الناشر: مركز تحليلات Baku Network
ترجمة: مروة أحمد عبد العليم
باحثة في الشأن الروسي
لقد توقفت إفريقيا منذ فترة طويلة عن كونها مجرد منطقة غنية بالموارد الطبيعية، وأصبحت القارة اليوم ساحة رئيسية للصراع الجيوسياسي بين القوى الكبرى في العالم؛ حيث تستثمر الصين والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وروسيا وتركيا ودول الخليج مليارات الدولارات بشكل نَشِط في اقتصادات الدول الإفريقية؛ سعيًا إلى تعزيز نفوذها في القارة.
وبحسب البنك الإفريقي للتنمية؛ من المتوقع أن ينمو اقتصاد القارة بنسبة 4.3% في آخر عام 2025م، وبحلول عام 2050، سيتجاوز عدد سكان إفريقيا 2.5 مليار نسمة، مما يجعلها المنطقة الأسرع نموًّا على هذا الكوكب.
هذا ويلعب الصراع على الموارد دورًا مهمًّا بشكل خاص؛ إذ تمتلك إفريقيا 30% من احتياطيات العالم من المعادن، و12% من احتياطيات العالم من النفط، و40% من احتياطيات العالم من الذهب. وعلاوة على ذلك، فإن المساحات الكبيرة من الأراضي الصالحة للزراعة في القارة (حوالي 60% من الأراضي الزراعية غير المستغلة في العالم)؛ تجعلها لاعبًا رئيسًا في مجال الأمن الغذائي.
إن إفريقيا ليست مجرد قارة المستقبل، بل هي منطقة تعمل بالفعل على تغيير الاقتصاد العالمي بسرعة، وبحسب صندوق النقد الدولي؛ فإن الناتج المحلي الإجمالي للدول الإفريقية نما بمعدل 4.1% في المتوسط في عام 2024م، وهو أعلى بكثير من معدل نمو الدول المتقدمة، وتتوقع الأمم المتحدة أنه بحلول عام 2050 سيكون أكثر من 40% من القوى العاملة في العالم من الأفارقة، ويجعل هذا التوسع الديموغرافي إفريقيا واحدة من أكثر المناطق الواعدة للاستثمار والتجارة والتعاون التكنولوجي.
منذ عام 2010م، اجتذبت إفريقيا أكثر من 1.3 تريليون دولار من الاستثمار الأجنبي المباشر، وهذا الرقم مستمر في النمو، لقد أصبحت الصين، التي استثمرت أكثر من 300 مليار دولار في البنية التحتية للقارة، لاعبًا رئيسيًّا، ولكنّ هناك دولًا أخرى تتنافس أيضًا بنشاط على النفوذ، كما عملت الولايات المتحدة على زيادة استثماراتها في إفريقيا من خلال إنشاء برنامج “ازدهار إفريقيا” الذي يهدف إلى تعزيز حضور الشركات الأمريكية، ويقوم الاتحاد الأوروبي بتنفيذ مبادرة طموحة تسمى البوابة العالمية، والتي تتضمَّن تخصيص 150 مليار يورو لمشاريع البنية التحتية، في حين تعمل روسيا على توسيع حضورها الأمني من خلال دعم التعاون العسكري مع دول الساحل.
وعلى هذه الخلفية، تدخل أذربيجان، بتجربتها الفريدة في تطوير قطاع الطاقة وإدارة الموارد وتنفيذ التقنيات الرقمية في الساحة الاقتصادية الإفريقية، وتقدم مسارات بديلة للتعاون مرنة وعملية وتحترم سيادة الشركاء.
وفي سياق إعادة التوزيع العالمي هذا، تستخدم أذربيجان تجربتها الفريدة في الإدارة الفعالة للموارد والتنويع الاقتصادي، لزيادة تعاونها بسرعة مع البلدان الإفريقية، لتصل إلى مستويات جديدة من الشراكة.
