“دوس محمد علي” Duse Mohamed Ali، هو ممثِّل وناشط سياسي بريطاني من أصول مصرية، وكاتب مسرحيّ ومؤرّخ وصحفيّ ومحرِّر وناشر، اشتهر بقوميته الإفريقية. في عام 1912م أسَّس جريدة “الأزمنة الإفريقية والشرقية”. عاش وعمل معظم حياته في إنجلترا، وقضى بعض الوقت في الولايات المتحدة ونيجيريا. وأسَّس في الأخير شركة Comet Press Ltd، وصحيفة The Comet في “لاجوس”. ويُعتبر “دوس” أحد روّاد الجامعة الإفريقية؛ حيث تنوعت أنشطته ما بين إنجلترا والولايات المتحدة الأمريكية وداخل إفريقيا.
أولًا: النشأة والسمات والخبرات الشخصية للمفكر”دوس محمد علي”:
وُلِدَ المفكر المصري “دوس محمد علي” (1866-1945م) في مدينة “الإسكندرية”، لأب مصري وأُم سودانية. وقد اكتسب “محمد علي” اسم “دوس” من ضابط فرنسي كان على صلة بأُسرته. وفي سنّ العاشرة؛ أرسله والده إلى “إنجلترا” لاستكمال تعليمه. ولم يَعُدْ إلى مصر إلا عند إبلاغه بمقتل والده الضابط بالجيش وهو يقاتل ضد البريطانيين في صفوف جيش عرابي بمعركة “التل الكبير”.
وحينما عاد “دوس” إلى بريطانيا مرة أخرى أصبح غير قادر على مواصلة تعليمه بسبب فقدانه لدعم والده المادي. بالإضافة إلى موت أُسرته بعد ذلك؛ نتيجة لعدوان الأسطول الإنجليزي على الإسكندرية، فاضطر إلى ترك الجامعة، واتجه إلى التمثيل والكتابة المسرحية، ومِن ثَمَّ عمل في دور المسرح المختلفة، وأثناء ذلك قام بجولة للعمل مع شركات الإنتاج المسرحي بجميع أنحاء “لندن” وخارجها. وقد أتاحت له مسيرته المهنية الفرصة للسفر حول العالم ومراقبة ظروف كثير من الناس.
وبعد أن أثقلته التجارب الحياتية اتجه “دوس” إلى الكتابة الصحفية، فساهم في تأسيس جريدة أسبوعية ليبرالية، وهي جريدة “العصر الجديد” New Age. ومن خلال هذه الجريدة، استطاع “دوس” أن يُلقي الضوء على المحنة العالمية للسود، مطالبًا الأعراق الإفريقية بالتوحد والتضامن فيما بينها. وكتب مقالات عِدة عن القومية المصرية والقمع في إفريقيا والعالم.
وقد أتاح له عمله في الصحافة فرصة للتواصل مع الجاليات الإفريقية، والتي اتسع نشاطها في أواخر القرن التاسع عشر؛ سعيًا منها لعقد مؤتمر لمناقشة مستقبل الشعوب الإفريقية؛ حيث اشترك في هذه المناقشات زعماء قادمون من الولايات المتحدة الأمريكية، وقد نتج عن هذا النقاش توجيه دعوة مِن قِبَل المحامي الزنجي “هنري سيلفستر ويليامز” لعقد أول مؤتمر للجامعة الإفريقية سنة 1900م في لندن. ليكون “دوس” ضمن هذا الحراك ومن الداعين له.
وفي سنة 1911م، ألف “دوس” كتابًا بعنوان “في أرض الفراعنة” In the Land of the Pharaohs: A Short History of Egypt from the Fall of Ismail to the Assassination of Boutros Pasha ردًّا على تعليقات “ثيودور روزفلت” Theodore Roosevelt رئيس الولايات المتحدة الأمريكية؛ حيث شجّع من خلال تصريحاته “بريطانيا” على التعامل بكل عنف وقوة وإجحاف ضد المصريين الذين اعتبرهم غير متحضرين ومتعصبين؛ إذ يطالبون بالحكم الذاتي ومقاومة المُحتل.
وفي الفترة ما بين عام 1912م وعام 1920م زار “دوس” مناطق مختلفة داخل إفريقيا، واستقر في وقت لاحق في نيجيريا، ليلعب دورًا نشطًا في النضال ضد الاستعمار البريطاني. ومحاولًا كَسْر الاحتكار الإعلامي البريطاني في إفريقيا؛ حيث قام بإصدار جريدة “الأزمنة الإفريقية والشرقية” African Times and Orient Review (AT&OR)، وتولى رئاسة تحريرها حتى توقفت عن الإصدار.
وبعد إغلاق مكتب صحيفته بلندن في عام 1920م، سافر “دوس” إلى الولايات المتحدة؛ فوصل ولاية “ميشيجن” Michigan في عام 1921م، ثم توجه إلى مدينة “ديترويت” Detroit. ليقوم في عام 1926م بتأسيس “الجمعية الإسلامية العالمية” Universal Islamic Society (المعروفة أيضًا باسم المجتمع الإسلامي المركزي Central Islamic Society)، وليعمل بعد ذلك مع حركة “الرابطة العالمية لتحسين الزنوج” Universal Negro Improvement Association (UNIA) ومقرها “هارلم” Harlem بـ”نيويورك”، والتي أسسها “ماركوس جارفي” Marcus Garvey.
