أعاد قرار الجماعة الاقتصادية لدول وسط إفريقيا “الإيكاس” الجابون إلى عضويتها الكاملة، ويُنشِّط مشاركتها من جديد عقب تعليقها لمدة 6 أشهر. وتكشف دوافع القرار ومسوغاته عن اعتبارات عدة؛ منها: كون الجابون دولة المقر الدائم، وتضاؤل الضغوط الخارجية وإجراءات التهدئة والاستمالة مِن قِبَل المجلس العسكري، وهشاشة “الإيكاس” البنيوية، والإرث المشترك بين الدول الأعضاء فيما يتعلق بالمسار السياسي والديمقراطي وتداول السلطة.
وتنجم عن القرار ارتدادات فورية عدة، يدور جُلّها حول الشرعية الصريحة لتغيرات الجابون غير الدستورية، وإعادة تنشيط عضوية الجابون، والعودة للمقر الدائم للجماعة، وتشجيع الانقلابات وتضاؤل ثِقَل “الإيكاس” كتكتل إقليمي.
تطوّر مغاير:
لم ينسلخ الجابون عن تطورات نظرائه من دول غرب ووسط إفريقيا وتداولاتهم غير الدستورية للسلطة؛ فقد طالته دوامة التداول غير الديمقراطي للسلطة مِن قِبَل مجلسه العسكري بقيادة “الجنرال بريس أوليغي نغيما”، ودخل فترته الانتقالية. وبنحو مغاير، واجَه نسبيًّا ردودًا (هادئة وناعمة ومتصالحة) حتى إعادة تنشيط مشاركته واسترجاع عضويته الكاملة مِن قِبَل الجماعة الاقتصادية لدول وسط إفريقيا في 10 مارس 2024.
تدابير مؤقتة:
في بيانها الأخير؛ فرّغت الجماعة الاقتصادية “الإيكاس” قراراتها وتحركاتها تجاه الجابون من الإجراءات التصعيدية والعقابية الناتجة عن الإطاحة بالرئيس “علي بونغو أوديمبا”، والإنهاء الفوري لولايته الثالثة في 30 أغسطس 2023، والتي بلغت ذروتها بتعليق عضوية الجابون ومشاركته في جميع الأنشطة داخل “الإيكاس” لحين عودة النظام الدستوري، ونقلت مقر المفوضية منه إلى غينيا الاستوائية، وشكَّلت لجنة لمتابعة تطوراته، وطالبت القادة العسكريين بحماية الرئيس المخلوع وضمان سلامته.
ردّ ناعم:
بداهةً، يتبيّن للمتابع أن الجماعة الاقتصادية لوسط إفريقيا “الإيكاس” خالفت نظيراتها لغرب إفريقيا في تعاطيها الأولي مع أطرافها الأعضاء: (مالي والنيجر بوركينا فاسو وغينيا كوناكري)؛ فهي لم تفرض أيّ عقوبات اقتصادية، ولم تلجأ لاستخدام أو التهديد باستخدام التدخل العسكري، ولم ترغب بالتفعيل الكلي لمواد برتوكول مجلس الأمن والسلم الخاص بها ذات الصلة بإمكانية منع الأزمات وإدارتها وحلها من خلال نشر بعثات دعم السلام أو الصراعات بين الدول وداخلها أو في حالة حدوث تغييرات غير دستورية في الأنظمة السياسية وفقًا للمادة الخامسة، وإمكانية تفعيل الإجراءات العقابية الصارمة المتعددة؛ من بين تعليق العضوية والعقوبات الاقتصادية وفقًا للمادة السابعة، بل أقرَّت نهج التسوية السلمية والوساطة الشخصية بتعيين رئيس إفريقيا الوسطى مبعوثًا باسمها.
توجُّه عام:
الثابت من الأحداث أن الجماعة الاقتصادية لدول وسط إفريقيا كثيرًا ما تُعلن عن تدخلات محدودة، وتحصر أدوارها بصورة جلية داخل قراراتها التصعيدية فقط، قبل أن تبدأ في التراجع عنها. ففي السابق، لم تُحقّق تقدمًا أو تدخلًا لافتًا بشأن الصراع القائم في الشرق الكونغولي، ولم تُنْهِ حدة تفاعلات أطرافه الصراعية، بل أفسحت المجال لغيرها من مجموعة شرق إفريقيا والمجموعة الإنمائية للجنوب الإفريقي “السادك”، والمؤتمر الدولي للبحيرات العظمى للتدخل، ورحَّبت بنشر قواهم الإقليمية.