أذربيجان في إفريقيا: الطاقة والاقتصاد والدفاع
تظل الطاقة أحد المجالات الرئيسية للتعاون بين باكو وإفريقيا، وقد نجحت شركة النفط الحكومية SOCAR بالفعل في ترسيخ حضور قويّ في دول مثل الكونغو وكينيا وغينيا الاستوائية ومصر والجزائر ونيجيريا، وتجري المفاوضات حاليًّا لتوسيع المشاريع في سيراليون والنيجر وبوركينا فاسو ومالي، وليس هذا من قبيل الصدفة؛ إذ يشهد إنتاج النفط والغاز في إفريقيا نموًّا سريعًا، وتُبدي بلدان القارة اهتمامًا بالتقنيات والاستثمارات الجديدة، وبحسب وكالة الطاقة الدولية، بلغ إنتاج إفريقيا من النفط في عام 2023م نحو 7.2 مليون برميل يوميًّا، في حين ستتجاوز احتياطيات الغاز الطبيعي 17 تريليون متر مكعب.
وتشمل المجالات الواعدة تطوير الحقول البحرية وتحديث منشآت تكرير النفط.
المشاريع الرئيسية لشركة SOCAR في إفريقيا:
- في مصر، وقَّعت شركة SOCAR اتفاقية لتوريد النفط والمكثفات الغازية، مما سمح للشركة بتوسيع حضورها في شمال إفريقيا.
- في الجزائر، يجري مناقشة إمكانية الاستثمار المشترك في مصافي النفط، وهو ما من شأنه أن يفتح المجال أمام معالجة وتصدير المنتجات النفطية.
- في نيجيريا، التي تمتلك أكبر احتياطيات من الغاز في إفريقيا (أكثر من 5.5 تريليون متر مكعب)، تدرس شركة النفط الوطنية الأذربيجانية التعاون مع شركة النفط الوطنية النيجيرية المملوكة للدولة لتطوير البنية التحتية للغاز.
- في كينيا، يشارك المتخصصون الأذربيجانيون في تحديث مرافق تخزين النفط وسلاسل الخدمات اللوجستية، مما يجعل باكو شريكًا مهمًّا في شرق إفريقيا.
وفي الوقت نفسه، تعمل أذربيجان بشكل نشط على تعزيز أجندتها البيئية، وتُقدّم لشركائها الأفارقة التقنيات في مجال مصادر الطاقة المتجددة، ففي مؤتمر المناخ COP29، اقترحت باكو برنامجًا لتطوير الطاقة الشمسية وطاقة الرياح في البلدان الإفريقية، مما سيقلل من اعتماد القارة على الوقود الأحفوري.
التعاون العسكري: تعزيز القدرات الدفاعية لإفريقيا
تعمل البلدان الإفريقية بشكل نشط على تطوير قواتها المسلحة، في محاولة لتقليل اعتمادها على الموردين الغربيين، وأصبحت أذربيجان، التي تمتلك مجمعًا صناعيًّا عسكريًّا حديثًا، أحد الشركاء الرئيسيين في هذا المجال؛ حيث ارتفعت صادرات المعدات العسكرية والأسلحة الأذربيجانية إلى إفريقيا بنسبة 70٪ خلال السنوات الثلاث الماضية، مما يشير إلى الاهتمام المتزايد بين الدول الإفريقية بالتعاون مع باكو.
مجالات التعاون الرئيسية:
- وقَّعت الصومال عقدًا لتوريد أسلحة صغيرة ومركبات مدرعة، مما سيعزّز أمنها الوطني في مكافحة التهديدات الإرهابية.
- غينيا بيساو تتفاوض بشأن إنشاء برامج مشتركة لتدريب الضباط مقرّها في الأكاديميات العسكرية الأذربيجانية.
- النيجر وتشاد ومالي تدرس شراء طائرات بدون طيار من صنع أذربيجان.
