لا يزال صدى إعلان الرئيس الأمريكي دونالد ترامب “التجميد شبه الكامل” لعمل الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية (USAID) متواصلاً؛ في ظل ما يحمله من تداعيات على عدد كبير من البلدان النامية التي تتلقى مساعدات عبر برامج الأمن الغذائي والرعاية الصحية والتعليم، وكذا ما يحمله من انعكاسات على النفوذ والمكانة الدوليَّيْن للولايات المتحدة مع الانتقال إلى عالم متعدد الأقطاب.
وسط فوضى انتقالية، نفَّذ ترامب، في يومه الأول في المنصب -بتاريخ 20 يناير الماضي- تجميدًا لمدة 90 يومًا لمعظم برامج الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية في جميع أنحاء العالم، مع وضع جميع العاملين فيها تقريبًا في إجازات إدارية([1])، لاحقًا قررت إدارته إلغاء عمل “الوكالة”، ونقل البرامج الباقية لها تحت إشراف وزارة الخارجية([2])، مع إعلان الشروع في مراجعة كافة برامج المساعدات الخارجية؛ لـ”ضمان توافقها مع السياسة الخارجية” لبلاده في إطار أجندته “أمريكا أولاً”([3]).
وفي إفريقيا جنوب الصحراء الكبرى؛ حيث تعتمد العديد من البلدان على المساعدات الأمريكية في مجالات الصحة والتعليم والبنى التحتية؛ فإن تجميد هذه المساعدات قد يؤدي إلى تفاقم التحديات الاقتصادية والاجتماعية المختلفة، مما قد يؤثر سلبًا على استقرار المنطقة برُمّتها، أو قد يُمثّل فرصة للاعتماد على الذات، وتعزيز مكانتها بين القوى الدولية المختلفة.
يتناول هذا المقال المساعدات الأمريكية المُقدَّمة لإفريقيا جنوب الصحراء الكبرى، بالتركيز على دور الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية، وأبرز البلدان المستفيدة منها، وانعكاسات التجميد على كلٍّ من الولايات المتحدة، وإفريقيا بالتركيز على مجال الصحة، وهل يُمثِّل ذلك فرصة للبلدان الإفريقية للخروج من العباءة الغربية لصالح أطراف دولية أخرى، أو لتعزيز مصالحها الوطنية عبر الاستغلال الأمثل لمواردها وإمكاناتها المحلية الوطنية.
قوة ناعمة أمريكية في إفريقيا:
تُعدّ الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية، المنظمة الرئيسية المسؤولة عن إدارة عشرات المليارات من الدولارات من المساعدات الإنسانية في الخارج كل عام، أنشأها الرئيس الأمريكي الأسبق جون كينيدي بموجب أمر تنفيذي في ذُروة الحرب الباردة عام 1961م؛ لمواجهة النفوذ السوفييتي في الخارج، في وقتٍ تحمل فيه أهدافًا معلنة منها: معالجة الفقر العالمي، وتعزيز الحكم الديمقراطي، وتعزيز الاستقرار في المناطق النامية.
وفي عام 1998م، أضفى الكونجرس الطابع الرسمي على دورها، واعتبرها مؤسسة مستقلة تعمل في إطار السلطة التنفيذية وتحت التوجيه السياسي لوزير الخارجية، يتم تمويلها مِن قِبَل الكونجرس، الذي يُخصِّص لها الأموال من خلال مخصصات الدولة والعمليات الخارجية والبرامج ذات الصلة في كل سنة مالية.
وهيكل المساعدات الأمريكية الخارجية مُعقَّد؛ حيث تتولى أكثر من 20 وكالة حكومية تقديمها؛ فالوكالة الرئيسية للمساعدات هي الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية، وهي المسؤولة عن نحو 60% من المساعدات الخارجية، تليها وزارات: الخارجية بنحو 30%، والخزانة بنحو 5%، والصحة والخدمات الإنسانية بنحو 3%، ووزارتا الدفاع والزراعة ومؤسسة تحدّي الألفية بنحو 1%([4])، علاوةً على ذلك، تُعدّ الولايات المتحدة أكبر جهة مانحة للمساعدات الإنسانية على مستوى العالم.
