لا يزال التوتر يسود العلاقات الصومالية الإثيوبية، وبخاصة بعدما استغلت إثيوبيا حالة الوهن الممتدة التي تعيشها الصومال، ووقَّعت في الأول من يناير 2024م مذكرة تفاهم مع إقليم “أرض الصومال” الصومالي الانفصالي، تحصل بموجبها إثيوبيا على منفذ بحري لأغراض عسكرية وتجارية، مقابل الاعتراف بالإقليم كدولة مستقلة، وهو ما أثار حفيظة الصومال، لدرجة أنها استدعت سفيرها من أديس أبابا، وطردت السفير الإثيوبي من مقديشو، واعتبرت التصرف الإثيوبي انتهاكًا صريحًا للسيادة الصومالية، وعرضت الموضوع على مجلس الأمن الذي أحال الطرفين على الآليات القارية والإقليمية.
ولا تزال الأزمة بين البلدين في تصاعد مستمر، بينما يصرّ كل طرف على موقفه، بما ينذر باندلاع مواجهات مسلحة متعددة الأطراف في القرن الإفريقي، طرفاها الرئيسيان إثيوبيا والصومال، كلٌّ منها مدعوم من بعض القوى الخارجية، من أصحاب المصالح المتباينة في المنطقة، وفيما بدت آفاق التسوية بين الطرفين مستحيلة، أقدمت تركيا على خوض التجربة وتوسطت بينهما، في محاولة منها لتفادي الوقوع في مأزق تفعيل اتفاقية التعاون العسكري، والمنعقدة حديثًا بينها وبين الصومال، ولتقديم نفسها للأفارقة كدولة راعية للسلام.
وفي ظل التعقيدات التي تثيرها الجغرافيا السياسية لمنطقة القرن الإفريقي، وما تَفرضه من تقاطع في المصالح بين العديد من القوى الدولية الفاعلة، وفي ظل الخلفيات التاريخية للعلاقات الصومالية الإثيوبية؛ تثور شكوك قوية حول قدرة الدبلوماسية التركية، على احتواء الأزمة، وفرض تسوية عادلة بين طرفيها، ما يجعلنا نبحث في سياقات ومآلات هذه الوساطة من خلال المحاور التالية:
أولًا: طبيعة العلاقات الصومالية الإثيوبية
يضرب الصراع بين البلدين بجذوره عبر التاريخ، لكنه يكمن، ثم يثور على فترات قد تطول أو تقصر، فقد دخلا في مواجهات عسكرية كاد النصر فيها أن يتحقق للصوماليين، لولا التدخلات الخارجية التي أنقذت الأحباش في المراحل الأخيرة، وقد تعددت وتنوعت أسباب اندلاع هذه المواجهات.
ويؤرخ البعض لبداية هذا الصراع منذ “الحرب العدلية الحبشية”، والتي نشبت بين الصوماليين والأحباش في الربع الثاني من القرن السادس عشر، وغزا فيها الصوماليون الحبشة، وكادوا يفرضون سيطرتهم الكاملة عليها، لولا الدعم الذي تلقاه الأحباش من القوات البرتغالية بقيادة “كريستوفاو دا جاما”، وانحسرت الحرب، وكاد الهدوء يسيطر على علاقات الطرفين، بعدها احتل الإيطاليون والبريطانيون والفرنسيون كل أجزاء الأراضي الصومالية، وقدم الأحباش دعمًا عسكريًّا كبيرًا للبريطانيين في مواجهة المقاومة الصومالية والسودانية، وفي مقابل ذلك اقتطعت بريطانيا أجزاء من الأراضي الصومالية، وأهدتها للإمبراطور الحبشي منليك الثاني أواخر القرن التاسع عشر([1]).
وفي عام 1963م وبعد استقلال الصومال بفترة وجيزة، دعمت تمرُّد قاده صوماليو الأوجادين “الصومال الغربي” ضد الحكومة الإثيوبية، واشتبك الطرفان عسكريًّا، وبوساطة سودانية وقَّع الطرفان على اتفاق لوقف إطلاق النار وانسحب كل إلى حدوده، لكن حلم “الصومال الكبير” ظل يراود الصوماليين، فدخلوا عام 1977م في حرب استعادة الهضبة الصومالية، أو ما يُعرَف بإقليم أوجادين الصومالي المضموم إلى إثيوبيا، وتمكن الصوماليون من استعادة الغالبية العظمى من أراضيهم، غير أن دعمًا كبيرًا من السوفييت وحلفائهم، استنقذ إثيوبيا من هزيمة محققة، على إثر ذلك انسحبت القوات الصومالية([2]).