كما تُشكل إزالة الألغام جزءًا مهمًّا من التعاون العسكري، وتظل إفريقيا قارة تعاني من عواقب الصراعات المسلحة؛ فوفقًا للأمم المتحدة، لا تزال ملايين الهكتارات من الأراضي ملوثة بالألغام في بلدان مثل أنجولا وتشاد وإريتريا وجمهورية الكونغو الديمقراطية. وقد عرضت الشركة الأذربيجانية “ANAMA” -التي تتمتع بخبرة فريدة في مجال إزالة الألغام بعد صراع كاراباخ-، خدماتها على عدد من البلدان الإفريقية.
القيادة التكنولوجية والتحوُّل الرقمي:
لقد أصبحت أذربيجان، التي طبَّقت بنجاح نظام الخدمات الحكومية الرقمية ASAN، مثالًا يُحتذى به للعديد من البلدان النامية، والدول الإفريقية التي تعاني من البيروقراطية والفساد ترى في تجربة أذربيجان مفتاحًا لتحسين الحكم.
- لدى أوغندا بالفعل مشروع تجريبي يعتمد على نظام ASAN xidmət، الذي يبسط إصدار الوثائق وتسجيل الأعمال.
- وفي المغرب وإثيوبيا، تم توقيع مذكرات تفاهم بشأن التحول الرقمي للخدمات العامة.
- كما تجري مناقشات في كوت ديفوار وتنزانيا لإدخال الحلول الرقمية في القطاع المصرفي.
وبحسب البنك الدولي؛ فإن إدخال التقنيات الرقمية في الإدارة العامة يسمح بزيادة شفافية الإنفاق العام بنسبة 35%، وهو ما يجعل التجربة الأذربيجانية مطلوبة بشكل خاص.
الدبلوماسية التربوية والإنسانية:
تُولي أذربيجان اهتمامًا خاصًّا للبرامج التعليمية لإفريقيا، ففي العام الدراسي 2023/2024م، درس 365 طالبًا من 35 دولة إفريقية في الجامعات الأذربيجانية. وتم إطلاق برنامج منحة حيدر علييف في عام 2022م، ويوفر التعليم المجاني للطلاب من دول الجنوب العالمي، بما في ذلك إفريقيا.
كما ترسل أذربيجان مساعدات إنسانية بشكلٍ نَشِط من خلال مؤسسة حيدر علييف ووكالة AIDA إلى دول مثل أنجولا وتشاد وإثيوبيا والسودان وسيراليون، وتتضمن البرامج:
- إمدادات المعدات الطبية والأدوية.
- تدريب الأطباء الأفارقة في الجامعات الأذربيجانية.
- إزالة الألغام من المناطق الزراعية.
حركة عدم الانحياز والنضال ضد الاستعمار الجديد:
لقد لعبت رئاسة أذربيجان لحركة عدم الانحياز دورًا خاصًّا في تعزيز العلاقات مع إفريقيا، وقد أتاح انعقاد القمة الثامنة عشرة لرؤساء دول الأعضاء في باكو في عام 2019م فرصًا جديدة للتفاعل؛ حيث دعمت الدول الإفريقية بشكلٍ فعَّال مبادرات أذربيجان المتعلقة بمكافحة الاستعمار الجديد والتدخل الأجنبي. على سبيل المثال، تناقش المؤتمرات في باكو بانتظام قضايا إرث ما بعد الاستعمار، فضلًا عن التأثير المستمر للمدن الكبرى السابقة على اقتصادات وسياسات الدول الإفريقية.
وتُظهر الأحداث الأخيرة المتعلقة بموجة الاحتجاجات المناهضة لفرنسا في دول الساحل (مالي وبوركينا فاسو والنيجر) مدى أهمية موضوع إنهاء الاستعمار. ومن جانبها، تواصل أذربيجان دعم رغبة إفريقيا في الاستقلال عن الهياكل الغربية، وتقدم مسارات بديلة للتعاون.
