بسمة سعد
باحثة في مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية
ألقت الحرب الروسية الأوكرانية بظلالها على كافة دول العالم؛ فليس هناك دولة أو منطقة أو إقليم في العالم بمنأى عما فرضته الحرب من تداعيات اقتصادية وخيمة.لم تقتصر فقط على حدّ تعرُّض العالم لأكبر عجز في الواردات السلعية منذ عقود بعدما أدَّت الحرب على أوكرانيا إلى قطع ربع شحنات القمح والشعير، وخُمس إنتاج الذرة، والجزء الأكبر من زيت عباد الشمس([1])، وبمواصلة الدول الغربية عزل روسيا -ثاني أكبر مُنْتِج للسلع في العالم– عن الاقتصاد العالمي، تتفاقم المخاطر والتداعيات الاقتصادية؛ حيث ارتفع مُؤشِّر الأمم المتحدة لأسعار الغذاء بنسبة 4% تقريبًا في فبراير 2022م، وبالتالي ارتفعت التكاليف بأكثر من 50% منذ منتصف عام 2020م، مما أدَّى إلى ارتفاع أسعار السلع الغذائية المدفوعة بشكل كبير بارتفاعات في أسعار الزيوت النباتية مثل زيت النخيل، إلى الحدّ الذي دفَع منظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة (الفاو) لإطلاق تحذيرها في 11 مارس 2022م من ارتفاع قياسي للأسعار العالمية للأغذية والأعلاف يتراوح ما بين 8 و20%، قد يؤدي إلى تفاقم الاضطرابات في سلاسل إمدادات العالم بالغذاء، كما أوضحت المنظمة في 7 مارس 2022م ارتفاع سعر النفط بتسجيل خام برنت سعر الـ118.11 دولارًا للبرميل([2])، ولا تزال الأسعار في زيادة مستمرة.
انطلاقًا ما سبق، وفي ضوء ما تتمتع به منطقة القرن الإفريقي من أهمية جيواستراتيجية بالغة لموقعها الاستراتيجي المتميز، وتمتعها بالعديد من الموارد الطبيعية والمعادن الثمينة، مما دفع العديد من القوى الإقليمية والدولية لتعزيز نفوذها في المنطقة، فهناك العديد من المؤشرات التي يُستدل من خلالها على انعكاسات الحرب الروسية الأوكرانية على أمن منطقة القرن الإفريقي، يُمكن توضيحها في إطار عدد من الأبعاد كالتالي:
أولًا: ارتفاع معدل انعدام الأمن الغذائي في دول القرن الإفريقي:
تعتمد منطقة القرن الإفريقي بشكل متزايد خلال العقود الأخيرة -مثل العديد من المناطق حول العالم- على الحبوب الروسية والأوكرانية التي توفّر مجتمعةً ما يقرب من 30% من القمح في العالم، بالإضافة إلى كونهما يصدّران 75٪ من صادرات زيت دوار الشمس العالمية بنسبة تعادل 10٪ من جميع زيوت الطهي([3]).
وبينما تُعدّ إفريقيا أكبر وجهة إقليمية لصادرات القمح الأوكرانية، حيث استهلكت خلال الموسم الزراعي 2020-2021م نحو 36% من إجمالي واردات القمح الأوكرانية؛ تحتلّ منطقة القرن الإفريقي المرتبة الأولى في استهلاك الحبوب من أوكرانيا وروسيا. فعلى سبيل المثال، استوردت كينيا القمح والذرة والأسمدة من روسيا بقيمة 40.6 مليار شلن كيني (406 ملايين دولار) في عام 2020م، والقمح والذرة والخضروات وبذور دوار الشمس وزيت بذور القطن بقيمة 8 مليارات شلن من أوكرانيا([4]).
