بقلم / إكباتن (*)
ترجمة: سيدي .م. ويدراوغو
لقد خاضت فرنسا –القوة الاستعمارية الأولى في إفريقيا – حروبا دامية لتوسيع رقعة نفوذها وبعد 40 عاما من استغلالها للشعوب الإفريقية لا تزال القارة تعاني من حروب أهلية تسبب في وقوع الكثير من الضحايا لفرنسا يد في كثير منها ؛ مما يستدعي إعادة النظر بعناية إلى العلاقات التي تربط بين الأطراف المعنية بالنزاعات في الدول الإفريقية وبين الحكومة الفرنسية التي لم ينحصر دورها على الدعم لبعضها فحسب بل ارتقى إلى حد المشاركة الفعلية في كثير من الاضطرابات في المنطقة.
ونورد في هذا السياق عدة ملفات عن المآسي التي تعرض لها كثير من الأفارقة في العقود الأخيرة وذلك في محاولة لفهم تلك الأحداث وتسلط الضوء علبها حيث أنها أفرزت معاناة لعدد من الشعوب الأمر الذي يستحق الاهتمام والتأمل والفهم.
من الاتحاد الفرنسي إلى المافيا أفريك
وبعيدا عن إلقاء اللوم على السياسة الفرنسية في إفريقيا وجنودها –المتواجدين في انتظار التعليمات – يتعلق الأمر بالنظر إلى كيف تمكنت شبكات إيديولوجية من إخضاع السلطات الإفريقية العليا تحت إرادتها والدفاع عن مصالحها ؟!
شجع حلف الناتو أعضاءه على الوقوف ضد الشيوعية في إفريقيا – إبان الحرب الباردة – والدفاع عن مصالحه لذلك قامت فرنسا بدور “رجل الدرك في إفريقيا “عبر دبلوماسية موازية ، فمنذ عام 1952م عينت المجموعة الديجولية ، جاك فوكار(1) للمشاركة في الاتحاد الفرنسي المعني بإدارة العلاقات بين فرنسا ومستعمراتها.
لكن الانطباع السائد عن تلك السياسة التي يديرها قصر الإليزيه كان سلبيا حيث اعتبرها الكثير بمثابة استيلاء فرنسي جديد على إفريقيا ؛لأن إنهاء الاستعمار الذي قام به جنرال ديغول لم يقصد في الحقيقة الخروج عن إفريقيا ولكن الهدف هو الايهام بالخروج لترسيخ البقاء في إفريقيا أو بعبارة أخرى “تغيير كل شيء ليظل كما هو”، وكانت الخلية المعنية بهذه السياسة في الإليزيه تتكون من مئات الموظفين.
كانت البداية بالاستحواذ على الجابون الغنية بالنفط وحجر الأساس للسياسة الفرنسية تجاه القارة كما تعتبر منفذا للتدخلات العسكرية المتمثلة في (سياسة جاكوار) والمؤامرات والانقلابات على مستوى الدول الخاضعة للإمبراطورية الاستعمارية الفرنسية في إفريقيا حيث دعمت المعارضة ضد سيكو توري في غينيا ، وساندت ماريشال موبوتو في كونغو كنساسا ، و مدت يد العون إلى للانفصاليين في بيافارا في نيجيريا من خلال تزويدهم بالأسلحة والمرتزقة على غرار ما كان يقوم به العسكري الفرنسي “بوب دينار”(2).
و قد لخص بير بيارنير ، المسئول عن تنفيذ السياسات الفرنسية في مستعمراتها ، الرؤى السياسية الفرنسية تجاه المستعمرات بقوله :” هي عبارة عن توطيد سلطة الزعماء الأفارقة الأوفياء في لعبة الصداقة الفرنسية-الإفريقية …والتضييق على الذين يميلون لمخالفتنا ويتحركون عكس اتجاه سياستنا ، ثم تصدي لطموحات القوى العظمى المنافِسة حال اعتبارها مصدر تهديد “.
