الدكتور “موجولا أجبيبي” (1860-1917م) Mojola Agbebi، وُلِدَ في “نيجيريا” بغرب إفريقيا، واسمه الأصلي “ديفيد براون فينسنت” David Brown Vincent. وهو من أبرز مؤيدي “الإثيوبيانية” Ethiopianism، ولُقِب كذلك برائد “الشخصية الإفريقية”.
واعتمد “أجبيبي” أسلوب الحياة البسيطة للشخصية الإفريقية، أكثر من سابقيه من القوميين؛ مثل “إداورد بلايدن” (1832-1912م) Edward Wilmot Blyden أو “هربرت ماكولاي” (1864-1946م) Herbert Macaulay أو “جيمس جونسون” (1836-1917م) James Johnson؛ حيث تجنّب العلاقات الاجتماعية مع الأوروبيين، على عكس “بلايدن”. وقام بارتداء الزي الإفريقي، وطالب بالعادات الإفريقية. وتبعه الكثير من النُّخْبَة الذين تلقوا تعليمًا غربيًّا، فقاموا بتغيير أسمائهم الغربية إلى إفريقية، وارتدوا الزي الإفريقي.
وفي سنة 1888م قام “أجبيبي” بتأسيس “الكنيسة المعمدانية الأصلية” Native Baptist Church (والتي تعرف الآن بالكنيسة المعمدانية الأولى First Baptist Church)، في لاجوس Lagos، بنيجيريا. وفي وقت لاحق ساعد في إنشاء “كنيسة إبنيزر المعمدانية” Ebenezer Baptist Church.
كان من أوائل الإفريقيين الذين حصلوا على شهادة في الهندسة المدنية من جامعة بريطانية، لكنه اشتهر في المقام الأول بعمله التبشيري والتنصيري في جنوب نيجيريا والكاميرون بين عامي 1890 و1910م؛ حيث تبنَّى “الإثيوبيانية” كفكر قوميّ ودينيّ في عام 1902م.
أولًا: النشأة والسمات والخبرات الشخصية لـ”أجبيبي”:
وُلِدَ “موجولا أجبيبي” في “إليشا” Ilesha (المستوطنة الرئيسية لسكان اليوروبا، وهي الآن ولاية “أوسون” Osun، بنيجيريا Nigeria) في العاشر من أبريل سنة 1860م. واسمه الحقيقي “ديفيد فنسنت براون”.
كان والده أحد العبيد الذين عادوا إلى “نيجيريا” Nigeria من “فريتاون” Freetown في “سيراليون” Sierra Leone. وهذا يعني أن والده كان من “الكريول” Creole، الذين تعود أصولهم إلى “يوروبا” Yoruba (من ولاية “إكيتي” Ekiti بنيجيريا). كما وُلِدَتْ والدته، “بيجي يوكو” Peggy Yoko، في مستعمرة “سيراليون”، حيث تعود أصولها إلى عرقية “الإيبو” Igbo.
كان لهذا التراث المزدوج أهمية كبيرة في نشأة “أجبيبي”؛ من حيث الدروس المستفادة من العبودية، وتأثيرها على الثقافة الإفريقية. جزء من هذا الإرث هو أن اسمه الذي قام بتغييره لاحقًا إلى “موجولا أجبيبي”.
بعد ثماني سنوات من ولادة “أجبيبي”، تم إرساله إلى مدرسة “جمعية الكنيسة التبشيرية” (CMS) Church Missionary Society في “لاجوس”. والتي ظل بها حتى سنة 1874م، ليلتحق فيما بعد بمدرسة التدريب التابعة لـ”جمعية الكنيسة التبشيرية” لمدة ثلاث سنوات.
وحين بلغ سن السابعة عشرة من عمره، أي في سنة 1877م؛ أصبح مديرًا لإحدى مدارس “الجمعية” وهي مدرسة “فاجي داي” Faji Day، حيث استمر في منصبه حتى سنة 1880م، حينما تم فصله من قبل سلطات “الجمعية” بسبب أمور روتينية.
بين عامي 1880م و1883م؛ عمل مع العديد من الإرساليات التنصيرية؛ مثل “الإرسالية الكاثوليكية” Catholic، و”الميثودية” Methodist، و”المعمدانية الأمريكية” American Baptist في “بورتو نوفو” Porto Novo بجمهورية “بنين” Benin Republic.
شارك لاحقًا في “الكنيسة المعمدانية الأولى في لاجوس” First Baptist Church in Lagos، التي أسَّسها “المعمدانيون الأمريكيون”، ليصبح أحد القادة المحليين جنبًا إلى جنب مع القس المحلي “موسى لاديجو ستون” Moses Ladejo Stone. وبسبب سوء معاملة “موسى” مِن قِبَل المبشرين المعمدانيين الأمريكيين، حدث الانفصال الذي أدَّى إلى تأسيس “أجبيبي” لأول كنيسة معمدانية محلية في “نيجيريا”، والتي تُعْرَف باسم “الكنيسة المعمدانية الأصلية” في سنة 1888م.
وفي سنة 1889م، نشر كتابًا صغيرًا بعنوان “إفريقيا والإنجيل” Africa and the Gospel. في هذا الكتيب قدم توضيحًا حول أسباب إنشاء الكنائس الإفريقية المنفصلة. وكان كذلك مدافعًا قويًّا عن القومية الثقافية الإفريقية، وهو ما دفعه إلى تبنّي وتدريس الثقافة والدين الإفريقي. وفي سنة 1894م قام بتغيير اسمه خلال وجوده في “ليبيريا”، لإظهار تقديره للثقافة والعادات الإفريقية؛ حيث التقى في “ليبيريا” بالدكتور “إدوارد بلايدن” رائد القومية الزنجية في غرب إفريقيا. وحصل على درجتي الماجستير والدكتوراه الفخرية؛ لإخلاصه العرقي وقدراته الأدبية. وتجدر الإشارة إلى أن “أجبيبي” كان يُعبّر بالفعل عن كنيسة إفريقية محلية قبل أن يقابل “بلايدن” الذي شاركه في كثير من وجهات النظر المماثلة.
