجيه حركة M23، ونشر قوات خاصة في مناطق النزاع، بل وتنفيذ عمليات عسكرية على الأرض الكونغولية.
رواندا تعتمد على سردية تحمي بها تدخلها: فهي لا تتدخل في شؤون الكونغو، بل تحارب تهديدًا مباشرًا داخل أراضي فاشلة لا تستطيع تأمين حدودها، وتدعم مجموعات محلية تمثل مكونات مهمّشة مثل التوتسي. غير أن هذه السردية تفقد مصداقيتها أمام الأدلة الميدانية التي تظهر دعمًا عسكريًا ولوجستيًا مباشرًا من رواندا لـ M23، بما يشمل تسليحًا متطورًا، ومعلومات استخباراتية، وتسهيلات لوجستية عبر الحدود.[8]
من الناحية السياسية، تسعى كيغالي إلى فرض M23 كقوة أمر واقع، لتضمن حضورًا دائمًا لها في عملية السلام مستقبلاً، وحتى كجزء من ترتيبات الحكم المحلي في شمال كيفو. ويمكن القول إن رواندا ترى في شرق الكونغو ليس فقط تهديدًا محتملًا، بل فرصة استراتيجية لتوسيع نفوذها الجيوسياسي في قلب إفريقيا، وتحقيق طموحاتها الاقتصادية والأمنية من خلال أذرع محلية بالوكالة.
ثانيًا: أوغندا – شريك اقتصادي وطامح عسكري
أما أوغندا، فلطالما كان تدخلها في الكونغو مدفوعًا بعوامل سياسية واقتصادية. فمنذ التسعينات، لعبت كمبالا دورًا مهمًا في دعم جماعات مسلحة داخل الكونغو، خاصة خلال حرب الكونغو الأولى والثانية، وكانت حليفة لرواندا في البداية، قبل أن تتنافس معها على مناطق النفوذ. العلاقة بين أوغندا ورواندا اتسمت بتوترات دورية، ما جعلهما يتسابقان على الحلفاء المحليين في الكونغو، في لعبة تحالفات معقدة.
التدخل الأوغندي في المرحلة الراهنة يأخذ شكلاً أكثر رسمية وعلنية من نظيره الرواندي. فمنذ عام 2021، دخلت أوغندا في شراكة أمنية مع الحكومة الكونغولية لمحاربة جماعة “القوات الديمقراطية المتحالفة” (ADF)، المرتبطة بتنظيم داعش. وقد تم نشر قوات أوغندية بشكل رسمي ضمن عملية “شوجا”، لملاحقة عناصر ADF في إقليم إيتوري وشمال كيفو، بدعوة من كينشاسا نفسها.[9]
لكن الوجود الأوغندي لم يقتصر على مكافحة الإرهاب. فهناك تقارير تشير إلى أن القوات الأوغندية توسعت إلى مناطق غنية بالذهب، ووقّعت شركات أوغندية عقودًا مع الحكومة الكونغولية لاستغلال المناجم، في خطوة اعتبرها كثيرون نوعًا من النفوذ الاقتصادي المغلف بالتعاون الأمني. كما أن أوغندا لا تنظر بعين الرضا إلى النفوذ المتزايد لرواندا عبر M23، وتخشى أن يؤدي ذلك إلى هيمنة رواندية في المنطقة لا تُناسب مصالحها.
في هذا السياق، تدعم أوغندا جماعات محلية أخرى – غالبًا من قبائل الناندي أو الهوتو – في مقابل M23، وتُبقي على قنوات تواصل مع الفاعلين في شرق الكونغو. وقد ظهر ذلك في تجدد التوتر بين كمبالا وكيغالي في عدة مناسبات، كان آخرها اتهامات متبادلة بشأن دعم جماعات متمردة تتنازع السيطرة على مناطق قريبة من الحدود المشتركة.
ثالثًا: بوروندي – فاعل هامشي يتحول
بوروندي، الدولة الأصغر والأقل نفوذًا من بين الثلاث، دخلت مؤخرًا على خط النزاع في شرق الكونغو، مدفوعة برغبتها في تأمين حدودها من الجماعات المتمردة البوروندية الناشطة في الكونغو، مثل “RED-Tabara”، وكذلك طموحها لتعزيز مكانتها الإقليمية بعد سنوات من العزلة الدولية بسبب قمع المعارضة في عهد الرئيس الراحل نكورونزيزا.
منذ أواخر 2022، نشرت بوروندي قوات ضمن “القوة الإقليمية لمجموعة شرق إفريقيا”، تحت مظلة حفظ السلام، لكنها سرعان ما بدأت في تنفيذ عمليات عسكرية أحادية الجانب، مستهدفة قواعد جماعات المعارضة المسلحة. وقد أدى ذلك إلى مواجهات مع فصائل كونغولية، وحتى احتكاكات مع بعض الجماعات المدعومة من رواندا.
بوروندي تمثل فاعلًا ناشئًا، لكنها تسعى إلى دور أكبر، سواء في السياق الأمني أو في عمليات إعادة الإعمار لاحقًا. كما أنها تنظر بعين القلق إلى التحالف الرواندي-M23، خاصة وأن العلاقات بين بوجمبورا وكيغالي تشهد توترًا متصاعدًا منذ اتهام رواندا بإيواء معارضين بورونديين.
التداخل والتنافس
التدخلات الإقليمية لا تسير في اتجاه واحد، بل تتقاطع وتتعارض أحيانًا. رواندا تدعم M23، أوغندا تحارب ADF لكنها تناور عبر فاعلين محليين ضد النفوذ الرواندي، وبوروندي تتخذ مواقف تتقاطع مع كليهما. هذا التنافس الثلاثي يُحوّل شرق الكونغو إلى ساحة مفتوحة لصراع القوى الإقليمية بالوكالة، حيث تُستخدم الجماعات المسلحة كأدوات نفوذ، بينما تُترك المجتمعات المحلية رهينة لهذه التحالفات المتغيرة.
