تمهيد :
يصادف هذا العام الذكرى الثلاثين لمؤشر الحرية الاقتصادية؛ تلك المناسبة التي تشجّع على الوقوف والنظر للتأمل في التحسن الذي حققته مختلف الدول نحو الحرية الاقتصادية على مدى العقود الثلاثة الماضية، التي تلت عام 1995م.
ومن ناحية ثانية كانت الأشهر التي تلت منتصف عام 2022م عاصفةً بالنسبة للاقتصاد العالمي، ويكشف مؤشر الحرية الاقتصادية لعام 2024م عن مدى هشاشة هذا الاقتصاد.
إن الضغط الهبوطي التراكمي على الاقتصاد العالمي، ومن ضمنه اقتصاد منطقة إفريقيا جنوب الصحراء، هو نتاج خيارات السياسة الاقتصادية السيئة من فترة جائحة فيروس كورونا، وارتفاع التضخم، والغزو الروسي المستمر لأوكرانيا، والصراع الأوسع في الشرق الأوسط، وغيرها من التوترات الاقتصادية والجيوسياسية الأخرى.
وقد كانت حالة الحرية الاقتصادية في بلدان إفريقيا جنوب الصحراء شأنها شأن نتائج المؤشر على مستوى العالم، وهو ما سوف نتناوله في السياق التالي من خلال:
- المحور الأول: مؤشر الحرية الاقتصادية لعام 2024م… نظرة عالمية.
- المحور الثاني: مؤشر الحرية الاقتصادية في إفريقيا جنوب الصحراء لعام 2024م مقارنةً بمناطق العالم.
- المحور الثالث: تحليل تطور الركائز الأربعة لمؤشر الحرية الاقتصادية في إفريقيا جنوب الصحراء لعام 2024م.
- المحور الرابع: خارطة المؤشر على المستوى القُطْري.
- المحور الخامس: تقييم مؤشر الحرية الاقتصادية لعام 2024م.
- خاتمة.
المحور الأول
مؤشر الحرية الاقتصادية لعام 2024م… نظرة عالمية
كشف مؤشر 2024م([1]) ([2]) -الذي يأخذ في الاعتبار السياسات والظروف الاقتصادية في 184 دولة ذات سيادة في العالم خلال الفترة من 1 يوليو 2022م إلى 30 يونيو 2023م- عن اقتصاد عالمي “غير حُرّ في الغالب”. ومن المؤسف أن المتوسط العالمي للحرية الاقتصادية انخفض أكثر من 59.3 في العام السابق، وهو الآن أدنى مستوى له منذ عام 2001م: 58.6 فقط.
وعلى الصعيد العالمي، تدهورت السلامة المالية بشكل كبير. فقد أدى ارتفاع العجز والدَّيْن العام المتصاعد في العديد من البلدان إلى تقويض نموّ إنتاجيتها الإجمالي، ومن المرجَّح أن يؤدي إلى المزيد من الانخفاض، ويؤدي في نهاية المطاف إلى التباطؤ الاقتصادي بدلاً من النمو النشط.
على الرغم من التراجع الملحوظ في الحرية الاقتصادية العالمية، لا تزال هناك علاقة واضحة بين تحسُّن الحرية الاقتصادية وتحسين الديناميكية الاقتصادية، بالإضافة إلى زيادة الرفاهية العامة. وبغضّ النظر عن مستوى التنمية الحالي؛ تستطيع البلدان تعزيز نموّها الاقتصادي بشكل ملموس من خلال تنفيذ سياسات تعمل على خفض الضرائب، وترشيد البيئة التنظيمية، وفتح الاقتصاد أمام قدر أكبر من المنافسة، ومكافحة الفساد.
إن مستوى المعيشة، الذي يُقاس بدخل الفرد، أعلى بكثير في البلدان الأكثر حرية اقتصاديًّا. وتولّد البلدان المصنّفة على أنها “حرة”، أو “حرة في الغالب”، أو “حرة إلى حدّ ما” في مؤشر 2024م دخلاً يزيد عن ضعف متوسط المستويات في البلدان الأخرى، وأكثر من ثلاثة أضعاف دخل الأشخاص الذين يعيشون “مكبوتين” اقتصاديًّا.