كان “دوس” كذلك كاتبًا مساهمًا في جريدة “عالم الزنجي” The Negro World والتي كانت تصدر عن “الرابطة العالمية لتحسين الزنوج”؛ حيث تولى رئاسة تحرير القسم الخاص بإفريقيا. وفي يوليو 1921م، سافر إلى “نيجيريا”، حيث تم الترحيب به في “مسجد شيتا” Shitta Mosque في “لاجوس”، لكنه ما لبث أن عاد مرة أخرى إلى الولايات المتحدة.
وفي عام 1922م، مرتديًا قبعة الطربوش المميزة الخاصة به، ظهر “دوس” كثيرًا بين الجالية المسلمة السوداء في “ديترويت”. وقد ذهب الاعتقاد في كثير من الكتابات إلى أن وجود “دوس” في “ديترويت” قد أثَّر بشكل أو بآخر على تطوير أفكار “والاس فارد محمد” (1877-1934م) Wallace Fard Muhammad مؤسس “أمة الإسلام” Nation of Islam في “ديترويت”، والتي تأسست في عام 1930م. ولربما كان له أيضًا علاقة مع “نوبل درو علي” (1886-1929م) Noble Drew Ali، وصعود “المعبد المغاربي العلمي” Moorish Science Temple في أمريكا. والذي تم إنشاؤه في وقت مبكر من عام 1913م.
وأخيرًا عاد “دوس” إلى “لاجوس” في عام 1931م لمراقبة المصالح التجارية الخاصة بصناعة الكاكاو. واستقر هناك، ومِن ثَمَّ عُيِّن محررًا في جريدة “ديلي تايمز النيجيرية” Nigerian Daily Times. وفي 3 أكتوبر 1932م، أنتج “دوس” مسرحية “ابنة فرعون” A Daughter of Pharaoh، والتي عُرضت في قاعة “جلوفر التذكارية” Glover Memorial Hall في “لاجوس”. بالإضافة إلى ذلك أصبح محررًا لجريدة “ديلي تلجراف” Daily Telegraph النيجيرية. وبحلول يوليو 1933م، أطلق جريدة باسم The Comet، وهي جريدة أسبوعية في “لاجوس”.
وأخيرًا في 25 يونيو 1945م، عن عمر يناهز 78 عامًا، توفي “دوس” في المستشفى الإفريقي African Hospital في “لاجوس” بعد أن رافقه المرض لفترة طويلة. ليوارى الثرى في مقبرة Okesuna الإسلامية في “نيجيريا”.
ثانيًا: السياق التاريخي المعاصر للمفكر”دوس محمد علي”:
تميزت المرحلة التاريخية لـلمفكر “دوس محمد علي” بانعقاد العديد من المؤتمرات الدولية، مثل “المؤتمر العالمي الأول للأعراق” Universal Races Congress عام 1911م في “لندن”، و”مؤتمر باريس للسلام” Paris Peace Conference عام 1919م، و”المؤتمر الدولي للزنوج والعرب” International Conference of Negroes and Arabs عام 1936م في باريس؛ والذي انعقد كجزء من مقاومة الجبهة الشعبية للغزو الإيطالي لإثيوبيا. ومؤتمر الأمم المتحدة لعام 1945م United Nations Conference on International Organization المنعقد في “سان فرانسيسكو”، والذي تم تنظيمه استجابةً للأزمات الدولية في محاولة لتأمين سلام دائم. ورأى المثقفون من الشرق الأوسط والسود إلى جانب النشطاء العرقيين والمستعمرين والمتعاطفين مع الأمريكيين والأوروبيين البيض فرصًا لتغيير العالم في هذه اللحظات المظلمة، واغتنموا هذه المؤتمرات كمنصات للتعبير عن رؤيتهم للكوكب وتفعيلها. وانتقدت الرؤية السائدة لهؤلاء النشطاء وتجاوزت النزعة الإنسانية العالمية التي استخدمتها القوى الإمبريالية الغربية لترشيد النظام العالمي. فقد فهم هؤلاء النشطاء أن السلام لجميع سكان الكوكب لا يمكن تحقيقه إذا استمرت العنصرية والإمبريالية والتمييز على أساس العرق التي عززت النزعة الإنسانية العالمية للتنوير الغربي في بناء العلاقات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية. لذلك، اقترحوا وعملوا بنشاط نحو إنسانية عالمية شاملة قامت بتفكيك الميول العنصرية والإمبريالية من خلال تقييم كل الناس لإنسانيتهم المتأصلة.
وتشكلت خلال هذه الفترة وجهات نظر النشطاء والمفكرين الأفارقة، كما تم إيصالها من خلال كتاباتهم ووثائقهم التنظيمية، كان من بينهم الصحفي المصري المناهض للإمبريالية، “دوس محمد علي”، وهو من بين آخرين كثيرين. لكن أهم ما يميز “دوس” هو أنه أحد المفكرين المنحدرين من أصل إفريقي، وهو في الوقت نفسه من أصول عربية.
المنطلقات الفكرية والأفكار السياسية للمفكر”دوس محمد علي”:
بصورة عامة يمكن القول: إن “دوس محمد علي” تأثر بالرؤى الفكرية والأطروحات النظرية المتعلقة بالهوية الإفريقية التي طُرحت من المفكرين الأفارقة الأنجلوفون -الذين عاشوا كما عاش في الشتات- بطبيعة الخبرات التاريخية والممارسات العنصرية التي عاشها هؤلاء المفكرون وأسلافهم. لذا حاولوا أن يجدوا أُسسًا للهوية الإفريقية من خلال إيجاد المرجعية الحضارية والقواسم المشتركة في التاريخ القديم، ومع أن هذا الاتجاه يغلب على الرؤى الفرانكفونية للهوية الإفريقية، لكن “محمد علي” بوصفه مصريًّا استخدمه خلال بحثه عن أُسس الهوية، وذلك من خلال كتابه الأول والأخير “في أرض الفراعنة”.