كما أن هذه الأدوار الإقليمية تُعقد جهود الوساطة والتسوية، إذ يصعب تحقيق سلام داخلي دون معالجة مصادر التأزيم الإقليمي. فحتى لو وافقت الحكومة على اتفاق سلام مع M23، فإن استمرار الدعم الرواندي يعني قابلية الحركة للعودة، ما لم يُعالج البعد الإقليمي للنزاع.
المحور الخامس: الأبعاد الدولية للنزاع في شرق الكونغو الديمقراطية – أدوار الولايات المتحدة، الصين، والأمم المتحدة
النزاع في شرق جمهورية الكونغو الديمقراطية ليس معزولًا عن السياق الدولي، بل هو جزء من شبكة متشابكة من المصالح الجيوسياسية والاقتصادية والإنسانية التي تشارك فيها قوى دولية كبرى ومؤسسات متعددة الأطراف. وتتصدر الولايات المتحدة، والصين، والأمم المتحدة قائمة الفاعلين الخارجيين الذين يلعبون أدوارًا حيوية، تختلف دوافعهم وأدواتهم وأثرهم على مسار الصراع. يتجلى ذلك في طبيعة التفاعلات بين هذه الأطراف والمكونات المحلية والإقليمية، وفي كيفية توظيف النزاع كمنصة لتوسيع النفوذ أو ضبط الاستقرار، بحسب موقع كل طرف من الاستراتيجية الدولية الشاملة.[10]
أولاً: الولايات المتحدة – الأمن، النفوذ، والمعدلات الحساسة
الولايات المتحدة تنظر إلى منطقة البحيرات الكبرى، وخصوصًا شرق الكونغو، من زاويتين أساسيتين: الأولى تتعلق بالأمن الدولي ومكافحة الجماعات الإرهابية، والثانية تتعلق بالمنافسة مع الصين على الموارد الاستراتيجية، لا سيما الكوبالت والذهب والتنتالوم، وهي معادن ضرورية لصناعة البطاريات والتقنيات الحديثة.
في السنوات الأخيرة، عززت واشنطن من حضورها السياسي في الكونغو، عبر تعيين مبعوثين خاصين للمنطقة، ودفع دبلوماسي لإحياء عملية نيروبي للسلام، ومحاولات مستمرة لتهدئة التوتر بين كينشاسا وكيغالي. ورغم أن الولايات المتحدة تدعو باستمرار لاحترام سيادة الكونغو ووقف دعم الجماعات المسلحة، إلا أن موقفها من رواندا غالبًا ما يتسم بالحذر والغموض. فهي حليف قديم لكيغالي منذ الإبادة الجماعية، وتعتبرها شريكًا مهمًا في مكافحة الإرهاب في إفريقيا الوسطى والشرقية.
لكن، تصاعد الاتهامات لرواندا بدعم M23، وتزايد الضغط الحقوقي في الكونغرس الأمريكي، دفع واشنطن مؤخرًا إلى اتخاذ مواقف أكثر حدة، منها فرض عقوبات على مسؤولين عسكريين روانديين وكونغوليين، وتوجيه دعوات علنية لوقف دعم الجماعات المسلحة. رغم ذلك، يُنظر إلى هذه المواقف بأنها غير كافية أو متأخرة، وغالبًا ما توزن بميزان المصالح الجيوسياسية الأوسع، بما في ذلك التنافس مع الصين.
من زاوية الاستثمار، تولي الولايات المتحدة اهتمامًا بالغًا بسلسلة التوريد العالمية للمعادن النادرة، وتسعى لتأمينها بعيدًا عن النفوذ الصيني. في هذا السياق، تدعم واشنطن مبادرات لتحسين الشفافية في قطاع التعدين الكونغولي، وتوقّع شراكات مع دول مثل زامبيا والكونغو لإقامة مشاريع تنمية “خضراء” في مجال إنتاج البطاريات. هذا الحضور الاقتصادي يُعد محاولة لضبط تأثير الصين، لكنه لا يخلو من الانتقادات، خاصة حين يُنظر إليه كأداة جديدة لإعادة إنتاج أنماط الاستغلال التاريخي لأفريقيا.
ثانيًا: الصين – الشراكة مقابل النفوذ
الصين، وعلى العكس من الولايات المتحدة، تتبنى مقاربة براغماتية تستند إلى مبدأ “اللا تدخل السياسي مقابل النفاذ الاقتصادي“. فمنذ مطلع الألفية، ضخت بكين مليارات الدولارات في مشاريع البنية التحتية بالكونغو، مقابل امتيازات ضخمة في قطاع التعدين، خصوصًا عبر صفقة “البنية مقابل الموارد” التي أبرمت في 2007. وتمتلك شركات صينية اليوم حصصًا كبيرة في مناجم النحاس والكوبالت في جنوب وشرق البلاد.
رغم أن بكين لا تتدخل مباشرة في النزاع في الشمال الشرقي، إلا أن نفوذها الاقتصادي الكبير يُشكل ورقة ضغط مهمة على الحكومة الكونغولية، خاصة في ظل اعتمادها على العائدات من الشركات الصينية لتغطية العجز المالي وتوفير بعض الخدمات الأساسية. وتتهم منظمات حقوقية عدة هذه الشركات بارتكاب انتهاكات عمالية وبيئية، لكنها غالبًا ما تعمل بغطاء سياسي وفّرته علاقات متينة بين بكين والحكومات المتعاقبة في كينشاسا.
وعلى الصعيد العسكري، لا تُعرف الصين بدعم مباشر لأي جماعات مسلحة، لكنها تشارك بقوات حفظ سلام ضمن بعثة الأمم المتحدة “مونوسكو”، كما تبرم صفقات سلاح محدودة مع الحكومة. ويُلاحظ أن بكين غالبًا ما تعارض في مجلس الأمن أي قرارات تدين حلفاءها الأفارقة أو تقود إلى تدخل خارجي أكبر في النزاعات الداخلية، وهو ما ينطبق أيضًا على حالة الكونغو.