وترتبط الحرية الاقتصادية أيضًا بشكل كبير بالرفاهية العامة، والتي تشمل عوامل عديدة، مثل: الصحة، والتعليم، والبيئة، والابتكار، والتقدم المجتمعي، والحكم الديمقراطي.
وقد سجَّلت أربع دول فقط (انخفاضًا من سبعة في مؤشر 2022م) درجات حرية اقتصادية تبلغ 80 أو أكثر، مما يضعها في مصافّ الدول “الحرة” اقتصاديًّا؛ وحصلت 22 دولة على تصنيف “الحرة في الغالب” بتسجيل درجات تتراوح بين 70.0 إلى 79.9؛ واعتبرت 55 دولة إضافية على الأقل “حرة إلى حد ما” بدرجات تتراوح بين 60.0 و69.9. وبالتالي، فإن ما مجموعه 81 دولة، أو أقل بقليل من نصف الدول الـ176 التي تم تصنيفها في مؤشر 2024م، لديها بيئات مؤسسية يستفيد فيها الأفراد والمؤسسات الخاصة من درجة معتدلة على الأقل من الحرية الاقتصادية في السعي لتحقيق أكبر قدر من التنمية الاقتصادية والتنمية.
على الجانب الآخر، سجَّلت أكثر من 50% من البلدان المصنَّفة في مؤشر 2024م (95 اقتصادًا) درجات حرية اقتصادية أقل من 60. ومن بين هذه البلدان، تعتبر 62 دولة “غير حرة في الغالب” (درجات من 50.0 إلى 59.9). و33 دولة، بما في ذلك الصين وإيران، تندرج في فئة “المقموعة” اقتصاديًّا.
في المقابل حدث تعديل ملحوظ في المراكز العشرة الأولى؛ حيث حافظت سنغافورة على مكانتها باعتبارها الاقتصاد الأكثر حرية في العالم، تلتها سويسرا ثم إيرلندا، وانتقلت تايوان إلى المركز الرابع، وفقدت كل من نيوزيلندا وأستراليا مكانتها في مجال الحرية الاقتصادية من الدرجة الأولى، ولم تعد أستراليا من بين الاقتصادات العشرة الأكثر حرية في العالم.
وعلى مستوى الركائز الأربع للحرية الاقتصادية المستخدمة في تصنيف المؤشر، حصل مؤشر سيادة القانون على أدنى الدرجات. وهذا يعكس الفساد المنهجي في المؤسسات الحكومية في العديد من البلدان. إن سيادة القانون القوية أمر ضروري للشركات والمؤسسات ورجال الأعمال عند اتخاذ القرارات الاقتصادية.
ويبلغ متوسط أعلى معدلات ضريبة الدخل على الأفراد والشركات في جميع البلدان في مؤشر 2024م نحو 30% و25% على التوالي. ولا يزال متوسط مستوى الإنفاق الحكومي يبلغ نحو 31% من الناتج المحلي الإجمالي، لكنَّ متوسط مستوى إجمالي الدَّيْن العام ارتفع إلى أكثر من 65%.
على الصعيد العالمي، من بين العوامل الفرعية الثلاثة للكفاءة التنظيمية للحرية الاقتصادية، سجَّلت الحرية النقدية أعلى النتائج. وتشمل الدول البارزة حسب متوسط درجة الكفاءة التنظيمية سنغافورة وسويسرا وتايوان والدنمارك وفنلندا. وعلى النقيض من ذلك، فإن أسوأ البلدان المرتكبة للانتهاكات بالترتيب التنازلي هي سيراليون، وكوبا، وزيمبابوي، والسودان، وفنزويلا، وكوريا الشمالية.
ويبلغ متوسط معدل التعريفات الجمركية المطبَّقة على مستوى العالم 7.7%. وتسهم تدابير سياسة الاستثمار في العديد من البلدان الموجَّهة نحو تعزيز الاستثمار القطاعي في الحصول على درجة حرية استثمار عالمية تبلغ 56.4 فقط. والنتيجة العالمية للحرية المالية هي الأدنى من بين مؤشرات الأسواق المفتوحة الثلاثة عند 48.8.
