يتزايد السخط العام يومًا بعد يومٍ تجاه السياسات الاجتماعية والاقتصادية للرئيس “امرسون منانغاغوا” في جميع أنحاء زيمبابوي، ويمكن ملاحظة هذا السخط والاستياء عبر انتقادات المواطنين في الشوارع، ومن خلال تزايد المظاهرات في مختلف المدن للتعبير عن الإحباط من ارتفاع تكاليف المعيشة.
ففي يوم الجمعة الماضي، تجمّع الناس في ميدان الوحدة الإفريقية -وهي حديقة في قلب العاصمة هراري-؛ لكي يعبّروا عن غضبهم من حكم “منانغاغوا”، وعدم رضاهم عن التأثير السيّئ لسياساته الاقتصادية، وتدهور نظام الصحة العامة، وارتفاع أسعار السلع الأساسية وانهيار الخدمات العامة، وذلك استجابة لمسيرة احتجاج دعت إليها “حركة التغيير الديمقراطي” المعارضة.
وعلى الرغم من رمزية تلك الحديقة التي تجمَّع فيها الناس؛ حيث كانت البقعة نفسها التي وقف فيها “إيتاي دزامارا” عام 2015م كمتظاهرٍ وحيدٍ دعا الرئيس السابق “روبرت موغابي” إلى التنحي عن رئاسة البلاد؛ فقد فرَّقت الشرطة الأسبوع الماضي تلك الحشود، وقُبض على العشرات وأُصيب آخرون. إضافة إلى ما شهدته مدن وشوارع زيمبابوية أخرى من استخدام الغاز المسيل للدموع والهراوات لتفريق ومنع التظاهرات في الأيام الأخيرة.
فشل السياسات الاقتصادية:
لقد كشفت الشهور الماضية عن أنّ التعهدات والوعود -التي أعطاها “منانغاغوا” لشعبه بالتغيير والإصلاح، والتي أشادت بها الدول الأوروبية أثناء الانقلاب على “موغابي”- مجرّد “سراب”. ففي حين جادلت المملكة المتحدة ودول أوروبية بأن زيمبابوي بحاجة إلى “رجل قوي” لدفع عجلة الإصلاحات الاقتصادية، فإن العديد من المؤشرات الاقتصادية السلبية تؤكد فشل “منانغاغوا”، وأنّ جُلّ ما يقوم به قد يكون فقط لكسب رضا المجتمع الدولي.
فقد زاد معدل التضخم بشكل شهريّ باطراد منذ أن قدّمت حكومة “إيمرسون منانغاغوا” سلسلة من تدابير التقشف في أواخر عام 2018م. وفي حين سجَّل التضخم في نهاية العام الماضي نسبة 42٪ في السنة، إلا أنه ارتفع إلى 175.7٪ في يونيو الماضي؛ وهو الرقم الأحدث الذي أعلنته الحكومة، ولكنَّ توقعات الاقتصاديين تقول: إنّ معدل التضخم الحقيقي في البلاد أعلى بكثير من هذا. فكانت الخطوة التالية أن قررت الحكومة إلغاء نشر إحصاءات التضخم بشكل رسمي منذ نشر الإحصاءات الأخيرة.
وبالإضافة إلى أن المواطنين لا يزالون يشكون من نقص الغذاء والوقود؛ فإن خفض قيمة عملة البلاد، وترشيد استهلاك المياه على المدى الطويل، وانقطاع الكهرباء لمدة 18 ساعة أدَّى إلى إطلاق نداءات من النشطاء وشخصيات المعارضة بالنزول إلى الشوارع. بل دعا زعيم النقابة “بيتر موتاسا” مع الناشط “إيفان ماوريري” إلى العصيان المدني في يناير الماضي للاحتجاج على رفع أسعار الوقود بنسبة 150٪.
وعلى ما يبدو، لم يكن شعار الحكومة بأن “زيمبابوي مفتوحة للأعمال التجارية” حتى الآن سوى “حملة جوفاء”؛ لأن نسبة الاستثمار الأجنبي المباشر ما زالت منخفضة للغاية، والشركات المحلية تواصل إغلاق أبوابها لفقدان الثقة، وعدم وجود أموال لشراء الحاجيات الأساسية، بينما ظل الفساد متفشيًا دون وجود التزام حقيقي للتعامل مع الجناة، واستعادة أموال العامة المنهوبة.
فشل الإصلاح السياسي وقمع المتظاهرين
تواجه زمبابوي أسوأ أزمة نقدية واقتصادية منذ عقد، وهناك من المحللين من يخشى من أن يؤدي انتشار الاحتجاجات المناهضة للحكومة في الأيام الأخيرة إلى دفع البلاد إلى شفا أزمة سياسية طويلة المدى، خصوصًا وأنّ شرطة مدينة “بولاوايو” –وهي ثاني أكبر مدينة في زيمبابوي- قد أعلنتْ حظرًا على المظاهرات، وحذَّر من أن كل محاولات التظاهر ستُعتبر “خرقًا للسلام”، وكان وجود الشرطة المسلحة في جميع أنحاء المدينة الصناعية قد منع احتجاجًا خُطِّط له يوم الاثنين.
“ضربتني الشرطة بعصا الهراوة على ذراعي وساقي وبطني. أُواجه الصعوبة من المشي ولكنّ الاحتجاج واجب عليَّ لأنني أعاني بشدة”؛ هكذا قال “غودفري كامبا”، وهو مزارع مُعاق في هراري تعرَّض للضرب على أيدي الشرطة الجمعة الماضي، وأضاف “في منزلي، ليس لدى أسرتي سوى القليل من الطعام، لذا من الأفضل لي أن أستمر في الاحتجاج”.