ونتيجةً للحرب الأهلية الصومالية عمَّت الفوضى البلاد، وحدث فراغ في السلطة، ظل حتى تشكلت حكومة اتحادية انتقالية ثم دائمة، ولاقت هذه الحكومات حربًا ضروسًا من بقايا قوات المحاكم الإسلامية، وتحديدًا ميليشيا الشباب المجاهدين، في تلك الأثناء تدخلت قوات إثيوبية في الصومال، بدعوى مساعدة الحكومات الصومالية، في مواجهة المحاكم الإسلامية، وما انبثق عنها من ميليشيات، وبقيت هذه القوات لاحقًا حتى وقتنا هذا، للعمل جنبًا إلى جنب مع الجيش الصومالي، ضمن قوات الاتحاد الإفريقي بتفويض من الأمم المتحدة([3]).
ثانيًا: كيف ولماذا أشعلت إثيوبيا فتيل الأزمة؟
يعاني النظام الإثيوبي الحاكم، من أزمات كبيرة على الجبهة الداخلية، بدءًا من حربه على التيجراي، مرورًا بالتمردات الإقليمية الأخرى، بالإضافة إلى الأزمة الاقتصادية الخانقة، وخوفًا من تأثير هذه الأزمات على شرعيته السياسية، عمد إلى تصدير أزماته خارج الحدود، في محاولة لإدارتها بافتعال أزمة خارجية (الإدارة بالأزمة)، لصرف الأنظار عن الأوضاع الداخلية المتردية، ولصناعة هدف وطني يجتمع عليه الفرقاء، على غرار ما جرى من قبل في شأن قضية سد النهضة.
وفي 13 أكتوبر 2023م، ألقى رئيس الوزراء الإثيوبي “آبي أحمد” خطابًا أمام البرلمان الاتحادي، تحدَّث فيه عن الضرورة الوجودية، لوصول دولته الحبيسة جغرافيًّا، إلى المياه الدافئة مرة أخرى، وذلك عبر ميناء سيادي على ضفاف البحر الأحمر، عن طريق الصومال أو إريتريا أو جيبوتي، وقال نريدُ بحرًا بأيّ ثمن، بغضّ النظر عن العواقب، ولحشد التأييد لقضيته استشهد في حديثه، بمقولة “علولا أنغيدا” (المعروف بـ”آبا نيغا”)، القائد العسكري الإثيوبي الأسبق، الذي قال في القرن التاسع عشر: إن “البحر الأحمر هو الحدود الطبيعية لإثيوبيا”([4]).
وتحقيقًا لخطته استغل “آبي أحمد” التطلعات الإثيوبية نحو امتلاك منفذ بحري، تعويضًا للسواحل التي افتقدتها إثيوبيا، بسبب استقلال إريتريا عنها أوائل تسعينيات القرن الماضي، ولم يجد أكثر استعدادًا لمنحه ما يريد من إدارة إقليم أرض الصومال، والتي لا تنفك تبحث عن اعتراف دولي بأيّ ثمن، فوعدهم بهذا الاعتراف نظير منحهم إياه منفذًا بحريًّا، مع علمه المسبق بأن مثل هذا التصرف، سوف يثير أزمة كبيرة مع الحكومة الاتحادية الصومالية([5]).
ولا شك أن التوتر شبه الدائم في العلاقات بين الجارتين، قد خلَّف قدرًا كبيرًا من المُدرَكات السلبية بينهما، أضف إلى ذلك أن مصالح بعض الفواعل من الدول ودون الدول، تقوم على استمرار حالة الفوضي وعدم الاستقرار في منطقة القرن الإفريقي، لذا تحرص دائمًا على إذكاء الصراعات في هذه المنطقة، وهو ما يفاقم الأزمة الحالية بين طرفيها، ويقلل من فرص تسويتها، ويُنذر بتطورها إلى مواجهات عسكرية واسعة النطاق.
