د. ألاويي لقمان أولاتجو(*)
عجزت قدرات البشر عن تحديد تصوّرٍ مُوحَّد لمفهوم الزمن، ولعل سبب هذا الإخفاق راجع إلى ديناميكية طبيعة الزمن، وجدلية مفهومه، وتشعُّب مكوّناته، وتشتُّت وجهات الأنظار في قضاياه، بناءً على تفاوت النزعات والنوافذ التي من خلالها تنظر كلّ طبقة أو جيل.
ومهما يكن من أمر؛ فمسألة الزمن قضية قديمة قِدم الإنسان على وجه البسيطة، وقد تناولها الإنسان منذ لحظة وجوده على هذه الساهرة.
وفي الحضارات الإفريقية القديمة، ودياناتها وأساطيرها، تأخذ فكرة الزمن طابعاً قدسياً في الفكر والمعتقد والنفس والوجدان، ولذا انخرطت أحداثه ولا تزال في جميع الظواهر الاجتماعية، من أسمار وفكاهات، وحكم وأمثال، وأشعار وأغان تقليدية، وفي الأسماء والألقاب، وببزوغ نور الإسلام الذي تنورت به طرق الحياة، وانجلت به غياهب البدائية والوثنية، تغيّرت أطر الزمن، فاصطبغت بلون إسلامي مُشرق برّاقٍ.
سألقي الضوء في هذا المقال على مسمّيات الزمن في بعض اللغات الإفريقية، ومنظور الإنسان الإفريقي للزمن، واحترام الزمن في المجتمع الإفريقي، ومقاييس الزمن في غرب إفريقيا قديماً، والطابع القدسي للزمن، وارتباط الزمن بالظواهر الاجتماعية الإفريقية (الدين، والمثل، والشعر)، وتأثير الإسلام في أطر الزمن وتغيير وثنيته في غرب إفريقيا.
تعريف بغرب إفريقيا:
هي المنطقة الغربية في القارة الإفريقية، تبلغ مساحتها ستة ملايين كيلومتر مربع تقريباً، وتتألف من عدة أقطار، منها نيجيريا، والنيجر، وغانا، وبنين، ومالي، وتوغو، وساحل العاج، والسنغال، وغامبيا، وليبيريا، وسيراليون، وغيرها، ومعظم قبائلها سوداء البشرة، ولها لغات كثيرة ولهجات متباينة (1).
الزمن ومسمّياته في بعض اللغات الإفريقية:
تتسم منطقة غرب إفريقيا خصوصاً بكثرة اللغات، وتشعّب اللهجات، الأمر الذي يصل إلى تعدد اللغات في الدولة الواحدة، وتختلف دوائر هذه اللغات من حيث السعة والضيق، كما تتفاوت من حيث كمية عدد الناطقين بها في الكثرة والقلّة، وبناءً على هذه التنوّعات اللغوية تختلف مسمّيات الزمن من لغة لأخرى، فالزمن عند يوربا (2) يُسمّى بـ asiko أو Igba، وهما كلمتان متقاربتان في الدلالة إلى حدّ المماثلة، أما قبيلة هوسا (3) فتسمّيهZamani ، وهو مأخوذة من اللفظ العربي (الزمن)، أوLokachi ، وفي لغة زرما (4) فهو lokachi أيضاً، والزمن معروف بـ wakat(وَقَتْ) في لغات الفلاتة وبمبارا (5)، وتسميته بوَقَتْ مستعارة من اللفظ العربي (الوقت).
الزمن في منظور الإنسان الإفريقي:
في الحقيقة؛ الزمن بالنسبة للأفارقة أحداث واقعية سبق وقوعها ماضياً، أو تجري حالياً، وهو بهذه الرؤية في النظرة الإفريقية ثنائي الواجهة، «الماضي» و «الحاضر»، خلاف طبيعته الثلاثية في الدين الإسلامي من جانب، وفي المجتمع الأوروبي في جانب آخر، فالطموحات المستقبلية في العالم الإفريقي ليست حقيقية، ولا ينبغي أن تأخذ نصيباً من الزمن.
