يبدو أن إفريقيا ستظل حاضرةً في تعقيدات الديمقراطيات الغربية بصورةٍ أو بأخرى؛ فعقب فوز حزب العمال البريطاني في الانتخابات البرلمانية الأخيرة، مطلع يوليو الجاري، بادَر رئيس الوزراء الجديد كير ستارمر بإعلان موت خطة سلفه “ريشي سوناك” بترحيل اللاجئين الأفارقة إلى دولة رواندا؛ الأمر الذي لقي ترحيبًا في قطاعات شعبية ورسمية إفريقية؛ تيمنًا ببدء حكومة العمال سياسات جديدة تجاه القارة الإفريقية، تتضمَّن على الأقل قدرًا أكبر من احترام مواطني القارة وشعوبها مقارنةً بسياسات حكومة المحافظين.
وعلى نحو مماثل، حظي فوز تحالف اليسار الفرنسي (الجبهة الشعبية الجديدة) في الانتخابات النيابية ضد اليمين الفرنسي بقيادة مارين لوبان (7 يوليو)، بترحيب شعبي إفريقي واضح في قلب فرنسا، وفي أرجاء متفرقة من القارة، تزامن معها إعلان التحالف اليساري الفائز عزمه قيادة البلاد في مرحلة جديدة من تاريخها، ورفض “التعاون مع معسكر الرئيس إيمانويل ماكرون، ربما في إشارة إلى أن ذلك سيشمل توجهات جديدة في سياسات باريس الخارجية، بما فيها نحو إفريقيا.
“إفريقيا الفرنسية” على المحك: تدوير السياسة الفرنسية
لفرنسا تاريخ استعماري تليد في القارة الإفريقية، يعود رسميًّا إلى القرن التاسع عشر، عندما أسَّست فرنسا مستعمراتها في غرب ووسط إفريقيا؛ حيث اتسمت إدارتها بالاستغلال، والقمع، والغزو الثقافي، واستغلال موارد المستعمرات الإفريقية، وتركت تلك الفترة آثارًا مستدامة على العلاقات الفرنسية-الإفريقية.
وسعى شارل ديجول، قائد القوات الفرنسية الحرة وقتها، ثم رئيس الجمهورية لاحقًا، بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، إلى الحفاظ على نفوذ بلاده في إفريقيا عبر صك مفهوم “إفريقيا الفرنسية: Francafrique”، وأن سياسة باريس، حسب ديجول، تقوم على فكرة “التعاون والشراكة”، لكنها كانت في جوهرها، وعند محطات واختبارات تاريخية واضحة (مثل الاستفتاء الذي وضعه ديجول ورفضت غينيا التصويت عليه لصالح استمرار علاقات الارتباط مع باريس، التي بادرت على الفور بمعاقبة غينيا اقتصاديًّا وسياسيًّا دون تبنّي خطوات متدرجة) لجأت إلى سياسات استعمارية “باستخدام وسائل أخرى”. وتظل “إفريقيا الفرنسية” حاضرةً واقعًا في القارة الإفريقية بعد عقود “الاستقلال” في ظل ما تُعرَف بمجموعة منروفيا التي تزود عن مصالح فرنسا في القارة حتى اللحظة الراهنة([1]).
ومع استمرار عوامل كثيرة تقود أغلب قطاعات الشعوب الإفريقية (لا سيما في غرب إفريقيا) إلى رفض الوجود الفرنسي، مع تراجع مقبولية فرنسا بشكل واضح بين هذه القطاعات؛ فإن جهود قادة فرنسا المتعاقبين لـ”تدوير” سياساتهم الإفريقية، والتعهد في كلّ مرحلة بتبنّي سياسات جديدة؛ باتت تعبّر أكثر ما تعبّر عن جمود حقيقي في رؤية باريس لتطورات الأوضاع السياسية والاجتماعية في القارة. ويرجع ذلك الجمود إلى تاريخ علاقات فرنسا بالدول الإفريقية بعد استقلالها، ومواصلة عدد من السياسيين الفرنسيين النظر للرِّقّ والاستعمار بشكل إيجابي وقابل للتفسير كعمليات اقتصادية مقبولة حسب عصرها.