المقاربة الصينية في الكونغو تعبّر عن توجه أوسع في إفريقيا: بناء نفوذ طويل الأمد عبر الاقتصاد، والحد من تأثير الغرب عبر تقوية الحكومات المركزية، بصرف النظر عن سجلها الحقوقي أو السياسي. لكنها، في الوقت ذاته، تواجه تحديات تتعلق بتصاعد الاحتجاجات ضد الوجود الصيني في بعض المناطق، وتزايد قلق النخب الكونغولية من فخ الديون وضعف الشفافية.
ثالثًا: الأمم المتحدة – حفظ السلام في سياق معقد
تمثل بعثة الأمم المتحدة في جمهورية الكونغو الديمقراطية (MONUSCO ) واحدة من أطول وأكبر عمليات حفظ السلام في العالم، حيث تضم نحو 13 ألف جندي من جنسيات متعددة. تهدف البعثة إلى حماية المدنيين، ودعم عمليات نزع السلاح، وإعادة دمج المقاتلين، فضلًا عن دعم العملية الانتخابية وبناء القدرات الأمنية المحلية.
لكن منذ سنوات، تواجه البعثة نقدًا متزايدًا من السكان المحليين والحكومة على حد سواء. فعدم قدرتها على وقف هجمات M23 أو حماية المدنيين في مناطق مثل غوما أو روتشورو أثار استياء شعبيًا واسعًا، ترجم في احتجاجات دامية ضد قواعد الأمم المتحدة، وصلت حد اقتحامها. يُتهم جنود “مونوسكو” بالتقاعس، وعدم فعالية الردع، وتقييد قواعد الاشتباك التي تمنعهم من مواجهة الجماعات المسلحة بشكل مباشر.
في 2023، طلبت الحكومة الكونغولية رسميًا بدء انسحاب تدريجي للبعثة، وحددت سقفًا زمنيًا حتى نهاية 2024 لإنهاء وجودها العسكري. هذا القرار يعكس التوتر القائم بين كينشاسا والأمم المتحدة، كما يعكس فشلًا مزمنًا في التوفيق بين أهداف البعثة وطبيعة الصراع المركّب في شرق البلاد. وقد يفتح هذا الانسحاب الباب أمام فراغ أمني خطير، خاصة في ظل عدم جاهزية القوات الكونغولية وحدها لمواجهة التحديات الأمنية المعقدة.
التفاعل بين القوى الدولية والمحلية
رغم أن كلاً من الولايات المتحدة، والصين، والأمم المتحدة تنتهج استراتيجيات مختلفة في الكونغو، إلا أن تفاعلها مع النزاع المحلي لا يخلو من الإشكاليات. فمن جهة، تكرس هذه القوى نموذجًا من “السلام المدول” الذي لا يُراعي دائمًا الديناميات المحلية، ومن جهة أخرى، تُوظف أحيانًا أدواتها (الدعم العسكري، العقوبات، القروض، الشراكات) لخدمة مصالح استراتيجية قد تتعارض مع أولويات الاستقرار الداخلي.
كما أن ازدواجية المعايير في التعامل مع الفاعلين الإقليميين (خاصة رواندا وأوغندا) تؤثر على مصداقية الجهود الدولية. ففي حين يتم التنديد بدعم M23، لا تُتخذ خطوات حاسمة لردع هذه التدخلات، مما يُشجع على استمرار النزاع كوسيلة لتحقيق مكاسب سياسية.
المحور السادس: الأبعاد الإنسانية للنزاع في شرق الكونغو الديمقراطية وآثاره على السكان المدنيين
يُعد البعد الإنساني أحد أكثر جوانب النزاع في شرق جمهورية الكونغو الديمقراطية مأساويةً وتعقيدًا، إذ يقف ملايين المدنيين في قلب صراع تتقاطع فيه المصالح المحلية والإقليمية والدولية، ويتحول فيه الإنسان إلى ضحية مباشرة للحروب، أو إلى أداة تُستخدم في استراتيجيات السيطرة والتأثير. فمنذ اندلاع التمردات في تسعينيات القرن الماضي، مرّت المنطقة بسلسلة من الأزمات الإنسانية المتكررة التي تراوحت بين موجات النزوح، والانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، والأوبئة، والجوع، والانهيار التام للبنية التحتية الأساسية.[11]
1. النزوح واللجوء – مجتمعات على أطراف الخراب
يُقدَّر عدد النازحين داخليًا في جمهورية الكونغو الديمقراطية بأكثر من 7 ملايين شخص، غالبيتهم من مناطق إيتوري، كيفو الشمالية، وكيفو الجنوبية. وتشير تقارير المنظمة الدولية للهجرة ومكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (OCHA) إلى أن أكثر من 1.5 مليون شخص نزحوا خلال العام 2023 وحده، بفعل تصاعد القتال بين القوات الحكومية وحركة M23، بالإضافة إلى نشاط جماعات مسلحة أخرى مثل القوات الديمقراطية المتحالفة (ADF) ومليشيات محلية.
النزوح في هذه المناطق لا يحدث مرة واحدة، بل غالبًا ما يكون متكررًا ودائريًا؛ يفرّ السكان من القتال إلى مناطق يُعتقد أنها آمنة، ثم يُجبرون على الفرار مجددًا مع توسع رقعة المواجهات. وغالبًا ما يُعاني النازحون من نقص حاد في الغذاء والماء والرعاية الصحية، ويفتقرون إلى المأوى اللائق، مما يُكرّس حالة من الهشاشة المستمرة[12].
أما على المستوى الإقليمي، فقد استقبلت أوغندا ورواندا مئات الآلاف من اللاجئين الكونغوليين، ولكن هذه الدول تعاني بدورها من ضغوط اقتصادية وأمنية، كما أن بعض المخيمات باتت تُستخدم لأغراض سياسية أو عسكرية، وهو ما يُعرض السكان المدنيين لمزيد من الاستغلال والخطر.
2. العنف الجنسي – سلاح حرب وأداة إذلال جماعي
ربما تكون واحدة من أكثر الجرائم البشعة التي ارتُكبت في هذا النزاع هي العنف الجنسي الممنهج ضد النساء والفتيات – وحتى ضد الرجال – والذي استُخدم كسلاح حرب من قِبل الجماعات المسلحة، وأحيانًا من قِبل أفراد في القوات النظامية. وقد وُصفت الكونغو في إحدى تقارير الأمم المتحدة بأنها “عاصمة الاغتصاب في العالم”، وهو توصيف يعكس حجم المأساة.