وهذه الظاهرة تفسّر السبب الذي جعل الفرد والمجتمع في غرب إفريقيا يُكثر من ذكر الوقائع التاريخية الماضية، فتدور معظم الأحاديث الليلية في سرد الأحداث، وإحياء أمجاد الأجداد، والذكريات الحربية، والمواثيق المعقودة بين القبائل في سالف تاريخ الأمة الإفريقية؛ لأن المجتمع الإفريقي يرى أن تذكّر هذه الوقائع السالفة تساعد في بناء شخصيات الجيل الناشئ، وهذا ما ذهب إليه الكاتب جون إمبيتِJohn S. Mbiti قائلاً: «ينظر الإنسان الإفريقي إلى الزمن من الزاوية الفردية، كما ينظر إليه حيناً آخر من زاوية المجتمع الذي يرجع تأريخ جذوره إلى أجيال غابرة قبل ولادته، ولعل أهم ما يلفت النظر هنا أن الزمن في المجتمع الإفريقي ظاهرة جارية إلى الوراء بدل الأمام؛ لأن الإنسان الإفريقي لا يجعل المستقبل نصب عينيه، بل إن تركيزه قائم على الأحداث الجارية الحالية والأحداث الماضية، لذا يلزم الفرد الإفريقي النظر في الزمن لتحقيق الواقع وليس لبناء المستقبل الخيالي الذي قد لا يتحقق» (6).
المجتمع الإفريقي واحترام الزمن:
يتّسم الحفاظ على الوقت وتقدير المواقيت في غرب إفريقيا برجعية لافتة للنظر، وتساهل الأفارقة في احترام المواقيت ظاهرة فاشية، وهو ما جعل التسيّب في احترام الأوقات المهمّة شيئاً طبعيًّاً لا يُلام عليه المتساهل في المجتمع الإفريقي، فمصطلح «African Time» (الوقت الإفريقي) متداول وفاش في جميع المرافق الحياتية، في المكاتب والمدارس والمناسبات الاجتماعية والاجتماعات السياسية والثقافية والاقتصادية وغيرها، وهذا كاتب غاني يُرجع سبب تأخّر دولته إلى قلّة العناية بالأوقات المرسومة:
“One of the main reasons for the continuing underdevelopment of our country is our nonchalant attitude to time and the need for punctuality in all aspects of life. The problem of punctuality has become so endemic that lateness to any function is accepted and explained off as ‘African time’ ” (7).
«من أهم أسباب استمرار تخلّف بلدنا هو نظرتنا للوقت، وحاجتنا للانضباط في مختلف مناحي الحياة، فقد أضحى عدم الالتزام مرضاً مزمناً، حتى إن التأخر في أداء أي مهمّة بات مقبولاً ومسوّغاً باعتبار أن تلك (مواعيد (أوقات) إفريقية)».
في الحقيقة؛ إن كفّة إدارة الأوقات، واحترام الأزمان في غرب إفريقيا، مرجوحة إلى أدنى مستوى، ولا يختلف في ذلك الفرد عن المجتمع، والناظر في طبيعة الأفارقة في التعامل مع الوقت يجد فارقاً شاسعاً بينها وبين طبيعة العالم الأوروبي وغيره من العوالم المتطوّرة.
مقاييس الزمن في غرب إفريقيا قديماً:
نشأت مدارس فكرية في قضايا الزمن نتيجة جدلية طبيعته في الكون والحياة، فمن ذاهبٍ إلى عدم وجود الذات للزمن، في حين نجد الآخرين يُثبتون له الوجود الذاتي، كما بيّنه أبو علي المرزوقي الأصفهاني قائلاً: «ذكر بعض المنطقيين أن الزمان في الحقيقة معدوم الذات، واحتجّ بأن الوجود للشيء إمّا أن يكون بعامة أجزائه كالخط والسطح، أو بجزء من أجزائه كالعدد والقول، وليس يخفى علينا أن الزمان ليس يوجد بعامة أجزائه؛ إذ الماضي منه قد تلاشى واضمحلّ، والغابر منه لم يتمّ حصوله بعد» (8).
وقد ذهب الإنسان الإفريقي في القديم إلى نقيض هذا المذهب المنطقي الذي يجحد وجود الذات للزمان، وكان مذهبه في ذلك مذهب مَن يرى أن طبيعة الزمان تُثبت له الوجود في ذاته وقوة ثباته في جوهره، وأنه ليس حكيماً الحكم بعدم وجود الذات للزمن.
وعلى الرغم من إيمان الأفارقة بوجود الذات للزمن فإنهم يرون أن ذات الزمن كامنة في أحداثه، وما يجري فيه من الوقائع والنشاطات، فالزمن في النظر الإفريقي ليس له قيمة تُذكر إذا تجرّد من الحوادث والأفعال.