كما واصلت فرنسا بمقتضى سياستها “إفريقيا الفرنسية” إحكام هيمنتها الاقتصادية والمالية مع استمرار استخدام فرنك الجماعة الإفريقية الفرنسية الذي تُصدره الخزانة الفرنسية.
كما واصلت باريس هيمنتها العسكرية مع تمركز القوات الفرنسية في كلٍّ من الجابون والسنغال وكوت ديفوار وتشاد وجيبوتي، كما رصد مؤرخون تشابك هذا الوجود العسكري الفرنسي مع ظاهرة الانقلابات في القارة الإفريقية في حالات كثيرة مع قيام القوات الفرنسية بعمليات تدخل عسكري في دول إفريقية كثيرة تجاوزت 60 عملية منذ استقلال إفريقيا (ومن أكبرها التدخل العسكري الفرنسي في ليبيا في العام 2011م، وقاد إلى تدهور الأوضاع في إقليم الساحل وتراجع هائل في النفوذ الفرنسي فيه، كما لا يزال تورّط فرنسا في جريمة الإبادة الجماعية بحقّ مجموعات التوتسي في رواندا ماثلة في الأذهان([2]).
إفريقيا وفوز اليسار الفرنسي: البراغماتية إلى الواجهة؟
حظيت هزيمة الرئيس ماكرون، ثم “اليمين المتطرف” في الانتخابات الأخيرة بحفاوة إفريقية كبيرة، لا سيما في الدول التي باتت تناصب فرنسا عداءً سافرًا في إقليم الساحل الإفريقي، وعمَّق من هذا التوجه: الفشل الفرنسي المزمن في مواجهة المشكلات الجذرية المسبّبة للإرهاب والعنف في إقليم الساحل (وصولًا إلى تواطؤ مع جماعات العنف بحسب تقارير محلية في مالي وبوركينا فاسو والنيجر)، وتجاهل النزاعات المحلية على الأراضي والمياه، وبين المزارعين والرعاة، كأسباب رئيسية لنجاح الجماعات المسلحة في كسب عناصر جديدة في صفوفها. كما أن موجة الانقلابات التي تلت فشل حكومات دول الساحل في القيام بمهامها في مواجهة المشكلات المزمنة عزَّزت من الحشد الشعبي الإفريقي بشكل واضح ضد فرنسا وسياساتها؛ حيث ظهر قادة الانقلابات في مالي وبوركينا فاسو والنيجر باعتبارهم قادة إنقاذ لتلك الشعوب من الهيمنة “الاستعمارية” الفرنسية وسياسات نظم الحكم التابعة لها([3]).
وهكذا فإن تساؤلات تبنّي باريس سياسات إفريقية “جديدة” تظل في واقع الأمر أسيرة تغيرات لحظية فيما بَرْهَنت التجارب السابقة (منذ نهاية الثمانينيات على الأقل) على عدم أولوية إفريقيا في سياسات فرنسا الخارجية “المؤسساتية” (عوضًا عما يُعرَف عن تجاهل الخارجية الفرنسية لتعيين كفاءات مخضرمة في إدارة هذا الملف، والاكتفاء بعناصر شابَّة في الغالب لا تملك الخبرة الكافية)، واستمرار إدارة هذا الملف من زاويتين: عسكرية واقتصادية (استغلالية). مع ملاحظة إقدام الحكومة الفرنسية بالفعل في نهاية العام الماضي على إعادة هيكلة فريق الشؤون الإفريقية في وزارة الداخلية تفاديًا لمزيد من الفشل الفرنسي في القارة، كما اتضح من الأزمة في الساحل([4])، وهو الأمر الذي لم يُؤدِّ إلى الحد الأدنى من النتائج المرجوة.