تشير تقارير منظمة “أطباء بلا حدود” ومنظمات نسوية محلية إلى أن آلاف النساء يتعرضن سنويًا للاغتصاب أو التشويه أو الحمل القسري نتيجة الاعتداءات الجنسية. وغالبًا ما يُستخدم هذا النوع من العنف لأغراض تتجاوز الإذلال الشخصي، ليُصبح وسيلة لتدمير المجتمعات نفسيًا واجتماعيًا، عبر تمزيق نسيج العائلة والمجتمع، ووصم الضحايا، وتهجيرهم من قراهم.
الاستجابة لهذه الجرائم غالبًا ما تكون محدودة بسبب غياب العدالة، ونقص الخدمات الطبية والنفسية، والخوف من الانتقام. ولا تزال المساءلة شبه معدومة، سواء على المستوى المحلي أو الدولي، مما يعزز ثقافة الإفلات من العقاب.
3. الأطفال – جيل معطوب
الأطفال في شرق الكونغو هم الفئة الأكثر هشاشة في وجه النزاع، حيث يتعرضون للتجنيد القسري، والاستغلال الجنسي، والعمل القسري، والحرمان من التعليم، والتعرض للأمراض وسوء التغذية. وتُقدر منظمة اليونيسف أن أكثر من 3 ملايين طفل في شرق الكونغو بحاجة ماسة إلى الحماية والمساعدات الإنسانية، في حين أن مئات الآلاف منهم لا يستطيعون الذهاب إلى المدارس بسبب النزاع، وتدمير المنشآت التعليمية، أو استخدامها من قبل الجماعات المسلحة.
كما أن آلاف الأطفال جُنّدوا في صفوف الحركات المسلحة، سواء كمقاتلين أو جواسيس أو طهاة أو دروع بشرية. وغالبًا ما يُجبر هؤلاء الأطفال على ارتكاب أعمال عنف، مما يُسبب لهم صدمات نفسية شديدة يصعب تجاوزها لاحقًا، ويؤدي إلى خلق جيل بأكمله يعاني من القلق، والخوف، والعنف المُكتسب كسلوك يومي.
4. الصحة والغذاء – هشاشة قاتلة
المنظومة الصحية في شرق الكونغو شبه منهارة، إذ لا يتوفر سوى طبيب واحد لكل 10 آلاف نسمة في بعض المناطق، وغالبًا ما تكون المرافق الصحية مدمرة أو غير عاملة. وقد أدى النزاع إلى تفشي أمراض مثل الكوليرا، والحصبة، والملاريا، والإيبولا في بعض المراحل، في ظل غياب حملات التلقيح، وصعوبة الوصول إلى السكان المتضررين.
أما على صعيد الأمن الغذائي، فتُظهر تقارير برنامج الغذاء العالمي أن أكثر من 25 مليون كونغولي يعانون من انعدام الأمن الغذائي، بسبب النزوح، وفقدان الأراضي الزراعية، وانهيار سلاسل الإمداد. وتُعد النساء الحوامل، والأطفال دون سن الخامسة، من بين أكثر الفئات عرضةً للموت جوعًا أو بسبب سوء التغذية.
5. المجتمع المدني – صمود محفوف بالخطر
رغم هذا الواقع القاتم، يبرز المجتمع المدني المحلي كمصدر أمل وصمود في وجه الكارثة. تعمل مئات المنظمات المحلية والدينية في تقديم الدعم النفسي، وتوزيع الغذاء، وتوثيق الانتهاكات، والمناصرة من أجل العدالة. لكن هؤلاء الناشطين والصحفيين غالبًا ما يتعرضون للتهديد، والاعتقال، وأحيانًا للاغتيال، سواء من قبل الجماعات المسلحة أو من قبل السلطات.
كما أن الضغوط الدولية على منظمات الإغاثة والقيود البيروقراطية تجعل من الاستجابة الإنسانية مجزأة وغير مستدامة، ويعاني معظم الفاعلين في المجال من نقص التمويل، وانعدام الأمن، وصعوبة الوصول للمناطق المتضررة.
6. فجوة الاستجابة الإنسانية
رغم وجود عشرات المنظمات الدولية، وبرامج الأمم المتحدة، والمبادرات الخيرية، إلا أن الاستجابة الإنسانية تعاني من نقص كبير في التمويل والتنسيق. على سبيل المثال، لم يُمول سوى 40% من خطة الاستجابة الإنسانية لعام 2024 حتى الآن، بحسب مكتب OCHA، مما يعني أن ملايين المحتاجين لن يتلقوا مساعدات حيوية.
تتفاقم الأزمة مع الانسحاب التدريجي لبعثة “مونوسكو”، ومع تركيز الدول المانحة على صراعات أخرى (مثل أوكرانيا، غزة، السودان)، مما يُعيد ترتيب أولويات التمويل الإنساني. وفي ظل استمرار النزاع، فإن غياب تمويل كافٍ وطويل الأمد يُهدد بانهيار ما تبقى من شبكات الدعم، ويضع المنطقة على شفا كارثة إنسانية أعمق.