أما تحديد الأزمنة؛ فلم تختلف مقاييسه في غرب إفريقيا قديماً عن مقاييس العرب منذ الجاهلية، فالتقويم الزمني لديهم قمري وليس شمسياً (9)، وتقدير اليوم في نظر الإنسان الإفريقي يوم وليلة، وربما ذهب الإفريقي القديم إلى القول بسبق النهار على الليل، وذلك خلاف ما كان عليه مذهب المتأخرين الأفارقة بعد التأثّر بالتصوّر الإسلامي الذي يرى سبق الليل على النهار.
أما الأسبوع في النظر الإفريقي القديم فلا يعدو سبعة أيام، لها مسمّياتها المتباينة تباين اللغات واللهجات الإفريقية، والشهر في نظره ليس مقيّداً بأيام ثابتة، بل كان القمرُ المقياسَ الوحيد لتحديد الشهر الواحد بادئاً ومنتهياً بطلوع الهلال.
وللإنسان الإفريقي خبرة في اكتشاف الهلال، وكان يعتمد غالباً على حدّة بصره، وربما يستعين بالصعود على التلال، والهضاب والجبال الشامخة، وقد تساعده تضاريس الصحراء بالمناطق الصحراوية في سهولة الرؤية، وكان الجوّ في غرب إفريقيا في قديم زمانه جوًّا صافياً، لم تعكّره أبخرة الماكينات البخارية التي ظلّت اليوم من أكبر عوائق رؤية الأهلّة.
ولكثرة اعتماد الإنسان الإفريقي على القمر في تحديد شهره؛ انتشر لدى الأفارقة قديماً إطلاق لفظ القمر على الشهر، فيقول أحدهم مثلاً: «سوف أسافر إلى قرية قريبة بعد قمرين» ويعني بالقمرين شهرين.
أما السنة؛ فلها مقاييس متغايرة، منها ما له ارتباط وثيق بأعيادهم الوثنية، والمواسم الدورية، والمناسبات الحولية، فليست السنة عند معظم قبائل غرب إفريقيا محدّدة – بالضرورة – باثني عشر شهراً بما فيها من أيامها المعدودة، بل لكلّ موسم عندهم وقت معلوم، فإذا دارت الأيام وجاء الموسم سُمّي الموسم الماضي بالسنة الماضية، ويظهر ذلك في تحديد تواريخ ميلاد أبنائهم، إذ يقول الإفريقي قديماً: «وُلد لي غلام في السنة الماضية»، ويعني بالسنة الماضية موسماً حولياً ماضياً.
ومن جملة مقاييس السنة في غرب إفريقيا قديماً ما يأتي:
– الأعياد الوثنية والمواسم الحولية.
– الفصول السنوية، وغالباً ما يكون فصل الربيع بداية السنة الجديدة، لتنتهي بالصيف.
– مواسم الزراعة والحصاد.
– تعداد الشهور.
الطابع القدسي للزمن في غرب إفريقيا:
يتخذ الزمن طابعاً قدسياً في غرب إفريقيا القديم لارتباطه الوثيق بالمقدّسات الدينية والعقائد الوثنية، والنزعات العقدية، فللأفارقة في أمسهم الغابر ديانات متباينة، يتمثّل معظمها في عبادة الأوثان، إيماناً منهم بضرورة الاعتقاد بالتقاليد والعادات، والحفاظ على تركة الآباء والأجداد، ولكلّ قبيلة آلهتها.
وتبرز علاقة الزمن بالديانات الإفريقية في كون مواسم عبادة الأوثان مربوطة بالزمن، ولنأخذ قبيلة يوربا على سبيل المثال، وهي إحدى أكبر القبائل في غرب إفريقيا، فقد كانت لهذه القبيلة في أمسها الجاهلي أوثان كثيرة وأصنام تُعبد على فترات من الزمن والفصول، منها سنغو (وهو في ظنهم إله المطر والرعد)، وأوغن (وهو في ظنهم إله الحديد)، أوسا أوكو (وهو في ظنهم إله المزارع)، أيغنغن (وهو في ظنهم الغول أو أرواح وأشباح الأجداد الموتى)، وغيرها من الأصنام.
وقد حُدّد لكلّ من تلك الأوثان وقت عبادته الخاص، وكانوا يحافظون على تلك المواقيت بشكل منقطع النظير، فإله المطر والرعد (سنغو) في فصل الربيع حين يكثر المطر والروعد، اعتقاداً منهم بأن هذا الإله هو السبب في إنزال المطر، وله القدرة على معاقبة المجرم بصواعق من الرعود المرسلة، أما إله الزراعة (أوسا أوكو) فإنه يُعبد في موسم الحصاد باعتقاد الشكر والثناء عليه فيما أغدق عليهم من الثمرات، كانت هذه الظاهرة الوثنية الاعتقادية في توقيت مواسم العبادات لا يخطئ فيها فرد أو مجتمع من المجتمعات اليورباوية كغيرها من القبائل الإفريقية.
