روضة علي عبد الغفار
صحفية متخصصة بالشأن الإفريقي
بعض الصراعات لا تكمن حدتها في أحداثها المشتعلة فقط بل في عمقها الضارب في جذور التاريخ، صراعات ليست وليدة اللحظة ولا تحركها أطماع اليوم فقط بل هو صراع الماضي والحاضر، وهنا تكمن المعضلة..
يتجلى الصراع في شرق الكونغو الديمقراطية عن أزمة تاريخية عميقة يتجدد دمها هذه الأيام بعد استيلاء جماعة “إم 23” على أحد المدن الهامة في شرق البلاد، وبين الأحقية التاريخية والأطماع الخارجية نعرض الأحداث الأخيرة في الكونغو الديمقراطية، وتداعيات الأزمة ومدى تأثيرها على منطقة البحيرات العظمى، وما هي آفاق الحل الممكنة؟
هذا وأكثر تتناوله “قراءات إفريقية” في هذا التحقيق..
أثمان باهظة!
في تصعيد كبير للصراع في شرق جمهورية الكونغو الديمقراطية، استولى المتمردون من حركة “إم 23” على مدينة جوما، عاصمة إقليم شمال كيفو التي يبلغ عدد سكانها 2 مليون نسمة، وقُتل ما لا يقل عن 773 شخصًا منذ أعلنت الحركة سيطرتها على المدينة في 27 يناير الماضي.
وتطورت الأحداث لتستولي الحركة على مدينة بوكافو، ثاني أكبر مدن شرق الكونغو الديمقراطية، في 14 فبراير الحالي، في أحدث تقدم ميداني لهم منذ التصعيد الكبير في معاركهم المستمرة منذ سنوات مع القوات الحكومية الكونغولية.
وانتقد رئيس الكونغو فيليكس تشيسكيدي ما وصفه بفشل المجتمع الدولي في وقف العدوان من جانب المتمردين، وهاجم “الطموحات التوسعية” لرواندا المجاورة في المنطقة الغنية بالمعادن، حيث تدعم رواندا الجماعة المسلحة المناهضة لحكومة الكونغو.
ويُعد الاستيلاء على جوما أمرًا بالغ الأهمية باعتبار أنها مقاطعة حدودية كبيرة ومهمة استراتيجيًا في الكونغو الديمقراطية، كما أن شمال كيفو منطقة بركانية نشطة غنية بالمعادن المختلفة أبرزها الكولتان الذي يستخدم في المعدات الإلكترونية وصناعة الطيران.
كما أدى الاستيلاء على جوما إلى تفاقم التوتر بين جمهورية الكونغو الديمقراطية ورواندا، مما أثار احتمال اندلاع حرب أخرى بين الدولتين، حيث يقدر خبراء الأمم المتحدة أن هناك ما يصل إلى 4000 جندي رواندي يقاتلون إلى جانب “إم23” في جمهورية الكونغو الديمقراطية، في حين نفت رواندا هذه المزاعم قائلة إن هدفها هو التصدي لـ “القوات الديمقراطية لتحرير رواندا”؛ وهي جماعة متمردة تسعى إلى الإطاحة بالحكومة الرواندية.
وعن تداعيات الأزمة يعتقد الباحث في الشؤون الإفريقية، د. محمد تورشين، أن هذه السيطرة من قبل حركة “إم 23” حرّكت موازين القوى السياسية والأمنية في المنطقة، باعتبار أن الحركة لم تكن بذات التأثير الكبير قبل ذلك وهذا يفرض تغيير في المعادلة السياسية.
وقال “تورشين” لـ “قراءات إفريقية” أن منطقة البحيرات العظمى أصبحت مضطربة بهذه السيطرة، وهناك رغبة جادة لاستعادة الأمن والاستقرار لأن استمرار سيطرة “إم 23” على جوما سيفتح الباب لسيطرتها على كافة المنطقة الشرقية، وهذا سيهدد أمن واستقرار منطقة البحيرات العظمى.
وأوضح أنه نتيجة الدعم الرواندي أصبحت علاقة البلدين في حالة من الفتور وعدم الاستقرار، لذا قطع البلدين العلاقات الدبلوماسية بشكل رسمي، ويتوقع “تورشين” أن تتوتر العلاقات طالما استمر الدعم من قبل رواندا لحركة “إم 23″، وربما تدعم الكونغو الديمقراطية “القوات الديمقراطية لتحرير رواندا”، التي إذا توفر لها الدعم والغطاء السياسي فسوف تُسهم بشكل او بآخر في زعزعة أمن واستقرار رواندا، لأن أي عمليات عسكرية داخل حدود رواندا سيؤثر على المشروع الاقتصادي والتنموي والصورة الزاهية لرواندا.
كما سيؤدي تصعيد الصراع إلى تعميق الأزمة الإنسانية الخطيرة في المنطقة، ففي مارس 2024، أفادت الأمم المتحدة أن عدد النازحين داخليًا في جمهورية الكونغو الديمقراطية وصل إلى 7.2 مليون شخص، وتشير التقديرات إلى أن أكثر من 6 ملايين مدني في شرق جمهورية الكونغو الديمقراطية يواجهون الآن مستويات عالية من انعدام الأمن الغذائي.