بين عامي 1903م و1904م، قام بجولة في “بريطانيا” و”الولايات المتحدة” لإلقاء محاضرات حول العادات الإفريقية. ومن بين الأماكن التي حاضر فيها أثناء زيارته كانت “جامعة نيويورك” University of New York، التي منحته درجة الدكتوراه الفخرية في اللاهوت.
وفي سنة 1908م، تزوج من “أديوتان سيكواد” Adeotan Sikuade، لتصبح زوجته الوحيدة وأم أطفاله. واللافت أنه أعطى أطفاله أسماء إفريقية. وتوفي أربعة من أبنائه في عام 1916م، ليلحق بهم بعد عام واحد في يوم الخميس 17 مايو 1917م.
ثانيًا: السياق الفكري والسياسي والتاريخي المعاصر لـ”أجبيبي”:
أثار التدخل الأوروبي في إفريقيا ردود أفعال متباينة من الإفريقيين. رفض “التقليديون” الحضارة الغربية، وتمسكوا بوجهة النظر التقليدية للعالم. بينما سعى “الاستيعابيون” إلى احتضان الثقافة الغربية على أمل المشاركة في بركات النظام الجديد. المجموعة الثالثة، “الإصلاحيون” أو “المجددون”، والتي حاولت التطوير عبر توليفة من الثقافة التقليدية وطريقة الحياة الغربية. حاول “الإصلاحيون” صياغة دين جديد أو دليل للعمل، على أُسُس القِيَم الأكثر ديمومة للدين التقليدي. كان “إدوارد ويلموت بلايدن” الفيلسوف البارز في محاولة لبناء وجهة نظر عالمية جديدة للإفريقيين.
وضع “بلايدن” إيمانه في مصير الأمة الإفريقية ورسالتها في العالم. باستخدام نظرية قومية تذكرنا بالقومية الثقافية لـ”يوهان فون هيردر” (1744-1803م) Johann von Herder، سعى كذلك إلى استعادة كرامة الثقافة والتاريخ واللغات الإفريقية. ودافع عن الثقافة الإفريقية ضد التحيز الأوروبي والاستيعاب الإفريقي. اعتقادًا منه أن الاستيعاب سيكون عقيمًا ومستحيلًا، وضع إيمانه في بناء جنسية إفريقية على أُسُس قومية، من خلال دولة إفريقية زنجية في غرب إفريقيا على أساس قومي لكسب الاحترام للإفريقيين مِن قِبَل بقية العالم.
كان “أجبيبي” أحد المفكرين القوميين من غرب إفريقيا في المستعمرات البريطانية السابقة. وخلال حياة “بلايدن” بدا أن هناك إجماعًا حول آرائه، فنشأت مدرسة قومية ثقافية بين بعض المثقفين في غرب إفريقيا. وبجانب التغيرات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية في الفترة قيد الدراسة؛ حدثت صحوة سياسية جديدة بين بعض المثقفين. ويبدو أن بعض تلاميذ “بلايدن” قد انخرطوا في الاهتمام المتزايد بالاستقلال السياسي.
قد تتوافق هذه الفترة مع ولادة القومية الجديدة التي تحدث عنها “أنتوني سميث” (1939-2016م) Anthony Smith. حيث تقوم فرضية “سميث” على أن القومية هي التأكيد على أهمية الروابط العرقية، التي يقصد بها حركة الحكم الذاتي، وبناء الرموز، والأَقْلَمة، والثقافة العامة، وما شابه ذلك، لكن أيضًا من خلال وجود الموارد الثقافية المختلفة واستخدامها؛ وخرافات الاصطفاء العرقي، وذكريات العصر الذهبي، ومُثُل التضحية، وتقديس الأوطان.
ونشأ هذا النموذج في غرب إفريقيا من اتحاد “الاستيعابيين”، الذين فشلوا في تحقيق أحلامهم بالمساواة في النظام الاجتماعي الجديد، و”الإصلاحيين” الذين جاءوا ليجدوا أن القومية الثقافية غير ملائمة بدون دولة قومية مستقلة.
خلال هذه الفترة التاريخية نجد “أجبيبي” الذي ينتمي إلى التيار “الإصلاحي” والقومي، غائبًا ومنسيًّا، وأحيانًا يتم تجاهل دوره وأنشطته السياسية، والتي تتلخص في رغبته في صياغة معتقد إفريقي جديد يجمع بين التقليد والحداثة.
ثالثًا: منطلقات “أجبيبي” الفكرية:
كان “أجبيبي” قوميًّا رومانسيًّا، طغت على أفكاره المسحة الدينية، أو ما كان يُعرَف في القرن التاسع عشر بـ”الإثيوبيانية”. ونتيجة لتلقيه تعليمًا محليًّا داخل إفريقيا؛ لم يجذبه بريق الحضارة الغربية، وعلى مدار حياته لم يغادر إفريقيا إلا مرتين فقط، كلاهما كانا لفترة قصيرة؛ حيث قام برحلته الأولى إلى إنجلترا سنة 1895م؛ عندما كان يبلغ من العمر خمسة وثلاثين عامًا، واستغرقت خمسة أشهر فقط. بينما استغرقت الرحلة الثانية إلى أمريكا وإنجلترا عامًا ونصف.
تعليمه في إفريقيا ليس هو السبب الوحيد الذي يفسّر اعتزازه ووعيه بإفريقيته. فقد اقتصرت دراسته على المدارس التبشيرية الغربية، والتي كان من الممكن أن يتشرب من خلالها التعليم الأوروبي. لكنَّ أحد العوامل في موقف “أجبيبي” المستقل؛ كان إقالته من “جمعية الكنيسة التبشيرية” في سنة 1880م. وهو ما جعله يتحرر من ارتباطاته مع المبشرين البيض، وبالتالي أصبح مستعدًّا لصياغة أفكاره وأهدافه الخاصة.