المحور السابع: تطبيق نظرية مركب الأمن الإقليمي على النزاع في شرق جمهورية الكونغو الديمقراطية
تُعد نظرية مركب الأمن الإقليمي (Regional Security Complex Theory) التي طورها باري بوزان وكتاب “الأمن: تحليل جديد” إطارًا تحليليًا هامًا لفهم الصراعات المعقدة التي تتجاوز الأبعاد المحلية لتتداخل مع التفاعلات الإقليمية والدولية. ووفقًا لهذه النظرية، فإن الدول تتكتل في “مركّبات أمنية” بسبب ترابط تهديداتها الأمنية الجغرافية ودرجة التداخل في إدراكها للمخاطر، بحيث يصعب عزل صراع محلي عن السياق الإقليمي الذي يتشكل فيه. وفي هذا السياق، يُمكن تحليل النزاع في شرق الكونغو باعتباره نتاجًا مباشرًا لمركّب أمني إقليمي يضم منطقة البحيرات العظمى ودول الجوار، ويُعبر عن شبكة متشابكة من التهديدات والتحالفات والهويات المتنازعة.[13]
1. السمات العامة للمركّب الأمني في منطقة البحيرات العظمى
يتميز المركب الأمني لمنطقة البحيرات العظمى بإحدى أعلى درجات الترابط بين وحداته. فالدول المعنية – الكونغو الديمقراطية، رواندا، أوغندا، بوروندي، تنزانيا، جمهورية إفريقيا الوسطى، جنوب السودان – تُدرك تهديداتها الأمنية على نحو متبادل، ويتجسد هذا في أن التهديد في دولة ما يُترجم تلقائيًا كتهديد لباقي الدول، مما يُنتج ديناميات من التدخل والاحتواء، والحروب بالوكالة.
وتاريخيًا، فإن جذور هذا المركب تعود إلى الإبادة الجماعية في رواندا عام 1994، والتي أدت إلى تدفق اللاجئين، بمن فيهم متطرفون من القوات المسلحة الرواندية السابقة والميليشيات (Interahamwe)، إلى شرق الكونغو. هذا الحدث أسّس لنمط أمني جديد يُنظر فيه إلى شرق الكونغو كمنطقة “عازلة” أو “فضاء رمادي” يلتقي فيه اللاجئون، المتمردون، والتدخلات العسكرية، في ظل انهيار الدولة المركزية في كينشاسا، مما أضفى على الإقليم طابعًا من الفوضى الأمنية الدائمة.
2. التهديدات العابرة للحدود
تشكل الجماعات المسلحة غير الحكومية أهم عناصر التهديد العابر للحدود في هذا المركب الأمني. فحركة M23، على سبيل المثال، لا تتحرك فقط في شرق الكونغو، بل لها عمق لوجستي وتاريخ سياسي وأمني مرتبط برواندا، وقد اتُهمت الأخيرة مرارًا بدعمها عسكريًا. على الجانب الآخر، تتحرك قوات ADF ذات الخلفية الأوغندية في إقليم إيتوري، بينما تنشط جماعات مثل FDLR ذات الأصول الهوتوية في الجنوب والشرق.
هذه الجماعات تُجسد كيف أن النزاع في الكونغو ليس محليًا بحتًا، بل يتغذى على التفاعلات والعداوات الإقليمية. وقد أدى ذلك إلى إنشاء “جغرافيا جديدة للتهديد” تُلغى فيها الحدود التقليدية، وتُستبدل بشبكات تمتد عبر الغابات والجبال والحدود الهشة.
3. الهويات المتنازعة و”الأمننة” العرقية
من المفاهيم الأساسية في نظرية المركب الأمني هو ما يُعرف بـ”الأمننة” (Securitization)، أي تحويل قضايا معينة إلى تهديدات وجودية تستدعي إجراءات استثنائية. وقد ظهر هذا بوضوح في الكونغو، حيث “أُمنِنَت” الهويات العرقية، خصوصًا بين جماعات التوتسي والهوتو، أو بين السكان الكونغوليين الأصليين والمجتمعات ذات الأصول الرواندية أو الأوغندية.
وقد لعبت هذه الديناميكيات دورًا خطيرًا في خلق بيئة من الخوف المتبادل والتعبئة العسكرية الدائمة. فالدولة الرواندية، على سبيل المثال، تُبرر تدخلها في الكونغو بحماية التوتسي، في حين ترى كينشاسا وشرائح من المجتمع المدني الكونغولي هذا التدخل تهديدًا لسيادة البلاد واستمرارية الاستعمار الجديد.
4. الهشاشة الداخلية كعنصر محوري في المركّب
إن أحد الشروط الأساسية لظهور المركّب الأمني الإقليمي هو ضعف الدولة المركزية في واحدة أو أكثر من الوحدات، وهو ما ينطبق بامتياز على الكونغو الديمقراطية. فالدولة عاجزة عن بسط سيادتها على شرقها، ما يسمح للدول المجاورة بالتدخل إما بصورة مباشرة أو من خلال وكلاء. وفي المقابل، تُسهم هذه التدخلات في إدامة ضعف الدولة، مما يُنتج دائرة مغلقة من الضعف والاستقطاب والتدخل.
وعليه، فإن الكونغو ليست مجرد عضو في مركّب أمني، بل تمثل “الفراغ” الذي تُبنى عليه تفاعلات أمنية غير متوازنة. ويمكن فهم الصراع في شرقها كنتاج لهذا الفراغ، حيث تتقاطع طموحات السيطرة، والمخاوف الأمنية، وغياب النظام الدولي الفاعل.
5. التدخلات العسكرية والتوازنات الإقليمية
تُظهر تدخلات رواندا وأوغندا في الكونغو، سواء من خلال الدعم المباشر لحركات مثل M23 أو عبر اتفاقيات أمنية ثنائية، كيف أن الدول في هذا المركب لا تُدير فقط تهديداتها الداخلية، بل تُعيد صياغة توازن القوى في المنطقة. كما أن بعض التدخلات العسكرية (مثل تدخل قوات شرق إفريقيا EAC أو سعي الجماعة الإنمائية للجنوب الإفريقي SADC لإرسال قوات بديلة) تعكس تنافسًا ضمن المركب نفسه حول من يمتلك شرعية التدخل الأمني.
في هذا الإطار، تسعى كل دولة إلى رسم حدود نفوذها بما يتجاوز أراضيها السيادية، عبر أدوات القوة الصلبة أو الناعمة، مما يُعيد تشكيل الخرائط السياسية والأمنية على نحو دائم.