وفي مواجهة ادعاء الأبيض بالتحضر ووصم الملونين بالتخلف والدونية؛ أخذ “دوس” على عاتقه مهمة الدفاع عن إفريقيا وحضارتها، منطلقًا من توصيف الإشكالية في مسألة اللون، الذي من وجهة نظره يتسع ليشمل الشعوب الإفريقية والآسيوية في الكفاح ضد سيطرة واستعمار الأبيض، وهو ما جعله يولي السمات التنظيمية لشكل الهوية اهتمامًا كبيرًا، فدعا إلى تأسيس المصارف الإفريقية، ونوادي للطلاب الأفارقة، وطالب بضرورة كسر الاحتكار الغربي للمؤسسات الاقتصادية والتعليمية والثقافية التي تساهم في تشكّل وعي الإفريقي تجاه ذاته وتجاه قارته.
وقد كانت أهم محطات “دوس محمد علي” الفكرية قد بدأت مع تبنّيه لأفكار الجامعة الإفريقية؛ حيث شارك في أول مؤتمر للجامعة الإفريقية، وساهم كذلك في تنظيمه، مرورًا بكتابه الذي قُوبِلَ بترحيبٍ غير متوقَّع في الصحافة الإنجليزية، مما أدى إلى ذيوع شهرته، ثم في النهاية عمله الصحفي والحركي الذي استمر حتى وفاته.
ومن خلال تتبُّع هذه الرحلة الطويلة، تبرز أفكار “دوس” القومية، كمفكر إفريقي عربي مسلم. وهو ما سيتم مناقشته من خلال النقاط التالية:
1- المركزية الإفريقية في فكر “دوس محمد علي”:
تُعد المركزية الإفريقية Afrocentrism توجهًا فكريًّا يسعى إلى تسليط الضوء على الهوية والمساهمات الخاصة للثقافات الإفريقية في تاريخ العالم؛ حيث يجادل أصحاب هذا التوجُّه بأن المجتمع العلمي الغربي يقلل من إنجازات الحضارات الإفريقية، ويشارك -بوعي أو بدون وعي- في مؤامرة لإخفاء المساهمات الإفريقية في التاريخ.
وقد بدأ هذا التوجه بالظهور منذ عشرينيات وثلاثينيات القرن العشرين، ويتمركز خاصة في الولايات المتحدة الأمريكية عند الأفارقة الأمريكيين، وأصبح له انتشار واسع بين الجاليات الإفريقية جنوب الصحراء في أوروبا، وبين الأفارقة جنوب الصحراء وعند الأقليات الزنجية في شمال إفريقيا والشرق الأوسط.
ومن خلال هذا التعريف بالمركزية الإفريقية، نجد أن ما ذكره “دوس محمد علي” في مقدمة كتابه “في أرض الفراعنة” عن تاريخ مصر والتزييف الذي لحق به؛ هو في الأساس ضمن محاولات تشويه إنجازات الحضارات الإفريقية؛ حيث قال: “أُدرك وأنا أُحاول كتابة تاريخ مصر، مدى الصعوبات التي تعترض طريقي، نظرًا لوجود العديد من كتب التاريخ. القليل منها تم كتابته في فترات الحكم الذاتي، والتي تميزت بالحكمة والحيادية… وفي اعتقادي أن مثلي مؤهل للتعامل بشكل مناسب مع الفترة قيد الدراسة، فلا داعي للشك أو الريبة. فأنا في المقام الأول مواطن مصري، ولديَّ معرفة كاملة بأهداف أبناء وطني، وبالتالي فأنا أتعاطف مع معاناتهم اجتماعيًّا وسياسيًّا… وهذا ليس نابعًا من مصلحة شخصية، فأنا غير مرتبط بأيّ حزب سياسي. لذلك يمكن للقارئ أن يعتمد على بيان الحقائق الصادقة والنزيهة”.
أشار “دوس” في الاقتباس السابق ضمنيًّا إلى أن الكثير من كتب التاريخ عن مصر كانت غير حيادية ومليئة بالتحريفات. فقد كان التاريخ نتاج لفترات حكم كُتب فيها. بينما شعب مصر، والأعراق السوداء -الورثة الشرعيين للتاريخ الحقيقي- ظلوا مُهمَّشين، ومُنعوا عمدًا من العودة إلى السلطة لكتابة تاريخيهم بأنفسهم.
ويُعد هذا الكتاب أحد أهم أسباب شهرته المبكرة كباحث على المستوى العالمي، ويُقال: إنه أول عمل من هذا القبيل كتبه مواطن مصري من السكان الأصليين في العصر الحديث. حيث تلقى كتابه “في أرض الفراعنة” إشادة من النقاد عندما نُشر في عام 1911م. ويذكر “دوس” في مقدمته أن مصدر إلهامه للقيام بالسرد التاريخي يعود إلى “التنامي المستمر للتضليل في الصحافة الإنجليزية لكل ما يخص الشؤون المصرية”… “وأن خطاب [روزفلت] في [جيلدهول] Guildhall هو القشة الأخيرة التي قصمت ظهر البعير”؛ في إشارة إلى خطاب الرئيس الأمريكي “ثيودور روزفلت” حول بريطانيا العظمى وعلاقاتها بإفريقيا.
