تمهيد:
يمكن للقارئ المراقب لأساليب الاستحواذ على مقدرات الشعوب، أن يُشاهد تماثُلًا فيها، ففي عهد بيل كلينتون، الديمقراطي، أصدر مجلس الأمن الدولي، قراره الخاص ببرنامج النفط مقابل الغذاء. وقد كان لهذا البرنامج تطبيقات مماثلة في بلدان جنوب الصحراء، وهناك مساعٍ لتطبيقه مؤخرًا في ليبيا.
وها هي الكَرَّة تعود مرة أخرى، في عهد الجمهوري ترامب، ولكن في هذا المرة من خلال “اتفاق المعادن”، والذي استلهمه الأفارقة، دافعين بفكرة “المعادن مقابل الأمن” في نسخته الكونغولية.
إن هذا التماثل غير المستغرَب، يؤكد لنا أن التجار هم مَن يديرون العالَم، وأنهم الأكثر إجادة لأساليب المقايضة، وفي هذه المرة لا يقايضون “الدماء بالمعادن” بشكل مباشر، ولكن “هم يوقفون نزيف الدماء، ويُجيدون امتصاصها”.
ومن هنا أحاول من خلال هذه المقالة أن أقف عند برامج المقايضة في مناطق الصراع، بالتركيز على الاتفاق المقترَح في شرق الكونغو “المعادن مقابل الأمن”، من خلال المحاور التالية:
- أولًا: النفط مقابل الغذاء… تطبيقات من إفريقيا.
- ثانيًا: المعادن الخضراء وجذور الصراع في الكونغو… لفتة سريعة.
- ثالثًا: مشروع ماديني (المعادن من أجل السلام والتنمية) ومحاولات الحل.
- رابعًا: المعادن مقابل الأمن… النسخة الإفريقية.
- خامسًا: ردود الأفعال والسيناريوهات المحتملة.
أولًا: النفط مقابل الغذاء… تطبيقات من إفريقيا
يشير برنامج النفط مقابل الغذاء في إفريقيا إلى مبادرات وإصلاحات متنوعة مستوحاة من برنامج النفط مقابل الغذاء الذي أُطلق في العراق بعد الاحتلال الأمريكي، والذي كان يهدف إلى تخفيف الأزمات الإنسانية التي تفاقمت بسبب العقوبات الاقتصادية. وفي السياق الإفريقي، تمحور حول معالجة قضايا الأمن الغذائي، والإنعاش الاقتصادي، وإدارة الموارد الطبيعية، وخاصةً النفط. وتمثل هذه المبادرات تقاطعًا بين المساعدات الإنسانية والحوكمة، بهدف ضمان مساهمة فوائد إنتاج النفط في التنمية والاستقرار في مختلف الدول الإفريقية، بما في ذلك أنغولا وغانا وكينيا.([1])
ومن الجدير بالذكر أن التعديلات الإفريقية لمفهوم النفط مقابل الغذاء أصبحت ذات أهمية متزايدة في ظل تزايد انعدام الأمن الغذائي المرتبط بتغيُّر المناخ، وانقطاعات سلسلة التوريد العالمية، والصراعات المستمرة. ويُسلِّط الترابط بين إنتاج النفط وتوافر الغذاء الضوء على ضرورة الإدارة المالية السليمة والسياسات التجارية الفعَّالة. وتُؤكِّد مبادرات مثل مبادرة الخارجية الأمريكية “تكييف المحاصيل المغذية” على أهمية الممارسات الزراعية المحلية في صياغة حلولٍ مُصمَّمة للتحديات التي تواجهها المجتمعات الإفريقية.([2])
ومع أن هذه البرامج سعت إلى تحقيق الانتعاش الاقتصادي وتعزيز الأمن الغذائي؛ إلا أنها لم تَخْلُ من الجدل. فقد برزت مزاعم فساد وسوء إدارة، مما أثار مخاوف بشأن أُطُر الحوكمة المُنشأة للإشراف على هذه الجهود. وركَّزت الانتقادات على فعالية إجراءات المساءلة وإمكانية تحويل الأموال المخصَّصة للأغراض الإنسانية، مُكررةً الانتقادات التي وُجِّهت لبرنامج النفط مقابل الغذاء في العراق.([3])
يُسلّط السياق التاريخي لبرامج مثل “برنامج النفط مقابل الغذاء”، الضوء على تعقيدات المساعدات الإنسانية في المناطق المتضررة من الاضطرابات السياسية والاقتصادية. وتُظهر هذه المبادرات في إفريقيا إدراكًا متزايدًا للحاجة إلى حلول مُصمَّمة خصيصًا تُراعي القدرات الزراعية المحلية والتحديات الفريدة التي يُشكّلها تغيُّر المناخ.([4])