ولم تكن حملة القمع العنيفة مِن قِبَل الشرطة سوى أحدث حلقة في قصة قمع الحكومة الذي استمر منذ عهد الرئيس “موغابي”. ففي أعقاب انتخابات يوليو 2018م أفادت تقارير بقتل الجيش ما لا يقل عن ستة مدنيين، وفي يناير من العام الجاري (2019م)، أطلق الجيش طلقات حيَّة على المدنيين في أعقاب احتجاج على ارتفاع تكاليف المعيشة، وفَقَدَ ما لا يقل عن 12 مدنيًّا حياتهم. ومع ذلك، لم يُوجَّه أيّ اتهام للجناة أو تتم مساءلتهم على أرواح القتلى؛ رغم تأسيس لجنة تحقيق من قبل “منانغاغوا”، والتي يبدو أن الغاية منها هي تحسين صورته الدولية السيئة.
واتهمتْ تقارير أيضًا أجهزة الأمن الزيمبابوية بالتحيُّز واستغلالها مِن قِبَل حكومة “منانغاغوا”، وأن الحكومة تعبث باستقلالية القضاء، وتُخوِّف المعارضين والمنتقدين والناشطين، وتحاكم المدافعين عن “حقوق الإنسان”، مع إفلات قوات الأجهزة الأمنية من العقاب على المخالفات والجرائم ضد حقوق الإنسان، رغم استهدافها للمنتقدين والمعارضين بالضرب المبرّح والاختطاف.
” لقد فشل منانغاغوا في الإصلاح السياسي الأساسي. وقد سقط القناع وحلّ محله رجلٌ أكثر وحشية يخلو من الصفات المتوقعة أكثر من سلفه. ففي أعقاب قيادته يقع بلد لا يستطيع فيه الأفراد تحمّل تكاليف حياة كريمة، ويُعاقَبون لمحاولتهم تسجيل سخطهم المتزايد”؛ هكذا كتب “فادزاي ماير” -محامي وسياسي من زيمبابوي- عن “منانغاغوا” في صحيفة الغارديان البريطانية.
“حافة الأزمة السياسية الكبيرة”:
في خضمّ الأزمة والاضطرابات الجارية، ناشدت عدة منظمات دولية –بما فيها الأمم المتحدة- حكومة زيمبابوي بإعادة النظر في تدابيرها الإصلاحية، وتعاملها القمعي مع المتظاهرين المسالمين، وحثّتْها على إيجاد سبل للتواصل مع السكان بشأن مظالمهم وشكاواهم بشأن الوضع الاقتصادي.
وعبرت السفارة الأمريكية في زيمبابوي عن “قلقها العميق” إزاء الاعتداء على النشطاء المعارضين، واختطافهم وتعذيبهم في الفترة التي سبقت احتجاجات هذا الشهر. وفي مارس الماضي، مدَّدت الولايات المتحدة عقوباتها التي تَستهدف المسؤولين والكيانات المرتبطة بحزب الحاكم ZANU-PF الحاكم.
ووصف “ديوا مافينغا” -مدير إفريقيا الجنوبية في “هيومن رايتس ووتش”– الوضع في زيمبابوي واستراتيجية الحكومة القمعية قائلاً: “إن زيمبابوي تقف على حافة أزمة سياسية كبيرة؛ لأن استخدام العنف من جانب الشرطة لن يؤدي إلى اختفاء المشاكل، وسيستمر الناس في إيجاد طرق لتأكيد حقوقهم الدستورية، وإظهار استيائهم من السلطات”.
ومع ذلك، أصرَّ وزير الشؤون الداخلية والتراث الثقافي الزيمبابوي “كاين ماثما” على أن نهج الحكومة هو أفضل طريقة للتعامل مع الاستياء المدني. وقال في بيان: “لا يوجد أحد فوق القانون، خاصة عندما يتعلق الأمر بالحفاظ على القانون والنظام في البلاد. سيتم التعامل مع هؤلاء النشطاء الذين قرروا المواجهة، وتجاهل أوامر الشرطة علنًا وفقًا للقانون”.
من جانب آخر، يشكّك الكثيرون في نوايا قيادة “حركة التغيير الديمقراطي” -حزب المعارضة الرئيسي-، وقدرتها ومصداقيتها؛ وذلك لسرعة إعلانها التنازل عن الاحتجاج الذي أكَّدت القيادة أنها مستمرة رغم حكم المحكمة بحظر الاحتجاجات، ما ترك في نفوس الذين كانوا على استعداد لتحدي الحظر شعورًا بالخذلان.
“لقد جعل الأمر آخرين يشككون في التزام قيادة حزب المعارضة الرئيسي، هل هم أنفسهم مأسورون (من قبل الحكومة أم لا)، ويريدون أن يُرى ببساطة أنهم يتصرفون من أجل إرضاء مؤيديهم”، هكذا قال “فلينت بيدروك” -ناشط وفنان بارز في زيمبابوي– لصحيفة “إكسبريس” البريطانية.
وأضاف “ليس لديهم (أي المعارضة) ثقة في أنفسهم.. ومن الواضح أنه لم يتغير أي شيء في زيمبابوي، وإذا تغيّر شيء فإنه إلى ما هو أسوأ من ذي قبل. لقد أتيحت للحكومة فرصة لإظهار التزام واضح بالديمقراطية من خلال السماح للاحتجاج. وفي الواقع، يمكن للمرء أن يجادل بأن حظر الاحتجاج قد أبرز محنة الشعب الزيمبابوي والطبيعة غير المتسامحة لهذه الإدارة (التي يقودها منانغاغوا)”.