المحور الثاني
مؤشر الحرية الاقتصادية في إفريقيا جنوب الصحراء لعام 2024م مقارنةً بمناطق العالم
تراجعت المناطق الخمس التي صنَّفها التقرير لعام 2024م، وكانت أبرز التراجعات في أوروبا، في حين تذيَّلت منطقة إفريقيا جنوب الصحراء المناطق الخمس بتراجع قدره (0.8) نقطة من (53.2) درجة في عام 2023م إلى (52.4) درجة على مقياس مؤشر عام 2024م من 100 درجة. ومقارنة بمتوسط عالمي متراجع بنحو (0.70) نقطة؛ من (59.3) درجة في عام 2023م إلى (58.6) درجة في عام 2024م. كما يتضح من الشكل التالي:
شكل (1)
درجات مؤشر الحرية الاقتصادية لعامي 2023م و2024م لإفريقيا جنوب الصحراء مقارنة بالعالم
المصدر: الباحث من تقريري مؤشر الحرية الاقتصادية لعامي 2023م و2024م.
وقد اتخذت المنطقة نفس السلوك العالمي خلال الفترة من 2019م، وحتى عام 2024م، والذي اتخذ التناقص التدريجي في درجات المؤشر باستثناء العالم الذي سبق جائحة كورونا عام 2021. كما يظهر في المنحنى التالي:
شكل (2)
درجات مؤشر الحرية الاقتصادية لمنطقة إفريقيا جنوب الصحراء منذ عام 2019م
المصدر: الباحث من مصادر متعددة.
وهي في المتوسط (حرية ضعيفة) في إفريقيا جنوب الصحراء مقابل عالم (غير حرّ في الغالب) كما يبينه الشكل التالي؛ حيث حقَّقت غالبية البلدان درجات حرية ضعيفة (29 دولة) في حين جاءت دولة واحدة في تصنيف (حرية معتدلة).
شكل (3)
تصنيف الحريات الاقتصادية في بلدان إفريقيا جنوب الصحراء بين عامي 2023م و2024م
الباحث: من تقرير الحرية الاقتصادية لعام 2024م.
المحور الثالث
تحليل تطور الركائز الأربعة لمؤشر الحرية الاقتصادية في إفريقيا جنوب الصحراء لعام 2024م
على مستوى الركائز الأربع المكونة للمؤشر كما يبينها الجدول (1)؛ شهدت المنطقة تطورًا إيجابيًّا في مؤشر سيادة القانون، وذلك في المؤشرات الفرعية الثلاثة المكونة له؛ حيث حقق مؤشر حقوق الملكية تغيرًا إيجابيًّا بنحو 0.77 درجة والفعالية القضائية بنحو نقطة واحدة، والنزاهة الحكومية بنحو 0.03 درجة.
في حين كان التراجع هو السمة البارزة في مؤشر حجم الحكومة الذي لم يحقق تغيرًا إيجابيًّا إلا في مكونه الفرعي العبء الضريبي بمقدار 0.31 درجة، وتراجعًا في مؤشر الإنفاق الحكومي بمقدار 0.09 درجة، وتراجعًا حادًّا في مؤشر الصحة المالية بنحو 5.24 درجة.
كذلك شهد مؤشر الكفاءة التنظيمية تراجعًا على كافة محاوره باستثناء مؤشر حرية الأعمال الذي تحسَّن بمقدار 1.34 درجة. في الوقت الذي حقَّق فيه مؤشرا حرية العمل والحرية النقدية تراجعًا بنحو 0.16 وتراجعًا حادًّا بنحو 3.64 نقطة على التوالي.
جدول (1)
تطور الركائز الأربع لمؤشر الحرية الاقتصادية لبلدان إفريقيا جنوب الصحراء بين عامي 2023م و2024م
الجدول محسوب عن طريق الباحث من تقريري مؤشر الحرية الاقتصادية لعامي 2023م و2024م.
في حين كان التراجع هو السمة السائدة في مؤشر الأسواق المفتوحة على كافة مكوناته الفرعية؛ حيث تراجعت حرية التجارة وحرية الاستثمار والحرية المالية بنحو 0.38 و0.32 و0.21 على التوالي.