والوكالة الأمريكية للتنمية تُشكّل الركيزة التنموية لنهج الولايات المتحدة ثلاثي الأبعاد، في التعامل مع المجتمع الدولي: الدبلوماسية، والتنمية، والدفاع. وتتنوع أنشطتها، وتهدف من بين مهام أخرى إلى: تقديم المساعدة للدول ذات الأهمية الإستراتيجية والدول التي تعاني من الصراع، وقيادة الجهود للتخفيف من حدة الفقر والمرض والاحتياجات الإنسانية، وتعزيز المصالح التجارية من خلال دعم النمو الاقتصادي في البلدان النامية.
وبرامج المساعدات الخارجية الأمريكية -عمومًا- عادة ما يقابلها انتقادات مِن قِبَل جمهوريين -بمن فيهم ترامب- ممن يرونها غير قانونية وغير أخلاقية ومضيعة للوقت والأموال وتُروّج لأجندة ليبرالية لا تنسجم مع أفكارهم المحافظة، وهو ما يقابله على الضفة الأخرى تحذيرات مِن قِبَل ديمقراطيين جراء العواقب الكارثية لقرار التجميد أو وقف المساعدات([5]).
(شكل 1) الأرقام التقريبية (بالمليار دولار) للمساعدات الأمريكية خلال الفترة من 2021 إلى 2024م (من إعداد الباحث)([6])
يوضّح الشكل السابق الأموال التي قدَّمتها الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية إلى بلدان إفريقيا جنوب الصحراء الكبرى؛ حيث خصَّصت نِسَبًا سنوية معتبرة من إجمالي مخصصاتها الدولية للمنطقة خلال الفترة من 2001 إلى 2024م، ففي العقد الأول من القرن الحادي والعشرين تراوحت مخصصاتها لإفريقيا جنوب الصحراء ما بين مليارين و6 مليارات دولار، وفي العقد الثاني ما بين 6 و10 مليارات، وفي السنوات الأربع الماضية تراوحت ما بين 10 و13 مليارًا، بارتفاع مطرد بالتوازي مع ارتفاع مخصصات “الوكالة” وكافة المساعدات الأمريكية الخارجية.
وقد شهدت المساعدات الأمريكية لإفريقيا نموًّا ملحوظًا منذ مطلع العقد الأول من الألفية، وغالبًا ما تكون المنطقة أكبر مستفيد إقليمي من المساعدات الأمريكية سنويًّا؛ حيث يتم تنفيذ جزء كبير منها عبر مبادرات متعددة تطال مختلف الدول وتُركِّز بشكل كبير أو كلي على القارة، على غرار: خطة الطوارئ الرئاسية للإغاثة من الإيدز، ومبادرة الرئيس لمكافحة الملاريا، ومبادرة إطعام المستقبل، كما تُشكّل المساعدات الحكومية المباشرة بين الحكومات نسبة صغيرة من المساعدات الأمريكية لإفريقيا؛ حيث تُنفّذ معظم البرامج عبر متعاقدين أمريكيين ومنظمات غير حكومية، إضافةً إلى الجهات الفاعلة متعددة الأطراف مثل وكالات الأمم المتحدة([7]).
وكانت أكبر الدول الإفريقية المستفيدة من المساعدات التي تُديرها وزارة الخارجية والوكالة الأمريكية للتنمية الدولية في السنة المالية 2022م على الترتيب هي: نيجيريا، وموزمبيق، وتنزانيا، وأوغندا، وكينيا، هذه البلدان جاءت في قائمة تضم أكبر 10 دول متلقية لهذه المساعدات على مستوى العالم([8]). في حين جاءت بلدان إثيوبيا وجمهورية الكونغو الديمقراطية والصومال وجنوب إفريقيا ونيجيريا وجنوب السودان، في قائمة الأكبر في السنة المالية 2023م([9]).