وعلت أصوات إفريقية بضرورة انتهاز هذا “الانتصار التاريخي” للضغط من أجل تحقيق التوازن في العلاقات الفرنسية الإفريقية بشكل عام. فيما اعتبرته منافذ إعلامية غربية انتهازية إفريقية للتحولات الجارية في فرنسا (ربما في قراءة سطحية).
سياسات فرنسا الإفريقية بعد فوز اليسار: حسابات صعبة
ربما تكون توقُّعات تغيير جذري أو حقيقي في سياسات فرنسا الإفريقية محض مبالغات وقتية بالنظر إلى عدة اعتبارات؛ منها:
– إن ملف هذه “السياسات” يظل بعيدًا عن أولويات باريس في المرحلة المقبلة بشكل كبير مع انشغالها شبه الكامل بتطورات الأزمة الأوكرانية.
– وإن الرابطة الاقتصادية التي تربط دول “الجماعة الفرنسية” بباريس تظل بشكل كبير ممثلة في “استدامة” منطقة الفرنك الفرنسي في غرب إفريقيا ووسطها (وتشمل 14 دولة ترتبط كلّ منها إما بالاتحاد الاقتصادي والنقدي الغرب إفريقي UEMOA أو بالجماعة الاقتصادية والنقدية لوسط إفريقيا CEMAC)؛ الأمر الذي يعني رسوخ استغلال فرنسا لموارد الدول الأعضاء كوسيلة لا يمكن الاستغناء عنها أو مراجعتها جذريًّا مِن قِبَل “اليسار الفرنسي” الفائز في الانتخابات النيابية الأخيرة([5]).
– إن وصول اليسار جاء بالفعل بعد تراجعات كبيرة في نفوذ فرنسا في إفريقيا، على الأقل خارج نقاط ارتكازها في غرب إفريقيا والجابون، وهو الأمر الذي تدلّ عليه تصريحات متعددة من مسؤولين فرنسيين –على سبيل المثال- بعدم اهتمام بلادهم بقضايا “الحوكمة والديمقراطية في الدول الإفريقية”، ومِن ثَمَّ فإن مهمة الحكومة الفرنسية الجديدة ستكون عسيرة للغاية على المديين القريب والمتوسط.
– كما إن التوجه التقليدي لليسار الفرنسي، وبحسب البرنامج الانتخابي الذي فاز به في الانتخابات الأخيرة، سيكون مؤكدًا على القضايا الداخلية لفرنسا بشكل كبير، لا سيما خفض سن التقاعد، وإعادة النظر في ضريبة الثروة، وتحقيق مكاسب في قطاع الإسكان للطبقات المتوسطة والدنيا، ورفع أجور القطاع العام. ولم تحظَ إفريقيا في هذا البرنامج بحضور واضح مقارنةً بالقضية الفلسطينية؛ حيث علت أصوات داخل اليسار بضرورة الاعتراف “بدولة فلسطينية”([6]).
– لا يُتوقع تغيير يُذْكَر في المقاربة العسكرية والأمنية الفرنسية تجاه القارة الإفريقية في ظل الحكومة اليسارية الجديدة؛ إذ يُلاحَظ أن الحكومة الفرنسية أقدمت نهاية شهر يونيو الفائت على تكوين ما عُرفت بـ”القيادة الإفريقية” داخل القوات المسلحة الفرنسية؛ بغرض القيام بمهام متعددة؛ منها مراجعة الوجود العسكري الفرنسي في إفريقيا (أو إعادة توزيعه)، وعيَّنت باريس باسكال إني Pascal Ianni قائدًا “للقيادة الإفريقية”، على أن يتولى مهامه بدايةً من مطلع شهر أغسطس المقبل([7]).