شكل (4) تطور المؤشرات الفرعية المكونة لمؤشر الحرية الاقتصادية في بلدان إفريقيا جنوب الصحراء بين عامي 2023م و2024م
المصدر: عن طريق الباحث من جدول (1)
ومفاد القول بأن التحسن الذي تحقَّق على مستوى سيادة القانون في منطقة إفريقيا جنوب الصحراء قد تآكل بفعل التراجع المحقّق في المؤشرات الثلاثة الرئيسية الأخرى (حجم الحكومة والكفاءة التنظيمية، والأسواق المفتوحة). وعلى الأخص التراجع الحاد في المؤشرين الفرعيين؛ (الصحة المالية، والحرية النقدية) كما يبينها الشكل أعلاه.
المحور الرابع
خارطة المؤشر على المستوى القُطْريّ
حققت موريشيوس المركز الأول في الإقليم و(19) عالميًّا، محققة (71.50) درجة مدفوعة بالتحسن الجاري في مؤشر العبء الضريبي (91.50) درجة، وحرية التجارة (87.40) وحقوق الملكية (86.40) والفعالية القضائية (81.20) درجة. مع درجة متدنية للغاية في مؤشر الصحة المالية (30.40) درجة. الذي تحسن على الرغم من ذلك بنحو (27.9) درجة عن عام 2023م. وقد احتفظت الدولة بمركزها الإقليمي وتقدَّمت في ترتيبها العالمي من (26) إلى (19). ومحققة تقدمًا في المؤشر بنحو (0.09) درجة([3]).
وجاءت بتسوانا في المركز الثاني على مستوى الإقليم و(36) عالميًّا متقدمة من المركز الثالث إقليميًّا، ومن المركز (52) عالميًّا. بدرجة (68) على مقياس المؤشر بتحسن (3.1) درجة عن العام السابق. مدفوعة بالأساس بدرجاتها في مؤشر العبء الضريبي (86.7) درجة، والحرية التجارية (78.8) درجة وحقوق الملكية (73.6) درجة. وبفعل التحسن الكبير في مؤشر الصحة المالية بنحو (49.2) درجة.
واحتلت الرأس الأخضر المركز الثالث في المنطقة، و(57) عالميًّا، بعدما كانت تحتل المركز الثاني إقليميًّا و(47) عالميًّا. بدرجة (62.90) متراجعة عن عام 2023م بنحو (2.9) درجة. بفعل التراجع الحادّ في مؤشر النزاهة الحكومية بنحو (11.7) درجة، والصحة المالية بنحو (18.20) درجة. مع أداء جيد في مؤشر العبء الضريبي (84.6)، ومؤشر حرية الاستثمار (80).
وجاءت ساوتومي وبرنسيب في المركز الرابع على مستوى الإقليم و(77) عالميًّا، متراجعةً عن المركز (74) عالميًّا، ومحتفظة بمكانتها الإقليمية بنحو (60.5) درجة متراجعة بمقدار درجة واحدة عن عام 2023م. وجاء هذا التراجع نتيجة الأداء الباهت في مؤشر الإنفاق الحكومي الذي تراجع بنحو (2.5) درجة، ومؤشر الحرية النقدية الذي تراجع بنحو (5.9) درجة. مع أداء جيد في مؤشر العبء الضريبي (88)، والصحة المالية (87.80).
وحافظت سيشل على مركز الخامس إقليميًّا، واحتلت المركز (78) عالميًّا، متقدمةً تسعة مراكز عالمية عن عام 2023م. بدرجات (60.4)، وبتحسُّن بنحو تسعة أعشار الدرجة. مع أداء جيد في مؤشر حرية التجارة (80.2) والعبء الضريبي (79.1)، مع تدنٍّ لافتٍ في مؤشر الصحة المالية (12.4) درجة.
شكل (5)
أعلى وأدنى خمسة بلدان في مؤشر الحرية الاقتصادية في بلدان إفريقيا جنوب الصحراء لعام 2024م
الباحث: من تقرير الحرية الاقتصادية لعام 2024م.