(شكل 2) إجمالي مخصصات المناطق الجغرافية لتمويلات “USAID” لعام 2023م، وفق بيانات مركز أبحاث الكونجرس (من إعداد الباحث)
يبين شكل (2) موقع إفريقيا جنوب الصحراء وأنها في مركز متقدم من إجمالي مخصصات المناطق الجغرافية لتمويلات الوكالة للعام 2023م؛ إذ تلقت 12.1 مليار دولار بنسبة 29% من نحو 43.5 مليار تمثل إجمالي المخصصات الدولية([10]) الدور الكبير الذي ساهمت فيه المساعدات الأمريكية للمنطقة، مع ذلك تظل هذه المساعدات قوة ناعمة تعضد من مكانة الولايات المتحدة الدولية.
الانعكاسات على المكانة الأمريكية في إفريقيا:
تهدف المساعدات الخارجية الأمريكية عادة إلى دعم التنمية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والأمن في البلدان المتلقية، وفي الوقت نفسه، تعمل هذه المساعدات أيضًا على تعزيز المصالح الأمريكية، وقد يحمل تجميد أو وقف المساعدات انعكاسات سلبية على المكانة الأمريكية في إفريقيا؛ حيث من غير المستبعَد أن يختصم من رصيدها لصالح أطراف أخرى، أهمها روسيا والصين.
ويمكن إجمال أبرز التداعيات والانعكاسات المحتملة في هذا الإطار وفق المحاور التالية:
- بالنسبة للمكانة الدولية والمصالح الأمريكية:
– المساهمة في تآكل القوة الناعمة الأمريكية، في ضوء اعتبار عمل “الوكالة” أمرًا بالغ الأهمية لتعزيز الشراكات الأمريكية مع الخارج؛ إذ قد يُسهم قرار التجميد سلبًا على شراكات واشنطن مع القطاع الخاص في قارة إفريقيا التي تضم بلدانًا من المتوقع لها أن تكون من أسرع الاقتصادات نموًّا في العالم([11]).
– من المرجَّح أن تؤدي عرقلة الجهود الدولية في مكافحة الفقر، وانتشار الأمراض، ومكافحة الإرهاب، وتدفقات الهجرة -من بين أولويات الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية- إلى تكثيف الأزمات الإنسانية في جميع أنحاء العالم([12]).
– أظهرت برامج المساعدات الأمريكية الأخرى -مثل خطة مارشال التي أعادت بناء أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية- كيف يمكن أن تُؤمّن التحالفات، وتُعزّز المجتمعات والأسواق الحرة، وقد ساعد الرخاء في أوروبا بعد الحرب في تحقيق مزيد من الازدهار لأمريكا.
وهذا يعني أن انسحاب العاملين الأمريكيين في “الوكالة” وغيرها من الوكالات الدولية، بمثابة استبعاد للولايات المتحدة بشكل أساسي من آليات تبادل المعلومات الدولية التي تحافظ على السلامة العامة، وهو ما يعني صعوبة تبادل المعلومات حول التهديدات الصحية الناشئة في الولايات المتحدة مع بقية دول العالم والعكس.
- إفساح المجال أمام التنافسين الدوليين:
– على سبيل المثال، ساهمت مبادرة “الحزام والطريق” الصينية -منذ إنشائها عام 2013م- في مشاريع البنية التحتية في جميع أنحاء آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية، مما عزَّز نفوذ بكين الدولي، على غرار دورها في تمويل مشاريع بنية تحتية ضخمة في إفريقيا، بما في ذلك السكك الحديدية في كينيا والموانئ في جيبوتي، مما أعطى الصين نفوذًا كبيرًا هناك، مع خلق موطئ قدم في منطقة ذات أهمية إستراتيجية للولايات المتحدة.
– قد تسعى روسيا أيضًا إلى استغلال الأمر ذاته، في ضوء استهدافها المبادرات الصحية الأمريكية في إفريقيا، أو الاستمرار في نشر الفوضى كما في بلدان الساحل الإفريقي، كما أنها من الممكن أن تكرر خططها في أمريكا الوسطى واللاتينية في البلدان الإفريقية، حين موَّلت حملات تهدف إلى نشر المشاعر المعادية للولايات المتحدة([13]).