6. حدود المركّب والأبعاد الدولية
رغم أن المركب الأمني يُبنى أساسًا على الروابط الجغرافية، إلا أن التفاعل مع القوى الدولية مثل الولايات المتحدة، الصين، والأمم المتحدة يُعطيه بعدًا عالميًا. فالأطراف الدولية تُمارس تأثيرًا على سلوك الفاعلين الإقليميين، سواء عبر العقوبات، أو دعم بعثات حفظ السلام، أو التمويل العسكري، أو التفاوض الدبلوماسي.
وبينما ينظر البعض إلى هذه القوى كعوامل استقرار، يرى آخرون أنها تعزز من تعقيد المركب الأمني، خصوصًا حين تتعارض مصالحها مع مصالح الفاعلين المحليين أو حين تسعى إلى إدارة النزاع بدلًا من حله.
7. آفاق تفكيك المركّب: بين الاستقرار والانفجار
يشير باري بوزان إلى أن تفكيك المركّب الأمني لا يحدث إلا في حالتين: إمّا عبر اندماج الدول في نظام تعاوني فعّال (كما في الاتحاد الأوروبي)، أو عبر إعادة بناء الدول الضعيفة لتعزيز سيادتها. وفي حالة الكونغو، فإن غياب أي من هذين الشرطين يُبقي المركب قائمًا، بل ويزيد من تعقيده.
ومع ذلك، فإن ثمة فرصة لتخفيف حدة المركب الأمني عبر:
- تعزيز التعاون الإقليمي الحقيقي، لا القائم على التنافس والنفوذ.
- إعادة بناء قدرات الدولة الكونغولية، خصوصًا في القطاع الأمني والقضائي.
- ضبط حدود التدخلات الخارجية من خلال أطر قانونية وأمنية إقليمية.
- إشراك المجتمعات المحلية في عمليات المصالحة ووقف النزاع.
المحور الثامن: السيناريوهات المحتملة وتقدير الموقف النهائي للنزاع في شرق جمهورية الكونغو الديمقراطية
عند الحديث عن مستقبل النزاع في شرق جمهورية الكونغو الديمقراطية، لا يمكننا النظر إليه بمعزل عن التعقيد العميق الذي يتسم به، إذ يتداخل فيه المحلي مع الإقليمي والدولي، وتتصارع فيه مصالح الدول، والهويات العرقية، والمطالب الاجتماعية، والموارد الاقتصادية. وتقدير الموقف، في هذا السياق، لا يقتصر على توقع المسارات المحتملة، بل يستدعي تحليلاً حذرًا للعوامل المتغيرة، والفاعلين المتعددين، والديناميكيات الأمنية المتشابكة التي تجعل من منطقة البحيرات العظمى أحد أكثر الأقاليم تقلبًا وخطورة في إفريقيا.
سنقوم في هذا المحور بعرض ثلاثة سيناريوهات رئيسية محتملة، مع تحليل دقيق لاحتمالات تحققها، والعوامل المؤثرة فيها، والتداعيات المترتبة على كل منها، وصولًا إلى تقدير شامل للموقف الراهن والمستقبلي.
السيناريو الأول: التصعيد العسكري والانزلاق نحو حرب إقليمية مفتوحة
الوصف:
يفترض هذا السيناريو تصاعد حدة الأعمال العسكرية بين القوات الكونغولية (FARDC) وحركة M23 المدعومة من رواندا، مع احتمال انخراط مباشر أكبر من جانب رواندا، وقيام كينشاسا بالرد عبر تعزيز التحالف مع جماعة التنمية لأفريقيا الجنوبية (SADC)، ما قد يؤدي إلى اشتباكات واسعة النطاق بين قوى إقليمية.
العوامل الدافعة:
- تصاعد الهجمات من قبل M23 على المدن الاستراتيجية مثل غوما.
- فشل المساعي الدبلوماسية وتعثر مبادرات السلام (مثل مسار لواندا ونيروبي).
- استمرار دعم رواندا للحركات المسلحة، واعتبار كينشاسا ذلك عدوانًا مباشرًا.
- انهيار آليات الانتشار المشترك للقوات الإقليمية.
النتائج المتوقعة:
- تفاقم الكارثة الإنسانية، مع ارتفاع أعداد النازحين داخليًا إلى الملايين.
- انهيار ثقة السكان المحليين في جهود التسوية السلمية.
- تدخل عسكري مباشر من قوى خارجية تحت غطاء أممي أو إقليمي.
- تصاعد الحملة الدولية لمحاسبة الجهات الداعمة للمتمردين.
احتمال التحقق: متوسط إلى مرتفع، خاصة إذا استمر الخطاب العدائي بين كينشاسا وكيغالي، وإذا لم يتم احتواء الوضع من قبل الفاعلين الدوليين.
السيناريو الثاني: تجميد الصراع واستمرار “اللاحرب واللاسلم“
الوصف:
يتضمن هذا السيناريو تراجع العمليات العسكرية المفتوحة دون التوصل إلى تسوية سياسية شاملة، ما يكرس حالة “الجمود العنيف” أو “السلام السلبي”، وتستمر الميليشيات في السيطرة على أجزاء واسعة من الأراضي، دون قدرة الدولة الكونغولية على استعادة سيادتها الفعلية.
العوامل الدافعة:
- تعب الأطراف المتحاربة واستنزاف قدراتها اللوجستية والبشرية.
- الضغوط الدولية لوقف التصعيد دون تقديم حلول جذرية.
- غياب الإرادة السياسية لدى أطراف النزاع للذهاب نحو حل نهائي.
- هشاشة الدولة المركزية وعدم قدرة FARDC على الحسم.
النتائج المتوقعة:
- بقاء السكان المحليين رهائن لدى الميليشيات المسلحة.
- استمرار نهب الموارد المعدنية وتغذية اقتصاد الحرب.
- تآكل سلطة الدولة الكونغولية على المدى الطويل.
- تنامي ظاهرة العنف الجنسي والتجنيد القسري.
احتمال التحقق: مرتفع، باعتباره السيناريو “الأسهل” من ناحية الكلفة السياسية والعسكرية، خاصة في ظل غياب استراتيجية إقليمية موحدة للحل.