وقد أثبتت التجربة فشلها في إحداث تحوُّل اقتصاديّ حقيقي في العراق؛ حيث أصبحت البلاد أكثر اعتمادًا على النفط، وتراجعت قدرتها على بناء اقتصاد متنوّع، مع الفساد الذي صاحَب تطبيق برنامج النفط مقابل الغذاء”. وعلى الرغم من ذلك هناك محاولات في تطبيقها على ليبيا.([5])
ثانيًا: المعادن الخضراء وجذور الصراع في الكونغو… لفتة سريعة
إن العنف القائم في الكونغو لما يقرب من 30 عامًا، يُعتبر هو الأكثر دموية منذ الحرب العالمية الثانية، فمن عام ١٩٩٦م، قُتِلَ أكثر من 10 ملايين، وشُرِّد عدد لا يُحصَى، أو اغتُصبوا، أو جُنِّدوا قسرًا.([6])
وتنبع الأسباب الكامنة وراء الصراع من تفاعل مُعقَّد للتوترات العرقية المرتبطة بالإبادة الجماعية في رواندا عام 1994م، والفساد السياسي والمؤسسي، والآثار المتبقية للاستعمار. بينما يعيش ما يقرب من ثلاثة أرباع سكان البلاد، البالغ عددهم 102.3 مليون، على أقل من 2.15 دولار يوميًّا. ويُصنّف نصيب الفرد من الناتج، الذي يقل عن 630 دولارًا، من أدنى المعدلات عالميًّا، في حين تجني شركات المعادن الأجنبية تريليونات الدولارات.
وقد أثَّرت قضايا الهوية والعِرْق بشكل كبير على الصراع على الأرض، ومسألة ملكيتها في منطقة البحيرات. وتمتلك الدولة أيضًا مساحة شاسعة من الغابات المطيرة الغنية بالكربون في المرتبة الثانية بعد حوض نهر الأمازون البرازيلي. ويشير الخبراء إلى أن المعادن تلعب دورًا مهمًّا في إدامة العنف، لكنهم يقولون: إنه ليس دقيقًا تمامًا اعتبارها السبب الرئيسي للصراع.([7])
ففي أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، سادت “سردية” ركزت على المعادن ولكنها لا تُجسِّد الصورة الكاملة. فقد أسفرت الإبادة الجماعية في رواندا عام 1994م عن مقتل ما بين 800 ألف ومليون من التوتسي والهوتو المعتدلين على يد متطرفي الهوتو في غضون 100 يوم. وبعد أن سيطرت الجبهة الوطنية الرواندية، وهي جيش متمرد بقيادة بول كاغامي، رئيس رواندا المستقبلي وهو من التوتسي، على رواندا، وأنهت الإبادة الجماعية، فرَّ نحو مليوني هوتو عبر الحدود إلى الكونغو الديمقراطية (زائير سابق). وأثار تدفق اللاجئين توترات ومهَّد الطريق لحربين كبيرتين بدأتا عام 1996م، وشملتا ليس فقط الكونغو الديمقراطية ورواندا، بل أيضًا أوغندا وبوروندي والعديد من الدول الإفريقية الأخرى.
ويُقدِّر الباحثون أن العنف أوْدَى بحياة ستة ملايين شخص في العقود التالية، فضلًا عن انقلاب عام ١٩٩٧م على موبوتو، واغتيال خليفته، حتى انتخاب تشيسكيدي. وفي رواندا، تولَّى بول كاجامي رئاسة البلاد في أبريل ٢٠٠٠م، وبدأ في معالجة آثار الإبادة الجماعية وتنمية رواندا.([8])
وفي ظل الحاجة إلى مصادر طاقة أنظف في العقد الثاني من القرن الحالي، تكالب العالم على المعادن الموجودة في الدولة؛ مثل: الكوبالت للبطاريات؛ والتنتالوم، المشتق من الكولتان، للمكثفات؛ والقصدير للوحات الدوائر؛ والتنغستن المُستخدَم في إنتاج أشباه الموصلات، أو ما يعرف بالمعادن الخضراء T3. لتدفع المجتمعات المحلية الثمن، مثلما جلب المطاط والعاج والذهب والماس البؤس لهم في القرن التاسع عشر. ومنذ استقلال البلاد عام ١٩٦٠م، استغلت الجماعات المسلحة، التي يزيد عددها عن ١٠٠ جماعة، التعدين لتمويل عملياتها. وبعد سقوط روبايا وغوما في أواخر أبريل 2024م، سيطرت حركة إم23 على منجم قرب بلدة روبايا في مقاطعة شمال كيفو. وبدأت بالتعدين لأول مرة([9]). مما يُدِرّ عليها ربحًا شهريًّا يُقدَّر بـ 800 ألف دولار شهريًّا.([10]) واتهمت الأمم المتحدة وجماعات أخرى رواندا بالتربح من تجارة المعادن تلك، وأحيانًا يبدو أن رواندا تُسوِّق هذه المعادن على أنها من مناجمها.