ويعود اهتمام “دوس” بتاريخ مصر وحضارتها إلى اهتمامه البالغ بمؤلفات “إدوارد بلايدن” ودفاعه عن الشخصية الإفريقية وتفردها، لذا حاول “دوس” معارضة النظرة الأنثروبولوجية التي غالبًا ما كانت تنظر بازدراء واستنكار لأيّ محاولة لإعادة كتابة الأحداث بما يتناسب مع الحقائق التاريخية. هذه الأمور وغيرها هي التي دفعت “دوس” إلى الشروع في معالجة الرواية التاريخية من خلال كتابه “في أرض الفراعنة”.
2- الجامعة الإفريقية: Pan–Africanism
تمثل “الجامعة الإفريقية” Pan–Africanism تعقيدات الفكر السياسي والسياسة السوداء على مدى مائتي عام. وغالبًا ما يتغير ما يشكل الوحدة الإفريقية، وما يمكن أن يكون ضمن حركة الجامعة الإفريقية وفقًا لما إذا كان التركيز على السياسة أو الأيديولوجيا أو المنظمات أو الثقافة. وتعكس الجامعة الإفريقية في الواقع مجموعة من الآراء السياسية. فعلى المستوى الأساسي، هناك اعتقاد بأن الشعوب الإفريقية، سواء في القارة الإفريقية أو في الشتات، لا تشترك في مجرد تاريخ مشترك، بل مصير مشترك. وقد اتخذ هذا الشعور بالترابط بين الماضي والمستقبل أشكالًا عديدة، لا سيما في إنشاء المؤسسات السياسية. فكانت المؤسسات الصحفية في مطلع القرن العشرين أهمها على الإطلاق.
وقد أتاح لـ”دوس” عمله بالصحافة التواصل بجاليات الملونين المقيمة في “لندن”، ومن خلال هذا التواصل بدأ يتشكل وعيه بمشكلة اللون ومستقبل الشعوب الملونة وعلاقاتها بأوروبا وخضوعها للاستعمار. وهو ما أتاح له الفرصة للسفر والتجوال داخل أوروبا وخارحها في أمريكا والهند، مما أضاف إلى خبراته وتجاربه تنوعًا ومزيدًا من المعارف، إلى جانب الكثير من المعلومات.
وقد تشكل وعي “دوس” بهويته الإفريقية مبكرًا؛ فقد حكى في سيرته الذاتية عن هذه المرحلة حيث قال: “لقد اختفى جميع أقاربي المعروفين… فوجدت نفسي في السادسة عشرة من عمري غريبًا في أرضي، وهو ما اضطرني للعودة إلى إنجلترا مرة أخرى؛ حيث العديد من المعارف وبعض الأصدقاء”. هذا الحدث الذي أصبح بمثابة صدمة ساهمت في تشكُّل هويته. نظرًا لأن الهوية والانتماء كالفطرة لدى الإنسان، فهي مشاعر طبيعية تمثل القوة الدافعة لإنجاز أهداف الفرد وتحقيق طموحاته.
وتحدث “دوس” عن هذه الهوية متفاخرًا بها في كتابه “في أرض الفراعنة” عام 1911م؛ حيث قال: “أنا هجين بين عربي وإفريقي –أمي نوبية أو زنجية أصلية- وهما العرقان البشريان الأكثر احتقارًا واستخفافًا من قبل علماء الأعراق الأوروبيين”. وفي موضعٍ آخر عرّف والده بأنه “عقيد في فوج نوبي”، وأهل النوبة هم من الشعوب الأصليين في إفريقيا، يسكنون منطقة تمتد على ضفتي نهر النيل أقصى شمال السودان وأقصى جنوب مصر.
هذا الإحساس بالهوية الذي تملّك “دوس” جعله يشارك في المناقشات الداعية لعقد مؤتمر لمناقشة مستقبل الشعوب الإفريقية والجاليات الإفريقية في الشتات؛ حيث أسفر هذا النقاش عن عقد أول مؤتمر للجامعة الإفريقية عام 1900م، وتكوين “جمعية الجامعة الإفريقية”، بالإضافة إلى إصدار مجلة Pan-African في العام التالي.
وفي عام 1911م عُقد في لندن “مؤتمر الأعراق الدولي” Universal Races Congress، والذي حضره زعماء من الجاليات الإفريقية في العالم الجديد ومن الإفريقيين المقيمين في أوروبا والقادمين من إفريقيا، وقد عهد منظمو المؤتمر إلى “دوس” بمسؤوليات العلاقات العامة والاستقبال في المؤتمر. وهو الأمر الذي حقَّق من خلاله نجاحًا ملحوظًا؛ نظرًا لتعدد علاقاته بالدوائر الصحفية في لندن، وهو ما أعطاه الفرصة ليلتقي بالعدد من شخصيات المؤتمر أبرزهم على الإطلاق المفكر الإفريقي “وليم ديبوا” William Du Bois.
