شيماء حسن علي عبد الرحيم
باحثة دكتوراة – كلية الدراسات الأفريقية العليا – جامعة القاهرة
يُعدّ التنوع الإثني من أهم الظواهر الإنسانية التي تتقاسمها عدد من المجتمعات؛ حيث ينتشر في العالم قرابة 8000 إثنية، في إفريقيا وحدها 2200 إثنية، وفي آسيا قرابة 2000 إثنية.
وتعتبر مشكلة الاندماج الوطني السمة الأساسية للدولة الإفريقية الحديثة بعد الاستقلال، بل يمكن القول: إنها المصدر الأساس الذي تنبثق منه أغلب مشكلات القارة بشكل عام. وعلى الرغم من عدم تفرُّد القارة الإفريقية بالتنوع الإثني والعِرقي والثقافي والديني؛ فإن أزمة بناء الأمة لا تزال على درجة عالية من التعقيد؛ إذ بفضل الإرث المُرّ الذي خلَّفه الاستعمار، والفشل في تحقيق نموذج التنمية الذي وعَد به قادة التحرر الوطني، وتغليب الولاءات القبلية والعرقية -تحت الوطنية- على المصلحة الوطنية العامة، فضلًا عن عدم العدالة في توزيع الموارد، وما ترتب عليه من انتشار الفقر والبطالة وزيادة النزعات الانفصالية؛ فإن مشكلة الاندماج الوطني لا تزال موجودة، بل إن وضع الدولة الإفريقية ما بعد الاستقلال حظي بتشكيك كبير من المتخصصين الذين باتوا يسعون للإجابة عن التساؤل الآتي: “الدولة الإفريقية هل هي حقيقة فعلية أم واقعة قانونية؟”
ويمكن اعتبار نيجيريا نموذجًا لما تمثله القارة الإفريقية من إشكاليات، وأبرزها عملية بناء الأمة النيجيرية، ففعليًّا، تضم نيجيريا إثنيات عديدة، وحوالي 250 لغة محلية، وتمتاز بتعدُّد ديني (ففيها مسلمون، نصارى، وديانات محلية)، أو حتى داخل الدين الواحد (هناك السُّنة والشيعة، كاثوليك وبروتستانت وأرثوذوكس)، فضلًا عن التنوع العرقي والثقافي والاجتماعي، وفي محاولة من القائمين على الحكم فيما بعد الاستقلال لاستيعاب هذا التنوع والتعدد؛ فقد تم تقسيم البلاد إلى ولايات عديدة بلغت في البداية 30 ولاية، ثم تم زيادة العدد إلى 36 ولاية مؤخرًا، لكنَّ الممارسة الفعلية أثبتت استمرار المشكلة؛ خاصةً بعد اندلاع الحرب الأهلية في إقليم بيافرا، وتوسُّع الصراع ليشمل بُعدًا دينيًّا آخر بعد تمرُّد تنظيم “بوكو حرام” منذ 2009م.
وستحاول الورقة مناقشة أزمة الاندماج الوطني في نيجيريا من خلال المحاور الآتية:
1- خريطة التعددية في الدولة.
2- تأثير السياسات الاستعمارية على الاندماج الوطني.
3- السياسات الخاصة بالاندماج الوطني بعد الاستقلال.
4- تقييم السياسات الخاصة بالاندماج بعد الاستقلال.
أولًا: خريطة التعددية في نيجيريا
في الواقع، إن الخريطة التعددية في نيجيريا تشمل عدة أبعاد مثلما ذكرنا من قبل، وعليه فسيتم تقسيم التعددية إلى أقسام؛ أولها التعددية الإثنية والعِرقية، والتعددية الدينية، والتعددية الثقافية، وذلك على النحو التالي:
– التعددية الإثنية النيجيرية:
في البداية لا بد من الإشارة إلى أصل مفهوم الإثنية، والتي ظهرت لأول مرة في القاموس الإنجليزي لأكسفورد في بداية الخمسينيات، وبالتحديد 1953م، ويرجع مصطلح الإثنية إلى الكلمة اليونانية ethno، والتي كانت تُستخدم للإشارة إلى الشعوب أو الأمم، على أن هناك عدَّة تعريفات للإثنية؛ منها ما يُفرِّق بينها وبين العرقية، ومنها ما يُجملها ويعتبرها التعريف أو المصطلح الأشمل، ومنها ما يَعتبر المصطلحين مترادفين:
يعرفها الدكتور محمود أبو العينين بأنها “جماعة من الناس تعيش في مجتمع أشمل، وتعتقد بوجود روابط مشتركة، وتتمثل هذه الروابط في الاعتقاد بانحدارهم من أصل مشترك، وتجمعهم خصائص ثقافية مشتركة كاللغة والدين والتقاليد”.