وربما كان التأثير الأقوى في إفريقية “أجبيبي” هو تنشئته ونضوجه في جو “لاجوس” خلال ثمانينيات القرن التاسع عشر. وهو ما جعل أفكاره نتاجًا لمرحلة تاريخية تميزت بالاستعمار الاستيعابي. كما كانت “لاجوس” مركزًا للثقافة الرفيعة في غرب إفريقيا. وعلى الرغم من الانتشار الواسع للأسماء الأجنبية واللباس ونمط الحياة بين مكونات النخبة الإفريقية، كانت “لاجوس” تسعى بين الحين والآخر، وبشكل متقطع إلى تنمية وطنية إفريقية محلية. بالإضافة إلى أن السمة الرئيسية لوطنية “لاجوس” كانت الكبرياء العرقي؛ حيث الوعي بحالة الرجل الأسود؛ الذي كان جزءًا من تفسير هذا الوعي؛ هو غلبة العرق الزنجي على سكان “لاجوس”، والاستناد إلى “قيم سوداء كوزموبوليتية”. وتتضح أهمية الكبرياء العرقي كموضوع رئيسي في كتابات “أجبيبي” منذ سن مبكرة.
ومن خلال دراسة أنشطته وكتاباته؛ يمكن تناول أهم القضايا التي شغلت فكره من خلال العناصر التالية:
1- مناهضة العنصرية والاستعمار
منذ عام 1882م، عندما بدأ ظهور “أجبيبي” في الحياة العامة، وحتى وفاته في عام 1917م، استطاع أن يطبق المفاهيم المسيحية للأخوة العالمية للبشرية في علاقاته الإنسانية؛ حيث تجنَّب المقاطعات المتعصبة، والشوفينية القَبَلِيَّة في وقتٍ كانت فيه هذه العوامل الانقسامية تفكّك دول غرب إفريقيا، وتشجّع على الحروب بين القبائل.
كانت نظرته القومية تسع الجميع، كان يشعر بالمواطنة سواء كان يقيم في “بوجوما” Buguma بين “كالاباري” Kalabari في دلتا النيجر، أو في “مونروفيا” بين “كرو” Kru، أو في مجتمع متعدِّد اللغات في “سيراليون”، أو بين الزنوج “الإفريقيين في المنفى”، أو ما يُطلَق عليه العالم الجديد. فلم يكن يومًا عنصريًّا تجاه الإفريقيين في أي مكان؛ وهو ما ظهر من خلال تعامله مع أقرانه بناءً على مزاياهم بدلاً من التعامل مع لونهم أو تسميتهم العرقية.
جعل من غرب إفريقيا موطنه، بالإضافة إلى وعيه العرقي وقوميته الثقافية، كان لديه شعور سياسي مناهض للاستعمار في “لاجوس” في ثمانينيات القرن التاسع عشر؛ حيث أظهر الشاب “أجبيبي” منذ البداية انخراطه واهتمامه بالمسائل السياسية. في نقاش داخل “جمعية الشبان المسيحيين في لاجوس” Young Men’s Christian Association Of Lagos عام 1885م حول هذا الموضوع، تساءل: “هل الجهود الحالية للدول الأوروبية الاستعمارية تسعى إلى زيادة المساحة الاستعمارية، وحماية مصالحها التجارية وتنميتها، أم أنها في هذا الصدد محسوبة على أنها ميزة لإفريقيا والعرق الإفريقي بشكل عام؟” تبنَّى “أجبيبي” الرأي السلبي بالطبع. واستشهد بانقراض هنود أمريكا الشمالية والسكان الأصليين لأستراليا على يد الرجل الأبيض، وأبدى توجسه من مصير مماثل للإفريقيين. معتبرًا أن المناخ فقط من شأنه أن ينقذ الإفريقيين. وعارض “أجبيبي” هذا التدافع معللًا ذلك بأن “التجارة الأوروبية لم تجلب إلى إفريقيا إلا الخمر والبندقية”.
غالبًا ما جاءت خُطَب “أجبيبي” معبرةً عن مناهضته القوية للاستعمار، مما دفَع “جورج شيبرسون” George Shepperson إلى تصنيف “أجبيبي” على أنه إثيوبياني وفقًا لتقليد الإثيوبيانيين في وسط وجنوب إفريقيا؛ حيث يتم تعريف “الإثيوبيانية”: “على أنها حركة الاستقلال عن الحكم الاستعماري، لكن في إطار تفسير مسيحي يعتمد على نصوص كتابية تصف الإفريقيين المتحولين للمسيحية بالإثيوبيين”.
2- الإثيوبيانية بوصفها منطلقًا لفكر “أجبيبي” القومي
في البداية يجب ملاحظة أن “أجبيبي” يمتن بشدة للمبشرين الذين أدخلوا المسيحية إلى القارة، وأبقوا شعلة الإيمان المسيحي مشتعلة. فقد كان يعتقد أن غالبية المتحولين؛ ينظرون إلى المسيحية في القرن التاسع عشر على أنها أفضل هدية للزنوج؛ لِمَ لا؟ وهو الذي تربَّى داخل المدارس التبشيرية منذ صغره. هذه البعثات التبشيرية التي روَّجت بين الإفريقيين بأن “الدين المسيحي هو إكسير الحياة بالنسبة للإفريقي”، بل هو “السعادة التي غابت عن إفريقيا لزمن طويل”. لذا فإن امتنانه لأولئك الذين قدموا هذه “الهبة الإلهية للإفريقيين” كان كبيرًا، وهو ما جعل “أجبيبي” يتغاضى في بادئ الأمر عن الأخطاء المتكررة للمبشرين في حق الإفريقيين.
خلال هذه الفترة كان المبشر وحده هو المستكشف والمتحدث باسم مصالح الإفريقيين، باعتباره “رسول الحضارة والإنجازات العملية للمسيحية الأوروبية في إفريقيا”، ومن خلال جهود إخوانه في أوروبا، كان المبشر يقدم نفسه كمحرر للإفريقي من العبودية المادية لتجارة الرقيق عبر المحيط الأطلسي، وأنه صوت المناجاة لبلده الأصلي في إفريقيا الساعي لقمع تجارة الرقيق وبيع العبيد، وأنه حامل راية التحضر والتمدُّن من خلال مدارسه التبشيرية، لتخليص عقل الإفريقي من عبث وأصفاد الخرافات والجهل، وبأنه حامل لواء العلم والتقدم، الذي من شأنه أن يُطوّر مواهب الإفريقي، وبالتالي يكشف للعالم الأوسع والأكثر شكوكًا أنه مساوٍ للرجل الأبيض من الناحية البيولوجية. فالمبشر هو الذي سعى إلى تحسين الرفاهية المادية للإفريقيين، وأنه كثيرًا ما حدَّد ودافع عن مصالح الإفريقيين ضد الإجراءات القمعية للحاكم الاستعماري وجشع واستغلال التاجر الأبيض. كانت هذه هي نظرة “أجبيبي” للمبشرين البيض في بداية تشكُّل أفكاره.