وباندلاع الحرب الروسية الأوكرانية، تأثرت حجم الواردات الإفريقية من الحبوب عمومًا، والقمح على وجه الخصوص؛ باعتباره سلعة غذائية رئيسية للمجتمعات الإفريقية، وارتفعت أسعار المواد الغذائية وكذلك الوقود والأسمدة، وهو ما سيتسبّب في تفاقم أزمة الغذاء، وكذلك الوضع الإنساني المتردّي في منطقة القرن الإفريقي، لا سيما في المناطق التي تُعاني من الجوع، وفي أمسّ الحاجة للمساعدات الغذائية، وعلى شفا التعرض لمجاعة([5])، وهو ما دفَع العضو المنتدب لـ”صندوق النقد الدولي “كريستالينا جورجيفا” للتأكيد في 10 مارس 2022م على أن إفريقيا عُرضة للهزات الاقتصادية بشكل خاص من خلال أربع قنوات رئيسية هي: ارتفاع أسعار المواد الغذائية، وارتفاع أسعار الوقود، وانخفاض عائدات السياحة، وربما صعوبة أكبر في الوصول إلى أسواق رأس المال الدولية([6]).
Source: Conflict Drives Record Levels of Acute Food Insecurity in Africa, the Africa Center for Strategic Studies, 13 October 2021. https://africacenter.org/spotlight/conflict-drives-record-levels-of-acute-food-insecurity-in-africa/
فقبل اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية، كانت دول شرق إفريقيا تسجّل أعلى مستويات انعدام الأمن الغذائي والتي نجمت عن حزمة متعددة من العوامل التي تكون إما نتيجة عن تعدُّد مصادر النزاعات في المنطقة، وما يترتب عليها من موجات نزوح وهجرة تفرض مزيدًا من الضغوط الاقتصادية على الدولة المُضيفة، بالإضافة إلى ما تُلْحِقُه تلك النزاعات من أضرار بالغة على الاقتصادات والموارد الطبيعية للبلدان، وإما نتيجة لما تُسبّبه التغيرات المناخية من أضرار بالغة على قطاع الزراعة والرعي باعتبارهما العمود الفقري للاقتصادات الإفريقية، تنخفض على إثرها حجم المحاصيل المنتجة وتتضرّر سلاسل توريد السلع الغذائية، وتلعب كذلك دورًا في نشوب النزاعات. وإما نتيجة لما تعرَّضت له البلدان الإفريقية من صدمات اقتصادية كالتي شهدتها خلال عامي 2020 و2021م عقب انتشار كوفيد-19، وغزو الجراد الصحراوي وتدميره لمساحات زراعية شاسعة في دول المنطقة.
فعلى سبيل المثال، يواجه نحو 400 ألف إثيوبي، و100 ألف شخص في جنوب السودان، و28 ألف شخص في مدغشقر المرحلة الخامسة من مستويات انعدام الأمن الغذائي (المجاعة)؛ وفقًا لما ورد عن منظمة الأغذية والزراعة وبرنامج الأغذية العالمي في أكتوبر 2021م([7])، كما أن هناك نحو 3.5 مليون شخص في جميع أنحاء الصومال يعتمدون على المساعدات الإنسانية الخارجية، ويُعاني أكثر من مليون بوروندي من مستويات عالية من انعدام الأمن الغذائي الحاد([8])، وهي أرقام مرشّحة بقوَّة للارتفاع عقب ما فرضته الحرب الروسية الأوكرانية من تداعيات اقتصادية زادت من الضغوط التضخمية الناشئة عن انقطاع سلاسل الإمداد والتعافي من جائحة كوفيد-19، مما يُنْذِر بتسجيل دول المنطقة أزمة إنسانية حادَّة مع مرور الوقت/ في حال عدم التوصل لتسوية سلمية بين أطراف الحرب، وضعف الاستجابة الدولية لأزمة الغذاء في منطقة القرن الإفريقي وشرق إفريقيا بشكل عام.
ثانيًا: إثارة التوترات السياسية في المنطقة
على غرار المظاهرات والاضرابات التي شهدتها ولا تزال تشهدها عدة مدن في العراق والمغرب وألبانيا خلال الأيام القليلة الماضية من شهر مارس 2022م؛ احتجاجًا على ارتفاع أسعار الوقود والمواد الغذائية([9])، ممَّا يهدّد بتعرُّض بلادهم لأزمة غذاء تتفاقم تداعياتها على الأُسَر الفقيرة، خاصة في ظل تسجيل دول منطقة القرن الإفريقي مستويات متدنية في المؤشرات الاقتصادية والاجتماعية على غرار الوضع في العراق الذي يقع فيه أكثر من 40 مليون شخص، وارتفاع نسبة البطالة بين الشباب لتسجل نحو 40%([10])، يجعلها عُرضة للاضطرابات السياسية وحالة من عدم الاستقرار السياسي والأمني قد يتخلّلها قدر من العنف في ظل توافر البيئة المحفّزة لتصاعد الاحتجاجات.