وبالتالي حدد التعريف ثلاثة عناصر تُعتبر كافية لتحديد مصطلح الإثنية، والتي يعتبرها “أبو العينين” مرادفًا للعرقية وهي: وجود مجموعة العناصر (البيولوجية المركبة)، مثل الدم الجينات، العظم ولون الشعر، وأن يتوفر قدر من التضامن بين أفراد الجماعة، ووجود حياة مشتركة، وأن يتوفر قَدْر من الاتصال بين الجماعة العرقية وبين المجتمع ككل أو الجماعات المكونة له.([1])
في حين يعرفها الدكتور عبد السلام إبراهيم البغدادي بأنها “جماعة بشرية تتميز بسماتها الطبيعية: العِرْق والدين واللغة القومية والقبيلة، عن غيرها من الجماعات البشرية الأخرى داخل الدولة الواحدة، وبغض النظر عن حجمها أو عددها، فالجماعة الإثنية قد تكون أقلية في عددها أو أغلبية”. وهو بذلك يعتبر العرق جزءًا من الإثنية. في حين عرَّفها رولان بروتون الذي اشترط في تعريفة الواسع للإثنية هو وجود اللغة الأم فقط، وفي تعريفة الواسع للإثنية أكد أنها “جماعة من الأفراد مرتبطون بخصائص مشتركة مركبة أنثروبولوجية، سياسية، تاريخية، سياسية، والتي يشكل اجتماعها نظامًا خاصًّا… وثقافة معينة”.([2])
وسيعتمد هذا الجزء من الورقة على تعريف الدكتور محمود أبو العينين، والذي سيجمل التعددية في نيجيريا إلى عدة أبعاد، فعلى المستوى الإثني/العرقي؛ ففي الواقع ينطوي المجتمع النيجيري على أكثر من 250 إثنية، وتنقسم الإثنيات إلى مجموعات كبيرة، وتضم من 8-10 إثنيات كبرى موزعة في الشمال والشرق والجنوب وهم (الهواسا/الفولاني 36%، اليوربا 15,5%، الإيبو15,2%، الكانوري 2,4%، التيف 2,4%، الايدو والايفك)، وإلى جانب مجموعة من العرقيات الصغيرة (الريفرز، الكروس، أناج، الإيجاو، أدو، أوهويو، نوبية).([3])
وفي سياق السرد الموجز لبعض أكبر القبائل تعتبر (الهواسا/ الفولاني) لها مدلول لغوي أكثر من مدلولها العرقي؛ حيث إن الهوسا بحد ذاتها ليست قبيلة بقدر ما هي أمة تنضوي تحتها مجموعات سكانية مختلفة؛ فالهوسي قد لا تُميّزه ملامح جسمانية محددة بقدر ما تظهره اللغة، وقد اتفق عدد من المؤرخين على أن الهواسا هم مزيج من القبائل التي اندمجت وانصهرت مع بعضها البعض، وقطنت شمال نيجيريا؛ أي هي مزيج من السودانيين وأهل البلد الأصليين، والطوارق والبربر والفولاني، وتدين بالإسلام، وكانت أبرز ممالكهم، مملكة كانو ومملكة بورنو.
أما فيما يخص قبائل اليوربا فهم يقطنون الجنوب الغربي غرب نهر النيجر، ويدين جزء منهم بالإسلام، ويتحدثون لغة اليوروبا، ويحتلون المرتبة الثانية بعد الهوسا كثافةً، تتألف قبائل اليوروبا من سبع ولايات لكل منها زعيمها الخاص، كما يوجد اليوروبا في سبع ولايات من أصل 36 ولاية في نيجيريا. هذه القبائل لم تُشكِّل كيانات سياسية موحدة، لكنَّ ممالكها كانت تتعايش تارة وتتصارع أخرى، وكانت “الإيدو” في بنين تتمتع بقوة عسكرية وسياسية.
وفيما يخص قبائل “الإيبو” فهم يتوزعون في الجنوب الشرقي لنيجيريا بين الكاميرون ونهر النيجر وبنين والمحيط الأطلسي، ويشكلون 18% من سكان نيجيريا، يتحدثون لغة الإيبو، وهي ثالث أكبر قبيلة في نيجيريا بعد الهوسا واليوروبا، يتمركزون حيث انتشار مراكز استخراج مصادر الطاقة -نفط وغاز-، وقد كانت هذه القبائل مقسمة إلى 200 مجموعة عرقية، ويدينون بالدين المسيحي، وفي الفترة الاستعمارية أقبلوا على الثقافة الغربية؛ حيث شجَّعهم الإنجليز على الانعزال الفكري عن المسلمين، وتعلَّموا في مدارس المبشرين المسحيين حتى أصبحت نسبة المتعلمين منهم مرتفعة.([4])
– التعددية الثقافية:
بشكل عام يمكن رصد خمس ثقافات تُشكِّل في مجموعها ثقافة المجتمع النيجيري، وهي: الثقافة الإسلامية التي يدين بها قبائل الهواسا الفولاني في الشمال النيجيري، والثقافة الساحلية في الجنوب الشرقي والتي تنتمي لها قبائل الإيبو، وثقافة مالك الغابات والمنتشرة في غرب نيجيريا لقبائل اليوربا، وثقافة الرعاة في أنحاء نيجيريا، وأخيرًا ثقافات لمجموعات صغيرة بدائية في وسط نيجيريا وعلى طول الحد الشرقي للدولة.
–تعددية لغوية ودينية:
في الواقع يعتبر الشمال النيجيري أكثر تناسقًا من الجنوب؛ إذ ينتشر في الشمال لغة (الهواسا/ الفولاني)، كما يمثل الإقليم الشمالي حوالي نصف الشعب النيجيري، أما في الجنوب فتنتشر لغة الإيبو واليوربا، إلى جانب ذلك تضم نيجيريا أكثر من 250 لغة محلية. وتظل اللغة الإنجليزية هي اللغة الرسمية للبلاد؛ فبطبيعة الحال تعتبر إحدى الدول المنضمة للكومنولث، إلا أنه فعليًّا فإن كل إثنية تُفضّل المحافظة على لغتها وعاداتها وتقاليدها؛ مما يعيق حركة التواصل، خاصةً في الجنوب الشرق والغربي. وعلى سبيل التعددية الدينية هناك ينتشر الإسلام في الشمال، ويصل إلى أقصى الغرب، وتصل نسبة المسلمين حوالي 53,5%، والمسيحية في الجنوب الغربي والشرقي وتنقسم إلى الكاثوليك 10,6% وباقي طوائف المسيحيين 35%، وهناك بعض الجيوب المسيحية في الشمال أيضًا، فضلاً عن وجود الديانات المحلية والوثنية في الوسط، وتمثل حوالي 6%.([5])
–تعددية اقتصادية:
تعددت الأنشطة الاقتصادية بتعدد الموارد الطبيعية الموجودة في المجتمع النيجيري، ففعليًّا كان هناك نشاط رعوي ينتشر في نيجيريا بشكل عام، فضلًا عن النشاط الاقتصادي الزراعي؛ إذ تشكل اليابس في نيجيريا حوالي 910,7 كيلومتر مربع، وبينما تشكل المياه 13000 كم مربع، ويمكن ملاحظة وجود الإقليمية والتي نتجت عن تمركز أكبر المجموعات الإثنية في الأقاليم الرئيسة الثلاث، وهو مما أدى إلى سيطرة كل إثنية على المقدرات الاقتصادية الموجودة في داخل أراضيها.([6])
ثانيًا: تأثير السياسات الاستعمارية على الاندماج الوطني
منذ قدوم المستعمر البريطاني إلى المنطقة المسماة نيجيريا الآن؛ فقد عمل على تأسيس محميات كانت بشكل رئيس في الشمال -أماكن تمركز قبائل الهوسا/الفولاني- والجنوب ومدينة لاجوس الساحلية، وقد عيّن حاكمًا مسؤولًا لكل محمية، ومع اندلاع الحرب العالمية الأولى فقد قررت الإدارة الاستعمارية توحيد نيجيريا عام 1914م، وضم محمية الشمال والجنوب النيجيري، ودمجت في وحدة سياسية واحدة، ولها حاكم واحد- اللورد لوجارد- وعاصمتها لاجوس.