ثالثًا: رد فعل الصومال تجاه المطامع الإثيوبية
كان رد الفعل الصومالي على مذكرة التفاهم سريعًا؛ حيث قال الرئيس الصومالي حسن شيخ محمود: إن توقيع إثيوبيا مذكرة تفاهم مع إقليم أرض الصومال، “يعد انتهاكًا صارخًا بحق الصومال، وهو ضد القوانين الدولية، ولا يمكن تنفيذه بأيّ حال من الأحوال”، وقد استصدرت الحكومة الصومالية قانونًا، يقضي بإلغاء مذكرة التفاهم الموقعة بين إثيوبيا وإدارة إقليم أرض الصومال، واستدعت “عبد الله محمد ورفا” سفير الصومال لدى أديس أبابا للتشاور، وطردت “عبد الفتاح عبد الله حسن” سفير إثيوبيا لدى مقديشو([6]).
كما دعت الحكومة الصومالية الأمم المتحدة، وجامعة الدول العربية، ومنظمة التعاون الإسلامي، والاتحاد الإفريقي، والهيئة الحكومية للتنمية (إيجاد)، إلى عقد اجتماع طارئ، بشأن “التدخل السافر الذي تقوم به دولة إثيوبيا الفيدرالية، ضد جمهورية الصومال الفيدرالية”، واستبعدت أيّ تفاوض مع إثيوبيا، ما لم تنسحب من الاتفاق الذي وقَّعته مع إقليم أرض الصومال([7]).
رابعًا: مواقف الأطراف المعنية
تثير الأزمة الإثيوبية اهتمام جلّ القوى الدولية، بالنظر إلى طبيعة الجغرافيا السياسية للمنطقة، وهناك إجماع دولي على حق الصومال في احترام سيادته ووحدة وسلامة أراضيه، وعلى ضرورة تسوية الأزمة سلميًّا بين إثيوبيا والصومال، وهو ما عبَّرت عنه الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي والاتحاد الإفريقي ومنظمة “إيجاد”، والولايات المتحدة، وكثير من الدول، ويمكن إجمال مواقف أهم الأطراف المعنية بهذه الأزمة فيما يلي:
1- الموقف المصري
تُعدّ مصر من أكثر الدول المعنية بالأزمة الصومالية الإثيوبية، من جهة أولى لأن أيّ اضطراب في منطقة القرن الإفريقي وباب المندب، لا شك ينعكس سلبًا على المصالح المصرية، المتعلقة بالملاحة البحرية عبر قناة السويس، ومن جهة ثانية لا تزال الأزمة المصرية الإثيوبية السودانية، الناشئة بسبب التعنت الإثيوبي في تسوية الخلافات بين البلدان الثلاثة، حول تشغيل سد النهضة الإثيوبي، تراوح مكانها دون تسوية.
وما أن ثارت الأزمة الصومالية الإثيوبية، حتى دعا الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، نظيره الصومالي حسن شيخ محمود إلى زيارة القاهرة، وفي ختام لقائهما في 21 يناير 2024م صرَّح الرئيس المصري، برفض بلاده لمذكرة التفاهم الموقعة بين إثيوبيا وإقليم أرض الصومال، وأكد على أن مصر لن تسمح بأيّ تهديد لدولة الصومال وأمنها وسلامة أراضيها، وقال في عبارة واضحة: إن “القفز على أرض من الأراضي لمحاولة السيطرة عليها… لن يوافق أحد على ذلك”، وشدّد على أن مصر لن تتردد في تقديم كل الدعم لدولة الصومال([8]).
غير أن تفعيل ما تباحث بشأنه الرئيسان استغرق وقتًا طويلاً نسبيًّا، ففي 20 يوليو 2024م أعلنت الحكومة الصومالية، أن مجلس الوزراء الصومالي وافق على اتفاقية دفاع مشترك مع مصر، وعلى الرغم من أن أيًّا من البلدين لم يعلن عن تفاصيل الاتفاق المصري الصومالي، إلا أنه وفي ظل صراع النفوذ الدائر في المنطقة، يرجح أن تتضمن هذه الاتفاقية، مجالات أوسع من التعاون العسكري بين البلدين([9]).