كان استيلاء حركة إم23 على غوما، نقطة تحوُّل في حملة بدأت مع تقدمها عام 2021م. ومنذ 1 يناير 2025م، تُقدِّر الأمم المتحدة أن أكثر من 500 ألف أُجبروا على النزوح، وقُتل نحو 3000، وجُرح ما يقرب من 2900. وتضمّ مقاطعتا شمال كيفو وجنوب كيفو وحدهما 4.6 مليون نازح داخلي.([11])
ثالثًا: مشروع ماديني (المعادن من أجل السلام والتنمية) ومحاولات الحل:
سعيًا وراء معالجة مشكلة التكالب العالمي على المعادن المهمة في إفريقيا، تم خلال العقد الماضي إقرار المزيد من المبادئ التوجيهية ووضع خطط للمحافظة على ثروات القارة؛ مثل خطط التنظيم الإقليمية، وتحديد آلية التصديق الإقليمية التابعة للمؤتمر الدولي لمنطقة البحيرات العظمى (ICGLR).([12])([13])
كما تم رسم خرائط لسلاسل توريد المعادن الحيوية؛ حيث تتخذ بعض المنظمات -مثل منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية- خطوات ضرورية لتعزيز الشفافية، وتحديد المخاطر المرتبطة باستخراج المعادن([14]).
وقد تم التأكيد على ضرورة التعاون الدبلوماسي، ووضع الآليات الإقليمية لمعالجة هذه القضايا المعقدة، مع اقتراحات دول مثل ألمانيا للاستفادة من نفوذها في تعزيز حقوق الإنسان ومساءلة الشركات.([15])
كما رفعت الحكومة دعاوى قضائية في بلجيكا وفرنسا ضد شركة أبل الأمريكية لاستيرادها معادن متنازع عليها لتصنيع منتجاتها. وعلى الصعيد الدولي؛ حاولت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي تطبيق قوانين، مثل قانون دود-فرانك لعام 2010م، الذي يُلزم الشركات بالكشف عما إذا كانت تستخدم “معادن متنازَع عليها”؛ حيث أدى القانون إلى حظر التعدين في الكونغو الديمقراطية عامي 2010 و2011م، وهو ما وجدت دراسة نُشرت عام 2018م في مجلة PLOS One أنه أدى إلى زيادة أعمال النهب والعنف. وقد وضعت منظمات مثل المبادرة الدولية لسلسلة توريد القصدير (ITSCI) برامج تتبع تهدف إلى ضمان عدم ارتباط المعادن بعمالة الأطفال أو دعم الجماعات المسلحة. وتشمل أهداف المبادرة ضمان الحصول على المعادن من مصادر مسؤولة وعدم تهريبها عبر رواندا.