انعكاسات تجميد عمل “الوكالة” على بلدان إفريقيا جنوب الصحراء:
تعتمد العديد من البلدان في إفريقيا جنوب الصحراء بشكل كبير على الدعم المقدَّم من الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية، وثمة تحذيرات من التداعيات والآثار السلبية على صحة ملايين البشر من الأفارقة جراء تجميد عمل “الوكالة” وخروج الولايات المتحدة من منظمة الصحة العالمية، التي تُعدّ واشنطن أكبر جهة دولية مانحة لها؛ حيث تساهم بنحو 18% من إجمالي تمويل المنظمة([14]).
وقد لعبت المبادرات الأمريكية في مجال الصحة، دورًا بارزًا في تحسين وتعزيز النظام الصحي بشكل عام في إفريقيا جنوب الصحراء؛ إذ يوضح (شكل 3) أن ميزانية المساعدات المقدمة لإفريقيا لعام 2024م توزعت إلى: 73% لبرامج الصحة، و14% لدعم النمو الاقتصادي، و5% لبرامج الديمقراطية وحقوق الإنسان والحكم الرشيد، و5% للمساعدات المتعلقة بالسلام والأمن، و3% لتمويل التعليم والخدمات الاجتماعية([15]).
(شكل 3) الميزانية المقترحة للمساعدات الأمريكية المقدمة لإفريقيا للعام 2024م (من إعداد الباحث)
وتشمل برامج الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية في مجال الصحة في إفريقيا جنوب الصحراء:
(1) برنامج الوقاية من فيروس نقص المناعة البشرية/ الإيدز “بيبفار” PEPFAR: وهو مبادرة حكومية تهدف إلى إنقاذ حياة أولئك الذين يعانون من الإيدز في مختلف أنحاء العالم، ومنذ تأسيسه عام 2003م تحوَّل من برنامج طوارئ إلى برنامج يُركِّز بشكل مباشر على السيطرة المستدامة على الوباء.
واستثمرت الولايات المتحدة من خلال البرنامج ما لا يقل عن 8 مليارات دولار في كينيا، وساهم ذلك في: ضمان حصول قرابة 1.3 مليون شخص على مضادات الفيروسات، والختان الطبي الطوعي للوقاية من الفيروس لأكثر من 52,000 ذكر، وتقديم اختبارات واستشارات لحوالي 3.1 ملايين شخص، وتقديم الرعاية والدعم لأكثر من 600 ألف طفل تأثروا بالإيدز، وتقديم علاجات مضادة للفيروسات لما يزيد عن 32 ألف امرأة حامل مصابة بالفيروس للحد من خطر انتقاله من الأم إلى الطفل([16]).
وفي أوغندا -حيث يعيش حوالي 1.4 مليون شخص مع الفيروس- تم تمويل 60% من برنامج المكافحة من خلال البرنامج، بينما جاء حوالي 20% من الصندوق العالمي (الممول جزئيًّا مِن قِبَل برنامج بيبفار).
ويواجه البرنامج، الذي يُعتبر شريان حياة لملايين الأفارقة، تهديدات منذ ما قبل التجميد الأخير للمساعدات، ففي عام 2024م، وافق الكونجرس على تمويل لمدة عام واحد فقط بدلاً من التمويل المعتاد لمدة خمس سنوات، بعد أن تصاعدت معارضة المحافظين ضده على مدى السنوات الأخيرة؛ بسبب مخاوف من أن بعض الأموال قد تُستخدَم في تمويل الإجهاض.