وهنا تتوجه الأنظار إلى كينيا والصومال؛ حيث أُصيبت سياسة دعم الوقود الكينية بالشلل في أعقاب الحرب الروسية الأوكرانية بعدما بات على وزارة الخزانة الكينية دفع أكثر من 25 مليار شلن لمسوقي النفط خلال شهري مارس وأبريل 2022م للحفاظ على أسعار الضخ دون تغيير في السوق المحلي، وذلك في وقت تُواجه فيه الحكومة ضغط إنفاق متزايد لتلقيح المواطنين ومعالجة التداعيات الاقتصادية لكوفيد-19، بالإضافة إلى الإعداد للانتخابات الرئاسية والتشريعية في أغسطس 2022م([11])، وهو ما يُثير المخاوف من أن تضطر الحكومة الكينية للمساس بسياسة دعم الوقود، مما يُثير غضب المواطنين ويدفعهم للاحتجاج والتظاهر، وبالتالي تصاعد احتمال أن تشهد الانتخابات القادمة عنفًا سياسيًّا ذا صبغة عرقية يصاحب العديد من الانتخابات الرئاسية الأخيرة، كالتي شهدتها البلاد في العام 2007م، وأسفر عن مقتل ما يُقدّر بنحو 1200 قتيل و650 ألف نازح([12]).
أما بالنسبة للصومال، فتشهد مقديشيو اضطرابات سياسية وأمنية في ضوء تعثُّر المسار الانتخابي التشريعي والرئاسي منذ العام 2020م دخلت على إثره البلاد في موجة من العنف المؤقت. وفي نوفمبر 2021م، اكتملت عملية اختيار مجلس الشيوخ بشقّ الأنفس، ومن المقرّر الانتهاء من اختيار أعضاء مجلس النواب بحلول 25 فبراير، الذي باكتمال تشكيله تبدأ أولى خطوات اختيار رئيس جديد للصومال من بين قائمة المرشحين التي وافقت عليها لجنة الانتخابات غير المباشرة([13]).
وفي ظل ما تشهده الصومال من أوضاع اقتصادية واجتماعية مزرية سجلت تقلص الناتج المحلي الإجمالي الصومالي بنسبة 1.5٪ في العام 2020م، بعدما سجل نمو بنسبة 2.9٪ في عام 2019م([14])، وبلغت نسبة الفقر نحو 71٪([15])، تتصاعد المخاوف من إخفاق البلاد في استكمال العملية الانتخابية وتعرُّض البلاد لحالة من عدم الاستقرار السياسي، إما نتيجة لارتفاع أسعار الوقود والغذاء التي قد تغذي الاحتجاجات والسخط الشعبي ولجوء المواطنين للتعبير عنه، من خلال بوابة الاحتجاجات في الشارع الصومالي، وإما لعدم الالتزام بالجدول الزمني للانتخابات المحدَّد لتُسجل البلاد إخفاقًا انتخابيًّا جديدًا.
وقد يؤدي ارتفاع أسعار السلع الغذائية والوقود إلى تفاقم التوترات السياسية القائمة بالفعل، مثلما هو الحال في السودان الذي يشهد تظاهرات متوالية مُطالِبة باستعادة الحكم المدني للمسار الانتقالي؛ فبخلاف تداعيات الحرب ارتفعت نسبة الفقر في السودان حتى يناير 2022م لتتراوح ما بين 60 – 80%، بالإضافة إلى ارتفاع نسبة البطالة بأكثر من 40%، كما ارتفع معدل التضخم ما بين 330 إلى 350%([16])، وبفرض الحرب تداعياتها الاقتصادية على الخرطوم، من المؤكَّد سيتفاقم الوضع الاقتصادي للبلاد، وهو ما يُنذر باندلاع ثورة شعبية كالتي أطاحت بحكم الرئيس السابق “عمر البشير” تكون بمكانة الداعم للمتظاهرين في الشارع السوداني، تلتقي أهدافها مع أهداف المتظاهرين في الإطاحة بالمكون العسكري الذي يقود المسار السياسي للبلاد، والإعداد لعقد سياسي جديد يقود المرحلة الانتقالية السودانية. ومِن ثَمَّ، فإن دول منطقة القرن الإفريقي أمام سيناريو الاضطرابات السياسية المحتملة ذات المخاطر الأمنية يُغذيها الارتفاع غير المسبوق في الأسعار.