في حين تذيَّلت دولة السودان قائمة الترتيب الإقليمي في ظل عدم توافر بيانات، واحتلت الصومال ترتيبًا عالميًّا (173)، محققة (33.9) درجة بتحسن قدره (1.1) درجة عن عام 2023م، مع تحسن لافت في مؤشر الصحة المالية بنحو (38) درجة. كما احتلت زيمبابوي وبورندي وإريتريا وإفريقيا الوسطى ذيل الترتيب الإقليمي بعد السودان، محققة درجات (38.2)، (38.4)، (39.3)، (41.3) على التوالي، وترتيبًا عالميًّا (172)، (171)، (170)، (168).
وأخيرًا كان أبرز أداء في دولة بتسوانا التي تغيَّر مؤشرها بنحو (3.1) درجة مدفوعة بالأساس بالتحسن الهائل في مؤشر الصحة المالية بنحو (49.20) درجة. وتليها الكاميرون التي تحسنت درجاتها بمقدار (1.7) درجة بفعل تحسُّن مؤشر نزاهة الحكومة بمقدار (19.6) درجة.
في حين سجَّلت سيراليون أسوأ أداء بتراجع (5.6) درجة بسبب التراجع في مؤشر الصحة المالية بنحو (39.10) درجة. وتوجو التي تراجعت (4.4) درجة أيضًا بسبب التراجع في مؤشر الصحة المالية بنحو (49.5).
المحور الخامس
تقييم مؤشر الحرية الاقتصادية لعام 2024م
أولاً: الجوانب الإيجابية: المزايا والاستخدامات
يتضمن مؤشر 2024م –الطبعة الثلاثون– ما يلي:
- تحديث نتائج الحرية الاقتصادية وبيانات الاقتصاد الكلي لـ184 اقتصادًا.
- ملفات تعريف قُطرية سهلة القراءة تُسلّط الضوء على أهمية الحرية الاقتصادية.
- الأدوات المتاحة عبر الإنترنت مثل مخططات المقارنة المخصصة وتصورات البيانات التفاعلية.
لقد قام مؤشر الحرية الاقتصادية بقياس تأثير الحرية والأسواق الحرة في جميع أنحاء العالم، وعلى مدار ثلاثين عامًا، قدم المؤشر تحليلاً مدروسًا بتنسيق واضح ومباشر. مع موارد جديدة للمستخدمين وموقع ويب مصمم للبحث والتعليم، يستعدّ مؤشر الحرية الاقتصادية لمساعدة القراء على تتبُّع ثلاثة عقود من التقدُّم في الحرية الاقتصادية والازدهار والفرص وتعزيز هذه الأفكار في منازلهم ومدارسهم ومجتمعاتهم.
هذا ويَعتبر المؤشر أنّ كل عنصر له نفس القدر من الأهمية في تحقيق الفوائد الإيجابية للحرية الاقتصادية. ويتم وزن كل حرية بالتساوي في تحديد نتائج الدولة. وقد تجد البلدان التي تفكر في إجراء إصلاحات اقتصادية فرصًا كبيرة لتحسين الأداء الاقتصادي في تلك العوامل التي تسجل فيها أدنى مستوياتها. وقد تشير هذه العوامل إلى قيود ملزمة كبيرة على النمو الاقتصادي والازدهار.
ويوثق المؤشر العلاقة الإيجابية بين الحرية الاقتصادية ومجموعة متنوعة من الأهداف الاجتماعية والاقتصادية. ترتبط مُثُل الحرية الاقتصادية بقوة بمجتمعات أكثر صحة، وبيئات أنظف، وزيادة نصيب الفرد من الثروة، والتنمية البشرية، والديمقراطية، والقضاء على الفقر.
وتعتمد نتائج مؤشر الحرية الاقتصادية لعام 2024م بشكل عام على بيانات الفترة التي تغطي النصف الثاني من عام 2022م حتى النصف الأول من عام 2023م. وإلى أقصى حد ممكن، كانت المعلومات التي تم النظر فيها لكل متغيّر سارية اعتبارًا من 30 يونيو 2023م. ومع ذلك، تجدر الإشارة إلى أن بعض درجات المكونات تعتمد على معلومات تاريخية. كاستخدام مكون الحرية النقدية متوسط معدل التضخم المرجح لمدة ثلاث سنوات من 1 يناير 2020م حتى 31 ديسمبر 2022م.