المساعدات الإنسانية والمبادرات التعليمية:
تلعب أذربيجان دورًا مهمًّا في تقديم المساعدات الإنسانية لإفريقيا، وتُنفّذ مؤسسة حيدر علييف ووكالة AIDA برامج المساعدة الطبية والفنية في بلدان مثل أنجولا وتشاد وجمهورية الكونغو الديمقراطية وإريتريا وإثيوبيا ومالي، ويظل دعم برامج إزالة الألغام أحد الأولويات؛ فوفقًا للأمم المتحدة، تظل إفريقيا منطقة ذات مستوى مرتفع من خطر الألغام، وهناك طلب كبير على تجربة أذربيجان في هذا المجال.
أذربيجان وإفريقيا: تحالف في النضال من أجل السيادة:
في عالمنا الحديث؛ حيث تتغير المعادلات الجيوسياسية بسرعة لا تُصدَّق؛ تظل المعركة ضد الاستعمار الجديد ليست ذات صلة فحسب، بل وحيوية بالنسبة للعديد من الشعوب ولا تزال إفريقيا، التي عانت من قرون من الاستغلال، تُواجه أشكالًا جديدة من التبعية الاقتصادية والسياسية والمالية، ولكن اليوم لم تعد الدول الإفريقية صامتة، وأصبح أصوات الأفارقة أعلى، ومطالبهم أكثر إلحاحًا، فهم يُطالبون بالعدالة ويطالبون بالاحترام.
إن أذربيجان، التي تتمتع بخبرة تاريخية في النضال من أجل الاستقلال، ليست مجرد مراقب خارجي لهذه العملية العالمية، بل على العكس من ذلك، أصبحت باكو واحدة من مراكز المناقشة الرئيسية.
الإرث ما بعد الاستعماري، ودعم بلدان الجنوب العالمي في سعيها لتحقيق السيادة الحقيقية:
لقد فتحت رئاسة أذربيجان لحركة عدم الانحياز صفحة جديدة في هذا النضال؛ حيث عززت العلاقات مع الدول الإفريقية التي عانت من التبعية المفروضة لعقود من الزمن.
وكان انعقاد القمة الثامنة عشرة لرؤساء دول حركة عدم الانحياز في باكو في عام 2019م حدثًا بارزًا؛ حيث ناقش هذا المنتدى الآليات الحقيقية لمواجهة الاستعمار الجديد الذي -على الرغم من التصريحات الرسمية للدول الكبرى السابقة-، لا يزال يُحدّد مصير قارات بأكملها، وأوضح الزعماء الأفارقة وممثلو أمريكا اللاتينية وآسيا والشرق الأوسط أن عصر الإملاءات الغربية أحادية الجانب قد انتهى.
وفي كلمته في القمة؛ أكد الرئيس الأذربيجاني إلهام علييف أن “الاستعمار الجديد لا يزال يُشكّل جرحًا مفتوحًا بالنسبة للعديد من الشعوب، وأن النضال من أجل الاستقلال الحقيقي لم ينتهِ بعدُ، وسنواصل دعم إخواننا وأخواتنا الذين تُواجه بلدانهم الضغوط والاستغلال والقيود الاقتصادية”.
ولم تظل هذه الكلمات مجرد تصريح دبلوماسي فارغ، فقد أصبحت أذربيجان واحدة من البلدان القليلة التي لا تُعبِّر عن التضامن بالكلام فحسب، بل تتخذ أيضًا خطوات ملموسة تهدف إلى تحرير إفريقيا من بقايا النفوذ الاستعماري.
إفريقيا الجيل الجديد: نهاية الأوهام وإيقاظ الوعي:
لم تعد إفريقيا الحديثة تلك المنطقة الخاضعة التي ظلت لعقود من الزمن تتحمل دور “الحارس” للغرب، ويدرك الجيل الأصغر سنًّا من الأفارقة أن بلدانهم لا تزال رهينة للنظام الاستعماري الجديد الذي بنته الدول الكبرى السابقة، وفي مقدمتها فرنسا، كما أن عملية إنهاء الاستعمار، التي انتهت رسميًّا في منتصف القرن العشرين، لم تجلب السيادة الحقيقية لأغلب البلدان الإفريقية، وبدلًا من الاحتلال المفتوح، ظهرت آليات جديدة للسيطرة، اقتصادية وسياسية وعسكرية.