السيناريو الثالث: التوصل إلى اتفاق سلام شامل برعاية إقليمية ودولية
الوصف:
يقوم هذا السيناريو على نجاح الضغوط الدولية، والإرهاق المتبادل، والمبادرات الإقليمية (مسار لواندا، نيروبي، أو مساعٍ جديدة عبر الاتحاد الإفريقي أو الأمم المتحدة) في فرض وقف دائم لإطلاق النار، يتبعه مؤتمر سلام شامل يضمن إعادة دمج المتمردين، وتوزيع عادل للموارد، وخطة لإعادة الإعمار والمصالحة.
العوامل الدافعة:
- تصاعد الضغوط الدولية على رواندا لوقف دعمها لـ
- تزايد تكلفة الصراع على الدول المتورطة فيه.
- رغبة المجتمع الدولي في تأمين المنطقة لحماية الاستثمارات.
- توافق إقليمي على حل النزاع كجزء من خطة استقرار واسعة تشمل البحيرات العظمى.
النتائج المتوقعة:
- خفض حدة التوتر بين الكونغو ورواندا.
- إدماج المتمردين في العملية السياسية.
- تحسن تدريجي في الوضع الإنساني.
- انطلاق عملية إعادة إعمار طويلة الأمد بإشراف أممي.
احتمال التحقق: منخفض إلى متوسط، في ظل انعدام الثقة بين الأطراف، لكن يمكن تعزيزه إذا توفرت الإرادة السياسية الدولية، وجرى تحييد المصالح الاقتصادية المدمرة للحرب.
تقدير الموقف النهائي
إن دراسة الواقع الراهن تُرجّح أن النزاع في شرق الكونغو أقرب إلى الاستمرار ضمن ديناميكية “الجمود المتوتر” أو الحرب المتقطعة. فحتى مع فترات الهدوء المؤقت، يبقى العنف كامنًا وقابلًا للانفجار، طالما لم يُعالج الجذر البنيوي للنزاع المتمثل في:
- ضعف الدولة المركزية وفقدانها السيطرة السيادية على مناطقها.
- طبيعة الصراع الهوياتي والعرقي الذي يُغذى تاريخيًا وسياسيًا.
- الطموحات الجيوسياسية لدول الجوار، التي ترى في شرق الكونغو عمقًا استراتيجيًا أو تهديدًا وجوديًا.
- التحالفات الاقتصادية القائمة على نهب الثروات، وخاصة الكولتان والذهب، التي تُمكّن الجماعات المسلحة وتمنحها استقلالًا عن الدولة.
ولا يمكن فصل تقدير هذا النزاع عن النظام الدولي، الذي وإن أبدى قلقًا إنسانيًا متزايدًا، إلا أن استجابته غالبًا ما تكون سطحية أو موجهة نحو إدارة الأزمات أكثر من حلّها.
المحور التاسع: الخاتمة والتوصيات الاستراتيجية النهائية
في ختام هذا التقدير الموسع للصراع في شرق جمهورية الكونغو الديمقراطية، يتضح أننا أمام أزمة مركبة تتجاوز الطابع المحلي للنزاع، لتمتد نحو فضاء إقليمي ودولي واسع، تتداخل فيه اعتبارات الأمن القومي، والمصالح الاقتصادية، والرهانات الجيوسياسية، والهويات العرقية، والقصور الهيكلي للدولة الكونغولية، وفشل المنظومة الدولية في إنتاج حلول مستدامة.
فمنذ اندلاع جولات الصراع الأولى في التسعينيات، بعد الإبادة الجماعية في رواندا وسقوط نظام موبوتو في الكونغو، ظل شرق البلاد ساحة مفتوحة للصراعات، وحقلًا خصبًا للجماعات المسلحة، ومسرحًا لحروب بالوكالة بين جيران تغذيهم الهواجس الأمنية والمكاسب الاقتصادية. لم يكن تدخل رواندا وأوغندا وبوروندي في الكونغو مسألة طارئة، بل تطورت إلى سياسة استراتيجية دائمة، قوامها السيطرة غير المباشرة، واستغلال الفوضى الأمنية كغطاء للنفوذ والسيطرة على الموارد.
ومن خلال تحليل أبعاد الصراع، يمكن القول إن العامل الاقتصادي، وبالأخص نهب الثروات المعدنية، قد تحوّل إلى محرك رئيسي للعنف. فقد شكّل الكولتان والذهب والقصدير والماس موردًا ماليًا ضخمًا للجماعات المسلحة، وساهم في إبقاء الحرب مستمرة، عبر شبكة معقدة من الوسطاء المحليين والإقليميين والدوليين. ومع استمرار غياب آلية حازمة لمراقبة هذه الموارد، ستبقى الحوافز الاقتصادية للحرب قائمة.
لكن، في المقابل، لا يمكن التقليل من البعد الهوياتي، إذ يُعد التوتر العرقي، خاصة بين التوتسي والهوتو والمكونات المحلية الأخرى في كيفو الشمالية والجنوبية، وقودًا مستمرًا للنزاع. فالإحساس بالتهميش، وفقدان الهوية الوطنية، والانقسامات العرقية، سهّلت تجنيد الشباب في الميليشيات، وأضعفت فرص بناء نسيج اجتماعي متماسك.
إقليميًا، لم تُظهر الدول المجاورة إرادة سياسية حقيقية لاحتواء النزاع، بل استمرت في دعمه بطرق مباشرة أو غير مباشرة، وهو ما تكرّس أكثر في ظل العجز البنيوي للآليات الإقليمية مثل الاتحاد الإفريقي، أو التنافس بين مسارات التسوية (لواندا، نيروبي)، ما أدى إلى تشرذم الجهود وفقدان الثقة في الوساطات. أما البعثات الدولية، فقد واجهت تحديات في شرعيتها وفعاليتها، وسط اتهامات بالتقاعس، أو التواطؤ، أو حتى الفساد.
إزاء هذا الواقع، فإن الصراع في شرق الكونغو لا يمكن أن يُفهم أو يُعالج كأزمة داخلية فقط، بل كحالة من “اللانظام الإقليمي”، تحتاج إلى مقاربة أمنية شاملة تعيد ترتيب العلاقة بين الدولة والمجتمع، وتضبط التداخل بين المحلي والدولي، وتفكك الشبكات الاقتصادية التي تحوّل الحرب إلى “فرصة”.