ففي إحدى المناظرات في “لاجوس” بتاريخ 16 فبراير 1885م، لخَّص “أجبيبي” آراءه حول الإشادة التي تدين بها إفريقيا للمبشرين بطريقة تستحق الاقتباس: “المبشرون وحدهم، هم الرُّوَّاد الحقيقيون للحضارة الإفريقية. فقد كانت أوروبا التجارية هي أول من اخترعت السخرة، وأنتجت ضحايا العبودية، بينما أوروبا الإنجيلية هي التي أصدرت مرسوم التحرُّر العالمي. وأوروبا المغامرة، هي التي صاغت [الأنثروبولوجيا]، لتضعنا نحن سكان هذه الأرض الطيبة، في فئة الخليقة الغاشمة. لكنَّ أوروبا التبشيرية هي التي نقلت إلينا التعليم على نطاق واسع”. ويكشف هذا الاقتباس نظرته التي تتسم بالرومانسية التي تتغاضى عن العنصرية التي كان يتعامل بها المبشرون البيض مع المبشرين السود.
ونظرًا لأن “أجبيبي” لم يكن يشكك مطلقًا في طبيعة الدين المسيحي ودوره في إفريقيا. لذا حاول فصل العنصر البشري للمسيحية المؤسسية عن العقيدة نفسها، ملقيًا باللوم على الفاعلية البشرية، وأعفى الدين المسيحي في حد ذاته من كل اللوم. وإدراكًا منه للفظائع التي يرتكبها المبشرون البيض والتجار والوكلاء العلمانيون في إفريقيا، فقد حاضر “أجبيبي” مرارًا وتكرارًا بأن المسيحية الأوروبية، وليس مسيحية الكتاب المقدس، هي التي يجب إلقاء اللوم عليها. لكنَّه في المقابل استنكر “التدافع” الأوروبي وإرساء الحكم الاستعماري في إفريقيا. وقد كان استنكاره لهذه الأحداث نابعًا من قناعاته بأن هذه الأحداث لم يكن لها أيّ مسوغ دينيّ في المسيحية.
لكنه عاد في 2 ديسمبر 1902م، وفي خطبته الأشهر بمناسبة الذكرى السنوية الأولى لكنيسة “بيت إيل الإفريقية” في “لاجوس”، طوَّر الكثير من أفكاره، وهو ما ظهَر في قوله: “المسيحية الأوروبية شيء خطير. ما رأيك في دين يحمل زجاجة الخمر في يد، وكتاب العبادة في اليد الأخرى؟.. دين يستولي على أرض أسلافك، ويضع ميراثك تحت تشريع لا يمكن تفسيره؟.. دين ينتحل لنفسه وظائف رقابية على الأخلاق الجنسية في الوقت الذي يروّج فيه للرقص، حيث ترقص زوجة رجل ما، مع اتصال وثيق، وقرب مشكوك فيه، وموقف غير لائق مع زوج امرأة أخرى. فكم من الفظائع التي تُرتكب باسم المسيحية؟!”.
لكن تشويه سمعة الكنيسة من قبل وكالتها التبشيرية في الحقبة الاستعمارية، لم تدفع “أجبيبي” إلى التمرُّد على المسيحية، لكنه في المقابل كرَّس حياته لنشر المسيحية بين الإفريقيين، فقد كان أولًا وقبل كل شيء مبشرًا. و”الكنيسة بالنسبة له أفضل مؤسسة ينبغي للأفارقة أن يستثمروا من خلالها مواهبهم”.
من خلال هذا المفهوم للمسيحية، ظل “أجبيبي” في خدمة الكنيسة طوال حياته. لكن ارتباطه بالكنائس الأجنبية كان قصيرًا؛ مع “الجمعية التبشيرية الكنسية” من عام 1878م إلى عام 1880م، ومع “الكنيسة الرومانية الكاثوليكية” Roman Catholic Church لفترة أقصر بكثير، ومع “الإرسالية المعمدانية الأمريكية الجنوبية” Southern American Baptist Mission من عام 1886م إلى أبريل 1888م، كانت رحلته الأطول عندما انضم إلى آخرين في تشكيل “الكنيسة المعمدانية الأصلية” Native Baptist Church، وهي أول كنيسة إفريقية مستقلة (منشقة) في نيجيريا. ومنذ ذلك العام وحتى وفاته، كان “أجبيبي” مبشرًا للكنائس الإفريقية فقط، ولا سيما “الكنيسة المعمدانية الأصلية”. وعلى الرغم من ذلك، فقد تحرَّك بحرية بينها وبين الكنائس الإفريقية الأخرى في نيجيريا، ولا سيما “الكنيسة الإفريقية الأصلية المتحدة” United Native African Church (التي تأسست سنة 1891)، وكنيسة “بيت إيل الإفريقية” African Bethel Church (التي تأسست سنة 1901م)، ليصبح رئيسًا فيما بعد لما يسمى “الاتحاد المعمداني للإفريقيين بغرب إفريقيا” African Baptist Union of West Africa الذي أسَّسه بنفسه. وتقديرًا لأهميته الأساسية في حركة الكنيسة المستقلة في “لاجوس”، تم انتخابه رئيسًا لـ”الطائفة الإفريقية” African Communion في سنة 1913م.
وحين تحوَّل إلى الكنائس الإفريقية منفصلًا عن الكنائس الغربية، أُعجب كثيرًا بأسلوب العبادة والتنظيم المعمداني، لذا فقد عزَّزه في كنائسه التي قام على تأسيسها، وجادل بأن الأشكال والقواعد التي استوردتها البعثات الأجنبية إلى إفريقيا هي من صنع الإنسان إلى حد كبير. واعتبر غالبية التعاليم الدينية المسيحية غير أساسية، وقال: “وفقًا لتقدير الرسول؛ فإن التبشير بالمسيح، وانتصار الإنجيل، ونجاح البر العملي هو الشيء الأساسي، بينما كل الأمور الأخرى غير أساسية”.