ويُعدّ المؤشر أداة مفيدة لمجموعة متنوعة من المستفيدين؛ الأكاديميين وصانعي السياسات والصحفيين والطلاب والمدرسين والعاملين في مجال الأعمال التجارية والمالية. ويعد أداة موضوعية ممتازة لتحليل 184 اقتصادًا، ومصدرًا للتحليل المتعمق للتطورات السياسية والاقتصادية في أيّ بلد. كما توفر الحريات الاقتصادية الـ12 والبيانات التاريخية المصاحبة لها مجموعة شاملة من المبادئ والحقائق لأولئك الذين يرغبون في فهم أساسيات النمو الاقتصادي والازدهار([4]).
ويمكن تلخيص أهم مزايا مؤشر الحرية الاقتصادية من منطلق أهم الاستخدامات الواردة للمؤشر في مختلف التقارير المنشورة بالإجماع على اعتبار أنه أداة مساعدة للحكومات، وهي([5]):
- القدرة على مقارنة الاقتصاد المعني من حيث تنافسيته وجاذبيته مع الاقتصادات الأخرى، وعلى مجموعة متنوعة من المؤشرات الفرعية، مما يساعد الحكومات على معرفة الوضع الحقيقي لاقتصاد البلد؛ بتقييم نقاط قوته ونقاط ضعفه.
- تحديد النقاط المحورية للنقاش حول السياسات المعنية على المدى الطويل على أساس الفرص والثغرات، بعد الكشف عنها من خلال المقارنة المرجعية.
- تتبُّع السلطات للتقدم المحرز سنويًّا أو على المدى المتوسط في الأداء الاقتصادي الخاص بالبلد، بقياس التطور في مختلف العوامل والهيئات المهمة لتحقيق النمو في المستقبل، تماشيًا مع التطورات العالمية، لتقييم جداول أعمالها وتعديلها؛ إذا لزم الأمر.
- اعتمادها مرجعًا أساسيًّا للجهات المسؤولة لإضفاء الإصلاحات الضرورية لتطوير التنظيمات والهيئات والعوامل، والأخذ بتجارب المتقدمين في مختلف المجالات.
ثانيًا: الجوانب السلبية: المآخذ والانتقادات
لم تسلم المؤشرات المُركَّبة من الانتقادات التي وُجِّهت لها، وخاصةً في كيفية بنائها، وبالتالي تفسيرها، ومِن ثَم تُطرَح وتُثار حول هذه المؤشرات أربعة ملاحظات مهمة حول النتائج التي توصل إليها المؤشر؛ وهي: التوافق أو الإجماع حول المنطلق التجريبي لاختيار نموذج النمو؛ اختيار المتغيرات المفسّرة التي تُعبّر عن المشكلات المحاطة المعتمدة؛ الأوزان التي تمنح لهذه المتغيرات؛ وجودة قياسها.
فبالنسبة للمنهج المعتمد لبناء هذه المؤشرات، على سبيل المثال، فإن انتقاء المتغيرات ومسألة ترجيح الأوزان ناتج عن العديد من الاختبارات الإحصائية، ولكن لم يتم التحقق منها والتأكيد عليها بالاعتماد على الدراسات التجريبية، وهو ما يَحُدّ من تفسير النتائج، ووُجِّهت أيضًا انتقادات لاذعة للمؤشرات التي تحسب بدون ترجيح. كما أُثيرت مشكلة جودة قياس المتغيرات المكوّنة للمؤشرات؛ حيث طرحت إشكالية الدراسات الاستقصائية التي تعتمد لتقييم المتغيرات النوعية، وخاصة اختيار العينة بالخصائص والحجم الكافي، وكذلك على الرغم من التأكيد على وضوح الأسئلة التي تطرح على المؤسسات المستجوبة؛ إلا أنها تبقى ذاتية، أين تكون جودة أجوبتهم مرتبطة بمدى وجود قيود على حرية التعبير أو الانحياز (استجوابهم حول تقييم البلدان الأصلية)، وأيضًا درجة معرفة محيط الأعمال في البلدان الأخرى والخلفيات السياسية (عند استجوابهم نحو تقييم البلدان المستهدفة). بالإضافة إلى إشكالية اختلاف المصادر المعتمدة لجمع البيانات وعدم توحيدها، وكذلك تغييرها من فترة لأخرى، وهو ما يمكن أن يؤثر سلبًا على البيانات، ويحدّ من المقارنة بين الفترات، وحتى مشكلة تغيير منهجية إعداد المؤشر من فترة لأخرى، وهو ما يستدعي الحذر في استعمال النتائج([6]).