ومع ذلك، كشف تقرير صادر عن منظمة غلوبال ويتنس عام ٢٠٢٢م حول جهود المبادرة أن كميات كبيرة من المعادن غير المشروعة كانت تشق طريقها من الكونغو الديمقراطية إلى رواندا. وفي عام ٢٠٠١م، تتبعت الأمم المتحدة حركة المعادن عبر رواندا، وهي ممارسةٌ لفرض ضرائب على المعادن الكونغولية لتمويل الجيش الرواندي الذي كان يخوض آنذاك حرب الكونغو الثانية، التي بدأت عام ١٩٩٨م. بعد تولّي لوران كابيلا السلطة عام ١٩٩٧م، وسرعان ما أمر بسحب القوات الرواندية والأوغندية التي ساعدته في سحق موبوتو. وأجَّج الجانبان التوترات العرقية، وغزت رواندا جمهورية الكونغو الديمقراطية، واندلعت “حرب إفريقيا العالمية”، التي شملت في النهاية سبع دول إفريقية أخرى، وأسفرت عن مقتل حوالي ثلاثة ملايين شخص.([16])
وفي ديسمبر 2019م، تم إقرار مشروع “ماديني” The Madini project (المعادن من أجل السلام والتنمية)، الذي يهدف إلى تعزيز الأمن والتماسك الاجتماعي وحقوق الإنسان في المناطق الغنية بالمعادن، والتي تعاني من النزاعات في شرق الكونغو. ويهدف المشروع إلى المساهمة في الاستقرار والتنمية على المستويات المحلية والإقليمية والوطنية؛ من خلال (أ) تحسين أمن المجتمعات المحيطة بمواقع المناجم المستهدَفة في إيتوري وجنوب كيفو، و(ب) دعم الجهات الفاعلة في الحكومة والقطاع الخاص والمجتمع المدني على طول سلاسل توريد الذهب والبلاتين المستهدفة لاحترام معايير العناية الدولية.([17])
وفي مرحلته الأولى (2019- 2024م)، ساعَد المشروع في حلّ عشرات النزاعات في مناطق التعدين المستهدَفة من خلال الحدّ من الوجود غير القانوني للجهات المسلحة ومساعدة الحكومة الكونغولية على تحسين القوانين واللوائح المتعلقة بالتعدين الحرفي. وسيستمر هذا العمل خلال المرحلة الثانية من المشروع (2024- 2026م)، مع التركيز بشكل أكبر على تحسين مساءلة الجهات الفاعلة المحلية والدولية، وتعزيز أصوات المجتمع المحلي والمجتمع المدني للدعوة إلى احترام المعايير الدولية عند الحصول على المعادن. ([18])
رابعًا: المعادن مقابل الأمن… النسخة الإفريقية
وافقت أوكرانيا والولايات المتحدة على شروط ما يسمى باتفاقية المعادن الأرضية النادرة، التي تنص على إنشاء صندوق استثماري مشترك الملكية لإعادة الإعمار، يُدار بشكل مشترك مِن قِبَل البلدين. صُمِّم الصندوق للاستثمار في مشاريع التعدين والمعالجة والخدمات اللوجستية، وجذب رؤوس الأموال لتطوير الأصول الأوكرانية العامة والخاصة. وستبقى الموارد المعدنية مِلْكًا لأوكرانيا، ولا يمكن نقل ملكية أسهم الصندوق دون موافقة جميع المشاركين. وستساهم أوكرانيا في الصندوق بنسبة 50% من جميع الإيرادات الجديدة من المواد الخام وموارد الطاقة، والهيدروكربونات، والمعادن الحيوية المحددة تحديدًا، ومن بيع أصول البنية التحتية ذات الصلة المملوكة للدولة.
علمًا بأن المصادر الحالية للإيرادات الوطنية ليست في الصندوق. ومن المفترض أن يصبح الصندوق أداة فعّالة لجذب الاستثمارات. الفكرة الرئيسية هي أن يُنشئ المستثمرون مشاريع جديدة تُدِرّ إيرادات على الميزانية الوطنية. وسيعود نصف الدخل المُكتسَب إلى الصندوق لإعادة استثماره في الاقتصاد الأوكراني.
وتمتلك أوكرانيا اليوم فرصًا استثمارية مُتنوّعة في قطاع التعدين؛ حيث تمتلك أكثر من 30 منطقة تحتوي على رواسب ذات احتياطيات مُثبتة من المعادن الأساسية، ومئات من الاكتشافات المعدنية الواعدة. علاوةً على ذلك، تُدير الحكومة عددًا من الأصول الصناعية المهمة؛ حيث عُرف تاريخيًّا بتصنيع التيتانيوم المعدني (الإسفنج)، والألمنيوم، والسيليكون، والجرمانيوم، والغاليوم.([19])
مقابل ذلك ستُحافظ حكومة الولايات المتحدة على التزام مالي طويل الأجل لتنمية أوكرانيا المستقرة والمزدهرة اقتصاديًّا. وقد تتألف المساهمات الإضافية من أموال وأدوات مالية وأصول مادية وغير مادية أخرى ضرورية لإعادة إعمار أوكرانيا.([20])
ومع تزايد الطلب على المعادن الخضراء الضرورية للانتقال إلى اقتصاد منخفض الكربون، التي تؤدي إلى زيادة التوترات لا سيما في المناطق ذات الحوكمة الضعيفة ومستويات الفقر المرتفعة.([21]) والتي يعرفها الاتحاد الأوروبي بأنها “تلك التي تُموِّل الجماعات المسلحة، وتُسهم في العمل القسري، وتُسهّل انتهاكات حقوق الإنسان، مما يُوضِّح الآثار الوخيمة لاستخراج المعادن في المناطق المُعرّضة للصراعات”.