أولًا: أبرز الاستنتاجات النهائية
- الصراع ذو طبيعة مركبة: يجمع بين أبعاد عرقية، سياسية، اقتصادية، وجيوسياسية، مما يجعله معقدًا وغير قابل للحل السريع.
- غياب الدولة المركزية عامل حاسم: ضعف FARDC، وغياب مؤسسات الدولة في الشرق، سمح بانتعاش الميليشيات وتحولها إلى سلطات أمر واقع.
- الدور الإقليمي سلبي في معظمه: رغم المبادرات، فإن رواندا وأوغندا على وجه الخصوص متورطتان بشكل ممنهج في دعم جماعات مسلحة لأهداف استراتيجية واقتصادية.
- المجتمع الدولي يتعامل مع الأزمة كمشكلة إنسانية أكثر من كونها سياسية: وهذا ما يجعل الاستجابات الأممية غير فعالة، ومؤقتة.
- استدامة الصراع مهددة للاستقرار الإفريقي الأوسع: حيث أن امتداد العنف عبر الحدود، والتشابك بين الحركات المسلحة، قد يُطلق موجات جديدة من عدم الاستقرار في منطقة البحيرات العظمى.
ثانيًا: التوصيات الاستراتيجية النهائية
على المستوى الوطني (جمهورية الكونغو الديمقراطية)
- إعادة هيكلة المؤسسة العسكرية والأمنية: من خلال نزع سلاح الجماعات المدمجة، وإخضاع الجيش لمعايير الشفافية والاحترافية، مع إشراف دولي مرحلي.
- بناء الدولة من الأطراف: الاستثمار في إعادة إعمار المجتمعات المحلية في الشرق، عبر برامج تنمية شاملة، ومشاركة حقيقية في القرار السياسي.
- الإصلاح الدستوري والسياسي: لتعزيز اللامركزية الحقيقية، وضمان التمثيل العادل للمكونات الإثنية المختلفة.
على المستوى الإقليمي
- إطلاق ميثاق أمني جماعي بين دول البحيرات العظمى: يضمن احترام السيادة، وعدم التدخل، وضبط الحدود، والاعتراف المتبادل بالجماعات السكانية.
- محاسبة الجهات المتورطة في دعم المتمردين: عبر آلية محايدة يشرف عليها الاتحاد الإفريقي، بالتعاون مع الأمم المتحدة.
- تعزيز المسار الاقتصادي الإقليمي المشترك: لتقليل دوافع النهب والتهريب، وخلق بدائل تنموية تتجاوز اقتصاد الحرب.
على المستوى الدولي
- تحويل مسار التدخل الدولي من إدارة الأزمة إلى حلها: عبر منح بعثات الأمم المتحدة تفويضًا أقوى، وقيادة استراتيجية مشتركة مع الاتحاد الإفريقي.
- فرض آليات رقابة صارمة على تجارة الثروات المعدنية: لمنع استخدامها في تمويل الجماعات المسلحة، وإنشاء منظومة “تتبع المصدر” على غرار الماس في سيراليون.
- توفير دعم مالي وفني لبناء مؤسسات الدولة: يشمل القطاع القضائي، والتعليمي، والصحي، لضمان بيئة مستقرة ما بعد الصراع.
ختامًا
إن أزمة شرق الكونغو ليست قدرًا محتومًا، لكنها نتيجة خيارات سياسية واقتصادية وعسكرية خاطئة، تمّ تجاهلها لعقود. ولا يمكن لأي حل أن يكون فعالًا دون مقاربة شاملة تربط بين الأمن والتنمية، والمحاسبة والمصالحة، وتضع الإنسان في مركز الاهتمام، لا الموارد ولا المصالح. وفي عالم اليوم، لم تعد الأزمات المعقدة تُحلّ بالبندقية وحدها، بل تحتاج إلى شجاعة سياسية، وتضامن دولي، وإرادة محلية لا تُكسر. وإلا فإننا سنظل نكتب عن هذا النزاع، ونرصد ضحاياه، ونوثق ألمه، دون أن نمنع تكراره.
………………………………….
[1] , Jason. Dancing in the Glory of Monsters: The Collapse of the Congo and the Great War of Africa. PublicAffairs, 2012.
[2]Prunier, Gérard. Africa’s World War: Congo, the Rwandan Genocide, and the Making of a Continental Catastrophe. Oxford University Press, 2009.
[3] International Crisis Group. DR Congo: Ending the Deadlock in the Kivu. Africa Report No. 123, 2023.
[4] زكريا، عمر. “الكونغو الديمقراطية وحركة M23: قراءة في الخلفيات والدوافع.” مجلة السياسة الدولية، العدد 234، 2023، ص. 102–121.
[5] Small Arms Survey. Groups in Conflict: Armed Actors in Eastern DRC. SAS Reports, 2022.
https://www.smallarmssurvey.org/resource/groups-conflict-armed-actors-eastern-drc
[6] معهد الدراسات الأمنية الإفريقية (ISS Africa). الفاعلون المسلحون في الكونغو: من يحرك المشهد؟ بريتوريا، 2023.
[7] بيومي، سامي. “الصراع في شرق الكونغو: أبعاده الإقليمية والدولية.” مجلة دراسات إفريقية معاصرة، المجلد 15، 2022، ص. 47-68.
[8] Al Jazeera English. Congo Crisis: Rebels and Regional Interventions. 2023.
[9] مرجع سابق.
[10] بيومي، سامي، مرجع سابق.
[11] Human Rights Watch. “We Will Crush You: Restriction of Political Space in the DRC.” HRW, 2023.
[12] مبادرة الهجرة المختلطة (MMC). حركة الهجرة القسرية من شرق الكونغو نحو دول الجوار. 2023.
[13] Fisher, Jonathan. “Regional Security Complex Theory and the Great Lakes.” African Security Review, vol. 31, no. 1, 2023, pp. 45–64.