وتؤكد هذه الخطوة، مع تفهُّم دوائر عمل القيادة الإفريقية من أجل تنشيط الوجود العسكري الفرنسي في دول جوار مالي والنيجر وبوركينا فاسو على وجه الخصوص، على مواصلة حكومة اليسار المتوقعة لسياسات القوات المسلحة الفرنسية في إفريقيا دون تعديلات تُذْكَر، بينما تؤكد تقارير أخرى عزم القوات المسلحة الفرنسية خفض عدد جنودها في كوت ديفوار والجابون وتشاد في الشهور المقبلة “بناء على طلب عدد من الدول”.
– رغم نيل “الجبهة الشعبية الجديدة” الكتلة الأكبر في البرلمان الفرنسي؛ فإن حدود حرية حركتها تظل قائمة لا سيما في مجال صياغة سياسات “إفريقية”، فيما تظل للرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون صلاحياته (ومن بينها: اختيار رئيس للوزراء من بين أكثر من مرشح)، ودوره في صياغة سياسات باريس بشكل واضح([8])، وينسحب ذلك على الجوانب الاقتصادية والسياسية والعسكرية لهذه السياسات.
خلاصة:
رغم أن فوز اليسار الفرنسي متجسدًا في “الجبهة الشعبية الجديدة” بنصيب الأسد في الانتخابات النيابية في فرنسا يؤشر إلى احتمالات تغيير فرنسا سياساتها تجاه القارة الإفريقية، اتساقًا مع المبادئ المفترضة في الحركة اليسارية الفرنسية (بأطيافها الشيوعية والاشتراكية)، ضد الاستغلال الدولي وممارسات فرنسا المعروفة داخل القارة؛ إلا أن التغيير في سياسات باريس يظلّ مسألة بالغة التعقيد ومحكومة باعتبارات عسكرية وأمنية (واستخباراتية) إلى جانب طائفة من الاستثمارات والمصالح الخاصة في المتروبول، وفي الدول الإفريقية نفسها؛ الأمر الذي يُحتّم خفض حجم التوقعات في هذا المسار لحدوده الدنيا في واقع الأمر.
………………………………………………….
[1] Mohamed Lamine Kaba, Explaining Macron’s relentlessness against Russia through Françafrique’s unravelling, New Eastern Oulook “NEO”, July 4, 2024 https://journal-neo.su/2024/07/04/explaining-macrons-relentlessness-against-russia-through-francafriques-unravelling/
[2] Paul Martial, West African coups: Just changing masters, Links, July 10, 2024 https://links.org.au/west-african-coups-just-changing-masters
[3] Paul Martial, West African coups: Just changing masters, Links, July 10, 2024 https://links.org.au/west-african-coups-just-changing-masters
[4] French foreign ministry reshuffles Africa team amid Sahel crisis, Africa Intelligence, August 25, 2023 https://www.africaintelligence.com/west-africa/2023/08/25/french-foreign-ministry-reshuffles-africa-team-amid-sahel-crisis,110036030-bre
[5] CFA: The sinister tool France uses to control its former colonies, Big News Network, July 8, 2024 https://www.bignewsnetwork.com/news/274447146/cfa-the-sinister-tool-france-uses-to-control-its-former-colonies
[6] Aleksandra Gadzala Tirziu, France’s far-left takeover should serve as a warning, Restoring America, July 10, 2024 https://www.washingtonexaminer.com/restoring-america/courage-strength-optimism/3074742/france-far-left-takeover-should-serve-as-warning/
[7] France creates African Command within armed forces, The Star, June 29, 2024 https://www.msn.com/en-xl/africa/other/france-creates-african-command-within-armed-forces/ar-BB1p3Sds?ocid=BingNewsVerp
[8] Lisa Louis, France election: What the left’s win means for the economy, DW, July 9, 2024 https://www.msn.com/en-za/news/other/france-election-what-the-lefts-win-means-for-the-economy/ar-BB1pt3KB?ocid=BingNewsVerp