ولقد أنشأ الحاكم العسكري البريطاني اللورد “فريدريك لو جارد” أول مجلس تنفيذي للحكم في نيجيريا؛ إلا أنه في عام 1922م تم إلغاؤه؛ وذلك نظرًا لأن المسؤولين لم يقوموا بمهامهم، ولكن يمكن القول: إنه قد ساعد النيجيريين في التدريب على الوظيفة التشريعية، ولقد سمح المستعمر البريطاني للعائلات التقليدية الحاكمة بممارسة دورهم كنوع من تطبيق الحكم غير المباشر، والتي أسفرت عن تطبيق ما سُمِّي بالسياسة المزدوجة التي امتازت بها المستعمرات البريطانية بشكل عام؛ إذ ترك للسلطة التقليدية الموجودة أصلاً صلاحيات في بعض الشؤون المحلية مثل القضاء، ولكن احتفظ لنفسه بوضع السياسات العامة، وترك للأمراء التقليديين تنفيذها، ولم يتخذ اللورد “لوجارد” أي إجراء يتعارض مع الدين الإسلامي؛ إذ إنه اعتقد أن محاولة إضعاف السمات الثقافية السائدة يعدّ إضعافًا لقوة الأمراء في السيطرة على تلك المناطق، وإلى جانب هذا الاعتقاد؛ فقد رأى “لوجارد” في المقاطعات غير الإسلامية بأن تُحكم بطريقة مختلفة وليبرالية أكثر من المقاطعات الإسلامية؛ لإيمانه بضرورة عدم خضوع غير المسلمين لعادات وقوانين الدين الإسلامي، ولإتاحة فرصة أكبر للتقدم والتطور اجتماعيًّا وثقافيًّا، وعلى الرغم من اعتقاد “لوجارد” السابق، إلا أنه تعامل بنفس منطق الحكم غير المباشر وخضوع الجنوبيين لنفس مفهوم السطلة المزدوجة.([7])
ويمكن القول: إن المستعمر البريطاني لم يُراعِ الفروق الجوهرية بين شعب الشمال والجنوب -بشقية الشرقي والغربي-، ورأى أن الاعتماد على الزعماء المحليين أكثر جدوى في توفير الأمن والاستقرار وجمع الجباية، وهو ما يعني أنه كان مقبولاً ولم يُهدِّد نفوذ ومصالح قبائل الفولاني المسيطرة هناك. وعلى العكس من ذلك فإن الوضع في الجنوب كان مغايرًا، فالجنوب الشرقي الذي تسكنه قبائل الإيجبو كانوا يعيشون ضمن قرى صغيرة متناثرة، والجنوب الغربي كان يقطنه شعب اليوربا كان يفتقر لسلطة مركزية واحدة بالرغم من وجودهم ضمن مدن مستقلة عن بعضها البعض.
ومِن ثَم طبَّقت بريطانيا نفس السياسة الاستعمارية، وحطمت نظام السلطة التقليدية الذي كان سائدًا، خاصةً الوضع في الجنوب الشرقي، والذي لم يكن به سلطة تقليدية بنفس الشكل في الشمال، ومن ثم عيَّنت بريطانيا حكامًا للإقليم ومنحتهم سلطات تتعارض مع قِيَم المواطنين وتقاليدهم.([8])
ولقد تبلورت الإثنية بصورة واضحة بعد ضم محمية الشمال والجنوب 1914م؛ حيث لعبت الأيديولوجيا والخرافات والأساطير دورًا في صياغة الفوارق بين الجماعات، وكذلك لعب الأفراد الجنوبيون من قبائل الإيجبو واليوربا الحاصلون على تعليم غربي -أثناء الحقبة الاستعمارية- دورًا كبيرًا في تعزيز مكانتهم الاجتماعية والسياسية، والتي حينما تهددت بمجرد إجراء أول انتخابات ديمقراطية في نيجيريا وفوز الشماليين، سعوا للانفصال وقيام حرب أهلية أسفرت عن إزهاق أرواح الآلاف، ومن خلال فرضه للسياسة المزدوجة فقد أصبح كل فرد يخضع لسلطة أعلى منه في إطار ما سُمِّي بالقبلية كمفهوم حاكم للعلاقات بين الجماعات الإفريقية، وبعضها البعض؛ باعتبار أن هذه العلاقات لا تخرج عن إطار التنافس بين القبائل على الثروة والمكانة، الأمر الذي دفع الإدارة الاستعمارية لتعزيز الفوارق والخلافات بين الجماعات الإفريقية.([9])
وبالرغم من توحيد البلاد فإن أقاليم الشمال والجنوب أصبحوا منعزلين أكثر؛ فالواقع أن الإدارة الاستعمارية قد قسمت المحمية البريطانية عدة مرات؛ سواء إلى أقاليم مختلفة أو مقاطعات عام 1946م، وتجلَّى ذلك من خلال حظر نشاط البعثات التنصيرية التي تولت مهمة التعليم في المستعمرات البريطانية في الشمال، مع استمرار عملها في الجنوب الشرقي والغربي، وهو الوضع الذي أسفر عن إحراز تقدم تعليمي في الجنوب أكثر من الشمال الذي كان التعليم فيه نخبويًّا، ويقتصر على أبناء القبائل التي سوف تستعين بهم بريطانيا فيما بعد، وهو الوضع الذي كفل ميزات تفضيلية لأبناء الجنوب في الحصول على مراكز مهمة في الإدارة العامة والمناصب السياسية([10]).