ومن المقرر أن تنتهي الموافقة الحالية في مارس المقبل، وهو ما يتزامن مع فترة مراجعة المساعدات التي تستمر 90 يومًا، ومع انتهاء التفويض الحالي الشهر المقبل، وفي ظل الأجواء السياسية الراهنة، ثمة توقعات تُرجّح عدم تجديده.( ([17]
(2) مكافحة تفشي الأمراض المعدية الناشئة (EID) من خلال برنامج الأمن الصحي العالمي (GHS): يهدف البرنامج إلى التخفيف من انتشار وشدة الأوبئة والتهديدات الأخرى الناشئة عن الأمراض المعدية، ويعمل من خلال شراكات مع الدول والمنظمات العالمية والإقليمية والمحلية، على بناء قدرات مستدامة وقابلة للقياس للكشف السريع عن هذه الأمراض.
وقامت الوكالة الأمريكية للتنمية، بتمويل وتطوير البنية التحتية للمختبرات وأنظمة المراقبة في تنزانيا، ما مَكَّن الحكومة التنزانية من اختبار واكتشاف وتحليل الأمراضي المعدية الناشئة بدقة وأمان.
(3) برنامج تحسين صحة الأم والطفل: يشمل مبادرات تهدف إلى خفض معدلات وفيات الأمهات والرضع والدعم الغذائي، وحملات التطعيم، وتحسين خدمات الرعاية الصحية.
ومنذ عام 2000م، تم تحقيق تقدُّم كبير في تحسين صحة الأمهات والأطفال؛ حيث انخفضت وفيات الأطفال دون سن الخامسة بنسبة 58%، كما انخفضت وفيات الأمهات بنسبة 42% في 25 دولة نامية ذات أولوية ضمن برامج “الوكالة”.
(4) مبادرة الرئيس الأمريكي لمكافحة الملاريا (PMI): انطلقت المبادرة عام 2006م كبرنامج مدته خمس سنوات بهدف خفض وفيات الملاريا إلى النصف في 15 دولة إفريقية.
وقدَّمت المبادرة مبلغ 530 مليون دولار أمريكي لكينيا لدعم إستراتيجية مكافحة الملاريا، وزيادة الوعي بأهمية تشخيص المرض وعلاجه، وتعزيز استخدام الناموسيات المعالجة بالمبيدات الحشرية، ونتيجة لذلك، انخفض معدل انتشار الملاريا في كينيا بنسبة 50%؛ حيث تراجع من 38.1% إلى 18.9%.
(5) برنامج تعزيز تغذية الرُّضَّع من خلال برنامج “إطعام المستقبل”(Feed the Future): يعمل البرنامج منذ 15 عامًا؛ حيث بدأ عام 2010م استجابةً لأزمة الغذاء العالمية 2007/2008م، التي أدت إلى ارتفاع أسعار الغذاء وتأثرت بها المجتمعات الضعيفة.
ويهدف إلى دعم الأنشطة الخاصة بالتغذية، مثل المُكمّلات الغذائية الدقيقة، وتعزيز الرضاعة الطبيعية، وتقديم المساعدة للنساء المزارعات، ولتحقيق هذه الأهداف، موَّلت “الوكالة” دول إفريقيا جنوب الصحراء بمبلغ 6.2 مليار دولار أمريكي خلال الفترة من 2011 إلى 2022م، وقد ساهم البرنامج في تحسين حياة العديد من الأفراد؛ حيث أدى إلى انخفاض بنسبة 4% في التقزم بين الأطفال دون سن الخامسة في 12 دولة إفريقية([18]).
وقبل أيام، أعربت هيئة الصحة في غانا عن قلقها العميق بشأن تعليق خدمات المشتريات والتوزيع الممولة من الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية، محذرةً من أن هذه الخطوة قد تؤدي إلى اضطراب شديد في تقديم الرعاية الصحية في مناطق الشمال، والشمال الشرقي، والسافانا، هذه المناطق المناطق بشكل كبير على المخازن الطبية الإقليمية الشمالية لتوزيع الأدوية الأساسية واللقاحات والإمدادات الصحية.
ومن المحتمل أن يُؤثِّر تعليق المساعدات في غانا على عدة مجالات رئيسية في النظام الصحي، بما في ذلك البرامج الممولة من “الوكالة الأمريكية”، مثل دعم صحة الأم والطفل، والوقاية من الملاريا وعلاجها، وتنظيم الأسرة، وخدمات فيروس نقص المناعة البشرية/الإيدز([19]).