وتاريخيًّا، شهدت مناطق مثل سيراليون وأنغولا كيف يُمكن للسيطرة على رواسب معدنية قَيِّمة أن تُثير العنف والصراعات الأهلية؛ حيث تستخدم الجماعات المُتمردة هذه الموارد لتمويل عملياتها.([22])
وفي خطوة دبلوماسية جريئة؛ أفادت التقارير أن رئيس الكونغو الديمقراطية، اقترح منح الولايات المتحدة وأوروبا حق الوصول إلى موارد البلاد المعدنية، بشرط تدخُّلهما لإنهاء الصراع الدائر.
ووفقًا لصحيفة نيويورك تايمز، لم يستبعد تشيسكيدي إبرام صفقة معادن محتملة، مُشيرًا إلى أن مثل هذه الاتفاقية ستُعزّز الأمن والاستقرار. في الوقت الذي تتمتع فيه الصين حاليًّا بقدرة أكبر على الوصول إلى الثروة المعدنية في الكونغو مقارنةً بالولايات المتحدة، وأيضًا في الوقت الذي يتفاوض فيه الاتحاد الأوروبي مع رواندا. وتزويدها بحوالي 935 مليون دولار مقابل استخراج المعادن. وأيضًا مع توقيع بلجيكا، اتفاقية منفصلة مع رواندا في فبراير 2023م كجزء من جهود الاتحاد الأوروبي لتأمين إمدادات المعادن الأساسية. تلك الاتفاقيات التي وصفت رواندا بأنها “لاعب رئيسي” في استخراج المعادن الخضراء عالميًّا، مع الإشارة أيضًا إلى “إمكانات” البلاد في تعدين الليثيوم والمعادن الأرضية النادرة.
وتعتبر الكونغو الديمقراطية أكبر مُنتِج للكوبالت في العالم؛ حيث تم استخراج 220 ألف طن متري منه العام الماضي. ويأتي ما يقرب من 70% من التنتالوم العالمي، المُستخرَج من الكولتان، من الدولة ورواندا المجاورة. كما تُعدّ المنطقة الشرقية المضطربة موطنًا لرواسب هائلة من القصدير والتنغستن. كما تمتلك البلاد مصادر هائلة من الكولتان.([23])
وعلى الرغم من عدم وجود تفاصيل حول مقترح رسمي لاتفاقية مع الولايات المتحدة، ويبدو أن المشرعين يأملون في أن تنشر أمريكا قوات للمساعدة في احتواء الصراع مقابل الحصول على حقوق المعادن. إلا أنه في 21 فبراير، وجَّه مجلس الأعمال الإفريقي، وهو مجموعة دولية للدفاع عن مصالح الأعمال الإفريقية، رسالةً إلى وزير الخارجية الأمريكي ماركو روبيو، داعيًا الولايات المتحدة إلى الاستثمار في موارد الدولة. وأوضحت المجموعة أنها تتصرف نيابةً عن رئيس لجنة مجلس الشيوخ للدفاع والأمن وحماية الحدود. واقترحت إمكانية الوصول إلى مثل هذه الاستثمارات مقابل “شراكة اقتصادية وأمنية طويلة الأمد”، واقترحت: ([24])
- إتاحة الوصول إلى مناجم الكونغو الديمقراطية لشركات الدفاع والتكنولوجيا الأمريكية، وإتاحة الوصول إلى ميناء للصادرات.
- السيطرة على مخزون معدني مشترك من المعادن الكونغولية يتقاسمه البلدان.
- في المقابل، ستوفر الولايات المتحدة التدريب والمعدات للقوات الكونغولية، مع إتاحة وصول مباشر للجيش الأمريكي في الكونغو الديمقراطية.
ورغم ذلك، فقد صرّح وزير خارجية الكونغو بأن اتفاقية المعادن لا تزال في “مراحلها الأولى”([25])؛ أي: أن هناك مفاوضات بين البلدين.