وفي عام 1912م وصلت إلى لندن شخصية زنجية قادمة من “جامايكا” تركت أثرًا بالغًا في حياة الزنوج الأمريكيين وفي فكرة الجامعة الإفريقية، وهو “ماركوس جارفي” Marcus Garvey، الذي حرص على إقامة صداقة مع “دوس” استمرت لعدة عقود، وليصبح “جارفي” النافذة الأهم التي تعرّف “دوس” من خلالها على أفكار وفلسفة الزعيم الزنجي الأمريكي” بوكر واشنطن” Booker T. Washington. ومن المفارقات أن صداقة “جارفي” قد تسببت كذلك في حالة العداء والصدام الذي حدث بعد ذلك بين “دوس” و”ديبوا” عام 1919م. حيث تسبب “ديبوا” بمشاركة “فيليب راندولف” A. Philip Randolph و”شاندلر أوين” Chandler Owen في سجن “جارفي”، ثم نفيه إلى خارج أمريكا. وهو الأمر الذي جعل “دوس” يمتنع عن حضور مؤتمرات الجامعة الإفريقية بداية من مؤتمرها في عام 1919م.
وفي سعيه للوحدة اللونية؛ كانت جريدة “الأزمنة الإفريقية والشرقية” مهمة “دوس” التالية، بعد كتابه الذي جعله في مصاف المشاهير، ومن خلال العدد الافتتاحي لها في سنة 1912م، حدَّد أهداف جريدته بقوله: “إنها جريدة للوحدة الشرقية والوحدة الإفريقية في مقر الإمبراطورية البريطانية، جاءت لتضع أهداف ورغبات ونوايا الأعراق السوداء والبنية والصفراء -داخل الإمبراطورية وخارجها- على عرش قيصر… وتُظهر حقيقة الحالة الإفريقية والشرقية التي كانت نادرًا ما تُذْكَر بدقة وإحكام في أعمدة الصحافة الأوروبية”.
وظلت المجلة في الفترة من يوليو إلى ديسمبر 1913م، تصدر بشكل شهري. لتصبح في الفترة من 24 مارس إلى 18 أغسطس 1914م، تصدر بشكل أسبوعي. وبحلول الوقت الذي اندلعت فيه الحرب العالمية الأولى في 28 يوليو 1914م، تم حظر المجلة مِن قِبَل السلطات البريطانية داخل الهند ومستعمراتها الإفريقية؛ حيث ذكرت الحكومة البريطانية أن “دوس” كان “يستغل جريدته للتحريض على السلطات البريطانية”. وفي نوفمبر 1917م، صرح مسؤول استعماري بريطاني أن “المجلة مشكوك في ولائها، بسبب تبنّي [دوس] لهوية إفريقية”. وبالفعل توقفت المجلة عن الصدور بعد أكتوبر 1918م. وبعد انتهاء الحرب العالمية في 11 نوفمبر 1918م. كما كانت هناك محاولة لإعادة إصدار المجلة في يناير 1920م وحتى ديسمبر 1920م إلى أن توقفت نهائيًّا.
وقد لُوحظ أن “ماركوس جارفي” كان متأثرًا بالعديد من أفكار “دوس” حول القومية الإفريقية؛ حيث عمل “جارفي” بجريدة “الأزمنة الإفريقية والشرقية”، فقد كانت وسيلة للتواصل مع الإفريقيين في المستعمرات. كما كانت لكلمات “دوس” عظيم الأثر في توجهات “جارفي” فيما بعدُ، وهو ما دفَعه إلى تأسيس “الرابطة العالمية لتحسين الزنوج” (1914م) Universal Negro Improvement Association (UNIA)، حيث كتب “دوس”: “تحاول أوروبا أن تكون فاعلًا من كافة النواحي من أجل الضغط على الأعراق الداكنة لكي تعمل لصالحها، وذلك رغبة في انقسام الشعوب الإفريقية والآسيوية. فكان من بين أهدافها تعزيز هذا الانقسام. لذلك يتوجب على أبناء إفريقيا وآسيا أن تجمعهم رابطة واحدة مشتركة من الصداقة الدائمة”.
ولم يكن لتوقف جريدة “دوس” عن الإصدار أي تأثير على مسيرة “دوس” الصحفية، ففي عام 1921م، تم تعيين “دوس” “مسؤولاً عن الشؤون الإفريقية” في جريدة “العالم الزنجي” The Negro World، التي قام “جارفي” بتأسيسها عام 1918م. كما عمل “دوس” لفترة من الوقت كسفير ومسؤول عن العلاقات الخارجية للرابطة. فكان لمهاراته كصحفي أن أصبح شخصية بارزة في الوسط الثقافي الأسود، بجانب تجربته في المستعمرات البريطانية داخل إفريقيا التي ساهمت في تطوير نشاطه؛ ليتحول من إفريقي يعيش في الشتات إلى مواطن إفريقي لديه منظور فريد حول النضال الإفريقي ضد الإمبراطورية البريطانية.
وفي عام 1931م غادر الولايات المتحدة متوجهًا إلى غرب إفريقيا، واستقر في لاجوس. وأصبح مؤسسًا ورئيسًا لإحدى المجلات المحلية والتي تعرف على نطاق واسع داخل نيجيريا وهي جريدة The Comet، التي أصبحت في عام 1933م أكبر جريدة أسبوعية في نيجيريا. وفي عام 1934م، قام بترتيب روايته Ere Roosevelt Came، والتي تطرَّقت إلى تجاربه في الولايات المتحدة.