تفاؤل ملحوظ:
بداهةً، يبدو أنها أكثر تفاؤلًا تجاه الفترة الانتقالية للجابون وانفتاحًا على إجراءاتها، وأكثر تصديقًا لخطابات رئيسها “بريس أوليغي نغيما”، وتعهداته بإصلاحات مؤسسية ودستورية وانتخابية. لذا، لم يكن مثيرًا للاستغراب توجُّه تلك الجماعة نحو إنهاء إجراءاتها التصعيدية تجاه الجابون، وفك تجميد عضويته، مستندةً لما أسمته بالتقدم الملحوظ لاستعادة العملية الدستورية وبالجدول الزمني لمرحلة انتقالية ومدتها 24 شهرًا، واعتزام إجراءات الانتخابات بحلول أغسطس 2025، والتأكيد على عقد حوار وطني شامل لوضع دستور جديد في أبريل 2024.
اعتبارات حاكمة:
بصورةٍ أو بأخرى، ترصد أدبيات العلوم السياسية عدة اعتبارات حاكمة لتحركات الجماعة الاقتصادية لدول وسط إفريقيا، وناظمة لبياناتها وقراراتها وتوجهاتها تجاه مجريات الأحداث في الجابون، سواء السابقة منها أو القائمة أو القادمة، وتُقدّرها على النحو التالي:
1- دولة المقر:
يبدو أن تحركات الجماعة الاقتصادية لوسط إفريقيا تجاه الجابون على نحوٍ مُشابه لتحركات نظيرتها لغرب إفريقيا اصطدمت بالدرجة الأولى بالاعتبارات التاريخية لتأسيس المنظمة وبنيتها المؤسسية؛ إذ تصوّر شواهد تأسيسها الجابون كأحد أعضائها المؤسسين الرئيسين حدّ استضافاتها الأمانة العامة للجماعة، وكونها المقر الدائم لها منذ تأسيسها عام 1983؛ بشكلٍ دفَعها لإعادة تقييم إجراءاتها التصعيدية والعقابية والتقييدية للجابون وتداعياتها على مستقبل المنظمة، ولا سيما في ظل المؤشرات القائلة بأن أيّ تحرّك خَشِن أو صلب تجاه الجابون ومجلسها العسكري المدعوم شعبيًّا قد يخلق اصطدامًا ورفضًا شعبيًّا، وقد يثير اصطفافًا إقليميًّا مِن قِبَل المجالس العسكري في دول غرب ووسط إفريقيا الشبيهة للجابون؛ وهي مالي وبوركينا فاسو والنيجر وغينيا كوناكري وتشاد.
2- تضاؤل الضغوط الخارجية:
بصفة بارزة، أكَّدت سياقات دولة الجابون ومجرياتها ردود فعل دولية وإقليمية باهتة ومتصالحة مع تغيرات الجابون، بعكس ما جرى لدى دول الغرب الإفريقي من إدانات وعقوبات اقتصادية وتهديدات متزايدة؛ إذ اكتفت ردود الفعل الدولية والإقليمية بالإعراب فقط عن القلق والإدانة الخفيفة والمباركات الضمنية للمجالس العسكرية، وخاصةً مِن قِبَل روسيا والصين والولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا وألمانيا والاتحاد الأوروبي ومجلس السلم والأمن الإفريقي.
ويبدو أن تضاؤل الضغوط الدولية والإقليمية كان مدفوعًا بالاعتبارات المصلحية والاقتصادية والاستراتيجية لدولة الجابون نسبيًّا عن غيرها من الدول؛ فهي رابع مُنتِج إفريقي للنفط بقوام أكثر من 200 ألف برميل يوميًّا، وباحتياطي مقدّر بملياري برميل، وبإنتاج غاز نصف مليار متر مكعب، وباحتياط يُقدّر بـ 26 مليار متر مكعب، وإنتاج منجنيز بـ2.3 مليون طن متري، وبإدراك الجماعة الاقتصادية كغيرها من الأطراف الفاعلة بخطورة التداعيات الاقتصادية والأمنية الناجمة عن أيّ تصعيد تجاه الجابون، فهي تتَّجه معهم ناحية تخفيف الإجراءات وتفريغها وتقبُّل مجريات وتغيرات الجابون.