وفي الصومال، الذي يعاني من عدم الاستقرار، يعتمد بشكل شبه كامل على المساعدات الخارجية لرعاية النازحين بسبب النزاع المسلح، والذين يُقدَّر عددهم بـ3 ملايين شخص، وفقًا لمفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، كما تواجه الدولة الواقعة في شرق إفريقيا تداعيات الكوارث الطبيعية، وخاصة الجفاف وانعدام الأمن الغذائي.
وقد أنفقت “الوكالة الأمريكية” قرابة 400 مليون دولار في الصومال خلال عام 2021م، لدعم برامج الصرف الصحي، والتغذية الطارئة، وغيرها من المبادرات؛ حيث تم توجيه هذه الأموال عبر الحكومة والمنظمات غير الحكومية([20]).
ومع هذا المستوى من المساعدات، فليس من المستغرَب أن يؤثر تجميد برامج الصحة العالمية التابعة للوكالة الأمريكية للتنمية الدولية بشكل كبير على الدول الفقيرة والنامية في إفريقيا جنوب الصحراء الكبرى.
فرص إفريقيا:
ليس أدلّ على إمكانية تحويل البلدان الإفريقية “معاناة” تجميد المساعدات إلى بارقة أمل للخروج من العباءة الأمريكية، مما ذكره الرئيس الكيني السابق أوهورو كينياتا، حين رد على إعلان ترامب بالتجميد، وذلك أثناء حضور الزعيم الإفريقي قمة الأمن الصحي العالمي لمنطقة شرق إفريقيا في مومباسا، في 29 يناير 2025م.
كينياتا اعتبر -آنذاك- السلوك الأمريكي “فرصة لقادة إفريقيا لدعم شعوبهم، واستخدام موارد القارة في الأمور الصحيحة بدلاً من الأمور الخاطئة”، قائلاً: “رأيت بعض الأشخاص يبكون؛ لأن ترامب لم يعد يمنحنا المال، لماذا تبكون؟ إنها ليست حكومتكم، وليست بلادكم، ليس لديه أيّ سبب ليمنحكم شيئًا، أنتم لا تدفعون الضرائب في أمريكا، هذا بمثابة جرس إنذار لنا لنسأل: ماذا سنفعل لمساعدة أنفسنا؟”.
وأشار كينياتا إلى حقيقة مفادها أن العديد من الحكومات الإفريقية قادرة على الاستغناء عن المساعدات إذا استخدمت مواردها بحكمة، مشددًا على ضرورة إنفاق الموارد على تمويل المشاريع الصحية بدلاً من شراء الرصاص لقتل المواطنين الأفارقة، وأن الدول الإفريقية كان ينبغي أن تنشئ معاهد بحثية ومصانع لتصنيع اللقاحات، وأن يكون ذلك على رأس أجندتها حتى تكون متاحة بسهولة عند الحاجة إليها([21]).
ما يمكن وصفه بـ”صرخة كينياتا” يتسق مع ما طرحه الأكاديمي المصري البروفيسور حمدي عبد الرحمن حسن، في مقال كتبه بمركز الأهرام للدراسات السياسية والإستراتيجية، أكَّد فيه على أن الأفارقة “أمام لحظة تاريخية تشير إلى نهاية العصر الأمريكي في عهد ترامب”.
ولتخفيف عواقب خفض التمويل الأمريكي، نصح “حسن” الدول الإفريقية بأن عليها أن “تتبنَّى إستراتيجية متعددة الجوانب” تركز على الحد من الاعتماد على المساعدات الخارجية مع تعزيز الشراكات الإقليمية والدولية، عبر عدة آليات:
أولاً: منح الأولوية لقضية “حشد الموارد المحلية” من خلال تعزيز الأنظمة الضريبية، والحد من التدفقات المالية غير المشروعة، وتعزيز الشفافية في الإنفاق العام لتمويل القطاعات الحيوية مثل الرعاية الصحية والتعليم.