القارة المنهوبة
يزيد عدد الجنود الفرنسيين المتواجدين في إفريقيا عن 10 آلاف جندي ، كما أن 97 % من دول إفريقيا الفرنكوفونية تحكمها أنظمة دكتاتورية مدعومة من فرنسا حيث يكثر المستبدون على مستوى القارة السمراء مما جعل البعض يصفون الوضع بـ (طمس الحضارة) وفي الفترة بين عامي (1960 -2013 م) ، تدخلت فرنسا 50 مرة في إفريقيا الفرنكوفونية و 7 مرات في إفريقيا الوسطى .
والكم الهائل من ضحايا الحروب الأهلية والعرقية (بغض النظر عن الأنواع الأخرى من العنف والنساء المغتصبات والملايين من النازحين) في إفريقيا خير دليل على السياسة المتبعة من فرنسا منذ الثمانينات وخاصة بعد الاكتشاف بأن فرنسا تأتي في طليعة الدول التي تزود المليشيات بالأسلحة ، بجانب روسيا والصين والولايات المتحدة الأمريكية والمملكة المتحدة وألمانيا.
خريطة توضح النزاعات في إفريقيا منذ 1960 م.
لذلك فإن أكثر من نصف بعثات الأمم المتحدة لحفظ السلام يتم نشرها في إفريقيا وذلك لكثرة الاضطرابات التي تعاني منها .
خريطة توضح توزيع بعثات الأمم المتحدة لحفظ السلام على العالم
ولكن لماذا تورطت الجهات الفاعلة الرئيسة في شركة مثل “ألف آكيتين البترولية” ( Elf)(3) في تجارة الأسلحة بقدر ما هي في مجال النفط؟ !
الحرب التي اندلعت في كونغو بين الشمال والجنوب في 1997م والتي نجمت عن الصراع بين الرئيس باسكال ليسويا المدعوم من شركة OXXY الأمريكية وبين منافسه ساسونجيسو المدعوم منElf (4) ، حيث كانت هناك اتهامات بأن Elf رتبت قرضا مدعوما بالنفط لتمويل شحنات للأسلحة غير أن بعد وصول ساسونجيسو إلى السلطة أراد التحرر من وصايتها لكونها استحوذت على أكبر احتياطي نفطي في الكونغو ثم أكتشف لاحقا بأن الشركة استخدمت 350 مليون يورو على الأقل من السمسرة ؛ مما شكلت فضيحة أجبرتها إلى الاندماج في شركة توتال.
جدول يوضح العشر دول إفريقية الأكثر انفاقا على الأسلحة لعام 2012 م ( بالملاين دولارات)
روسيا تأتي في طليعة الدول في بيع الأسلحة |
|
الجزائر |
9.325.000.000 |
جنوب إفريقيا |
4.470.000.000 |
مصر |
4.372.000.000 |
أنغولا |
4.146.000.000 |
المغرب |
3.402.000.000 |
ليبيا |
2.987.000.000 |
نيجيريا |
2.327.000.000 |
جنوب السودان |
964.000.000 |
كينيا |
798.000.000 |
تونس |
709.000.000 |
المجموع الكلي |
33.500.000.000 |
بلغ إجمالي انفاقات عشر الدول الإفريقية الأكثر انفاقا على الأسلحة 33.5 مليار دولار.
الغموض السائد على نهب فرنسا ثروات إفريقيا
إن كل الدول التي ارتبطت بفرنسا تظل الأخيرة الشريكة التجارية الأولى والمصدرة الأولى لها و المستثمرة الأولى ، واتفاقيات التعاون تخفي حقائق مزعجة تعكس الرغبة الأكيدة في نهب ثروات إفريقيا بأكبر قدر ممكن.
وحسب مصادر(مدييف) MEDEF (5) بلغت إيرادات تجارة فرنسا في إفريقيا عام 2001 م 3,2 مليار يورو ما يعادل تجارة فرنسا مع كافة دول الاتحاد الأوروبي 3,3 مليار يورو بغض النظر عن الأرباح المكتسبة من الثروات المعدنية والنفطية من طرف Elf و توتال إضافة إلى مكاسب تجارة الأسلحة ، فإن إفريقيا تظل المرتع السهل لغسيل الأموال غير المشروعة.