خامسًا: ردود الأفعال والسيناريوهات المحتملة
قُوبلت هذه المفاوضات بتشكك؛ حيث يرى بعض القادة المحليين بأن مجرد الشراكات مع الكيانات الأجنبية لا يكفي لتحقيق سلام وأمن دائمين. وطالما كان دور الولايات المتحدة في هذا السياق محدودًا، لا سيما في مجال الاستثمار الدبلوماسي والمالي المتعلق بالموارد المعدنية. ووصف مسؤول أمريكي تلك الجهود بأنها أشبه بـ”سحب القروش من الوسائد”، مما يشير إلى نقص في الالتزام الحقيقي. ([26]) فدائمًا ما يركّز الدعم الأمريكي على مساعدات التنمية التقليدية بدلًا من تعزيز إستراتيجية دبلوماسية تجارية من شأنها تعزيز التجارة والاستثمار في الأمن المعدني.([27]) كما يراه آخرون حلًّا مؤقتًا، ويمس السيادة الوطنية للشعوب ويُكرّس التبعية.([28])
ومن هنا اقتُرِحَ أن تُعزّز الولايات المتحدة قدراتها الدبلوماسية في الكونغو الديمقراطية، من خلال إنشاء ملحق لهيئة المسح الجيولوجي الأمريكية (USGS) ومكتب للخدمات التجارية في كينشاسا؛ للمساعدة في صياغة إستراتيجية موارد مواتية للاستثمار الغربي، مع الدعوة إلى إصلاحات تجارية. ومن خلال معالجة القضايا المترابطة لاستخراج المعادن، يُمكن للولايات المتحدة أن تلعب دورًا بنَّاءً أكثر في تعزيز الاستقرار والتنمية المستدامة في المنطقة.([29])
تاريخيًّا؛ تفاوض جوزيف كابيلا على عدة صفقات لتبادل المعادن بالبنية التحتية مع الصين، ورغم الانتقادات حولها تهيمن الشركات الصينية على المشهد الاستثماري في صناعة المعادن في الدولة. وتدير نصف أكبر تسع مناطق تعدين للكوبالت في مقاطعة كاتانغا الجنوبية. وفي عهد تشيسكيدي، تبدو الحكومة مستعدَّة للتخلي عن الصين ودعوة جهات فاعلة أخرى لامتلاك وتشغيل مناجمها. ووقّعت اتفاقيات مع الاتحاد الأوروبي والهند. وصرّح المتحدث باسم الحكومة بأن البلاد مستعدة “للتنويع”، وأن الولايات المتحدة، على وجه الخصوص، ستكون موضع ترحيب. وكانت الدولتان قد بدأتا بالفعل في تعزيز علاقة متنامية في ظل إدارة بايدن، تستثمر أمريكا في ممر لوبيتو، وهو مشروع بنية تحتية يشمل بناء خطوط سكك حديدية وموانئ لتصدير المعادن عبر أنغولا.([30])
بعد اتفاق أوكرانيا، الذي لم تُوقّع بعد، يبدو أن الكونغو تُجهّز عروضها للتخلي عن شركائها القدامى. على الرغم من أنه من غير المعتقد أن ينتهي الصراع دون تجفيف أسباب الصراع المختلفة والتخلص من الفساد. وحتى لو أُبرمت هذه الصفقة، سيظل على الولايات المتحدة إعادة بناء وجودها هناك بعد غياب دام عقودًا. فضلاً عن أنه من غير المرجّح أن تستسلم الشركات الصينية؛ إذ يفرض قانون التعدين شروطًا قد تُعيق هذه الخطوة. كما تحتاج الولايات المتحدة إلى استثمارات كبيرة للاستكشاف، ويبدو أن تشيسكيدي يريد منح الشركات الأمريكية حق الوصول إلى الائتمان.([31])
ويرى محللون أن نموذج “المعادن مقابل الأمن” سيساعد الدولة على مواجهة جماعة “إم 23”. وقد يُشكِّل أيضًا نموذجًا يُحتَذى به لدبلوماسية الموارد العالمية المستقبلية. ففي هذا النهج، تتوافق المصالح الاقتصادية والأمنية. ولكن الشراكة المقترحة تُواجه تحديات كبيرة، وبعض النقاط تبدو غير واقعية، مثل نشر القوات الأمريكية، وهو ما يتعارض مع وعد ترامب بإعادة الجنود. غير أن الجيش الكونغولي في وضع ضعيف.([32]) والسيناريو الأكثر ترجيحًا لمثل هذا الاتفاق هو توفير الولايات المتحدة معدات عسكرية للكونغو الديمقراطية، بدلًا من الدعم العسكري المباشر”.([33])