ويمكن ملاحظة أبعاد السياسة الاستعمارية في نيجيريا كنموذج لسلوك عام للإدارة الاستعمارية، من خلال رصد الأبعاد المختلفة لها، وبشكل خاص البعد الاقتصادي والعسكري، والتي تركت آثارًا واضحة على المجتمع النيجيري، وأعاقت الاندماج بين مختلف مكوناته الاجتماعية أثناء وبعد الحقبة الاستعمارية.
فلقد عززت الأداة الاقتصادية من التوزيع الطبقي لامتلاك أدوات الإنتاج وتوزيعها وموقع نيجيريا فيها، فالأصل أن نيجيريا كانت تعتبر أكبر سوق اقتصادية للمنتجات البريطانية، كما كانت تتمتع بحجم استثمارات ضخم؛ إذ كانت تتولى هذه الوظيفة الشركات البريطانية العالمية، ومثلما شهدت المستعمرات البريطانية ظاهرة الوسطاء على المستوى السياسي، فقد ساهمت تلك الفئة -بشكل أو بآخر- في نشوء طبقات بورجوازية صاعدة استفادت من هذا الوضع الاقتصادي، وعززت مصالحها، وعملت على تكوين تراكم رأسمالي وهو الوضع الذي دعمته الإدارة الاستعمارية.
ويرى الدكتور إبراهيم نصر الدين أن الدولة النيجيرية تتنازعها قوتان من جانب قوى الطرد الإثنية الإقليمية، والتي رأت أن مصلحتها الإعلاء من شأن الهوية الذاتية الإقليمية على حساب الهوية الوطنية؛ طالما أن ذلك يشكل الضمان الأساسي لاستمرار سيطرتها السياسية والإقليمية واستمرار لثرائها الاقتصادي. ومن جانب آخر فقد رأت قوى الجذب الطبقية الوطنية أن من مصلحتها الإعلاء من شأن الولاء الوطني العريض، بالإضافة إلى ممارسة نشاطها التجاري أيضًا خلال سوق تجاري كبير يحتاج فيه الشمال الحبيس إلى موانئ الجنوب، ويحتاج فيه الشرق والغرب إلى فرص العمل المتوافرة في الشمال.([11])
وعلى الصعيد العسكري؛ فقد كانت سياسة الاستعمار البريطاني في هذا الجانب انتقائية إلى حد بعيد، ففي حين فضَّلت بريطانيا الاعتماد على بعض القبائل، والتي كانت لها خبرة عسكرية للاستفادة منهم؛ سواء في التجنيد والمشاركة في الحروب العالمية في توظيفهم بعد انقضاء خدمتهم العسكرية، وشغل وظائف حفظ الأمن داخل الأقاليم، كما استعانت الإدارة الاستعمارية ببعض القبائل الموالية لها لإخضاع قبائل أخرى كانت تقاومها، مثل ما حدث في شمال نيجيريا؛ إذ استعانت بقبائل التيف وهم أقلية في حربها ضد قبائل الفولاني التي كانت تناهضها، واعتمادها على قبائل الإيجبو وإيكال الوظيفة العسكرية لهم؛ نظرًا لطبيعتهم وخبرتهم العسكرية التقليدية، وهو الوضع الذي تسبَّب في وجود عدم استقرار وانقلابات عسكرية مستمرة منذ الاستقلال وحتى عام 1999م، فضلًا عن تنامي النزعات الانفصالية وانتشار حركات تمرد فيما بعد.([12])
ويرى الدكتور إبراهيم نصر الدين أن من النتائج التي ترتبت على سياسات بريطانيا الاستعمارية: وجود التنافس بين المجموعات الإثنية الكبرى؛ خاصةً التنافس على المكاسب المادية والمعنوية والكعكة الوطنية الكبرى؛ سواءٌ سياسيًّا أو اقتصاديًّا، مثل تنافس قبائل اليوربا والإيجبو مع الهوسا الفولاني في ميادين التجارة والخدمة العامة والمصالح الأجنبية([13]).
عمومًا، فقد تمكن الاستعمار البريطاني من إحكام السيطرة على مستعمراته؛ من خلال استغلال الفوارق بين الجماعات الإثنية، وما يرتبط بها من علاقات بينية متوترة فيما بينهم. ولقد أسفر الوضع السابق بالنهاية في تعميق الفوارق واندلاع الصراعات الإثنية التي أعاقت فكرة الاندماج الوطني في الدولة أثناء الاستعمار.
ثالثًا: السياسات الخاصة بالاندماج الوطني بعد الاستقلال
بعد حصول نيجيريا على الاستقلال، وبشكل خاص منذ عام 1966م؛ لجأت الحكومات إلى تبنّي الشكل الفيدرالي كأداة لحل مشكلة الاندماج الوطني؛ وذلك للتغلب على النزعات الانفصالية من جهة، ومن جهة أخرى للتغلب على التنافس الإثني. وعادةً ما يُقسم تاريخ نيجيريا إلى عدة حِقَب شهدت التجربة الديمقراطية والحكم المدني، وفترات الانقطاع الدستوري، وقيام الحكم العسكري نتيجة لعدة انقلابات وقعت ثم العودة إلى المسار الدستوري منذ عام 1999م.