وفي إفريقيا الوسطى تحت حكم بوكاسا (1966-1979 )كانت فرنسا وسويسرا تستغلان اليورانيوم والألماس بدون مقابل ، ونظرا لضخامة الإيرادات الناجمة عن تلك العملية كانت أولى زيارة رسمية لفاليري جسكار ديستنغ عقب توليه مقاليد الحكم كانت إلى إفريقيا الوسطى في عام 1974 م .
وقد أزاحت القضايا المتعلقة بالمشاريع العامة – في إيل دي فرنس وتمويل الأحزاب السياسية من طرف الشركات النفطية – الستار عن المصادر الهائلة لتمويل السياسيين والإثراء الشخصي في الفترة ما بين عامي 1980م -1990 م وذلك عن طريق اختلا س الأموال العامة ودعم الشبكات فرنس-أفريك.
كما أثبتت التحقيقات حول قضية Elf بأن قرابة 100 مليون يورو يختلس سنويا من عائدات النفط لدعم الأنظمة الموالية لفرنسا وحتى الأحزاب السياسية الفرنسية.
الإحالات والهوامش:
(*) يمكن الإطلاع على الرابط الأصلي للمقال من هنا
(1) جاك فوكار هو المستشار الشخصي للرئيس الفرنسي ديغول في بداية الستينات وهو مؤسس ما يعرف “فرنسافريك” وقد عملت هذه المؤسسة على انشاء شبكات نفوذ استطاعت عبرها فرنسا أن تبسط هيمنتها ونفوذها على مستعمراتها القديمة بإفريقيا وكثيرا ما يلقب جاك فوكار “بسيد إفريقيا” في الإليزيه، وحتى وان لم يظهر كثيرا على الساحة السياسية الفرنسية إلا أنه عمل في الظل في عهد ديغول والذي كلفه باقامة عهد جديد من الإستعمار الفرنسي لإفريقيا.
الاستراتيجية التي اتبعها جاك فوكار في تثبيت قدم فرنسا في إفريقيا بعيدا عن الاستعمار بمفهومه القديم تمثلت خاصة في تقديم المساعدة للوصول إلى الحكم لأشخاص يعرف عنهم ولائهم الشديد لفرنسا، زيادة على عمليات الاغتيال والتصفية الجسدية لكل زعماء الحركات التحررية والوطنيين ولمن عرف عنه انتمائه الوطني ودفاعه المستميت عن مبادئ الاستقلال التام عن فرنسا ورفضه لكل أشكال الاستغلال.
(2) شارك دينار مرتزقا في حرب كاتنغا بجمهورية الكونغو الديمقراطية (زائير) إلى جانب الانفصالي موييز تشومبي، وبعد هزيمتهم في كولويزي منحه البرتغاليون حق اللجوء في مستعمرتهم أنغولا، وأمنوا له العودة إلى فرنسا.
ومن 1963 إلى نهاية 1964 عمل مع المخابرات البريطانية باليمن ضمن الجيش الملكي الموالي للإمام بدر والمسانَد من طرف السعودية ضد الجمهوريين المسانِدين من طرف مصر، ثم عاد سنة 1964 إلى إقليم كاتنغا قبل أن يهزم سنة 1967.
ثم استأنف القتال سنة 1975 إلى جانب حركة “يونيتا” ورئيسها جوناس سافيمبي بأنغولا، والمدعومة من الدول الغربية ونظام جنوب أفريقيا العنصري آنذاك.
وفي يوم 5 سبتمبر/أيلول 1977 طلبت فرنسا من دينار رسميا التدخل في جمهورية جزر القمر، فأطاح برئيسها أحمد عبد الله الذي أعلن الاستقلال عن فرنسا من جانب واحد وأقام مكانه الرئيس علي صويلحي.
وعاد دينار سنة 1978 إلى جزر القمر ليطيح بالرئيس علي صويلحي ويساهم في مصرعه، ويعيد الرئيس القمري السابق علي عبد الله إلى منصبه.