3- الدين كمنطلق قومي في فكر “دوس محمد علي”:
كان لتداخل عوالم وهويات “دوس” (أسود، مسلم، مصري، سوداني، بريطاني) المختلفة أثرًا في تشكيل هويته، وهو الشيء الذي جعل من “دوس” ناشطًا وباحثًا مثاليًّا ملتزمًا بالحرية والتحرُّر، وهي في الأساس قيم إنسانية عظَّمها الإسلام ونادى بها. فقد كان “دوس” عضوًا بارزًا في “جمعية لندن الإسلامية”، والتي كانت تتكون أساسًا من المسلمين الهنود في بريطانيا، إلى جانب مشاركته كذلك في تأسيس العديد من المنظمات الخدمية مثل “صندوق أرامل وأيتام الجنود المسلمين المشاركين في الحرب” Indian Muslim soldiers Widows and Orphans War Fund.
ومع تداعي الاستعمار الغربي على القارة الإفريقية تم تقليص الطابع الثقافي للإسلام داخل القارة، لكنَّ العديد من الأمريكيين الأفارقة، بداية من “إدوارد بلايدن”، اعتبروا الإسلام دينًا أصيلًا في إفريقيا، وأنه الأقرب إلى المؤسسات والتقاليد الإفريقية التقليدية. وهو الأمر الذي ربط بين الإسلام والقضايا القومية السوداء.
وأثناء وجود “دوس” في نيويورك، تواصل مع العديد من المسلمين الهنود المرتبطين بأصدقائه الهنود في لندن، وطالبهم بضرورة إنشاء مجتمع إسلامي وغرفة للصلاة لخدمة الاحتياجات الدينية للمسلمين في “ديترويت” بولاية “ميشيجان”. وسافر “دوس” إلى “ديترويت” في عام 1925م لتأسيس أول منظمة إسلامية هناك، وهي “الجمعية الإسلامية العالمية” Universal Islamic Society. حيث تم تشكيل لجنة إدارية واُنتخب “دوس” رئيسًا لها لدورتين متتاليتين.
وبالعودة إلى إنجلترا، أصبح “دوس” مرتبطًا أكثر بالمسلمين الهنود المعروفين باسم “الأحمدية” Ahmadiyya في لندن. وقد كتب لصحيفتهم “المراجعة الإسلامية” The Islamic Review وعمل محاضرًا وناقش مواضيع تتعلق بالإسلام وإفريقيا. وأشار “دوفيلد” Ian Duffield إلى أن “دوس”: “ارتبط بالأحمدية على أمل سد الفجوة بين المسلمين السود والهنود والعرب في [ديترويت]؛ ومن هنا جاء اسمها، [الجمعية الإسلامية العالمية]”.
كان “دوس” يدعي أصولاً ليبرالية للإسلام، والتي ظلت غير مفهومة، وغامضة، فقد كان من الواضح أن لديه آراء تحررية عن الإسلام تخصّ العقيدة لا يتسع المقام لذكرها. لذا فإن خطابه الديني كان معنيًّا في المقام الأول بالعلل المجتمعية للعنصرية؛ حيث ارتبطت دعوته إلى الارتقاء الاجتماعي أو الاقتصادي أو الروحي للعرق أو الأمة داخل أمريكا غالبًا بما يمكن أن نطلق عليهم رجال العرق أو رجال الدين. فقد جاء في بعض الدراسات أثناء وجوده في الولايات المتحدة، انضم “دوس” إلى عدة مجموعات ماسونية مثل Order of Elks””. وهو ما يؤكد أن نظرته للإسلام كدين لا تختلف كثيرًا عن نظرة الرائد الإفريقي “إدوارد بلايدن”، الذي رأي في المساواة ورفض العنصرية والعدالة والاستيعابية التي تفرد بها الإسلام، هي قِيَم تساعد في إثبات عدالة قضيته القومية، وهو الأمر نفسه الذي جعل “دوس” يُقرّ بأن ارتداءه للطربوش في جميع الأوقات كان بهدف حماية نفسه من الإهانات غير العادية التي تلحق بالأمريكيين الأفارقة.
4- الاستقلال الاقتصادي لإفريقيا:
تساعد دراسة نشاطات “دوس محمد علي” التجارية والفكرين الآخرين في توسيع تاريخ الجامعة الإفريقية، حيث إن معظم الدراسات السابقة تتناول الجامعة الإفريقية من زاوية سياسية إلى حد كبير. ويعيب النهج السياسي أنه أخرج صورة تميل إلى التركيز على بعض المناسبات العظيمة، مثل مؤتمرات الجامعة الإفريقية، التي تظهر في عزلة ظاهرية تدعو إلى الوحدة السياسية. وحقيقة الأمر أن الوحدة الاقتصادية وفَّرت بشكل كبير البيئة اللازمة لاستمرارية الجامعة الإفريقية. وبدون مثل هذه الاستمرارية، لا يمكن وصف الجامعة الإفريقية بشكل صحيح بأنها “حركة” حتى بالمعنى الأكثر مرونة للكلمة.
ويمكن الاستفادة من دراسة نشاطات “دوس” التجارية في توفير المعلومات اللازمة لفهم طبيعة وأفكار وتوجهات المرحلة التاريخية، فبالنسبة لبعض الباحثين، كان “بوكر واشنطن” هو “العم توم” صاحب النشاط الاقتصادي والتجاري والداعي إلى الاندماج والتعليم المهني للسود داخل أمريكا ورفضه للهجرة، لكنه ومع ذلك كان له تأثير جذري على كل من “دوس محمد علي” و”ماركوس جارفي”، وكلاهما كان راديكاليًّا.