ويمكن القول: إن الدولة لدى الأفارقة بشكل عام، والنيجيريين بشكل خاص؛ أصبحت مستودعًا للسلطة والثروة، وبات الاستمرار في تلك المناصب والإمساك بالدولة مسألة حياة أو موت، فمن خسرها خسر الاثنين معًا، وبالتالي سنجد أن هذا الاعتقاد قد ساد وشكَّل سلوك الزعماء الأفارقة في طريقهم لمحاولة بناء الدولة ما بعد الاستعمار.
وسيحاول هذا الجزء من الدراسة استعراض سياسات الاندماج الوطني في تلك الفترات وتقييمها على النحو التالي:
أولًا: فترة الحكم المدني بعد إجراء أول انتخابات ديمقراطية 1959-1966م:
عرفت نيجيريا تأسيس الأحزاب مع نهاية الحرب العالمية الثانية، ولقد مثلت تلك الأحزاب الإقليمية الإثنية بشكل واضح، وذلك بإنشاء المجلس الوطني لنيجيريا والكاميرون عام 1944م، تحت قيادة الزعيم الوطني دكتور نامدي إزيكيوي(*)، إلا أن التنافس بين الإيجبو واليوربا قد أثَّر بالسلب على الحركة الوطنية، مما أسفر عن انسحاب أوبافيمي اوولو -من اليوربا- بتأسيس جماعة العمل كحزب للغرب يسيطر عليه اليوربا، فيما دخل الشمال فعليًّا المجال السياسي رسميًّا بإنشاء مؤتمر شعب الشمال الذي ظل يمثل مصالح الإقليم الشمالي، وقد تم حله بعد ذلك نتيجة الانقلاب العسكري الأول عام 1966م.
ويمكن القول بأنه في تلك الفترة سعى قادة الشمال للمحافظة على المكتسبات السياسية، وضمان السيطرة على السلطة المركزية بدافع إثني إقليمي بحت، وبعيدًا عن تحقيق المصلحة الوطنية، وقد تجلى ذلك في الخلاف الحادث على توزيع الموارد الفيدرالية، والذي تم بنِسَب 24% للشمال، 30% للشرق، 20% للغرب، 8% وسط الغرب، أي بحسب مساهمة كل إقليم في الدخل القومي، وهو ما أثار زعماء إقليم الشرق، واتهموا الشمال بالاستئثار بالنصيب الأكبر من موارد الحكومة الفيدرالية، وقد تجلى ذلك باندلاع انتفاضة الفلاحين غربي نيجيريا عام 1968م.([14])
ثانيًا: فترة الحكم العسكري منذ 15 يناير 1966- أكتوبر1979م
على إثر شعور زعماء الإقليم الشرقي بالتخوف من التحالفات السياسية بين أحزاب (شعب الشمال، والحزب الديمقراطي)، والذي استطاع أن يفوز بأغلبية المقاعد في ولايات الشمال والغرب، ومع ازدياد التوتر الإثني واتشار الفساد وتأكل مؤسسات الدولة بعد رفض الرئيس “ازيكيو” تعيين رئيس للوزراء بحجة عدم شرعية الانتخابات 1964م؛ فقد سقطت الجمهورية الأولى على يد عدد من ضباط قبيلة “الإيجبو”، في يناير1966م وهو الانقلاب الأول، لكنَّ هذا الانقلاب سرعان ما قُضِي عليه بانقلاب مضادّ في يوليو من نفس العام على يد ضباط شماليين من الهوسا في إشارة واضحة إلى تدخل العنصر الإثني لإعادة السيطرة على السلطة والحكم وتوترت على إثر هذا الانقلاب العلاقات الإثنية، فرأى الشرق “الإيجبو” في هذا الانقلاب رغبة في إقصائهم عن المشهد السياسي، بل والمجتمع بأَسْره؛ وهو ما دفع بالبلاد دفعًا نحو حرب أهلية استمرت من ثلاث إلى أربع سنوات، وخلَّفت وراءها ما يربو على المليون قتيل.([15])
وذهب البعض إلى اعتبار أن ما حدث مع إثنية الإيجبو بمثابة إبادة جماعية؛ إذ شهدت مقتل العديد من قادة وزعماء الإيجبو، خاصةً في المؤسسة العسكرية؛ إذ بطبيعة الحال كانوا يُمثِّلون نسبة كبيرة من قادة المؤسسة، بينما كانت رتب الجند من الإقليم الشمالي الهواسا/الفولاني، كما يعزو البعض ذلك إلى أن السبب في هذا ممارسات الرئيس ايرننوسي-إيجبو- والتي حاول من خلالها محاباة الإقليم الشرقي على حساب باقي الأقاليم، هو ما دفع الضباط الشماليين إلى القيام بانقلاب عسكري ثانٍ في 28 يوليو من نفس العام؛ للتخلص من نظام ايرنوسي.([16])
ومع تولي “يعقوب جون” الرئاسة وإقراره بالرجوع إلى النظام الفيدرالي وإنشاء ولايات أخرى حوالي 12 ولاية في 17 مايو1966م، فضلاً عن اعتماده على قاعدة من الأقليات غير التقليدية – حيث تم عزل الهواسا الفولاني والإيجبو- وحرمان الشماليين والشرقيين من الفرص الاقتصادية المعتادة؛ فقد تعقد الوضع بشكل كبير، حتى وصل الأمر إلى الحرب الأهلية، وإعلان قيام جمهورية إقليم بيافرا، وقد انتهت تلك الفترة بإخضاع الإقليم الشرقي بالنهاية لسلطة الحكومة الفيدرالية يوم 15 يناير 1970.([17])