واستنكر التشريعات والممارسات التي اعتبرها “طقوسًا” أكثر من كونها “دينًا”. وانتقد الطقوس الأنجليكانية والكاثوليكية، معربًا عن اعتقاده بأن المعمدانيين هم الأقل طقوسًا وتكلفًا بين الطوائف الأخرى؛ حيث تتسم عبادتهم بالبساطة.
وأبدى كذلك رفضه للهيكلية التنظيمية الهرمية للكنيسة الأنجليكانية، ومذهبها المتمثل في “التبعية التاريخية”. وأنه على النقيض من كل هذا، كان التنظيم الجماعي للمجتمع المعمداني، وروح الاستقلال داخل كل كنيسة، وجعلها تدير شؤونها الخاصة، هو الباعث لمفاهيم المسؤولية الفردية، وحرية الضمير، والمساءلة الشخصية، هذه الأمور من بين أمور أخرى هي التي جعلت “أجبيبي” يرى في المعمدانية الاستقلالية والتحرر من القيود، وأنها الأنسب لكنيسته المستقلة ودوافعه القومية.
صاغ “أجبيبي” مفهومه للمسيحية الإفريقية دون مساس بالأمور العقائدية، لكنه رأى أن المسيحية الإفريقية هي مسيحية وسطية تجمع ولا تفرّق. وحثَّ الإفريقيين على التعلم من نجاح الإسلام واستيعابيته للمنتمين إليه، على الرغم من اختلاف اللون أو اللغة أو الموطن. واختلف مع سياسة المبشرين الأوروبيين “التي كانت تشترط على الإفريقي لكي يكون مسيحيًّا، يجب أن يقلد الأسماء الأوروبية، واللباس الأوروبي، وإذا أمكن، حتى يغير بشرته إلى اللون الأبيض”، ورأى “أجبيبي أنه “لا ينبغي أن نقلد الأجنبي فنفقد هيبتنا، فكما أن أسقف روما ليس له ولاية قضائية في إنجلترا، لذا فإن أساقفة أوروبا ليس لديهم سلطة قضائية في إفريقيا”.
انغمس “أجبيبي” في سنة 1891م، في الإثارة التي صاحبت تأسيس “الكنيسة الإفريقية الأصلية المتحدة”. بسبب الإساءة إلى “الأسقف كروثر” (1809-1891م) Samuel Ajayi Crowther مِن قِبَل المبشرين البيض الشباب، وتقديم استقالته اللاحقة. وكذلك الخطاب الذي ألقاه “بلايدن” في “لاجوس” في يناير 1891م، الذي حثَّ فيه على تأسيس كنيسة مستقلة، وهو الشيء الذي ملأ “أجبيبي” بأمل كبير للكنيسة الإفريقية الأصلية المتحدة، وفي خطبته الافتتاحية، “عشية الأزمة” The Eve of a Crisis، عكست كلماته تطلعاته الكبيرة للكنيسة المستقلة الجديدة: “لقد حان عصر التغييرات، ونحن على عتبة أزمة كبيرة. أزمة سياسية ودينية ومدنية واجتماعية… آباء الثورة يقاومون الرياح العاتية، والنتائج ستكون غير مضمونة”.
في 4 أبريل 1892م، تمت دعوة “أجبيبي” ليصبح وزيرًا في الكنيسة الإفريقية الأصلية المتحدة، وألقى خطبته الافتتاحية في 8 مايو 1892. في هذه الخطبة، صاغ أهداف الكنيسة الجديدة باعتبارها بناء كنسيًّا: “بسواعد إفريقية، وبأموال إفريقية، وبدون القيود التي تتجسّد في لون البشرة والهيمنة العرقية الغربية والأجنبية”.
وفي بيان شديد اللهجة، وصف تشكيل كنيسة إفريقية بأنها “الخطوة الأولى الضرورية في سبيل التحرُّر من الحكم الاستعماري… فعندما لا يكون هناك أساقفة أجانب، ولا اجتماع سري للكرادلة Cardinals من أجل هيمنة على مسيحية إفريقيا، وعندما يقود قائد الخلاص، يسوع المسيح بنفسه الإثيوبيين، وقتها لن تكون لمسيحيتنا جناحًا في [لندن] أو [نيويورك]، بل ستحلق بجناحيها في السماء، لتنتهي إلى الأبد مجالس الهيمنة الخاصة، والحكام، والكولونات، والضم، والتهجير، والتقسيمات، والتنازل، والإكراه”.
هنا يجب التساؤل: إلى أي مدى كانت مسيحية أجبيبي إفريقية؟ اعتقاده وإيمانه بأن جميع الأوروبيين كانوا متحالفين معًا لإخضاع الإفريقيين؛ هو ما جعله يرفض أن تكون المسيحية الأوروبية هي الوسيلة التي سيتم من خلالها إخضاع الروح الإفريقية للغرب”، كان يؤمن بأن “الحرية الروحية هي الخطوة الأولى والضرورية للوصول إلى حرية العقل والجسد”.
3- الشخصية الإفريقية African personality
في سنة 1886م، بدأ “أجبيبي” التفكير فعليًّا في تشكيل كنيسة إفريقية مستقلة. وبعد أن أجرى دراسة خاصة للعهد الجديد وتاريخ الإرساليات الحديثة، توصَّل إلى استنتاج مفاده أن حلّ مشكلة التبشير الإفريقي كان من خلال غرس ورعاية كنائس مستقلة. وشعورًا منه بأنه يجب عليه شق الطريق في هذا الاتجاه، باع كل ممتلكاته بُغية الانتقال إلى المناطق الداخلية في “يوربا لاند” Yorubaland لتنفيذ أفكاره. ومع ذلك، كان عليه تأجيل نواياه بسبب الحرب الأهلية التي كانت لا تزال مستعرة في البلاد. وفي غضون ذلك، في سنة 1888م، تطورت الأحداث في “الكنيسة المعمدانية في لاجوس”، والتي كانت تحت سيطرة مبشر أمريكي، إلى أزمة كبيرة لعب فيها “أجبيبي” دورًا بارزًا، ممَّا أدَّى إلى تشكيل “الكنيسة المعمدانية الأصلية”.