2- الموقف الإماراتي
تسعى الإمارات إلى بسط نفوذها في محيط باب المندب، وتتخذ في سبيل ذلك عددًا من الوسائل والأدوات من بينها التعاون العسكري، وقد استغلت الإمارات حالة عدم الاستقرار التي تمر بها الصومال، وعقدت معها عدة اتفاقيات لإنشاء قواعد عسكرية، من أهمها قاعدة الجنرال “جوردون” العسكرية في مقديشو، ويقوم فيها الإماراتيون بتدريب مجندي القوات المسلحة الصومالية، فضلاً عن قاعدة “علولا” في إقليم “بونت لاند”، وقاعدة أخرى في “كيسمايو” عاصمة إقليم جوبا لاند.
وكانت العلاقات الإماراتية الصومالية قد شهدت توترًا، في عهد الرئيس الصومالي السابق “محمد فرماجو”، إلا أن هذه العلاقات تحسَّنت في عهد الرئيس الحالي “حسن شيخ محمود”، وعلى الرغم من هذا التحسن في العلاقات بين البلدين، وعلى الرغم من إعلان الإمارات في اجتماع مجلس الجامعة العربية على المستوى الوزاري، عن دعمها سيادة الصومال واستقلاله ووحدة وسلامة أراضيه، وعن دعمها حكومة الصومال الفيدرالية في ممارسة كامل سيادتها على أراضيها([10])؛ إلا أن تقارير تتحدث عن يد للإمارات في عقد مذكرة التفاهم بين إثيوبيا وإقليم أرض الصومال، ويعزّز من هذه الفرضية ذلك التعاون الوثيق بين أبو ظبي وأديس أبابا، وفتور الموقف الإماراتي من القضية، وأن الإمارات نفسها لا تتورع عن التعامل مع حكومات الأقاليم الصومالية مباشرة، دون المرور بالحكومة الاتحادية، ولها في ذلك سابقة تعامل مع حكومة إقليم “صومالي لاند” الانفصالية([11]).
رابعًا: أسباب وأهداف التدخل التركي لتسوية الأزمة
اتخذت تركيا موقفًا واضحًا عبَّر عنه الرئيس التركي “رجب طيب أردوغان”، في اتصال هاتفي مع الرئيس الصومالي “حسن شيخ محمود”، في أعقاب الكشف عن مذكرة التفاهم بين إثيوبيا وإقليم أرض الصومال؛ حيث قال: إن “التوتر المثير للقلق بين الصومال وإثيوبيا ينبغي أن ينتهي على أساس وحدة أراضي الصومال”، وإن “تركيا تدعم الصومال في حربه ضد الإرهاب، وإن التعاون بين البلدين سيستمر تدريجيًّا”.
ولقد أتاح تفاقم الأزمة بين الصومال وإثيوبيا، فرصة مواتية لتعزيز الحضور التركي في محيط باب المندب، ففي فبراير 2024م عقدت تركيا اتفاقية مع الصومال للدفاع عن مياهه الإقليمية، وإعادة بناء قواته البحرية، فضلًا عن مجالات أخرى للتعاون الاقتصادي والعسكري([12]). وتعد هذه الاتفاقية سببًا رئيسيًّا، من أسباب التدخل التركي بالوساطة بين طرفي الأزمة، وذلك لأن نجاح تركيا في تسوية هذه الأزمة، يُحقّق الكثير من أهداف السياسة الخارجية التركية تجاه إفريقيا، وبخاصة تجاه منطقة القرن الإفريقي وباب المندب.