تاريخ مشتعل:
وتعود جذور الصراع إلى الانقسامات العرقية العميقة التي أدت إلى الإبادة الجماعية في رواندا عام 1994م؛ ففي أعقاب الإبادة الجماعية قتلت قبائل الهوتو العرقية ما يقرب من 800 ألف من أقلية التوتسي، وفر العديد من الهوتو عبر الحدود إلى جمهورية الكونغو الديمقراطية واستقروا في عدة مناطق بما في ذلك شمال كيفو.
وعليه تسعى حركة “إم 23” إلى العمل كقوة دفاع عن النفس لصالح التوتسي الكونغوليين ضد التمييز الذي يتعرضون له من جانب جمهورية الكونغو الديمقراطية والجهات الفاعلة غير الحكومية، ويشمل ذلك استهدافهم من جانب “القوات الديمقراطية لتحرير رواندا”.
ويعود تأسيس “إم 23” إلى 6 مايو 2012 حين انشق عسكريون من قومية التوتسي عن الجيش الكونغولي، بعد أن انضموا إليه بموجب اتفاق 23 مارس عام 2009، محتجين على تنفيذه، وأسسوا حركة مسلحة عرفت باسم “إم 23”.
وخاضت الحركة قتالًا ضاريًا ضد حكومة كينشاسا، وتمكنت من تحقيق انتصارات ميدانية على الجيش الكونغولي والمليشيا المناصرة له، لكنها سرعان ما خسرت المعركة واستسلم مئات من مقاتليها وفر آخرون إلى دول الجوار.
ثم عادت الحركة بقوة إلى الواجهة في أواخر 2021، فسيطرت على مناطق عدة بإقليم كيفو الشمالي، ثم تزايدت وتيرة نشاطها المسلح واستمرت المعارك الدائرة بينها وبين الجيش الكونغولي والمليشيا المناصرة له طوال عامي 2023 و2024. وفي مارس 2024 تعثرت مفاوضات سلام بين الطرفين كان يقودها الرئيس الأنغولي جواو لورنسو.
جهود الوساطة.. إلى أين؟
اجتمع زعماء تكتلات إقليمية من شرق وجنوب إفريقيا في تنزانيا في 8 فبراير الحالي للبحث عن حل للصراع في شرق الكونغو الديمقراطية، ودعا الرئيس الكيني وليام روتو، الذي يرأس حاليا مجموعة شرق إفريقيا، إلى وقف إطلاق النار الفوري لأنه السبيل الوحيد الذي يمكن من خلاله توفير الظروف اللازمة للحوار وتنفيذ اتفاق سلام شامل.[1]
حيث تتهم كيغالي جمهورية الكونغو الديمقراطية باستضافة القوات الديمقراطية لتحرير رواندا، من ناحية أخرى، تتهم كينشاسا رواندا بدعم وتسليح حركة “إم 23” التي تسعى إلى السيطرة على إقليمي كيفو الشمالي والجنوبي.
وعلى الرغم من التوترات الحالية بين كينشاسا وكيغالي، فقد انخرطت الحكومتان قبل بضع سنوات في جهود تعاونية لحل المشكلة التي تفرضها الجماعات المسلحة العديدة التي تعمل في شرق جمهورية الكونغو الديمقراطية، ولكن في السنوات الأخيرة تدهورت العلاقات بين كينشاسا وكيغالي بشكل كبير، مما أدى إلى بذل جهود إقليمية للتوسط في السلام.
في حديثه لـ “قراءات إفريقية” يقول الباحث وكبير قادة مشروع منطقة البحيرات العظمى بمعهد العدالة والمصالحة بجنوب إفريقيا[2]، د. باتريك هاجاياندي[3]، أنه من الصعب توقع نتيجة جهود الوساطة التي دعت إليها كينيا بين جمهورية الكونغو الديمقراطية ورواندا، ففي الماضي كانت هناك أنماط من عمليات الوساطة لكنها فشلت بسبب عدم الالتزام من كلا الجانبين.
ويرى “هاجاياندي” أن المتمردين لا يهتمون باتفاقية السلام من أجل السلام؛ بل هي استراتيجية تسمح لهم بمواصلة السيطرة على المناطق الغنية بالمعادن، حيث تشير التقديرات إلى أن إحدى المناطق التي تحتلها حركة “إم 23” والمعروفة باسم “روبايا” تنتج الكولتان بقيمة حوالي 800 ألف دولار أمريكي شهريًا، وهذا بالنسبة لجماعة متمردة يُمثل الكثير من التمويل الذي يسمح بمواصلة الحرب.
وأضاف أن جيش جمهورية الكونغو الديمقراطية أظهر ضعفًا في التصدي للهجمات التي تشنها حركة “إم 23″، وفي هذا السياق يعتقد “هاجاياندي” أن الجانب الأقوى يميل إلى إملاء شروط السلام وهذا ما قد يؤدي إلى فشل جهود الوساطة، وأن فعاليتها سوف تعتمد على قدرة الحكومة الكونغولية على حشد الدعم الكافي لتغيير توازن القوى في ساحة المعركة وإحداث تأثير على المستوى الدبلوماسي.