ويرى آخرون أنه يمكن لصفقات المعادن أن تُحدث تغييرًا جذريًّا في الاقتصادات الإفريقية، وتأتي هذه الصفقة في أعقاب قيام العديد من البلدان بفسخ عقود التعدين مع الدول الاستعمارية السابقة. فالنيجر قطعت علاقاتها مع فرنسا بسبب تعدين اليورانيوم، وتسعى إلى شركاء آخرين مثل إيران وروسيا.([34])
بينما صرّح زعيم المتمردين كورنيل نانجا علنًا بأن شراكة المعادن مع الولايات المتحدة لن تؤدي إلى السلام، مؤكدًا أن جماعته ستواصل القتال من أجل السيطرة على موارد البلاد.([35]) وقال: “يمكن حل هذه المشكلة بشكل أفضل مِن قِبَل الكونغوليين المعنيين، وليس الأجانب ذوي الأجندات الجيوسياسية المختلفة”. كما رفض نتائج اجتماع بين القادة الكونغوليين والروانديين في قطر، قائلًا: “إن مثل هذه الخطوة دون مشاركة الحركة ستفشل، وأنه بدون المتمردين لا يمكن إجراء حوار مع حكومة الكونغو؛ إلا إذا اعترفت بمظالمهم وحلَّت الأسباب الجذرية للصراع”.([36])
ختامًا:
لا تزال معظم موارد الكونغو المعدنية، التي تُقدَّر قيمتها بنحو 24 تريليون دولار، والتي تُعدّ حيويةً لكثير من تقنيات العالم، غير مستغلة([37]). فقد أصبحت رهينة الثأر العِرْقي، وفساد النُّخب، وما يغريهما من تدخلات الغرب وشركاته. فما كان أمام النظام الكونغولي، إلا أن يطالب بتجديد اتفاقاته للغرب مرة ثانية، مقترحًا “اتفاق معادن” إفريقي، بدلاً من اتفاق أوكراني أمريكي لم يُوقَّع بعدُ. وكأن لسان حاله يقول: “مجبرٌ أخاك لا بطل”.
………………….
[1] ) Acha Leke and et al, The future of African oil and gas: Positioning for the energy transition June 8, 2022 .at: https://www.mckinsey.com/industries/oil-and-gas/our-insights/the-future-of-african-oil-and-gas-positioning-for-the-energy-transition
[2] ) he Africa Center for Strategic Studies, Unresolved Conflicts Continue to Drive Africa’s Food Crisis, October 16, 2023.at: https://africacenter.org/spotlight/unresolved-conflicts-continue-to-drive-africas-food-crisis/
[3] ) Hameed Nuru, Africa day comment: WFP and the African Union work to end hunger and food insecurity, 26 May 2023.at: https://www.wfp.org/stories/africa-day-comment-wfp-and-african-union-work-end-hunger-and-food-insecurity
[4] ) https://www.govinfo.gov/content/pkg/CHRG-108shrg95026/html/CHRG-108shrg95026.htm
[5] ) أحمد الخميسي، تحذير من اتفاقيات النفط مقابل الغذاء في ليبيا، 19 أكتوبر 2024م. العربي الجديد.
[6][6] ) Alexandria Shaner, DRC Bleeds Conflict Minerals for Green Growth, March 18, 2024.at: https://fpif.org/drc-bleeds-conflict-minerals-for-green-growth/
[7] ) John Cannon, the key factors fueling conflict in eastern DRC, 14 feb 2025.at: https://news.mongabay.com/2025/02/in-eastern-drc-the-history-of-conflicts-is-fueled-by-new-factors/
[8] ) Idem.
[9] ) theafricareport, DRC‑Rwanda: Rubaya coltan mine at the heart of M23 financing, February 6, 2025.AT: https://www.theafricareport.com/375904/drc-rwanda-rubaya-coltan-mine-at-the-heart-of-m23-financing/
[10] ) United Nations, Letter dated 27 December 2024 from the Group of Experts on the Democratic Republic of the Congo addressed to the President of the Security Council.AT: https://digitallibrary.un.org/record/4071242?ln=en&v=pdf
[11] ) John Cannon, Op.cit.