ويمكن إجمال أهم تلك الأسباب والأهداف من الوساطة التركية فيما يلي:
1- تجنب الوصول إلى الصراع المسلح بين الصومال وإثيوبيا
تُشكّل مذكرة التفاهم الموقّعة بين إثيوبيا وإقليم أرض الصومال، تهديدًا صريحًا لسيادة الصومال وأمنه البحري، وأي مساس به يدخل ضمن التهديدات، التي تُغطّيها اتفاقية الدفاع الموقَّعة بين تركيا والصومال، فإذا تفاقمت هذه المشكلة ولم يتم احتواؤها، وانزلق طرفاها إلى أتون صراع مسلح، ستكون تركيا مُطالَبة بالوفاء باتفاقيتها مع الصومال، والدفاع عن مصالحه وأمنه البحري، وهو ما يضعها في مواجهة مسلحة غير مرغوب فيها ألبتة مع إثيوبيا؛ فالعلاقات التعاونية التركية الإثيوبية آخِذة في النمو والترسخ، ويضر التحول من التعاون إلى الصراع مع إثيوبيا، بمصالح تركيا في الإقليم، بل وفي القارة كلها، ذلك بأن إثيوبيا تعد دولة محورية ومؤثرة في القرن الإفريقي، وفي المنظمات الإقليمية العاملة في شرق إفريقيا، وكذا في الاتحاد الإفريقي، فضلاً عن أنها تستضيف الاتحاد على أراضيها.
2- تعزيز الحضور والنفوذ التركي في القرن الإفريقي وفي عموم إفريقيا
ولئن كانت تركيا تُولي الحضور والنفوذ، في محيط ممر التجارة العالمي (باب المندب- قناة السويس) اهتمامًا خاصًّا، إلا أنها تسعى حثيثًا نحو تعزيز وجودها ونفوذها في سائر أقاليم القارة، وبخاصة في ظل الطفرة الهائلة التي حققتها في علاقاتها بإفريقيا في العقدين الأخيرين. ولا شك أن نجاح تركيا في احتواء الأزمة الصومالية الإثيوبية، سوف يعزّز من حضورها ونفوذها في القرن الإفريقي بل وفي القارة بأكملها([13])، ويقدمها للأفارقة كدولة راعية للسلام، حريصة على تسوية الصراعات “الإفريقية- الإفريقية” بالطرق السلمية، وهو نهج أقرب إلى المقاربة الصينية، منه إلى المقاربة الروسية في إفريقيا.
3- تعزيز مكانة تركيا كفاعل جديد في النظام الدولي
يموج العالم بالصراعات في مخاض عسير، نحو ولادة نظام عالمي جديد متعدد الأقطاب، ولا شك أن كل القوى التقليدية والصاعدة، تتطلع إلى حجز مكانة لها في مثل هذا النظام العالمي المنتظر، وسيجد المدقق في السياسات الخارجية التركية، مؤشرات كثيرة تنبئ عن رغبة تركيا الحثيثة، في وضع اسمها ضمن قائمة الفاعلين المؤثرين في مستقبل المشهد العالمي، فها هي تقود وساطات عديدة في بؤر الصراع المنتشرة حول العالم، وتحقق نجاحات ولو جزئية في كثير من الحالات، مثل صفقة الحبوب الروسية، واتفاق ترسم الحدود بين طاجيكستان وقيرغيزستان، وغير ذلك من الحالات، ويسهم نجاح تركيا في احتواء التوتر المتصاعد بين الصومال وإثيوبيا، في تعزيز مكانة تركيا في المنظومة الدولية الآخذة في التشكل.
خامسًا: مستقبل الوساطة التركية بين الصومال وإثيوبيا
انعقدت مطلع يوليو 2024م الجولة الأولى من المفاوضات غير المباشرة، بين وفدي الصومال وإثيوبيا عن طريق تركيا في العاصمة أنقرة، ولم يكشف أيّ طرف عما طرحه الوسيط التركي، أو عن مضمون ما تم التفاوض بشأنه، وعلى الرغم من تأكيد الأطراف على أن هذه الجولة، لم تُحرز أيّ تقدُّم باتجاه تسوية الأزمة؛ إلا أن الخارجية التركية أعلنت عن جولة ثانية سيتم عقدها مطلع الشهر القادم([14]).
غير أن نتائج الوساطة التركية تتوقف على عدد من المحددات؛ أهمها: التاريخ الطويل من الصراع بين إثيوبيا والصومال، طبيعة القضية بالنسبة للصومال، طبيعة القضية بالنسبة لإثيوبيا، طبيعة النهج التفاوضي للأطراف، قدرة الوسيط على تقديم حوافز للتسوية.