ارتباط الزمن بالظواهر الاجتماعية الإفريقية (الدين، والمثل، والشعر):
يرتبط الزمن في غرب إفريقيا بالحياة ارتباطاً وثيقاً، فأثر الزمن بارز في الحياة الإفريقية الاجتماعية والدينية والفكرية، ويعد الزمن في الحضارة الإفريقية القديمة عنصراً جوهرياً في الديانة والأساطير، لذا تأخذ فكرة الزمن طابعاً قدسياً في الفكر والمعتقد والنفس والوجدان، وتنخرط أحداثه في جميع الظواهر الاجتماعية، من أسمار وفكاهات، وحكم وأمثال، وأشعار وأغان تقليدية، وفي الأسماء والألقاب، وهذا الذي دفع جون امبيت (John Mbiti) إلى القول بأن «مفهوم الرجل الإفريقي لقضية الزمن قد يساعد على تفسير بعض الظواهر الإنسانية الأخرى، كعقائد الأفارقة وأخلاقهم وسلوكهم في الحياة» (10).
ولننظر إلى صورة الزمن في بعض المجالات:
الزمن في الأمثال الإفريقية:
أدرك الإنسان الإفريقي مهمّة الزمن، وأدرك أنه أغلى ظاهرة في الحياة البشرية، فما فات منه لا يعود، وما ضُيّع لا يُستدرك؛ لذا ظلّت كلّ قبيلة من القبائل الإفريقية كغيرها من الأمم الأخرى تردّد ضرورة الاهتمام بالوقت، وانتهاز الفرص، واستغلال الزمن المتسنّى، ويتجلّى هذا في المثل اليورباوي الذي يقول: «الزمن لا يدوم، والعصور ليست متساوية كقضيب البندقية»، ولعل هذا المثل يتماشى مع قول أبي البقاء الرندي في رثاء الأندلس (11):
هي الأمور كمـا شاهدتها دول من سرّه زمن ساءته أزمان
وهذه الدار لا تبقي على أحـد ولا يدوم على حال لها شان
ويقول المثل الهوساوي: «عشرة عصور؛ عشرة ملوك»، ويتجلّى مغزى هذا المثل والذي قبله في أن الزمن كائن متقلب، غير قابل للثبوت والدوام، وأن حوداثه تابعة له في التقلّب والتحوّل والتغيّر، وهذه بديهة عقلية يدركها المنطق السليم، وهي فكرة ليست حكراً على العالم الإفريقي، بل هي فطرة إنسانية عامة، إلا أن تردد أهمية الزمن في أحاديث الأفارقة لم يساعد كثيراً على اهتمام الأفراد والمجتمعات برعاية المواقيت كما سبق الذكر.
الزمن في الشِّعر الإفريقي
إن الشعر الإفريقي العربي منه والشعبي حافل بالحديث عن الوقت أو الزمن من حيث رصد طبيعة الزمن، وذكر ضرورة الاهتمام به ورعايته؛ لأن الزمن – وهو ظاهرة إنسانية غير ثابتة – يرتبط بالحياة والكون والإنسان، بل هو الحياة عينها، ولعل قصيدة الباحث تمثّل موقف الأفارقة في رؤيتهم الإنسانية الطبعية للزمن (12):
أسرعْ أخي فشؤون الوقت مسرعة وسـابقِ العمرَ والأوقات مرتزقا
لا شيء أسرع في الدنيا بأجمعـها من الزمـان إذا ما عـاد منطلقا
أنصـفْ لعمرك تشـغيلاً بفرصـته شرخَ الشباب إذا ما كنت متّسـقا
سل العجائز عن ماضي الحياة خلتْ وسل زماناً وفكّرْ في الذي نطـقا
وخـذ لنفسـك من أقوالـهم عِبَرًا فسـوف تُسْأَلُ يوماً بالذي سـبقا
ما قد مضى من قديـم العمر أدّبني حتّى لقطـتُ من الأوقات ما سُرِقا
فسـرتُ مسـتبقاً بالوقت منتبـهًا حتى سبقتُ وعَدْوُ الوقت ما لحِقا
تأثير الإسلام في أطر الزمن وتغيير وثنيته في غرب إفريقيا:
وصل الإسلام إلى إفريقيا في القرن الأول الهجري بعامل الفتوحات الإسلامية تحت راية عقبة بن نافع الصحابي الجليل (13)، ولم يكد الإسلام يضع قدمه على عتبات القارة الإفريقية حتى شرع في محو الجاهلية في الاعتقاد والعادات والتقاليد والنزعات، وتغيير الكثير من طقوس الديانات الإفريقية وظواهرها الاجتماعية والعرفية.