وما أن تأسست هذه الكنيسة الإفريقية المستقلة حتى بدأ “أجبيبي” في صياغة فلسفته للكنيسة الإفريقية المثالية التي يرغب في رؤيتها تتطور داخل إفريقيا. كان أهمّ ملامح هذه الفلسفة؛ أن تكون الكنيسة رمزًا وتعبيرًا عن “الشخصية الإفريقية” African personality، وذلك من خلال اكتساب خصائص البيئة الإفريقية دون التضحية بالمبادئ اللاهوتية للإيمان المسيحي. وبعبارة أخرى، كان “أجبيبي” يدعو إلى أن المسيحية في إفريقيا يجب أن تتجسد في الوسط الإفريقي وبالطريقة الإفريقية، وعلى أُسس الثقافة الإفريقية.
وفي هذا الصدد، شدَّد ووعظ باستمرار على ضرورة الحفاظ على الممارسات الخاصة بالتراث الثقافي الإفريقي، والتي لا تتعارض مع أساسيات المسيحية، فاستبدل الترانيم الأوربية بأخرى من التراث الإفريقي، وكذلك الملابس ومراسم الزواج.
كما كان “أجبيبي” واحدًا من عدد قليل جدًّا من النخبة الإفريقية المثقفة الذين رأوا أنه لا توجد بالضرورة علاقة منطقية بين المسيحية والثقافة الأوروبية.
وعلى الرغم من أن “أجبيبي” لم يكن وحيدًا في عصره الذي حثّ الكنيسة على أن تكون تعبيرًا عن الشخصية الإفريقية؛ فقد سبقه في هذا الطرح “إدوارد بلايدن” من ليبيريا، و”جونسون هولي” (1836-1917م) James holy Johnson من نيجيريا، و”أوريشاتوكا فادوما” (1855-1946م) Orishatukeh Faduma من سيراليون. جميعهم كانوا يمتلكون أفكارًا مماثلة، لكن “أجبيبي” كان وحيدًا حين ترجم هذه الأفكار إلى ممارسة فعلية. فكما ذكرنا سابقًا، تخلص من الاسم الأجنبي “منزوع القومية” إلى اسم إفريقي تمامًا، وأسَّس كنيسته الإفريقية.
ومنذ عام 1894م حتى وفاته رفض ارتداء الملابس الأوروبية، حتى خلال زيارته لبريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية. وفي الوطن كان يرتدي الثوب الفضفاض الذي يتكون من قطعة واحدة من القماش الأصلي ملفوفة حول الجسم؛ وفي الخارج كان يرتدي لباس اليوروبا الضخم المسمى “أجبادا” بأشكاله وأنواعه المختلفة.
4- القومية الإفريقية
في عام 1903م، سافر “أجبيبي” إلى الولايات المتحدة والتقى بـ”جون إدوارد بروس” (1856-1924م) John Edward Bruce، الصحفي الأمريكي الأسود والمتحمس لحركة “الجامعة الإفريقية”؛ حيث تم الترحيب به في أمريكا بوصفه “الصوت الجديد من إفريقيا”، ولسلوكه القومي ونشاطه بالعمل العام. وحصل “أجبيبي” على شهرة كبيرة بين أعضاء “نادي يوم الأحد للرجال في يونكرز” Men’s Sunday Club of Yonkers الذي أعلن “يوم موجولا أجبيبي” Mojola Agbebi Day. نتيجة لتجسيده للشخصية الإفريقية، وباعتباره يمثل الشخصية المحورية بين السود في إفريقيا وأمريكا.
كانت آراؤه تعبر عن قوميته الإفريقية حتى في مواجهة السود الذين عاشوا خارج القارة؛ حيث رأى “أن السود الأمريكيين فقدوا غرائزهم وكبريائهم وهويتهم العرقية”؛ وأرجع ذلك إلى “جهلهم بإفريقيا”. ومن المفارقات أنه أخبر الأمريكيين السود، بأن “أمريكا، وليس إفريقيا، بحاجة إلى مبشرين”. كما “شارك [أجبيبي] مفكري عصره [بلايدن]، و[فادوما]، و[ماكولاي] وآخرين معارضتهم للتزاوج بين الأعراق”. مفسرًا ذلك بأن “التمايز والاختلاف بين البشر سُنة إلهية، فالسمات تتمايز تبعًا للحدود القومية، ومن بين هؤلاء البشر؛ لم يتجاوز الإفريقي تلك الحدود بحثًا عن زمالة اجتماعية، أو دينية، أو غير ذلك، مع القوميات الأخرى خارج القارة”.
هذه الوطنية العرقية لدى “أجبيبي”، كانت تفرض نفسها في “لاجوس” خلال ثمانينيات القرن التاسع عشر بهدف استعادة الهوية الإفريقية. فعلى سبيل المثال، كان هناك حزب “يوروبا” بين المتعلمين في “لاجوس”، الذين سعوا لإعطاء اللغة العامية أهمية كبيرة مثل اللغة الإنجليزية. كما دعت مجموعة prc-Yoruba إلى رعاية المسابقات والمنح الدراسية للترويج للأدب القديم لليوروبا. وانضم “أجبيبي” إلى مؤيدي حزب “اليوروبا”. بل وشارك بقصيدة واحدة على الأقل باللهجة المحلية لليوروبا.
في مقال بعنوان “عائق” An Impediment، دعا “أجبيبي” إلى تطوير أبجدية اليوروبا؛ حيث اعتبر الأبجدية الإنجليزية غير مناسبة لكتابة اليوروبا. واعتبر “أجبيبي”، مثل “هيردر” Herder، أن اللغة محدّد أساسي للثقافة الوطنية بقوله: “اللغة ليست ملكنا. إنها ميراث أجدادنا. ولغتنا الأم”.
وشدد “أجبيبي” أيضًا على ضرورة استخدام اللغة العامية في العمل الإنجيلي، وفي الخدمات الكنسية. وعبَّر عن ذلك بقوله: “اللغة العامية لبلد ما؛ هي وسيلة التفكير المناسبة لذلك البلد. فعليك أن تُصقلأ لغتك الأم واستخدامها بطريقة فعالة”.