فأما عن الصراع بين إثيوبيا والصومال، فقد مر معنا كيف أنه شبه مستمر من القرن السادس عشر وحتى الآن، وأما عن طبيعة القضية بالنسبة للصومال فسيادتها وسلامة أراضيها، تعد مسألة مصيرية لا مساومة فيها، وأما عن طبيعة القضية بالنسبة لإثيوبيا، وإن كانت تعد مسألة حيوية؛ إلا أن لها بدائل عدة، وأما عن طبيعة النهج التفاوضي للأطراف، فمن خلال الخبرة التاريخية يمكننا القول بأن الطرفين سينتهجان سياسة حافة الهاوية، وأما عن قدرة تركيا على تقديم حوافز للتسوية، فتكاد تكون معدومة بالنسبة للصومال، لتعلق الأمر بالسيادة وسلامة إقليم الدولة، وضعيفة بالنسبة لإثيوبيا؛ لأن الأهداف الإثيوبية من وراء الأزمة، لا تقتصر على الجانب الاقتصادي وحده.
ومن هنا يمكننا القول بأن نتائج الوساطة التركية، سوف تدور في نطاق السيناريوهات التالية:
السيناريو الأول: نجاح تركيا في إبرام صفقة، بموجبها تُوافق الصومال على تمرير اتفاق المنفذ البحري، مقابل تعويض عادل تدفعه إثيوبيا للحكومة الاتحادية الصومالية، مع التعهد بعدم الاعتراف بانفصال إقليم أرض الصومال، وهو سيناريو مستبعد تمامًا؛ لأن الصومال لن توافق على أيّ مساس بسيادتها، بأيّ مقابل أيًّا كانت قيمته، كما أن إثيوبيا لن تدفع مقابلاً ماديًّا مرهقًا، في ظل أزماتها الاقتصادية، فضلاً عن أن إدارة إقليم أرض الصومال، لن توافق على الصفقة، من دون اعتراف بالإقليم كدولة مستقلة، وهو الهدف الأول والأخير للصفقة.
السيناريو الثاني: نجاح تركيا في إبرام صفقة بين الطرفين، تمنح الصومال بموجبها منفذًا بحريًّا على سواحلها الأخرى خارج حدود إقليم أرض الصومال، بمقابل عادل يرتضيه الطرفان، وهو سيناريو محتمل، لكن صعوبات جمة تقف حائلاً دونه، منها قدرة إثيوبيا على تدبير التمويل والحماية اللازمين للمشروع، في ظل الأزمات الاقتصادية الإثيوبية، وفي ظل العداء الذي تعلنه دائمًا حركة الشباب الصومالية، للوجود الإثيوبي في الصومال.
السيناريو الثالث: أن يقف الصومال وإثيوبيا على حافة الهاوية، كلّ منهما يصرّ على موقفه دون التوصل إلى تسوية، مع تفاقم الخلاف بينهما، دون الذهاب إلى المواجهة المسلحة، وهو السيناريو الأكثر ترجيحًا واتفاقًا مع السياقات التي يمر بها طرفا الأزمة، ويحقق لكل طرف -بما في ذلك الوسيط التركي- أهدافه، فهو يحقق للصومال الحفاظ على سيادته، ويحقق لإثيوبيا الزخم السياسي الداخلي، الذي يسعى إليه “آبي أحمد”، ويجنّب تركيا الدخول على خط المواجهة العسكرية، التي تضر بنفوذها ومصالحها في إفريقيا.
………………………………….
([1]) سعيد معيض، “إطلالة تاريخية محايدة على تاريخ الصراع الصومالي الإثيوبي في أوغادين (1 – 2 )”، على موقع قراءات صومالية، تحققت آخر زيارة بتاريخ 30 يوليو 2024 الساعة 1:00 م، على الرابط: https://tinyurl.com/5edd7f8k
([2]) سعيد معيض، “إطلالة تاريخية محايدة على تاريخ الصراع الصومالي الإثيوبي في أوغادين (2 – 3 و3 – 3)”، على موقع قراءات صومالية، تحققت آخر زيارة بتاريخ 30 يوليو 2024 الساعة 1:05 م، على الرابطين: https://tinyurl.com/4rswhhv2 https://tinyurl.com/yezh7ze5
([3]) أحمد عسكر، “النمط التدخلي الإثيوبي في قضايا وأزمات منطقة القرن الإفريقي”، في مجلة الدراسات الإفريقية (القاهرة: كلية الدراسات الإفريقية العليا، المجلد 46، العدد 2، أبريل 2024) ص ص 753-786.