ثالثًا: تفاقم المخاطر الأمنية الثلاث.. الإرهاب والجريمة المنظَّمة والنزاعات
إن ارتفاع معدل انعدام الأمن الغذائي في دول شرق إفريقيا وتدني مستوى معيشة المواطنين بما يدفعهم للنزوح والهجرة بحثًا عن فرصة اقتصادية مناسبة، يُعدّ أحد المسبّبات الرئيسية لنشوب النزاعات بين المجتمعات الإفريقية، وكذلك الاضطرابات السياسية التي توفّر في مجملها البيئة المناسبة لتنامي الجماعات الإرهابية، وكذلك انتعاش كافة أنماط الجريمة المنظمة؛ حيث تكشف ديناميات ظاهرة الإرهاب في العالم أن الإرهاب يتمركز في المناطق والدول التي تعاني من عدم استقرار سياسي وصراعات، وأن الصراعات العنيفة تُعدّ دافعًا أساسيًّا لتنامي ظاهرة الإرهاب؛ فمن أصل 97% من الهجمات الإرهابية التي تم تسجيلها في العام 2021م، تم تنفيذها في دول تعاني من صراعات ونزاعات، كما أن الدول العشر الأكثر تأثرًا بالعمليات الإرهابية -وفي القلب منها الصومال التي احتلت المرتبة الثالثة ضمن الدول العشر- هي ذات البلدان التي تُعاني من صراعات مسلحة في العام 2020م، وفقًا لمؤشر الإرهاب العالمي الصادر عام 2022م([17]).
وعلى الرغم من انخفاض عدد قتلى الهجمات الإرهابية لحركة شباب المجاهدين بنسبة 17% في العام 2021م، مقارنة بالعام السابق، ومن أصل 571 قتيلاً أسقطتهم حركة الشباب خلال هجماتها؛ كان للصومال نصيب الأسد منها بنسبة 93%، مقارنة بـ6% في كينيا، كما انخفض عدد الهجمات الإرهابية في الصومال بحوالي 56 هجمة إرهابية لتسجل نحو 353 هجمة إرهابية في العام 2021م، فإن محفّزات تنامي نشاط حركة الشباب، بل وباقي الجماعات الإرهابية لا تزال متوافرة؛ إما بتفاقم الوضع الإنساني والاقتصادي في المنطقة تأثرًا بالتداعيات الاقتصادية للحرب الروسية الأوكرانية، ومِن ثَم الارتكان لما تقدّمه تلك الجماعات من فرص اقتصادية مناسبة من جانب، وإما جنيًا للعائد الاقتصادي الهائل جراء المشاركة في الحرب الأوكرانية دعمًا للقوات الأوكرانية كـ”مرتزقة” بعدما أوضحت صحيفة The Guardian النيجيرية اليومية أن أكثر من 100 شاب سجل اهتمامه بالقتال من أجل أوكرانيا في سفارة كييف في أبوجا. كما أعربت السنغال عن استيائها من الحكومة الأوكرانية، بعدما سجل 36 شخصًا استعدادهم لمواجهة القوات الروسية([18])، وهو ما يفتح الباب لـ”أفرقة” الشركات الأمنية والعسكرية، والنظر للقارة -مع مرور الوقت وبتعدُّد مناطق التنافس والصراع الدولي– على أنها مفرخة للمرتزقة في ظلّ ما تتّسم به القارة من كثافة سكانية عالية وكتلة شبابية يُعتدّ بها وظروف اقتصادية واجتماعية متردية مثلما هو الحال في منطقة القرن الإفريقي، وهو ما يدعو للتفكير -فيما بعد- في آليات التعامل مع المرتزقة الأفارقة العائدين من الحرب ومن مناطق الصراعات.
ومِن ثَمَّ، تتعدّد المخاطر المحيطة بمنطقة القرن الإفريقي التي تُنذر بتنامي ظاهرة الإرهاب في المنطقة، لا سيما أن الجماعات الإرهابية تسعى لتوسيع قاعدة التجنيد لديها بما يُمكّنها من خَلْق نقاط تمركُّز جديدة، مثلما هو الحال بالنسبة لجماعة القوات الديمقراطية المتحالفة المنتشرة في الكونغو الديمقراطية وأوغندا.