ثانيًا: ينبغي العمل على دعم “التجارة البينية الإفريقية”؛ من خلال أُطر عامة مثل منطقة التجارة الحرة القارية لتعزيز المرونة الاقتصادية، وخلق فرص العمل، والحدّ من الاعتماد على الأسواق الأجنبية.
ثالثًا: تنويع الشراكات الدولية من خلال التعامل مع القوى الصاعدة مثل الصين والهند والاتحاد الأوروبي لتأمين مصادر بديلة للتمويل والاستثمار لمشاريع التنمية.
رابعًا: تشجيع الشراكات بين القطاعين العام والخاص؛ لجذب الاستثمارات في قطاعات البنية التحتية والتكنولوجيا والطاقة المتجددة، والاستفادة من رأس المال الخاص لسدّ الفجوات التي خلَّفها انخفاض المساعدات الأجنبية.
وأخيرًا: العمل على تعزيز التعاون الأمني الإقليمي لمواجهة التهديدات غير التقليدية، مثل الإرهاب والتهريب، دون الاعتماد المفرط على المساعدات العسكرية الخارجية، مستدلاً بمقولة الزعيم الغاني كوامي نكروما: “إن القوى التي تُوحّدنا هي قوى جوهرية، وأعظم من التأثيرات المفروضة علينا والتي تُفرّقنا”([22]).
إجمالاً، يبدو واضحًا أن البلدان الإفريقية هي الأكثر تأثرًا بتجميد المساعدات الأمريكية، بيد أنها أمام واحدة من الفرص التاريخية النادرة للخروج من العباءة الدولية عمومًا والأمريكية خصوصًا، وهي فرصة لن تمنحها فقط القدرة على المناورة بين القوى الدولية المتنافسة، بل أيضًا التفكر في كيفية النظر إلى استغلال مواردها بما يُحقِّق طموحاتها ومصالحها الوطنية.
خلاصة القول:
إن ما تُقدّمه الولايات المتحدة من مساعدات للدول الأخرى، خاصة الإفريقية، ليس مجرد هبة أو منحة، بقدر ما هي آليات واستثمارات تجنيها وتعود عليها بالنفع وتحمي مصالحها الجيواستراتيجية من جهة، ومن جهة أخرى تُضيّق المجال أمام التهديدات الخارجية على غرار الأوبئة والهجرة قبل أن تصل سواحلها.
كما أن تجميد المساعدات أو قطعها، قد يُفْقِد الولايات المتحدة ميزة “القوة الناعمة” في خضم تنافسها مع قوى باتت أكثر قربًا وموثوقية في شراكاتها مع البلدان الإفريقية، وتحديدًا الصين وروسيا، مما يدفعنا إلى القول بأن سياسة ترامب الأخيرة، السلبية منها تجاه إفريقيا، ترقى إلى وصفها بمن أطلق النار على قدميه.
…………………………..
[1] The White House, Reevaluating and Realigning United States Foreign Aid, 20 January 2025.
https://www.whitehouse.gov/presidential-actions/2025/01/reevaluating-and-realigning-united-states-foreign-aid/
[2] Ellen Knickmeyer, Trump administration plans to slash all but a fraction of USAID jobs, officials say, AP news, 7 February 2025
https://apnews.com/article/trump-usaid-musk-doge-7ec0a2b4032d4782d41c00164003b5de
[3] Shannon K. Kingston, MaryAlice Parks, and Karen Travers, Trump’s strict foreign funding freeze sparks panic among international aid groups, ABC News, 28 January 2025
https://abcnews.go.com/Politics/trumps-strict-foreign-funding-freeze-sparks-panic-international/story?id=118159432
[4] George Ingram, What is US foreign assistance?, Brookings 12 September 2024
https://www.brookings.edu/articles/what-is-us-foreign-assistance/
[5] Zeenat Hansrod, Global aid in chaos as Trump proposes to slash funds and dismantle USAID, Radio France Internationale, 5 February 2025
https://www.rfi.fr/en/international/20250205-confusion-worldwide-as-trump-dismantles-usaid-and-freezes-foreign-aid
[6] U.S. Department of State, Foreign assistance (n. d)
https://www.foreignassistance.gov/
[7] Tomás F. Husted (et al), U.S. Assistance for Sub-Saharan Africa: An Overview, Congressional Research Service, 7 November 2023
https://www.developmentaid.org/api/frontend/cms/file/2024/08/R46368.pdf
[8] Tomás F. Husted (et al), ibid
[9] Congressional Research Service, U.S. Agency for International Development (USAID): An Overview, 6 January 2025
IF10261
[10] Congressional Research Service, ibid.