([4]) مصطفى أحمد، “اتفاق إثيوبيا وأرض الصومال.. هل يشعل آبي أحمد القرن الإفريقي؟”، على موقع الجزيرة، تحققت آخر زيارة بتاريخ 30 يوليو 2024 الساعة 1:15 م، على الرابط: https://tinyurl.com/3fynd9w4
([5]) مصطفي أحمد، “اتفاق إثيوبيا وأرض الصومال.. هل يشعل آبي أحمد القرن الإفريقي؟”، على موقع الجزيرة، تحققت آخر زيارة بتاريخ 30 يوليو 2024 الساعة 1:10 م، على الرابط: https://tinyurl.com/3k3n6ke4
([6]) موقع الجزيرة، “الصومال يطرد سفير إثيوبيا ويتهمها بالتدخل “الفجّ” في شؤونه”، تحققت آخر زيارة بتاريخ 30 يوليو 2024 الساعة 1:20 م، على الرابط: https://tinyurl.com/muaafm8k
([7]) موقع صحيفة الشرق الأوسط، “الرئيس الصومالي يوقّع قانونًا يبطل مذكرة التفاهم بين إثيوبيا وأرض الصومال”، تحققت آخر زيارة بتاريخ 30 يوليو 2024 الساعة 1:25 م، على الرابط: https://tinyurl.com/2z7zhk5t
([8]) موقع الجزيرة، “السيسي: لن نسمح بأي تهديد للصومال أو أمنه”، تحققت آخر زيارة بتاريخ 30 يوليو 2024 الساعة 1:30 م، على الرابط:
https://tinyurl.com/yck3svyp
([9]) موقع صحيفة الشرق الأوسط، “الاتفاقية الدفاعية المصرية – الصومالية لاحتواء «الطموح» الإثيوبي وموازنة «النفوذ» التركي”، تحققت آخر زيارة بتاريخ 30 يوليو 2024 الساعة 1:35 م، على الرابط: https://tinyurl.com/2p8vdfur
([10]) موقع مركز الاتحاد للأخبار، “الإمارات: دعم سيادة الصومال ووحدة أراضيه، تحققت آخر زيارة بتاريخ 30 يوليو 2024 الساعة 1:40 م، على الرابط: https://tinyurl.com/3j2tr7f3
([11]) د. عرابي عبد الحي عرابي، “أشباح القاعدة تُطِلُّ في مقديشو.. ماذا وراء استهداف القوات الإماراتية؟”، تحققت آخر زيارة بتاريخ 30 يوليو 2024 الساعة 1:45 م، على الرابط: https://tinyurl.com/2azktkdf
– موقع الإمارات ليكس، ” دور الإمارات المشبوه في الصومال.. أطماع كسب النفوذ الإقليمي”، تحققت آخر زيارة بتاريخ 30 يوليو 2024 الساعة 1:50 م، على الرابط: https://tinyurl.com/78yz6a24
([12]) موقع أسباب، “في الصومال وجيبوتي… تركيا تؤسس لتواجد عسكري استراتيجي في القرن الإفريقي”، سياقات، العدد 170، فبراير 2024، تحققت آخر زيارة بتاريخ 30 يوليو 2024 الساعة 1:55 م، على الرابط: https://tinyurl.com/4d25pnmm
([13]) د. سعيد ندا، “النفوذ التركي في إفريقيا: فرص وتحديات” (أنقرة: مركز أبعاد للدراسات الاستراتيجية، تقرير تحليلي، مارس 2024) ص ص 3-18.
([14]) موقع الميادين، “بعد فشل المحادثات بين الصومال وإثيوبيا.. تركيا تحدد موعد الجولة الثانية مطلع سبتمبر”، تحققت آخر زيارة بتاريخ 30 يوليو 2024 الساعة 2:00 م، على الرابط: https://tinyurl.com/sn4wabup