وفيما يتعلق بالوسطاء يقول “هاجاياندي” أن العديد من الكونغوليين ينظرون إلى كينيا أنها أقرب إلى رواندا منها إلى جمهورية الكونغو الديمقراطية وهذا يمكن أن يعرقل الوساطة، وأشار أن مما قد يعرقل جهود الوساطة أيضًا هي المصالح الوطنية المختلفة التي تسعى كل دولة مشاركة إلى تحقيقها، ويشمل هذا المصالح الجيوسياسية والاقتصادية والأمنية لكل دولة.
البحيرات العظمى وحرب شاملة.. آفاق الحل:
وفي سياق حل الأزمة يرى محللون أن وقف إطلاق النار بين جمهورية الكونغو الديمقراطية وحركة “إم23” ليس كافيًا، والمطلوب هو حل جذري ودائم يعالج الأسباب الحقيقية والمخاوف التي تدفع الصراع المسلح إلى الاشتعال.
خاصة وأن منطقة البحيرات العظمى الإفريقية واحدة من أكثر المناطق الغنية بالموارد الطبيعية، والتي تضم دول: جمهورية الكونغو الديمقراطية، رواندا، بوروندي، أوغندا، وتنزانيا، وتلعب الصراعات في الكونغو الديمقراطية دورًا رئيسيًا في زعزعة استقرارها.
يرى د. باتريك هاجاياندي أن حل الأزمة الحالية بين الكونغو الديمقراطية ورواندا يتطلب أولاً تحديد ماهية الأزمة برمتها، فهناك قضايا يتم التعبير عنها بشكل علني باعتبارها السبب وراء محاولة حركة “إم 23” الإطاحة بحكومة الرئيس فيليكس تشيسكيدي، وعلى رأس هذه القضايا حماية أقلية التوتسي الكونغولية التي يُزعم أنها تتعرض للاضطهاد، ولكن “هاجاياندي” يعتقد أن هذا مجرد ستار، وأن السبب الحقيقي وراء هذا العنف هو سبب اقتصادي للسيطرة على المعادن الاستراتيجية.
وأضاف أنه من أجل التوصل إلى حل دائم يجب تحديد مَن الذي يحرك خيوط هذه الحرب التي استمرت ثلاثين عامًا، وأكد أن الدعم الذي تقدمه الحكومة الرواندية للمتمردين واللامبالاة التي تبديها إزاء المعاناة الشديدة التي يعيشها المدنيين؛ تشير إلى أن هناك بعض الشركات والشخصيات القوية التي تُفضل الوضع الراهن.
وعن منطقة البحيرات العظمى قال “هاجاياندي” أنها تتأثر إلى حد كبير بانعدام الأمن في شرق الكونغو الديمقراطية، وأبرز الآثار الجانبية هي الأزمة الإنسانية الناجمة عن النزوح الجماعي للأشخاص الذين شردهم العنف، وتدفق اللاجئين القادمين من الكونغو الديمقراطية إلى البلدان المجاورة مثل بوروندي ورواندا وأوغندا.
هذا وأكد “هاجاياندي” أن الحرب الجارية تهدد بإشعال منطقة البحيرات العظمى بأكملها، فهناك خلاف دبلوماسي خطير بين بوروندي ورواندا أدى إلى إغلاق الحدود بين البلدين، كما تتهم بوروندي رواندا بتدريب اللاجئين البورونديين عسكريًا وإرسالهم إلى ساحة المعركة في الكونغو الديمقراطية بهدف إحداث الفوضى على الأراضي البوروندية، كما تتهم رواندا بوروندي بدعم الجيش الكونغولي وميليشياته، وبحسب “هاجاياندي” يؤدي هذا الوضع إلى زيادة التوترات التي قد تتطور إلى حرب شاملة بين العديد من بلدان المنطقة.
وختامًا..
ومع استمرار النزاع في شرق الكونغو الديمقراطية يبقى الحل الدائم مرهونًا بالتوصل إلى تسوية سياسية شاملة تعالج الجذور العرقية والاقتصادية للصراع، فهل تتكشف أطراف الصراع لتعلن عن رغبتها في حلول جادة؟ أم يستمر الوضع على ما هو عليه من المماطلة والانكار لتحقيق مكاسب اقتصادية على حساب الشعوب؟
………………………………
[1]https://www.aljazeera.net/news/2025/2/8/%D8%B2%D8%B9%D9%85%D8%A7%D8%A1-%D9%85%D9%86-%D8%B4%D8%B1%D9%82-%D9%88%D8%AC%D9%86%D9%88%D8%A8-%D8%A3%D9%81%D8%B1%D9%8A%D9%82%D9%8A%D8%A7-%D9%8A%D8%B3%D8%B9%D9%88%D9%86
[3] https://paren.org.za/employees/patrick-hajayandi/