ومنذ نهاية سبعينيات القرن الماضي أقام بوب دينار بجزر القمر، وقام بتنظيم الحرس الرئاسي المكون من ستمائة جندي قمري، يقوم بتدريبهم بعض الأوروبيين وعلى رأسهم دينار. وفي تلك الفترة قوى علاقاته بحلفائه السابقين في جنوب أفريقيا التي كانت تعترف بنظام الرئيس أحمد عبد الله.
وقد أعلن دينار أثناء وجوده في جزر القمر اعتناقه الدين الإسلامي وتسمى سعيد مصطفى محجوب. وما إن أعلن الرئيس القمري أحمد عبد الله عن حل الحرس الرئاسي سنة 1989 حتى تم اغتياله في مكتبه من طرف بعض المرتزقة.
وبعد ذلك تم ترحيل بوب دينار إلى جنوب أفريقيا من طرف حكومة الرئيس القمري حينها سعيد محمد جوهر.
وفي 27 نوفمبر/تشرين الثاني 1989 أطاح بوب دينار وبعض المرتزقة بالرئيس القمري محمد سعيد جوهر ليحل محله الرئيس محمد تقي عبد الكريم. ثم ارتحل دينار ومرتزقته إلى فرنسا.
وقد منع الرئيس القمري محمد تقي عبد الكريم بوب دينار من العودة إلى جزر القمر، غير أن وفاة الرئيس تقي المفاجئة يوم 6 نوفمبر/تشرين الثاني 1998م جعلت أصابع الاتهام تمتد نحو بوب دينار.
(3) شركة ألف آكيتين هي شركة المحروقات الرئيسة في فرنسا ولها حضورٌ واسع في المستعمرات الفرنسية السابقة في أفريقيا بل حتى في أفريقيا الأنغلوفونية مثل نيجيريا وكذلك أنغولا المستعمرة البرتغالية السابقة.
تأسست الشركة في أواسط ستينيات القرن الماضي بأمرٍ من الجنرال ديغول الذي كان مسكونا بمكانة فرنسا على الساحة العالمية، وكان يرى أنَّ فرنسا لا يُمكنها أن تكون قوة عالمية ما لم تتمتع باستقلالٍ مطلق في مجال الطاقة.
وفي ضوء خروج فرنسا من الجزائر عام 1962 بعد حرب ضروس أنتجت عداوة دائمة، رأى ديغول أنّ على فرنسا أن تتوجه إلى مستعمراتها السابقة في أفريقيا بحثًا عن مصادر آمنة ودائمة للطاقة، وهكذا كانت الغابون أول وجهةٍ لشركة ألف حيث أقامت آبارها الأولى هناك ثم توسعت لاحقًا ورسخ وجودها إلى أن صارت محددا أساسيا لعلاقات فرنسا وأفريقيا.
أسند شارل ديغول قيادة ألف لأحد رجال ثقته هو بيير غيوما وهو مهندس معادن وكان نشطا في صفوف مخابرات فرنسا الحرة إبان الاحتلال النازي.
ولحماية أنشطة ألف وضمان تدفق النفط الأفريقي كان لابد من وضع آلية لحماية الأنظمة الموالية والتخلص من المناوئة لفرنسا وضمان الانتقال السلس للسلطة عند الحاجة إلى ذلك، فقد كان ديغول يرى أنّ عدم الاستقرار السياسي في أفريقيا يضر مصالح فرنسا.
(4) أطاح انقلاب عسكري قاده الجنرال دينس ساسو نقويسو بالحكومة المنتخبة في الكونغو عام 1997م. نصّب ساسو ـ نقويسو نفسه رئيساً للبلاد، وأقام حكومة انتقالية. وقد شاركت الأحزاب السياسية في منتدى للوحدة والمصالحة الوطنية في عام 1998م. الانتقالي.
(5) (ميديف) هي إحدى المنظمات تم انشاؤها في 27 أكتوبر 1998م وحلت محلس المجلس الوطني لأرباب العمل وهي تمثل الشركات الفرنسية في تعملها مع الدولة.