وبعد تسع سنوات من حكم “جون” -إيجبو- أطيح به في انقلاب ثالث، وعلي يد مجموعة من ضباط الإقليم الشمالي، ويمكن ملاحظة أن المجموعة التي قامت بالانقلاب الثاني هي نفس المجموعة التي قامت بالثالث، وقد تولى الجنرال “مرتضى محمد” الرئاسة، والذي لم يستمر في السلطة سوى 6 أشهر فقط؛ إذ تم اغتياله في محاولة انقلابية فاشلة، وقد تم تسليم السلطة للجنرال “أوباسنجو”، وهو من الإيجبو ومسيحي، ليقوم ببعض الإصلاحات في الجهاز الإداري للدولة والجيش والبوليس، وقد تعهَّد بنقل السلطة للمدنيين، وهو ما حدث فعلًا في أكتوبر عام 1979م؛ حيث نظَّمت الحكومة العسكرية الانتخابات، والتي فاز على إثرها “شيخو شاجري” وأصبح رئيسًا للدولة.([18])
ثالثًا: فترة الحكم المدني والعودة للمسار الدستوري أكتوبر1979م وحتى ديسمبر1983م:
على الرغم من محاولة “الشيخ شاجري” القيام ببعض الإصلاحات، والتي استهدفت تقوية الحكومة المركزية في مواجهة حكومة الولايات، والتي وصل عددها إلى حوالي 20 ولاية، كما استهدف ربط الولايات بالحكومة، وذلك من خلال زيادة حصة ميزانيتها من الحكومة الفيدرالية؛ إلا أن هذه الخطوات فشلت في تحقيق رفاهية الشعب النيجيري، وذلك بفضل 3 عوامل يمكن إجمالها في (انتشار الفساد والرشوة، التدهور الاقتصادي وسوء الإدارة، فساد العملية الانتخابية 1983م)، وهو ما دعا المؤسسة العسكرية للقيام بانقلاب لمواجهة التدهور السياسي والاقتصادي، ويرى الدكتور إبراهيم نصر الدين أنه انقلاب مدعوم من الشعب النيجيري؛ ردًّا على التردي الحاصل في البلاد، فضلًا عن وجود دوافع إثنية.([19])
رابعًا: مرحلة الحكم العسكري الثاني من 31 ديسمبر1983م حتى عام 1996م:
بقيادة الجنرال “محمد بخاري” مسلم شمالي، وقع الانقلاب الأول في هذه الفترة، وتم تشكيل المجلس العسكري الجديد من أغلبية شمالية في استمرار لشكل الصراع الإقليمي والإثني بين الشمال والجنوب، إلى جانب رفض سياسة “المناطقية: ZONING”، والتي تعني توزيع المناصب السياسية على الجماعات الجيو/إثنية، والتي عارضها الشماليون، والتي كانت خصمًا من نفوذهم ومصالحهم المادية والمعنوية؛ إذ استهدف انقلاب “بخاري” المحافظة على الوضع القائم دون إحداث تغيير جذري في سيطرة القيادات الشمالية على الحياة السياسية النيجيرية. ويمكن ملاحظة تردّي الأوضاع الاقتصادية وفقدان النظام لشرعيته بسبب كثرة الاحتجاجات، والتي واجهها النظام بالقمع والعنف، وخاصة الاضطرابات الدينية الكبرى في ولايات (كانو وميدوجوري)، والتي تسببت في اندلاع أحداث العنف الديني ووقع عدد كبير من الضحايا وصل عددهم لحوالي 1000 شخص.([20])
وفي 25 أغسطس قام الجنرال “إبراهيم بابانجيدا” بتولي السلطة، وقد أعلن عن عدة خطوات من شأنها أن تراعي تحقيق التوازن بين كافة الجماعات الإثنية؛ فقام “بإنشاء مجلس القوات العسكرية”، وقد راعى تمثيل الأقليات والإثنيات المختلفة سواء الكبرى المعروفة أو الموجودة في الحزام الأوسط، وقد أعلن “بابنجيدا” عن تسليم السلطة للمدنيين في 1990م، والتي امتدت إلى 1992م، وهو عام إجراء الانتخابات التشريعية، والتي تم إلغاؤها بزعم المخالفات الانتخابية، وهو الأمر الذي أدى بالنهاية لرفض قبائل اليوربا ما حدث، وبناءً عليه، سلَّم “بابنجيدا” السلطة لحكومة وطنية مؤقتة بقيادة “إرنست شونكان” من قبائل اليوربا، وحينما تم إجراء الانتخابات الرئاسية في 1993م، والتي نتج عنها فوز “إبيولا” -مسلم يوربا-؛ وقد تم إلغاؤها.([21])
وفي واقع الأمر زادت الضغوط من قبل قائد الجيش الجنرال “ساني أباتشي” على “بابجيدا”، وبالتالي فقد سلم السلطة للجنرال “أباتشي” في أغسطس 1993م، وقد تُوفِّي أباتشي في 8 يونيو1998م، وقد خلفه الجنرال “عبد السلام أبو بكر” رئيسًا للمجلس الأعلى العسكري، والذي تعهد بإقامة نظام جديد ديمقراطي؛ ففتح المجال لإنشاء أحزاب جديدة ووضع دستور جديد، وإجراء انتخابات أسفرت بالنهاية عن فوز “أوليسونج أوباساننجو” الرئيس الأسبق لنيجيريا.