3- إجراءات التهدئة والثقة:
يتضح أن تحرُّكات المجلس العسكري في الجابون قد نالت ثقة الجماعة الاقتصادية لوسط إفريقيا، وحظيت بإشادتها وترحيبها المتكرر إلى الحد الذي باتت الجماعة الاقتصادية تُعرب عن ترحيبها بالإنجازات المحقَّقة بشأن إعداد الجدول الزمني للمرحلة الانتقالية، والوعد بإجراءات إصلاحية ديمقراطية وفقًا لتصريحات الحكومة الانتقالية في نوفمبر 2023، وتأكيدها على الحوار الوطني الشامل في أوائل مارس 2024، وإطلاقها سراح الرئيس المعزول “علي بونغو” وتحريره من الإقامة الجبرية في 7 سبتمبر 2023؛ حيث أطلق سراحه ومُنِحَ تصريحًا بالسفر لإخضاعه لفحوص طبية.
4- جولات المجلس العسكري وزياراته الدبلوماسية
يبدو أن المجلس العسكري قد نجح بدرجةٍ أو بأخرى في تبنّي أطروحة “انقلاب التحرير”، واستمالة دول وسط إفريقيا؛ فمنذ أغسطس 2023، قام بجولات واسعة لكثير من دول غرب ووسط إفريقيا، ومنها: تشاد وجمهورية إفريقيا الوسطى وغينيا الاستوائية وجمهورية الكونغو الديمقراطية، ويبدو أنه خلال زياراته الخارجية قد تمكَّن من إقناع زعماء إفريقيا الوسطى بأن الانقلاب العسكري كان ضروريًّا لإنقاذ الجابون من الحكم الاستبدادي الطويل لعائلة بونجو الذي أفقر المدنيين وخلق أوضاعًا سياسية وعرقية شديدة الصعوبة، ويتبين ذلك في تصريح رئيس مفوضية الجماعة الاقتصادية لدول وسط إفريقيا “جيلبرتو دا بيداد فيريسيمو” في أكتوبر 2023؛ حيث أكد على استعداد المجموعة الاقتصادية لدول وسط إفريقيا لدعم الجابون دائمًا.
5- هشاشة “الإيكاس”
المتابع والمدقق لأحوال دول وسط إفريقيا ودورها الإقليمي وتجليات جماعتها الاقتصادية “الإيكاس”؛ يلمس اعتبارات هيكلية وبنيوية وسياسية عدة تَحُد من أدوار الجماعة وتُضعف فاعليتها؛ إذ تعاني الجماعة الاقتصادية بصفة خاصة من هشاشة مؤسسية وأمنية ودفاعية وتمويلية، تسلب آلياتها وقراراتها أيّ فعالية أو آثار حقيقية في مجريات الوسط الإفريقي؛ إذ تسلب الهشاشة الأمنية والعسكرية لبعض دول الأعضاء: (إفريقيا الوسطى، والكونغو الديمقراطية، وتشاد) قدرة المنظمة على تفعيل التدخل العسكري، وتحد قدرتها التمويلية الضعيفة من إمكانية تنفيذ أيّ قرار أو خطة مشتركة مؤثرة، وتمنع أزمة الثقة بين أعضائها الأطراف ومخاوف تصفية الحسابات الشخصية من تحقيق التوافق التام والإجماع الكامل لأيّ قرارات تصعيدية ضد أحد أعضائها.
6- الإرث المشترك بين الدول الأعضاء:
تشير كثير من الشواهد إلى أن الإرث المشترك بين الدول الأعضاء في جماعة الوسط الإفريقي -والذي يتمثل في تراجع الديمقراطية، وتآكل جهود التحول الديمقراطية البائن- أدى إلى عدم حماس الدول الأعضاء لأيّ إجراءات داعمة للديمقراطية أو الرافضة للتغيرات الدستورية تجاه الدول الأعضاء، بما في ذلك الجابون؛ تخوفًا من استخدام تلك الإجراءات ذريعةً للتدخل في شؤونهم الداخلية، أو توظيفها كعوامل ضغط عليهم، لا سيما في ظل الظروف والمتغيرات والسياقات السياسية والأمنية المتشابهة لتلك الدول ونظم الحكم بها؛ ففي الكاميرون، يحكم “بول بيا ” منذ سنة 1982، وفي الكونغو يحكم “دنيس ساسو نغيسو” منذ 1979 إلى 1992، ومن 1997 إلى اليوم، وفي غينيا الاستوائية، يحكم “تيودورو أبيانغ نغيما مباسوغو” منذ 1979.