تسعى الجماعة الديمقراطية إلى توسيع قاعدة التجنيد لديها من مجموعتها التقليدية من المقاتلين الكونغوليين والأوغنديين إلى كينيا وتنزانيا([19])، وقد تتمدد إلى السودان والصومال وعدد من دول القرن. وبتصاعد حالة عدم الاستقرار في المنطقة قد تجد الجماعة قاعدة اجتماعية جديدة لها فيها، تُعزز من خلالها أيضًا أنشطتها التجارية غير المشروعة كأحد مصادر تمويل عملياتها الإرهابية، وهو ما يعني مزيدًا من التردي للوضعين الاقتصادي والإنساني في المنطقة. وكذلك فتح المجال أمام كافة جماعات الجريمة المنظمة العابرة للحدود لتعزيز نشاطها وتمدُّد شبكاتها في ظل تدهور الوضع الاقتصادي والإنساني في منطقة القرن الإفريقي. ومِن ثَم، فمن المتوقع أن تُحافظ منطقة شرق إفريقيا بما في ذلك دول القرن الإفريقي على تسجيلها أعلى معدل جريمة في القارة خلال العام القادم بعدما سجلت بالفعل أعلى معدل إجرام إجمالي بمتوسط إقليمي يبلغ 5.66 من أصل 10 درجات([20]).
رابعًا: زيادة الاستقطاب والتنافس الروسي الغربي في منطقة القرن الإفريقي
تُعدّ منطقة القرن الإفريقي أحد أبرز المناطق المتوقع تسجيلها معدلات مرتفعة من التنافس الدولي والاستقطاب السياسي خلال الفترة القادمة، لا سيما الغربي الروسي، في ظلّ ما تتمتّع به المنطقة من أهمية جيوستراتيجية بالغة؛ حيث سلطت الحرب الروسية الأوكرانية الضوء على الموارد الإفريقية عمومًا، ومنطقة القرن الإفريقي على وجه الخصوص على نحو متزايد، فباتت المنطقة أحد بدائل الطاقة المطروحة لأوروبا بدلًا من خيار الطاقة الروسي، ودافعًا رئيسيًّا لمزيد من الانخراط في المنطقة وتعزيز شراكات التعاون مع دولها، بالإضافة إلى العمل على تأمين نحو 20% من تجارة الاتحاد الأوروبي المارة عبر طريق البحر الأحمر، وهو ما أكده إعلان الممثلة الخاصة للاتحاد الأوروبي في القرن الإفريقي “أنيت ويبر” في 1 مارس 2022م، عن ضرورة التوصل إلى اتفاق مُرْضٍ لجميع الأطراف المشاركة في أزمة سدّ النهضة الإثيوبي من خلال العمل على بناء الثقة بين الأطراف الثلاثة بما يضمن التكامل الإقليمي في مجالات تشمل الطاقة والمياه والبنية التحتية والتجارة وتخفيف آثار تغيُّر المناخ والتكيف معه([21]).
على الجانب الآخر وفي خِضَمّ اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية، أجرى نائب رئيس مجلس السيادة السوداني الفريق أول “محمد حمدان دقلو حميدتي” زيارة إلى موسكو خلال شهري فبراير ومارس ناقش خلالها سُبُل التعاون مع المسؤولين الروس في قضايا الأمن القومي والسياسة في مجال تبادل الخبرات والتعاون المشترك ومكافحة الإرهاب والتعليم، مشيرًا إلى أنه إذا كان أمر إنشاء قاعدة عسكرية في السودان من مصلحة البلاد، ولا يهدد أمنها القومي؛ فلن يكون هناك حرج في التوافق مع موسكو أو مع أيّ شخص آخر في هذه المسألة.