خامسًا: سياسات الاندماج الوطني منذ 1999م وحتى الآن: (بوكو حرام نموذجًا)
من العرض السابق، فقد اتضحت أثر السياسات الاستعمارية التي أثرت بالسلب على طبيعة المجتمع النيجيري، والذي هو بطبيعة الحال كان مُجزَّأ في الأصل، ولم يتم توحيد نيجيريا بهذا الشكل إلا في إطار وظيفي مصلحي لخدمة المستعمر البريطاني، حتى حينما حصلت نيجيريا على الاستقلال فلم يفلح القادة المختلفون في بناء أمة موحدة، وقد لعبت الإثنية دورًا كبيرًا في أزمة الاندماج الوطني، ولكن محاولات الجنرال “أوباسانجو” التي اتبعها في محاولة لبناء نيجيريا جديدة كانت فاعلة إلى حد كبير، فقد وعد بمكافحة الفساد، وتحقيق قدر لا بأس به من الشفافية، وعمل على إصلاح الجهاز الإداري للدولة، وعدة إصلاحات كانت من شأنها أن تعدل من مركز نيجيريا على مؤشر الشفافية الدولية خلال عام 2006-2007م.([22])
وعلى الرغم من أن “أوباسانجو” مسيحي من الشرق؛ فإنه يعتبر من أهم رؤساء نيجيريا الذي حاول أن يحقق مزيدًا من الاندماج الوطني، وكانت له رؤية ثاقبة داخليًّا وخارجيًّا لنيجيريا كدولة فاعلة ورائدة في قارة إفريقيا بشكل خاص، وعلى مستوى القارة بشكل عام.
وعلى جانب آخر؛ فقد اتخذ الصراع الإثني الإقليمي بُعدًا دينيًّا مع ظهور حركة بوكو حرام 2002م -من الهواسا الفولاني ومسلمون آخرون- التي وجدت في الشمال الشرقي النيجيري، والتي اعتبرتْ أن التعليم واتباع النموذج الغربي في التنمية يُعتبر حرامًا، وقد ازداد الأمر سوءًا مع تحوُّلها للصراع المسلح عام 2009م أثناء إلقاء القبض على قائدها “محمد يوسف” وأحد مساعديه([23]).
ولم تتعامل الحكومات النيجيرية المتعاقبة بقدر من الرشادة السياسية التي تُمكّنها من تفهُّم للظروف الاقتصادية والاجتماعية التي أدت للتمرد المسلح مِن قِبَل مجموعة من الشباب الذي عانى من انتشار الفقر والبطالة وتدني مستوى المعيشة والتعليم، بل انخرطت في حرب طويلة لم تنتهِ إلى يومنا هذا، وقد خلَّفت وراءها آلاف القتلى والمصابين والمُهجّرين والنازحين داخليًّا وخارجيًّا، وبحسب رجل الدين “ملام حسين” الذي صرح بأن “مستوى الإحباط والفقر بين الشباب في البلاد هي أرض خصبة لأنشطة مثل هذه المجموعات, فسلوكهم غير إسلامي تمامًا، ولكن المشكلة برُمّتها تتلخص في فشل الحكومة على جميع المستويات لجعل رفاهية المواطنين أولوية، لذا فإن الأمة التي تسمح لشبابها بالبطالة تقع في فتن وأزمات؛ لأن الأشخاص المحبطين يطلبون الإغاثة من الدين”.([24])
ومنذ إعلان بوكو حرام البيعة لتنظيم الدولة (داعش)، فقد ازدادت عدد عملياته، ونشط في حوادث اختطاف الفتيات واستهداف البنية التحتية العسكرية والأمنية النيجيرية والدولية، بل أصبح يهدد دول بحيرة تشاد وإقليم الغرب الإفريقي ككل؛ إذ أوضحت بعض الدراسات الأجنبية أن المكاسب المادية التي تُحقّقها النخبة السياسية والعسكرية جراء استمرار تمرد بوكو حرام هي سبب رئيس في عدم وجود رغبة حقيقية لإنهاء تلك الحرب، بل إنها سبب لاستمرار وتوليد المال وجرّ مزيد من الدعم المالي من المانحين الدوليين.([25])
رابعًا: تقييم سياسات الاندماج الوطني بعد الاستقلال
على الرغم من الثروات المعدنية التي تمتلكها نيجيريا ومصادر الطاقة التي حباها الله بها، والتنوع السكاني والتعددية الثقافية التي كان بالإمكان الاستفادة بها في تقديم تجربة بناء ديمقراطية حديثة؛ إلا أن الواقع يشير لعكس التوقعات التي قد رسمها زعماء حركات التحرر الوطني قبيل حصول الدول الإفريقية على الاستقلال، فلم تفلح النظم الإفريقية بشكل عام، ونيجيريا بشكل خاص، في إثراء التراث الثقافي والحضاري الإفريقي بتحقيق تجربة ناجحة للاندماج الوطني؛ إذ كما ذكرنا آنفًا فقد نظر الزعماء والقيادات الإفريقية بعد الاستقلال إلى اعتبار السلطة والثروة ملكية خاصة، وفي سبيل تحقيق ذلك تم إعلاء الولاءات تحت الوطنية والبعيدة عن سياسات الاندماج الوطني الناجح، فما بين قيام الدولة الإفريقية بسياسات الإبادة الجماعية للسكان والتطهير العرقي، وحق تقرير المصير –وهي أساليب تقليدية استخدمتها النظم الإفريقية للتعامل مع التعددية الموجودة-، واستخدام اقترابات حديثة مثل سياسات الاستيعاب والاندماج والتي لم تحقق نتائج ناجحة؛ فقد ظلت النظم الإفريقية الحاكمة في إحكام سيطرتها على كافة المكاسب المعنوية والمادية؛ أي أنها استمرت في تنفيذ سياسة ملء البطون.
وفيما يخص الواقع النيجيري والتي فضلت السلطات النيجيرية تطبيق النظام الفيدرالي في الحكم، ما أسفر في النهاية عن إنشاء 36 ولاية، وهو الوضع الذي أدى لزيادة صعوبة عملية الاندماج، وسمح للحكومة الفيدرالية بتقسيم النيجيريين أكثر لكي تحافظ النخبة الحاكمة على هياكل النظام الموجود ولحفظ مصالحها، والتقاعس عن تقديم رؤية تنموية حقيقية يستطيع النظام أن يحاول تحقيق نِسَب نُموّ عالية، ويستفيد من عمليات إنتاج وتصدير النفط، والتي كان يمكن الاستفادة منها في تحقيق رفاهية المواطن النيجيري.