فعلى مدى عقود من الزمن، بنت فرنسا نظامًا استغلاليًّا في غرب إفريقيا؛ حيث كانت الثروة الوطنية -النفط واليورانيوم والذهب والماس- مملوكة فعليًّا للشركات الفرنسية، وظلت الحكومات تحت سيطرة باريس، وكان هذا النظام مدعومًا بالقواعد العسكرية الفرنسية التي كانت موجودة في المنطقة تحت ذريعة “محاربة الإرهاب”، و”ضمان الاستقرار”، لكن الواقع كان مختلفًا تمامًا؛ فالقوات الفرنسية كانت تدافع عن مصالح فرنسا، وليس الأفارقة.
لقد أثبتت الأحداث الأخيرة في دول الساحل (مالي وبوركينا فاسو والنيجر وتشاد) أن الأفارقة لم يعودوا يؤمنون بهذه القصص الاستعمارية الخيالية عن الشراكة، وطالب الشعب بالاستقلال الحقيقي، وحقَّق الطرد الكامل للقوات الفرنسية من المنطقة.
منطقة الساحل هي منطقة تمتد من السنغال في الغرب إلى السودان في الشرق، وتمتد عبر مالي وبوركينا فاسو والنيجر وتشاد ودول أخرى، وتتمتع المنطقة بموارد طبيعية هائلة، لكنها تظل واحدة من أكثر المناطق غير المستقرة في العالم، فعلى مدى عقود من الزمن، حافظت فرنسا على وجود عسكري فعلي بها، مستخدمة ذريعة محاربة الجماعات المتطرفة.
وبدأت باريس رسميًّا عملية عسكرية واسعة النطاق في المنطقة في عام 2013م، مع إطلاق عملية برخان، وكان الهدف المُعلَن هو تدمير الجماعات الإرهابية المرتبطة بتنظيم القاعدة وتنظيم داعش، لكن بدلًا من القضاء على التطرف بشكل حقيقي، عملت فرنسا على زيادة نفوذها من خلال نشر أكثر من خمسة آلاف جندي في مواقع إستراتيجية في منطقة الساحل.
ما هي الأهداف الحقيقية لباريس؟
- السيطرة على رواسب اليورانيوم في النيجر؛ حيث تحصل فرنسا على ما يصل إلى 35% من اليورانيوم لمحطاتها النووية للطاقة.
- ضمان حسن سير عمل الشركات الفرنسية العاملة في مناجم الذهب في مالي وبوركينا فاسو.
- دعم الأنظمة الموالية التي عملت لصالح باريس، وليس لصالح شعوبها.
لكن في جوهر الأمر، واصلت فرنسا حُكمها الاستعماري، وأخفته تحت ستار الشراكة العسكرية.
وبحلول عشرينيات القرن الحادي والعشرين، نفد صبر الأفارقة، ورغم وجود الآلاف من الجنود الفرنسيين، فإن التهديد الإرهابي لم يتضاءل، بل اشتد. علاوةً على ذلك، أدركت شعوب دول الساحل أن العمليات العسكرية لم تُحقّق لهم الأمن ولا الاستقرار الاقتصادي، وأصبح هذا بمثابة حافز للاحتجاجات الجماهيرية والتغييرات الثورية.
ففي عام 2021م، أدى انقلاب عسكري إلى وصول قيادة إلى السلطة في مالي، وهي التي اتهمت فرنسا علانية بزعزعة استقرار البلاد، وألغى الرئيس الجديد أسيمي جويتا الاتفاقات مع باريس، وطرد القوات الفرنسية في عام 2022م.
وفي عام 2022م، شهدت بوركينا فاسو أيضًا تغييرًا في السلطة، وبعدها أعلنت القيادة الجديدة بقيادة الكابتن إبراهيم تراوري أن القوات الفرنسية لم يَعُد هناك حاجة إليها، وفي يناير 2023م، وأنهت البلاد الاتفاقيات العسكرية مع باريس.