وافق “دوس” تمامًا على النهج العام لواشنطن؛ حيث قال: “أدرك [بوكر واشنطن] أن شعبه يتجاهل الحقائق الأخرى في الحياة من خلال الهوس بميزة أكاديمية مجردة كانت تخدمهم بشكل ضئيل في بلد مادي للغاية حيث يكون الدولار هو المحرك لكل شيء”.
ومع “دوس” تحولت سياسة” واشنطن” للتكيف مع القوة البيضاء إلى صراع عرقي من أجل القوة الاقتصادية والاستقلال. تم الإعلان عن هذا في افتتاحية العدد الأول لجريدته “الأزمنة الإفريقية والشرقية”: “لا يمكننا جميعًا أن نكون أساتذة أو أطباء أو محامين… هناك عدد كافٍ من الرجال المحترفين لتلبية الطلب بالفعل… وجهوا أيديكم إلى شيء آخر. لا يوجد عمل مهين… المال هو القوة الدافعة”.
تُظهر هذه الكلمات آماله في خِلق عرق أسود قويّ من خلال الأعمال التجارية، وعدائه النَّشِط للمصالح الاقتصادية الأوروبية القمعية، هذه السياسة الراديكالية في العمل هي نفسها التي جذبت “جارفي” إلى الإعجاب بـ”واشنطن”، ومن المرجَّح أن اتصاله مع “دوس” في لندن (في الفترة 1912-1913م) قاده نحو تبنّي تفسيرات “دوس” لأفكار “واشنطن”. فقد كان لدى “دوس” كراهية شعبوية للمصالح التجارية العملاقة واهتمامًا بالمزارع وصغار التجار المستقلين. لقد رأى وضعًا شديد الصعوبة يغلُب على النشاطات التجارية لشعوب العالم الملونة. وهو ما وصفه “دوس” بقوله: “نرى تصاعد موجة العدوان والعزل والقمع في كل مكان والتي تُهدد بابتلاعنا من جانب التاجر الأوروبي”.
وقد كان من المنطقي أن يركّز “دوس” جهوده التجارية على منتجات غرب إفريقيا؛ حيث كانت غرب إفريقيا واحدة من المناطق القليلة داخل القارة التي تمتلك محاصيل وأراضي زراعية ثمينة في أيدي السكان الأصليين. رأى “دوس” أن مزارعي الكاكاو في غرب إفريقيا يمتلكون فضائل العمل الاقتصادي. وبالتالي فإن دعمه في مراجعاته بلندن للتحريض في غرب إفريقيا البريطانية ضد المحاولات المختلفة مِن قِبَل الحكومات الاستعمارية للسيطرة على الأرض، كان مكملاً لخطط أعماله، التي دعت إلى ملكية إفريقية غير مقيدة للأرض في غرب إفريقيا. وهي نوع آخر من الشعبوية التي تميَّزت بها دعوات “دوس” المطالبة بالملكية الإفريقية للأرض.
وفي النهاية لم تقتصر دعوته إلى الجهود التجارية والاقتصادية وحسب؛ لكنه اهتم كذلك بتأسيس المصارف الإفريقية، ونوادي الطلاب الإفريقيين، ودعا إلى ضرورة إنشاء المؤسسات التعليمية والتثقيفية التي تتشكل من خلالها مدركات الإفريقي نحو ذاته وهويته.
رابعًا: الدلالات الفكرية للمفكر”دوس محمد علي”:
تُعد مسيرة “دوس” مثالًا جيدًا على قوة ومثابرة رواد الجامعة الإفريقية؛ فالنصف الأول من حياته مثال كلاسيكي للظروف التي ينتج عنها الوعي، ولا شك أن نفس الشيء ينطبق على روّاد الجامعة الإفريقية الأوائل الذين ما زالت سنوات تكوينهم يكتنفها الغموض. لكن تبقى حياتهم تجسيدًا لبعض قوى التغيير التي نشأت داخل المجتمع البشري.
ومن نواحٍ عديدة، من الصعب أن تنسجم حياة “دوس محمد علي” وعمله مع المعرفة الموجودة حول الجامعة الإفريقية. فالمثال الأكثر وضوحًا على ذلك؛ يتمثل في حياته التي لا تتوافق على الإطلاق مع ما يمكن تسميته بالمدرسة التقليدية؛ التي تُجسدها كتابات “وليم ديبوا”، وكتابات “جورج بادمور”، ومع ما جاء في كتاب “الجامعة الإفريقية” لكاتبه “كولين ليجوم” Colin Legum، فإن عالم المؤتمرات واجتماعات الماركسيين وغيرهم من المثقفين اليساريين لم يكن عالمه، ومن الخطأ كذلك الاستنتاج بأنه شكَّل مسارًا متفردًا عن الآخرين.
ومن خلال الدراسة نجد أن مجموع الأنشطة التي تركَّزت في حياة “دوس” في الفترة بين عامي 1912م و 1921م تداخلت بشكل كامل مع مختلف الحركات الإسلامية والآسيوية. كان هذا بسبب العمل الدؤوب الذي انتهجه “دوس” بطبيعة الحال رغم قسوة الظروف التي مر بها. إلى جانب طبيعة المرحلة التاريخية نفسها التي شهدت نمو الوعي بالدور المنوط القيام به الشعوب الإفريقية والآسيوية، والذي يتعارض مع الأدوار التي كانت تفرضها الإمبريالية الأوروبية والأمريكية، فكانت “لندن” محط تركيز طبيعي ونقطة التقاء. وقد انجذبوا إليها بسبب موقعها كعاصمة للإمبراطورية البريطانية؛ حيث الكيان السياسي الذي حكم الأفروآسيويين أكثر من أيّ دولة معاصرة أخرى.