[11] African Development Bank Group, Africa dominates list of the world’s 20 fastest-growing economies in 2024—African Development Bank says in macroeconomic report, 16 Februry 2024
https://www.afdb.org/en/news-and-events/press-releases/africa-dominates-list-worlds-20-fastest-growing-economies-2024-african-development-bank-says-macroeconomic-report-68751
[12] Diana Roy, What Is USAID and Why Is It at Risk?, Council on Foreign Relations, 7 February 2025
https://www.cfr.org/article/what-usaid-and-why-it-risk
[13] Michael Schiffer, Stop-Work Order on US Foreign Aid Puts China First and America Last, Just Security, 27 January 2025
https://www.justsecurity.org/106876/us-foreign-aid-stop-work-order/
[14] Lawrence O. Gostin and Alexandra Finch, WHO in Africa: three ways the continent stands to lose from Trump’s decision to pull out, The Conversation, 29 January 2025
https://theconversation.com/who-in-africa-three-ways-the-continent-stands-to-lose-from-trumps-decision-to-pull-out-248237
[15] Tomás F. Husted (et al), op. cit, P. 2.
[16] U.S. Embassy in Kenya, PEPFAR Factsheet 2023, 10 August 2023
https://common.usembassy.gov/wp-content/uploads/sites/5/2023/08/PEPFAR-Factsheet-2023.pdf
[17] Catherine Kyobutungi, Healthcare in Africa on brink of crisis as US exits WHO and USAid freezes funds: health scholar explains why, The Conversation, 10 February 2025
https://theconversation.com/healthcare-in-africa-on-brink-of-crisis-as-us-exits-who-and-usaid-freezes-funds-health-scholar-explains-why-248906
[18] Dennis Mithika, An overview of U.S. health assistance for Africa: Transforming lives in developing nations, Development Aid, 9 August 2024
https://www.developmentaid.org/news-stream/post/183303/overview-of-u-s-health-assistance-for-africa
[19] William Narh, GHS warns of critical disruptions as USAID halts support in Northern Regions, Citi News room, 4 February 2025
https://citinewsroom.com/2025/02/ghs-warns-of-critical-disruptions-as-usaid-halts-support-in-northern-regions/
[20] Omar Faruk, US aid freeze paralyzes NGOs working to help millions of internally displaced people in Somalia, AP, 12 February 2025 https://apnews.com/article/somalia-usaid-trump-internally-displaced-people-714b61139eea538201c6227bf491d914
[21] Anthony Kitimo, Uhuru Kenyatta: Stop crying, Trump aid freeze a wake-up call, Nation Africa, 29 January 2025 https://nation.africa/kenya/counties/mombasa/uhuru-kenyatta-stop-crying-trump-aid-freeze-a-wake-up-call–4906046
[22] – حمدي عبد الرحمن حسن، هل انتهى الزمن الأمريكي في إفريقيا؟، 11 فبراير 2025م، مركز الأهرام للدراسات السياسية والإستراتيجية
https://acpss.ahram.org.eg/News/21357.aspx?fbclid=IwY2xjawIZc9tleHRuA2FlbQIxMQABHf1YrzJ-smBZsG5yykOSFkOZk9scElwN9yyzE-cjmT4Crkt9JEX314kHbQ_aem_cyZgZZCHNi-ZtFfXHwuuAA