ارتدادات فورية:
ينجم عن قرار رفع تعليق عضوية الجابون -محل التحليل- جملة من الارتدادات الفورية على المدى القريب والمتوسط والبعيد، يمكن تقديرها كما يلي:
1- شرعية التطورات غير الدستورية: لا شك أن القرار يحمل صراحة اعترافًا رسميًّا وبائنًا وأكيدًا بالتطورات غير الدستورية للجابون، وينقلها من الاعتراف الضمني إلى الرسمي، والتسليم بالحكومة الانتقالية كحكومة شرعية ممثلة للجابون، ومِن ثَم يلحظ تخلّي المجموعة الاقتصادية عن الرئيس المعزول ورئيس دورتها الحالية “علي بونغو أوديمبا” قبل عزله.
2- تنشيط عضوية الجابون، يحمل القرار إنهاءً فوريًّا لتجميد عضوية الجابون، ويُؤشِّر بإعادة تنشيط مشاركتها على كافة الأصعدة كعضو كامل ورئيس بكافة الهياكل والاجتماعات والمؤسسات التابعة للمنظمة، وقد يحتّم بالتأكيد عودة الجماعة الاقتصادية لمقرّها الدائم والأصلي، وإنهاء مقرها المؤقت في “مالابو” بغينيا الاستوائية.
3- تضاؤل ثقل “الإيكاس”، يُنذر القرار -بصورة واضحة كغيره من القرارات التي تراجعت فيها جماعة وسط إفريقيا عن التصعيد، سواء للجابون أو غيرها- بمزيد من تضاؤل دورها وثقلها السياسي والأمني والعسكري حدّ عدم الالتفات إلى قراراتها أو إجراءاتها، وكذلك يسلبها القدرة على تنفيذ أيّ من قراراتها ومواثيقها، ومِن ثَم عدم الفعالية في تحقيق أهدافها وفشلها المحقّق على المدى البعيد نظريًّا أو فعليًّا.
4- تشجيع الانقلابات: قد يثير قرار إعادة عضوية الجابون بصورة غير مقصودة انتشار عدوى الانقلابات والتغيرات غير الدستورية في باقي بلدان الوسط الإفريقي بشكل قد يؤدي إلى انهيار واختفاء مكتسبات التحول الديمقراطي والتداول السلمي، ويهدّد بمزيد من العنف والتأزم السياسي والأمني، وقد تتعالى تلك الاحتمالات في ظل الظروف المشابهة لدول الوسط الإفريقي ووقوفها على بيئة خِصْبة للانقلابات والتغيرات غير الدستورية وفقًا لما صوَّرته وقائع “الجابون وتشاد” حاليًّا أو تطورات الأحداث في الكونغو الديمقراطية والكونغو سابقًا.
ختامًا، يتضح مما سبق أن القرار لم يكن مباغتًا أو فريدًا من نوعه، بل كان شبيهًا لقرارات مشابهة مِن قِبَل المنظمة الدولية الفرانكوفونية في فبراير 2024؛ حيث رفعت تعليق مشاركة الجابون، وكان متسقًا مع اتجاه القوى الإقليمية والغربية للتصالح مع المجلس العسكري في الجابون. ولم يكن وليد اللحظة؛ إذ بدأت بوادره الأولى مع غياب النية لفرض عقوبات اقتصادية والتهديد بالتدخل العسكري، وعدم اشتراط عودة الرئيس المعزول، بل رهن عودتها بمدى تقدمها في العودة للنظام الدستوري.
ويتضح أن ما جرى في الجابون لا يرشح لتمدّد النفوذ الروسي على حساب النفوذ الفرنسي في المدى القريب، وأن الجماعة الاقتصادية الآن متفائلة لسبب أو لآخر بحُسْن نوايا المجلس العسكري، غافلة عما يحمله الحوار الوطني المحتمل من احتمالية عدم وفاء المجلس العسكري بالفترة الانتقالية واتجاهه لتمديدها مجددًا، واستبعاد سيناريو تسليم السلطة للمدنيين وفقًا لما تأمله جماعة “الإيكاس”، وخاصةً في ظل تهميش القوى الحزبية والمدنية.