ويعتبر “دوس” متفردًا بين أقرانه؛ حيث قام بتعليم الأمريكيين من أصل إفريقي كفاح إخوانهم وشقيقاتهم في جميع أنحاء العالم، الذين تم استعبادهم أيضًا مِن قِبَل مضطهد أوروبي. إذ لم يفرّق بين أسود أو بُنّي أو أصفر، أو بين إفريقي وعربي وآسيوي، أو بين مسلم ومسيحي ووثني. كانت نظرته للاضطهاد والظلم عالمية، وهذا يعود من وجهة نظرى إلى تعدُّد انتماءاته، فهو مسلم عربي إفريقي.
ويُعد كتاب السيرة الذاتية لحياة “دوس” DUSE MOHAMED ALI (1866-1945): The Autobiography of a Pioneer Pan African and Afro-Asian Activist الذي قام على جمع نصوصه الأستاذ “مصطفى عبد الواحد” من كتابات “دوس المتناثرة عن نفسه، مرجعًا مهمًّا لفهم شخصيته وأفكاره؛ حيث يوضح “مصطفى عبد الواحد” أنه “خلال النصف الأخير من القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين، جاءت أعداد كبيرة من الطلاب الأفارقة والآسيويين ورجال الأعمال والمفكرين للدراسة والعيش والعمل في المملكة المتحدة.
وعلى الرغم من الاختلافات في أعراقهم ومعتقداتهم الدينية وتاريخهم، فإنهم جميعًا يتشاركون في نفس التطلعات والآمال في إنهاء الاحتلال البريطاني لأوطانهم وإنشاء دول جديدة مستقلة أو ذاتية الحكم يمكن أن يلعبوا فيها دورًا. لقد حلموا بمستقبل أكثر إشراقًا لشعوبهم، مستقبل يمكن للأجيال الجديدة من الأفارقة والآسيويين على حد سواء أن تجتمع معًا لمعالجة مشاكل التخلُّف، والهيكل السياسي، والتحديات الاقتصادية، والحقوق الأساسية… لقد كان قوة رئيسية في إنشاء العديد من المنظمات السياسية والاجتماعية والتضامنية للبلدان الإفريقية والآسيوية والإسلامية”.
وختامًا:
يقول الدكتور “عبد الملك عودة” رائد الدراسات الإفريقية في مصر والعالم العربي عن “دوس” بعد أن ذكر شيئًا عن حياته وأفكاره: “أعتقد أن على المثقفين والمفكرين الأفارقة بالأخص [السودانيين والمصريين] تقع عليهم مسؤولية التأليف والكتابة عن هذا الرائد الشرق إفريقي؛ لأن ميراثه وإسهامه الفكري يمنحنا تراثًا وجذورًا في حركة الدعوة إلى [الجامعة الإفريقية]، وهذه الدعوة التي يُصر الكُتّاب الغربيون على أنها من صُنع قادة [أفارقة أمريكيين]، وتسلمها منهم زعامات الشباب والقيادات في غرب إفريقيا. وفضلاً عن هذا فإن نشر تراث هذا الرائد يمحو الاتهامات المغرضة التي يبثها بعض المغرضين والمتعصبين حول أن مصر والسودان ودول الشمال الإفريقي لم تعرف نشاط الجامعة الإفريقية والوحدة الإفريقية إلا أخيرًا لأغراض سياسية طارئة وخاصة”.
____________________
أهم المراجع المستخدمة في البحث:
Adi, Hakim, and Marika Sherwood. Pan-African history: Political figures from Africa and the Diaspora since 1787. Routledge, 2003
Duffield, Ian. “The Business Activities of Duse Mohammed Ali: An Example of the Economic Dimension of Pan-Africanism, 1912-1945.” Journal of the Historical Society of Nigeria (1969): pp. 571-600
Duffield, Ian. Duse Mohamed Ali and the development of Pan-Africanism 1866-1945. Diss. University of Edinburgh, 1971
Dusé Mohamed Ali, In the Land of the Pharaohs: A Short History of Egypt from the Fall of Ismail to the Assassination of Boutros Pasha (London: Stanley Paul & Co., 1911)
Duse, Mohamed, and Mustafa A. Abdelwahid. Dusé Mohamed Ali:(1866-1945); the Autobiography of a Pioneer Pan African and Afro-Asian Activist. Red Sea Press, 2011
GhaneaBassiri, Kambiz. A history of Islam in America: From the new world to the new world order. Cambridge University Press, 2010
Howell, Sarah F. Inventing the American mosque: Early Muslims and their institutions in Detroit, 1910-1980. University of Michigan, 2009
Nasta, Susheila, and Mark U. Stein, eds. The Cambridge History of Black and Asian British Writing. Cambridge University Press, 2020
Rashid, Samory. “Cases.” Black Muslims in the US. Palgrave Macmillan, New York, 2013. Pp. 107-132
عبد الملك عودة، سنوات الحسم في إفريقيا، (القاهرة، دار النهضة العربية، 1966م).
باسم رزق عدلي، الهوية الإفريقية في الفكر السياسي الإفريقي (القاهرة، المكتب العربي للمعارف، 2015م).