في هذه السنوات التكوينية في “لاجوس”، أظهر “أجبيبي” بالفعل التزامًا بفهم قيم ومؤسسات المجتمع الإفريقي التقليدي. في مناظرة عُقدت في “جمعية الشبان المسيحيين في لاجوس”، في 2 نوفمبر 1888م، حول موضوع، “هل إدخال التقاليد الأوروبية للزواج في هذا البلد يعزّز النمو الروحي داخل الكنيسة؟” تبنَّى “أجبيبي” الرأي الرافض لتحديد الزواج بزوجة واحدة، على الرغم من أنه شخصيًّا لم يكن لديه سوى زوجة واحدة. ودافع عن المُثل العُليا للمجتمع الإفريقي التقليدي بقوله: “على الرغم من وجود عُري في المجتمع الإفريقي، لم يكن هناك اغتصاب أو سفاح محارم أو دعارة. أو خيانة زوجية”. واعتبر أن “تعدد الزوجات الإفريقي إذا ما تم مقارنته بما يحدث في أوروبا، فكأنك تقارن الآداب والقيم بالفجور والسفور”.
كان دفاع “أجبيبي” المبكر عن تعدد الزوجات مهمًّا؛ حيث سبق مدح “بلايدن” لتعدد الزوجات في كتابه الأخير “الحياة والعادات الإفريقية” African Life and Customs. فقد عبَّر عن هذا الرأي في “مؤتمر الأعراق العالمي” Universal Races Congress، حيث أوضح “أجبيبي” في المؤتمر، أنه “سيكون من الحكمة الاعتراف بالقوانين الاجتماعية للبلد، والتعامل مع تعدد الزوجات بوصفه أحد أركان الأسس الوطنية، وبالتالي تظهر أهميته للرفاهية الدائمة في البلاد.. إن تعدد الزوجات في إفريقيا هو عقيدة لا تقف في طريق تقدم الأنوثة في أي من أنشطة الحياة البشرية”.
كما سعى “أجبيبي” إلى فهم الدين التقليدي باعتباره وسيلة مساعدة لتحويل القرويين إلى المسيحية: “لدينا دروس نتعلمها من وثنية بلادنا.. علينا دراسة أسماء وتصميمات وتأثيرات الآلهة الحجرية والآلهة الخشبية، بجانب حياة وأفعال الحكماء الوثنيين…”، وحث كذلك على الجمع بين كل كلاسيكيات اليوروبا.
في خطابه أمام “المؤتمر العالمي للأعراق”، ذهب “أجبيبي” إلى حد التسامح مع التضحية البشرية وأكل لحوم البشر. وأخبر الجمعية أن التضحية البشرية كانت مدفوعة بأسمى الدوافع الإنسانية. وعبر عن ذلك بقوله: “إن المسيحية نفسها هي نموذج صارخ لأكل لحوم البشر”.
كيف يمكن للمرء أن يحكم على دوافع “أجبيبي” في الدفاع عن عادات مثل تعدد الزوجات والتضحية البشرية وأكل لحوم البشر؟ هل كان بالفعل يدافع عن المجتمع الإفريقي التقليدي، هل كان إفريقيًّا أكثر من “كوبينا سيكي” Kobina Sekyi؟ هل كان منافقًا؟ اللافت للنظر أن “أجبيبي” كان أحادي الزواج ونباتيًّا. وهو ما يثير الكثير من علامات الاستفهام، ويحتاج إلى البحث والدراسة المفصلة.
وعلى الرغم من أن “أجبيبي” كان قائدًا ديناميكيًّا للكنيسة، لكنه في الوقت نفسه تميَّز بروحه القومية التي ظهرت من خلال كتاباته وإسهاماته الأدبية. يقال: إنه عمل كمحرر بجميع الصحف المنشورة في “لاجوس” بين عامي 1880م و1914م. حيث عمل خلال هذه الفترة في “لاجوس تايمز” Lagos Times، و”لاجوس ويكلي ريكورد” Lagos Weekly Record، وساعد على نجاح صحيفة “لاجوس أوبزرفر” Lagos Observer.
وفي سنة 1889م، نشر كتابًا صغيرًا بعنوان “إفريقيا والإنجيل”. في هذا الكتيب قدَّم توضيحًا حول إنشاء الكنائس الإفريقية؛ حيث أوضح أن: “لجعل المسيحية أصلية (محلية) في إفريقيا، يجب أن تُروَى بأيادي السكان الأصليين، وأن يتم رعاية غرسها بأدوات محلية، فهي الأولى بالعناية حين تنبت في أراضٍ محلية.. إنها لعنة إذا كنا نعتزم البقاء في ساحة المعلمين الأجانب، كالطفل الذي يتعلق بمئزر معلمه”. وجهة نظره هذه ليست مفاجأة، لكنها كانت تعبيرًا عن سبب دعمه للقس “ستون” وتأسيس “الكنيسة المعمدانية الأصلية”.
5- الدين الإسلامي
في “مؤتمر الأعراق العالمي”، ربما كانت أكثر التصريحات إثارة للدهشة التي أدلى بها “أجبيبي” هي تلك التصريحات حول آفاق الإسلام والمسيحية في إفريقيا. والذي أكد من خلاله: “أن المسيحية لا يزال لديها الكثير لتتعلمه من الإسلام، الدين الذي كان ولا يزال “المنافس الأكبر والأكثر خبرة”.
وأشار “أجبيبي” إلى أن الإسلام يتفوق على المسيحية في عدة أمور: “من حيث إنه دين ظاهر وجذاب؛ من حيث طريقة الصلاة، والصيام السنوي، والأعياد السنوية، وما إلى ذلك، وهي أمور تجمع بين منتميه، وتخضع كذلك لمراقبة شعبية مباشرة”. واستطرد: “الإسلام له جاذبية واسعة بغض النظر عن الطبقة أو اللون أو اللغة، وسرعان ما يتكيف مع القوانين الاجتماعية، والترتيبات المحلية، والتطلعات الدينية، والطموح السياسي، والقدرات الفكرية، والطاقة العقلية، والغرائز العرقية للناس”. وبهذا الفهم قدَّم “أجبيبي” مفهومًا واضحًا جدًّا عن الشخصية الإفريقية، وكيف ينبغي التعبير عنها في الأمور الدينية على وجه الخصوص.