ولقد كانت هناك محاولات عديدة لتطوير مؤشرات متطورة للحرية الاقتصادية من أجل تحديد العناصر الحاسمة للحرية الاقتصادية ووزنها بطريقة ما، بحيث يمكن حساب مؤشر الحرية الاقتصادية للسماح بترتيب الدول. وكانت المؤشرات الأكثر شمولاً للحرية الاقتصادية اليوم هي: (Fraser index)، و(Heritage index) (Freedom house index). وتقيس جميع المؤشرات مدى دعم سياسات ومؤسسات الدول للحرية الاقتصادية. وتُستخدم تقييمات المكونات لإعطاء تقييم موجز لكل بلد.
ويمكن للمؤشرات تحديد مدى حرية الأفراد في الاختيار لأنفسهم والانخراط في معاملات طوعية مع الآخرين وحماية ممتلكاتهم المكتسبة من الآخرين. وتركز جميع المؤشرات على الحرية الاقتصادية، ولكن لديها أيضًا بعض التركيزات على الأساليب المختلفة.
وترتكز المؤشرات بشكل رئيسي على فكرة الحرية الاقتصادية السلبية والمطلقة والفردية والموضوعية؛ غير أن هذا الفهم للحرية الاقتصادية غير مكتمل، ولكنه متوقع بالنظر إلى المشاكل المتعلقة بقياسها. هذا الفهم الناقص هو أحد الأسباب الرئيسية التي تجعل مؤشرات الحرية الاقتصادية المقدمة حتى الآن لا يمكن أن تكون مؤشرًا كافيًا للحرية الاقتصادية نفسها، وبالتالي للازدهار الاقتصادي.
وهناك العديد من الأسباب التي تجعل العلاقة بين الحرية الاقتصادية والأداء الاقتصادي قد تكون في بعض الأحيان أضعف وأقل أهمية مما تتوقعه النظرية الاقتصادية. وتكمن الأسباب في أن مؤشرات قياسها تعاني من بعض أوجه القصور فيما يتعلق بالمنهجية (مشكلة الاختيار)، والاستخدام غير السليم (مشكلة الفارق الزمني). والسبب الرئيسي يكمن في أن المؤشرات المقدمة تقلّل إلى حد كبير من دور الثقافة والقيم والأنظمة السياسية في البلدان المختلفة (مشكلة الانقسام، مشكلة الموضوعية). مما قد يؤدي إلى استنتاجات غير كافية أو حتى خاطئة. ويُرى أنه لا يجوز للباحثين استخدام مؤشرات الحرية الاقتصادية دون الاحتياط اللازم، مع الأخذ في الاعتبار المشكلات الأربع المذكورة([7]).
أيضًا تقوم مؤسسة Heritage ومعهد فريزر بقياس الحرية الاقتصادية في الدول باستخدام مؤشرات ذات عشرة وخمسة مؤشرات على التوالي. وتدور ثمانية من مؤشرات التراث وأربعة من مؤشرات فريزر حول أنواع محددة من الجودة المؤسسية، مثل سيادة القانون، وحماية الملكية، وتوفير الأموال السليمة. ويعتبر المزيد من هذه للدلالة على المزيد من الحرية الاقتصادية.
ويتضمن كلا المؤشرين أيضًا مؤشرات “الحكومة الكبيرة”، أو مستويات الأنشطة الحكومية. ويُنظَر إلى المزيد من ذلك على أنه يدل على قدر أقل من الحرية الاقتصادية. ومع ذلك، يبدو أن مستويات الإنفاق الحكومي والاستهلاك والتحويلات والدعم ترتبط بشكل إيجابي مع المؤشرات الأخرى المتعلقة بالجودة المؤسسية، في حين يقترب هذا الارتباط من الصفر بالنسبة لمستوى الضرائب كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي.