فعلى الرغم من أن نيجيريا تنتج حوالي 1,96 مليون برميل من النفط يوميًّا، إلا أن أغلب السكان يعشون على دولار في اليوم، أي تحت خط الفقر، وقد سجَّلت مناطق الشمال والشمال الشرقي أعلى معدلات الفقر، ففي حين سجلت منطقة الشمال الأوسط 67٪ من الناس يعيشون تحت خط الفقر، وسجل الشمال الغربي ومنطقة الشمال الشرقي 71,1 و72,2٪ على التوالي([26])، فضلاً عن تصنيف نيجيريا ضمن أكثر البلدان الإفريقية فسادًا وفق مؤشر الشفافية الدولية، كما أن استمرار اندلاع أعمال التمرد المحلي؛ سواء من بوكو حرام أو دلتا النيجر، أو أي أقليات أخرى تعتبر رد فعل واضح على الفشل في تحقيق تجربة بناء دولة ناجحة.
وعلى أي حال تُعتبر فترة حكم الرئيس “أوباسانجو” العصر الذهبي الذي شهد سلاسة في تحقيق انتقال ديمقراطي للحكم المدني، وتحقيق معدلات نمو وطنية عالية.
[1]– محمود أبو العينين، إدارة وحل الصراعات في إفريقيا، (القاهرة: معهد البحوث والدراسات العربية، ط1، 2008م)، ص14.
[2]– نقلًا عن زغدار عبد الحق، “النزاع في نيجيريا بين الإثنية والظاهرة الإرهابية: بوكو حرام أنموذجًا”، مجلة المفكر (الجزائر: جامعة محمد خيضر بسكرة ، العدد16، 2017م).
[3] -WORLD FACT BOOK, Nigeria, available at:
https://www.cia.gov/the-world-factbook/countries/nigeria/
[4] – خديجة هابة، “التنوع الإثني وتأثيره على الوطني في نيجيريا”، مجلة الباحث للعلوم الإنسانية (الجزائر: جامعة قاصدي مرقلة، مجلد13، عدد4، 2021م)، ص ص 153-155.
[5] -World Fact Book, ipid.
[6] -ipid.
[7] -Efiong Isaac Utuk,” Britain’s Colonial Administrations and Developments, 1861-1960: An Analysis of Britain’s Colonial Administrations and Developments in Nigeria”, Theses, Portland State University, 1975, p p1-20.
[8] – عبد الكريم قرين، السياسة الاستعمارية البريطانية في غرب إفريقيا: نيجيريا أنموذجًا: 1861- 1960م، مجلة العلوم الإنسانية، (الجزائر: جامعة محمد بسكرة، العدد43، 2016م)، ص362.
[9] – أحمد أمل، السياسة الاستعمارية والإثنية في إفريقيا: دراسة مقارنة، مجلة الشؤون الإفريقية، (القاهرة: كلية الدراسات الإفريقية العليا، العدد4، 2013م)، ص14.
[10] – إبراهيم نصر الدين، “الإدماج الوطني في إفريقيا“، (القاهرة: مركز دراسات المستقبل، ط1، 1997م)، ص23
[11] – المرجع السابق، ص25.
[12] – أحمد أمل، رجع سبق ذكره، ص9.
[13] – إبراهيم نصر الدين، مرجع سبق ذكره، ص30.
* – من إثنية الإيجبو، ووُلِدَ في الشمال، وتعلم في الولايات المتحدة.
[14] – إبراهيم نصر الدين، مرجع سبق ذكره، ص 44.
[15] -Oluwabiyi, Ademola David, Duruji, Moses Metumara,” The Military in Nigerian Politics”, RELATIONES INTERNATIONALES,( Galaţi : Acta Universities Danubius , Vol. 14, No. 2, 2021),p 11.
[16] -Ojo, John Sunday & Fagbohun, Francis Oluyemi,” Military Governance and Civil War: Ethnic Hegemony as a Constructive Factor in Nigeria”, Global Journal of HUMAN-SOCIAL SCIENCE: F Political Science,(Leeds: University of Leeds, Vol. 14, Issue. 4, Ver 1.0 2014).p.9.
[17] – إبراهيم نصر الدين، ص ص (48-49).
[18] – John Sunday Ojo, Fagbohun, Francis Oluyemi,” Military Governance and Civil War: Ethnic Hegemony as a Constructive Factor in Nigeria”,p.10.
[20] – المرجع السابق 76.
[21] -John Sunday Ojo & Fagbohun, Francis Oluyemi,IPID.P.11.
[22] – شيماء حسن، “الإدارة العامة في إفريقيا”، ورقة بحثية غير منشورة ضمن مقررات الدكتوراه، كلية الدراسات الإفريقية، جامعة القاهرة، 2022م.
[23] – “محاولة لفهم بوكو حرام: مقابلة مع جاكوب زين”، موقع عين أوروبية على التطرف، 9 ديسمبر2021م متاح على الرابط الآتي: https://eeradicalization.com
[24]– USMAN Solomon Ayegba, Unemployment and poverty as sources and consequence of
insecurity in Nigeria: The Boko Haram insurgency revisited, African Journal of Political Science and International Relations,( Washington: Academic Journals, Volume 9, Number 3 ,2015),p.92.
[25] -Temitope B. Oriola,” Nigerian Troops in the War Against Boko Haram: The Civilian–Military Leadership Interest Convergence Thesis”, Armed Forces & Society,(University Of Alberta, Edmonton :SAGA JURNAL,2022).
[26]IPID.P94.