[12] ) ipisresearch, Advocating for an improved enabling environment for the production, trade and export of OECD Due Diligence Guidance (DDG)-conformant minerals from eastern DRC.at: https://ipisresearch.be/publication/advocating-for-an-improved-enabling-environment-for-the-production-trade-and-export-of-oecd-due-diligence-guidance-ddg-conformant-minerals-from-eastern-drc/
[13] ) giz, improving mineral-resource governance to promote peace and security in Africa’s Great Lakes Region.at: https://www.giz.de/en/worldwide/120028.html
[14] ) Kazuyo Hanai, Conflict minerals regulation and mechanism changes in the DR Congo.AT: https://www.sciencedirect.com/science/article/pii/S0301420721004037
[15] ) Cullen S. Hendrix, Why a US-DRC minerals-for-security deal could backfire, March 24, 2025.AT: https://www.piie.com/blogs/realtime-economics/2025/why-us-drc-minerals-security-deal-could-backfire
[16] ) John Cannon, Op.cit.
[17] ) marieke haagh, Madini kwa Amani na Maendeleo – Minerals for Peace and Development.at: https://ipisresearch.be/project/madini-strengthening-regional-stability-in-the-great-lakes/
[18] ) parispeaceforum, Minerals for Peace and Development – Madini Kwa Amani Na Maendeleo, 2023.at: https://parispeaceforum.org/projects/madini-minerais-pour-la-paix/
[19] ) Roman Opimakh, Ukraine critical minerals can bring business opportunities and peace,7 march, 2025.at: https://blogs.lse.ac.uk/businessreview/2025/03/07/ukraine-critical-minerals-can-bring-business-opportunities-and-peace/
[20] ) الشرق الأوسط، هذا ما تنص عليه مسودة اتفاقية المعادن بين الولايات المتحدة وأوكرانيا، 27 فبراير 2025م.
[21] ) Clare Church and Alec Crawford, Green Conflict Minerals, July 2019.AT: https://www.iisd.org/story/green-conflict-minerals/
[22] ) Neeraja Kulkarni, Africa in Transition Going Beyond “Conflict-free”: Transition Minerals Governance in DRC and Rwanda 27 August, 2024 .AT: https://climate-diplomacy.org/magazine/conflict/africa-transition-going-beyond-conflict-free-transition-minerals-governance-drc
[23] ) Cecilia Jamasmie, Congo offers US, Europe minerals in exchange for peace, February 24, 2025.at: https://www.mining.com/congo-offers-us-europe-minerals-in-exchange-for-peace/
[24] ) https://www.aljazeera.com/news/2025/3/17/amid-conflict-why-does-the-drc-want-a-minerals-deal-with-trump
[25] ) Staff Writer, US-Congo minerals deal won’t bring peace, says rebel leader, March 25, 2025.at: https://www.mining.com/us-congo-minerals-deal-wont-bring-peace-says-rebel-leader/#
[26] ) thumbnail Katie Brigham, TECH How conflict minerals make it into our phones, FEB 15 2023.AT: https://www.cnbc.com/2023/02/15/how-conflict-minerals-make-it-into-our-phones.html
[27] ) didier makal, Impunity and pollution abound in DRC mining along the road to the energy transition, 14 MAY 2024.AT: https://news.mongabay.com/2024/05/impunity-and-pollution-abound-in-drc-mining-along-the-road-to-energy-transition/
[28] ) okayafrica, Op.cit.
[29] ) arild angelsen, Mining for valuable minerals in the Congo Basin rainforest triggers extensive deforestation, 20 Sep 2024.AT: https://forestsnews.cifor.org/89558/mining-in-the-congo-rainforest-causes-more-deforestation?fnl=
[30] ) https://www.aljazeera.com/news/2025/3/17/amid-conflict-why-does-the-drc-want-a-minerals-deal-with-trump
[31] ) https://english.ahram.org.eg/NewsContentP/2/543514/World/Congo-rebel-leader-says-sanctions,-any-minerals-de.aspx
[32] ) okayafrica, DR Congo’s Minerals for Peace Deal: Reinforcing Dependency or Strategic Power Assertion? 25 marches, 2025.at: https://www.okayafrica.com/drc-minerals-peace-deal/#
[33] ) https://www.aljazeera.com/news/2025/3/17/amid-conflict-why-does-the-drc-want-a-minerals-deal-with-trump
[34] ) okayafrica, Op.cit.
[35] ) https://www.youtube.com/watch?v=ildvqZzZjkw
[36] ) https://english.ahram.org.eg/NewsContentP/2/543514/World/Congo-rebel-leader-says-sanctions,-any-minerals-de.aspx
[37] ) Staff Writer,Op.cit.