واستخدام الإنفاق الحكومي وتحويلات الاستهلاك والإعانات كمؤشرات إيجابية ليس بديلاً؛ لأن هذه المستويات تمثل أنشطة حكومية مختلفة تمامًا، سواء كانت حرة أو أقل حرية. وهذا يعني أنه من الأفضل استبعاد مستويات الأنشطة الحكومية كمؤشرات سلبية أو إيجابية. وبالتالي فإن المتغيرات المختصرة للمؤشرات تخلق صلاحية متقاربة أفضل في قياس الحرية الاقتصادية، وتخلق ارتباطات أعلى بين الحرية الاقتصادية وأنواع الحرية البديلة، وبين الحرية الاقتصادية والسعادة. تشير تلك الارتباطات إلى صحة تنبؤية أفضل؛ حيث يمكن التنبؤ بها في ضوء نتائج الأبحاث السابقة والاعتبارات النظرية حول العلاقات بين أنواع الحرية، وبين الحرية والسعادة([8]).
خاتمة:
لم تتخلص منطقة إفريقيا جنوب الصحراء من التداعيات الخارجية التي كانت سببًا في تراجع المؤشر في عام 2023م؛ كالحرب الروسية الأوكرانية، وآثار تفشي وباء كورونا، مع ظهور مستجدات أخرى كعدم الاستقرار في منطقة الشرق الأوسط وخليج عدن، فضلاً عن التحديات الداخلية. كما أصبحت العديد من بلدان الإقليم غارقة بالفعل في عبء الديون الذي يطيل أمد الركود الاقتصادي.
فأصبحت بلدان الإقليم تُواجه العديد من التحديات الهيكلية طويلة الأجل في مجالات السياسات المتعلقة بالشفافية والكفاءة والانفتاح وفعالية الحكومة.
كما أن القدرة الحقيقية لأيّ دولة على تحقيق النمو والازدهار الدائمين تتوقف على جودة مؤسساتها ونظامها الاقتصادي.
كل ما سبق أدى إلى تراجع درجات المنطقة في مؤشر الحرية الاقتصادية إلى ما يقرب من الدرجة، وذلك بسبب التراجع في مؤشرات حجم الحكومة والأسواق المفتوحة ومؤشرات الكفاءة التنظيمية، مع تحسُّن طفيف في مؤشرات سيادة القانون.
……………………………………………………………………………..
[1] ) Anthony B. Kim, 2024 Index of Economic Freedom (Washington D.C: The Heritage Foundation,2024),
[2] ) للاطلاع على التعريف بالمؤشر ومنهجيته، انظر: قراءة تحليلية لمؤشر الحرية الاقتصادية في دول إفريقيا جنوب الصحراء لعام 2023م، قراءات إفريقية، متاح على الرابط: https://qiraatafrican.com/12462/%d9%82%d8%b1%d8%a7%d8%a1%d8%a9-%d8%aa%d8%ad%d9%84%d9%8a%d9%84%d9%8a%d8%a9-%d9%84%d9%85%d8%a4%d8%b4%d8%b1-%d8%a7%d9%84%d8%ad%d8%b1%d9%8a%d8%a9-%d8%a7%d9%84%d8%a7%d9%82%d8%aa%d8%b5%d8%a7%d8%af%d9%8a/
[3] ) Anthony B. Kim, Op.cit. pp.5-8.
[4] ) https://www.heritage.org/index/pages/about
[5]) سامية بوناب، ود. مجيد شعباني، دراسة تحليلية لمؤشرات الجاذبية الاقتصادية كأدوات المقارنة المرجعية بين البلدان – تقييم الجاذبية الاقتصادية للجزائر مقارنة بالمغرب”، مجلة اقتصادات شمال افريقيا (الجزائر: جامعة سطيف، المجلد 19، العدد 14،2018) ص. 317.
[6] ) سامية بوناب، ود. مجيد شعباني، م. س. ذ. ص 318.
[7] ) Kešeljevic Aleksandar, Why Indexes of Economic Freedom Cannot Be Sufficient Indicators of Economic Freedom and Future Economic Prosperity?.at:
[8])Jan Ott, Measuring Economic Freedom: Better Without Size of Government.pp.480-497.at:https://link.springer.com/article/10.1007/s11205-016-1508-x