ومن التغيرات الجوهرية التي أحدثها الإسلام تقييد السنة بدوران الشهور التي لا يتجاوز عددها اثني عشر شهراً بدل إرسال عنان التوقيت لمجرّد المناسبات الحولية التي تفتقر إلى الإحكام في ضبط أوقاتها ومدار مقاييسها وموازينها، فأصبح غرب إفريقيا يعرف سنته بمرور اثني عشر شهراً تأثراً بالمبدأ الإسلامي في توقيت السنة، ﴿إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَات وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ…﴾ (التوبة : 36).
وقد سبق أن مقياس تحديد الشهر في غرب إفريقيا قمري بطلوع الهلال، وبهذا لم يختلف عما جاء به الإسلام، إلا أن تقييد الشهر بثلاثين يوماً أو تسعة وعشرين كان نظاماً جديداً أوفده الإسلام إلى أرض الأفارقة، وهو تطوّر في إحكام العدد وضبط المواقيت، ويتجلّى ذلك في الحديث الشريف الذي رواه أبو هريرة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تقدموا الشهر بيوم ولا بيومين إلا أن يوافق ذلك صوماً كان يصومه أحدكم، صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته، فإن غُمّ عليكم فعدّوا ثلاثين، ثم أفطروا» (14)، فالشهر في التقويم الزمني الإسلامي تسعة وعشرون يوماً أو ثلاثون، وهي الحقيقة التي عادت إليها مقاييس الزمن في حساب الشهور في غرب إفريقيا.
أما الأيام؛ فلعل التغيير الوحيد الذي حدث في أطرها هو تأثر اللغات الإفريقية بالإسلام في تسميتها، لانتشار أسماء الأيام بالعربية بدل ألفاظها المحلية، وقد انتشرت هذه الأسماء وتداولتها ألسنة الأفارقة حتى أصبحت تلك الكلمات دخيلة في اللغات الإفريقية؛ بتحريفات يسيرة في بعض اللغات.
أما تقديس الأفارقة لبعض الأزمنة، وتحرّيهم إيّاها للأعياد، وانتظارهم للعبادات، وتخصيصها للأوثان، فقد زال معظم طقوسها وانجلت غياهبها بنور الإسلام، فلم تعد معظم ديار غرب إفريقيا تعرف إلا عيدي الفطر والأضحى، فأصبح هذان الموسمان بتوقيتهما الإسلامي الموحّد بديلاً عن مواسم الأوثان القديمة بتوقيتها الإفريقي المتباين.
ومن أهم ما أحدثه الإسلام في أطر الزمن عند الأفارقة البعد الثالث، وأعظم ما ارتبط به الإيمان باليوم الآخر، فلم يكن وثنيو غرب إفريقيا – في الغالب – يؤمنون بالبعث بعد الموت، ولكن الإيمان بتأثير الأموات أمر حاضر على الدوام في فلسفاتهم، فهم يعتقدون أن هناك حياة من نمط آخر يحياها أولئك الذين دخلوا في هياكل الأجداد.
يقول القس جاك ماندلسون: «في جميع الأديان الإفريقية التقليدية اعتقاد فيما وراء الموت بشكل أو بآخر، كما تعتقد أن المتوفّى تستمر حياته في عالم الأرواح… ومفاهيم الخير والشر موجودة أيضاً في هذه الديانات، بل لعلها عميقة الجذور فيها إلى حدّ لا يتصوره الكثير من الناس.. وتعتقد قبائل التوركانا من كينيا – مثلاً – أن الله، مع أنه يشفي من المرض، قد يصيب به أولئك الذين يغشون المحارم ويخالفون الطقوس الهامة».
إن عدم إيمانهم باليوم الآخر جعل مفهومهم للجزاء منصبّاً على الدنيا فقط، حيث لا يظنون وجود عقوبة أو ثواب في الآخرة، فالمجرم ينال جزاءه في حال حياته، والبارّ يلقى من السعة والرغد ما يكافئ برّه، إن هذه الحقيقة عنصر مهم في الديانات التقليدية، وهي حقيقة تساعدنا في فهم تركيز التديّن الإفريقي على الأمور الدنيوية مع الإنسان في قلب هذا التديّن.