بالنسبة إلى قسّ مسيحي تربَّى في المدارس التبشيرية؛ إلى جانب قدراته ونشاطاته التبشيرية، وتأسيس الكنائس، فإنه من المذهل حقًّا أن يؤكد “أجبيبي” على أن “الإسلام هو دين إفريقيا”. وأضاف أن المسيحية كانت في إفريقيا بسبب المعاناة. وأوضح: “أن الإسلام هو عقيدة غير دموية، وفي الوقت نفسه هو عقيدة تحطيم الأيقونات”. على الجانب الآخر كان ينظر إلى الجهود التبشيرية المسيحية في غرب إفريقيا على أنها تجريبية؛ ذلك لأن “الإنجيل قد يكون بشرى سارة بالفعل، لكنه لم يَعُدْ خيرًا للعديد من شعبنا”.
ويضيف “أجبيبي” أن “الإسلام أظهر حيوية مثيرة للقلق، من حيث قدرته الهائلة على التكيف”. وأشار إلى أن بعض الأفارقة يتبنون قضية الإسلام في إفريقيا؛ لأن “كنيسة أوروبية تعج بالممارسات الشعائرية تبيع أسقفية الإله لإفريقي بعشرة آلاف جنيه، بينما الإسلام يصنع الشخصيات بدون مال وبدون مقابل”.
رابعًا: دلالات “أجبيبي” الفكرية
كان أجبيبي مفكرًا أصيلًا. نشأ في وسط تخمر الأفكار. تعرض لأعمال “جيمس جونسون” و”إدوارد بلايدن”، لكنه ذهب إلى أبعد من أيّ شخص آخر في محاولته لفهم المجتمع الإفريقي التقليدي. تم الحكم عليه بأنه إفريقي من الداخل بسبب ارتباطه الشخصي بأسلوب الحياة البسيطة. حاول أن يقترب في حياته الخاصة من الإخلاص لمبادئ المسيحيين الأوائل. كان زاهدًا يؤمن بالصوم والتأمل لبلوغ السمو الروحي.
كان “أجبيبي” مفكرًا متعدِّد المواهب. فهو كاتبًا وسياسيًّا وقسيسًا ومبشرًا. كان في كتاباته ثابتًا في قوميته العرقية والثقافية. ربما يبدو أنه عندما أُجبر على الاختيار بين أهداف القومية السياسية والعرقية والثقافية والمسيحية، اختار أجبيبي المسيحية، ولكن بشكل يتناسب مع قوميته الإفريقية. كان أكثر تسامحًا مع العادات التقليدية من “جيمس جونسون”، لكنه كان مدفوعًا بالرغبة في جذب المزيد من المتحولين، بدلاً من الرغبة في الحفاظ على العادات التقليدية.
كان أفكاره مهمة لفهم مدى إدراكه لمُثُل القومية الثقافية في حياته الخاصة. ولهذا لُقِّب برائد “الشخصية الإفريقية”، كان أيضًا مهمًّا كإثيوبياني؛ حيث ارتبط تأسيسه للكنيسة المستقلة بالسياسات المناهضة للاستعمار.
وختامًا:
إن “موجولا أجبيبي” هو رجل دين ومعلم، وقومي إثيوبياني؛ مدفوعًا بفكره القومي قاد وساعد في تأسيس الكنائس الإفريقية المنفصلة. كان له رؤية معتبرة لمعالم الشخصية الإفريقية، ومن خلال فهمه لهذا الشخصية ناقش إشكاليات الدين وتأثيره عليها. واستطاع أن يجمع بين الفكر القومي والفهم الديني بتناغم يدعو للتلبُّس أحيانًا، لكنه كغيره من المفكرين الإفريقيين تم تجاهله، وإهمال إسهاماته الفكرية. لذا تأتي هذه الدراسة للتعريف بأحد المثقفين المنسيين في الفكر السياسي الإفريقي، والذين تجرأوا على الاختلاف مع الرأي العام في عصره، فقد استطاع “أجبيبي” توجيه نقد معتبر للمسيحية الغربية، ولم يمنعه عمله كقسيس من مدح الإسلام كدين، معتبرًا أنه الأقرب للشخصية الإفريقية.
____________
أهم المراجع المستخدمة في البحث:
Agbebi, Mojola. “The Christian Handbook.” New Calabar, Nigeria.
Agbebi, Mojola. The West African Problem. 1911
Akiwowo, Akinsola. “The place of Mojola Agbebi in the African nationalist movements: 1890-1917.” Phylon (1960-) 26.2 (1965): pp. 122-139
Ayandele, Emmanuel Ayankanmi. A Visionary of the African Church: Mojola Agbebi, 1860-1917. Vol. 1. East African Publishing House, 1971
Ayandele, Emmanuel Ayankanmi. African historical studies. Routledge, 2005
Dogbe, Samuel Kwashi. The Ethical Issue Involved in the Practice of Polygyny Among West African People. Diss. University of Southern California, 1970
Echeruo, M. J. C. “The intellectual context of nineteenth‐century Lagos life.” African Studies 33.1 (1974): pp. 43-51
Esedebe, P. Olisanwuche. “The Growth of the Pan-African Movement, 1893–1927.” The Colonial Epoch in Africa. Routledge, 2018. pp. 48-64
Henriksen, Thomas H. “African Intellectual Influences on Black Americans: The Role of Edward W. Blyden.” Phylon (1960-) 36.3 (1975): pp. 279-290
Merritt, Anthony Wayne. Ethiopianism, Africanity and repatriation: An Afrocentric social history of Shashemene Repatriation Community, Ethiopia: 1955–2004. Union Institute and University, 2006
Okonkwo, Rina Lee. The emergence of nationalism in British West Africa, 1912-1940. Diss. City University of New York, 1980.
OKONKWO, Rina. “Mojola Agbebi: Apostle of The African Personality.” Présence Africaine 114 (1980): pp. 144-159
Tilley, Helen. “Racial science, geopolitics, and empires: paradoxes of power.” Isis 105.4 (2014): pp. 773-781
Wilson, Henry Summerville. Origins of West African Nationalism. Springer, 2016