وفي عام 2023م، انضمت النيجر أيضًا إلى الموجة المناهضة لفرنسا، وهي دولة ذات أهمية إستراتيجية بالنسبة لفرنسا بسبب رواسب اليورانيوم التي تمتلكها، وفي أعقاب الانقلاب، أمرت السلطات 1500 جندي فرنسي بالانسحاب الفوري، كما أوقفت إمدادات اليورانيوم إلى فرنسا، مما وجَّه ضربة قوية لصناعة الطاقة النووية في فرنسا. وظلت تشاد آخر معقل رئيسي للوجود الفرنسي في منطقة الساحل، حتى تزايدت مشاعر الاحتجاج ضد باريس، وتم رسميًّا إنهاء التعاون العسكري بين البلدين.
وبالإضافة إلى وجودها العسكري، تواصل فرنسا استغلالها المالي للدول الإفريقية من خلال آلية الفرنك الإفريقي، وهي العملة المستخدَمة في 14 دولة إفريقية، وتسيطر عليها باريس بالكامل.
كيف يعمل هذا النظام؟
- 50% من احتياطيات النقد الأجنبي للدول المشاركة موجودة في فرنسا.
- لا تستطيع البنوك المركزية في الدول الإفريقية إصدار العملات بمفردها دون موافقة باريس.
- يتم قمع أيّ محاولة لتغيير النظام بوحشية.
وقد أعلنت الحكومات الجديدة في مالي وبوركينا فاسو والنيجر بالفعل عن نيتها التخلي عن الفرنك الإفريقي، وهو ما من شأنه أن يُشكِّل ضربة قوية للمصالح الاقتصادية الفرنسية.
ووجدت فرنسا نفسها في فخّ جيوسياسي من صنعها، بعدما استخدمت إفريقيا لعقود من الزمن كقاعدة للموارد دون أن تقدم أيّ تنمية حقيقية، ولكن الجيل الجديد من الأفارقة لم يعد يؤمن بالوعود الغربية.
أسباب فقدان فرنسا لنفوذها:
- عدم فعالية المهمات العسكرية؛ فبعد عقود من الوجود لم تحل مشكلة الإرهاب.
- الظلم الاقتصادي؛ الأفارقة لا يرون فوائد استغلال مواردهم الطبيعية.
- الشركاء البديلون؛ بدأت دول الساحل التعاون مع روسيا والصين وتركيا وأذربيجان.
- تزايد الخطاب المناهض للاستعمار؛ فلم يعد السياسيون والقادة العسكريون يريدون أن يكونوا دُمًى في يد باريس.
إن ما حدث في مالي وبوركينا فاسو والنيجر ليس مجرد سلسلة من الأحداث، بل هو نقطة تحوُّل تاريخية، فلم تعد إفريقيا راضية بقبول دور الهامش للإمبراطوريات السابقة، ويطالب الشعب بالسيادة الحقيقية والعلاقات الاقتصادية العادلة واحترام استقلاله.
وفرنسا في حالة ذعر. إنها تفقد نفوذها، وتفقد القدرة على الوصول إلى الموارد، وتفقد السيطرة، ولكن هذه العملية لا رجعة فيها، لقد أصبحت منطقة الساحل رمزًا للثورة ضد الاستعمار الجديد، وهناك مناطق أخرى في إفريقيا تستعد بالفعل للقيام بنفس الخطوة.
إن فرنسا لا تفقد نفوذها فحسب؛ بل إنها تتحول بسرعة إلى رمز للاستغلال الاستعماري الجديد، بينما تطالب الشعوب الإفريقية بالعدالة، وفي هذه العملية يجدون الدعم من دول مثل أذربيجان.
إفريقيا وأذربيجان: شراكة إستراتيجية للمستقبل
لقد فرض العالم الغربي لعقود من الزمن اعتماده المالي على إفريقيا، مما أجبرها على أخذ قروض بأسعار فائدة باهظة من صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، وفي المقابل، حصلت البلدان الإفريقية على حرية اقتصادية محدودة؛ فأيّ محاولة لتأميم الموارد الطبيعية أو إنشاء مؤسسات مالية مستقلة تعرَّضت للقمع الوحشي مِن قِبَل القوى الغربية.