وهنا أيضاً تظهر أهمية المفهوم الإفريقي لمسألة الزمان, فالديانات والفلسفة التقليدية تُعنى بالإنسان في الزمان الماضي والحاضر، يظهر الإله في الاعتقاد كتفسير لصلة الإنسان بالزمان, ليس هناك أمل تبشيري أو نظرة اعتقادية في الإله في لحظة مستقبلية ما، تؤدي إلى تحوّل جذري في حياة الإنسان العادية، لا يُوصف الإله بوصف له علاقة أخلاقية وروحية مع الإنسان، أفعال الإنسان التعبدية واللجوء إلى الإله هي براجماتية ونفعية أكثر منها روحية أو روحانية (15).
وقد جاء الإسلام بدستوره القرآني ليفتح لهم آفاقاً جديدة في عالم الاعتقاد، فأثبت لهم حقيقة البعث، وأن جزاء الأعمال في الآخرة، وأن الدنيا وما تنطوي عليه من الزمن ليست إلا مرحلة العبور، والتزوّد للدار الآخرة، يقول الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾ (الحشر : 18)، بهذا النص وأمثاله توسّعت نظرة الأفارقة، وامتدت نحو الرؤية الإسلامية الصحيحة تجاه الزمن، فلم يعد مصطلح الغد قاصراً على الغد القريب، بل ترامى مفهومه إلى الغد البعيد، وهو الساعة أو القيامة التي تنتظر كلّ كائن.
الاحالات والهوامش:
(*) الجامعة الإسلامية بالنيجر، نيامي.
(1) ينظر: مصطفى زغلول السنوسي: روائع المعلومات عن أقطار إفريقيا وبعض ما نبغت فيها من الممالك، طبعة مطابع الشرق الأوسط، الرياض، ط 1، 1991م، ص 112.
(2) يوربا: أكبر قبيلة في جنوب نيجيريا، وبعض مناطق شمال جمهورية بنين.
(3) هوسا: أكبر قبيلة في نيجيريا على الإطلاق، ولغة هوسا لغة يتحدث بها الشماليون في نيجيريا، وبعض مناطق دولة غانا وغيرها، وهي من أكبر اللغات انتشاراً في غرب إفريقيا، ويجد القارئ تأثّر لغة هوسا بالعربية في تسمية الزمن zamani مأخوذة من كلمة زمن.
(4) زرما: من أكبر القبائل في جمهورية نيجر، ويتحدث بلغة زرما معظم الجنوبيين في الدولة.
(5) فلاتة: لغة قديمة في غرب إفريقيا، يتحدث بها شعوب في نيجيريا، والنيجر، وغينيا، وبوركينافاسو وغيرها. وبمبارا: لغة أصيلة في ساحل العاج، وبوركينافاسو، ومالي، وغيرها من دول غرب إفريقيا.
(6) نقلاً من: http://ctl.du.edu/spiritual/literature/time.cfm
(7) نقلاً من: http://en.wikipedia.org/wiki/african_time
(8) أبو علي المرزوقي الأصفهاني: الأزمنة والأمكنة، طبعة دار الكتاب الإسلامي، د. ت ج 1 – ص 150.
(9) ينظر: السنيور كرلونلّينو: علم الفلك؛ تأريخه عند العرب في القرون الوسطى، طبعة الدار العربية للكتاب، القاهرة، ط 2، 1993م، ص 91.
(10) http://ctl.du.edu/spiritual/literature/time.cfm
(11) أحمد الهاشمي: جواهر الأدب في أدبيات وإنشاء ولغة العرب، ط 26، دار الفكر، بيروت، 1965م، ج 2 ص 385.
(12) قصيدة بعنوان: الوقت مسرع، للباحث لقمان ألاويي، في ديوانه: جنة الأشعار، مخطوط في مكتبته الخاصة ص 45.
(13) آدم عبد الله الإلوري: الإسلام في نيجيريا والشيخ عثمان بن فوديو الفلاني، ط 1 ، د. م 1971م، ص 18.
(14) محمد بن عيسى بن سورة الترمذي: سنن الترمذي، بتحقيق أحمد شاكر، دار الفكر، ط 1، 2003م، ج2 ص 156.
(15) http://www.qiraatafrican.com/view/?q=189