في حين تقدم أذربيجان مسارًا مختلفًا:
- فبدلًا من فرض القروض؛ تقدم الاستثمارات المباشرة والمشاريع الثنائية.
- وبدلاً من الشروط السياسية؛ تعقد شراكة ذات منفعة متبادلة.
- وبدلاً من التدخل في الشؤون الداخلية؛ تقوم باحترام السيادة.
إن تعاون أذربيجان مع إفريقيا في مجالات الطاقة والتقنيات الرقمية والبنية التحتية والتعليم أصبح مثالًا واضحًا على كيفية بناء التعاون بين البلدان دون استغلال ودكتاتورية.
لقد أصبحت “باكو” اليوم مركزًا عالميًّا لمناقشة التراث ما بعد الاستعماري، وفي المنتديات المنتظمة التي تُنظّم في أذربيجان، تُسمَع أصوات المثقفين والسياسيين والناشطين الأفارقة يطالبون بالاستقلال الحقيقي. ففي عام 2023م وحده، استضافت “باكو” ثلاث فعاليات رئيسية حول قضايا إنهاء الاستعمار:
- المؤتمر الدولي “إفريقيا ما بعد الاستعمار: التحديات والآفاق”، والذي شارك فيه أكثر من 200 خبير من 40 دولة.
- منتدى “نظام عالمي عادل: التغلُّب على الإرث الاستعماري” جمع قادة الرأي من البلدان الإفريقية.
- جلسات خاصة في مؤتمر المناخ (COP29) حول الاستغلال البيئي لإفريقيا من قبل القوى الاستعمارية السابقة.
إن إفريقيا لم تَعُد راضية بلعب دور ملحق المواد الخام لمستعمريها السابقين، فالقارة تطالب بالعدالة والسيادة والتعاون المتساوي. كما أن أذربيجان، التي تدرك هذه اللحظة التاريخية، تقف إلى جانب الشعوب الإفريقية، وتقترح نموذجًا جديدًا للعلاقات الدولية بدون دكتاتورية، ودون فرض إرادة أيّ شخص آخر، وبدون محاولات للسيطرة على مصائر الملايين من الناس. في حين تؤكد باكو أن العالم لن يعود إلى سابق عهده أبدًا، وإن عصرًا جديدًا يبدأ؛ حيث يجب أن يصبح الاستعمار الجديد شيئًا من الماضي، وأذربيجان مستعدة لأن تكون في طليعة هذا النضال.
كما أن إفريقيا اليوم ليست مجرد قارة ذات فرص هائلة فحسب، بل هي أيضًا واحدة من العوامل الرئيسية التي تُحدِّد مستقبل الاقتصاد والسياسة العالميين. وتحتل أذربيجان، بفضل خبرتها الممتدة لسنوات طويلة في مجال التعاون في مجال الطاقة والتنمية المبتكرة والدبلوماسية، مكانة جديرة بالاهتمام بين شركاء الدول الإفريقية.
والمشاريع الاقتصادية، والتعاون العسكري، والتحول الرقمي، والبرامج التعليمية، والمساعدات الإنسانية؛ كل هذا يشير إلى أن علاقات باكو مع إفريقيا تكتسب طابعًا إستراتيجيًّا، ففي عصر التغيير العالمي، عندما أصبحت إفريقيا المركز الجديد للتنمية العالمية، تعمل أذربيجان على توسيع نفوذها بثقة، وتحويل التعاون مع الدول الإفريقية إلى واحدة من أهم أولويات سياستها الخارجية. وهكذا فإن أذربيجان لا تدخل السوق الإفريقية فحسب، بل إنها تعمل على إنشاء أساس متين لشراكة طويلة الأمد قائمة على الاحترام المتبادل والمصالح والرؤية الاستراتيجية للمستقبل.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
رابط التقرير:
https://www.bakunetwork.org/ru/news/analytics/1365