ومن المتوقع أن تُعزز موسكو من انخراطها في منطقة القرن الإفريقي عن طريق توسيع دائرة الشراكات الإفريقية عبر توقيع اتفاقيات التعاون العسكري بما يخلق قدرًا من التبعية الإفريقية على الأصول العسكرية لموسكو، ويضمن لها الوصول إلى الموارد الإفريقية الثمينة مثل النفط والذهب واليورانيوم، وهو ما يعني تنامي نشاط مجموعة فاغنر الروسية كإحدى آليات الانخراط الروسي في المنطقة على المدى المتوسط، كما أن من المتوقع أن تنخرط موسكو في اتفاقيات اقتصادية كإنشاء مناطق صناعية روسية في دول المنطقة وتوقيع عدد من الاتفاقيات التجارية والاستثمارية في ملف الطاقة واستخراج المعادن الثمينة؛ كسبيل لتضييق الخناق ومنافسة الجانب الأوروبي والأمريكي في مناطق نفوذها في المنطقة، وتقليل فرص البديل الإفريقي لأوروبا في ملف الطاقة، وما لذلك من دور في تعزيز التنافس الدولي على ملف الطاقة الإفريقي بما يُساهم في دعم النمو الاقتصادي لدول المنطقة، وهو ما يُستدل عليه بتصريح رئيسة تنزانيا “سامية حسن” في فبراير 2022م على هامش القمة الأوروبية الإفريقية بأن التوتر في أوكرانيا قد يُعزّز الاهتمام باحتياطيات الغاز في البلاد، في ظل حرصها لتأمين سوق طاقة جديدة خارج إفريقيا، والعمل على جذب 30 مليار دولار من الاستثمارات الأجنبية لإحياء بناء مشاريع الغاز الطبيعي المسال البحرية في عام 2023م([22]).
كما تهدف موسكو من تعزيز انخراطها في المنطقة على اكتساب دعم الصوت الإفريقي أو على الأقل التسبب في انقسام الكتلة التصويتية الإفريقية في كافة المحافل الدولية، بدلًا من توحيد الصوت الإفريقي المعارض لموسكو، وهو ما يُعدّ في حد ذاته مكسبًا لموسكو.
خلاصة القول: يبدو أن منطقة القرن الإفريقي ستكون إحدى ساحات التنافس الروسي الأوروبي الأمريكي خلال الفترة المقبلة، وأنه مثلما للحرب تداعيات سلبية على أمن منطقة القرن الإفريقي لا بد من الإعداد لها مبكرًا، والعمل على معالجتها، فلقد تعززت الآمال لدى دول منطقة القرن الإفريقي بتعزيز مكاسبها من هذا التنافس في مجالات محل الاهتمام الإفريقي كتطوير البنية التحتية والاستثمار في ملفّ الطاقة، مسترجعةً في ذلك المكاسب الإفريقية التي حقَّقتها القارة خلال فترة الحرب الباردة بين الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة.
[1] – ارتفاع أسعار المواد الغذائية إلى مستوى قياسي مع استمرار الحرب في أوكرانيا، الأهرام، 5 مارس 2022م.
[2] – تحذيرات من تداعيات حرب أوكرانيا.. الاقتصاد العالمي على المحك، سكاي نيوز عربية، 7 مارس 2022م.
[3] – JOSEPH WILSON and Others, Russian war in world’s ‘breadbasket’ threatens food supply, apnews,
[4] – PETER KAGWANJA, How the Russia-Ukraine conflict impacts security in Horn of Africa, 7 March 2022.
[5] – Idem.
[6] – ارتفاع أسعار الغذاء والوقود.. النقد الدولي: إفريقيا معرَّضة لهزات اقتصادية بسبب حرب أوكرانيا، صدى البلد، 10 مارس 2022م.
[7] -Conflict Drives Record Levels of Acute Food Insecurity in Africa, the Africa Center for Strategic Studies, 13 October 2021.
https://africacenter.org/spotlight/conflict-drives-record-levels-of-acute-food-insecurity-in-africa/
[8] –Idem.
[9] – مظاهرات ضد غلاء المواد الغذائية في العراق وإضراب للنقل البري بالمغرب لارتفاع أسعار الوقود، فرانس 24، 9 مارس 2022م.
[10] – المرجع السابق.
[11] – JOHN MUTUA, Kenya is now the cheapest country to purchase diesel in Eastern Africa, business daily Africa,11 MARCH 2022.
[12] – Joseph Siegle and Candace Cook, Africa’s Complex 2022 Elections: Restoring Democratic Processes, Africa center for strategic studies,24 January 2022 .
[13] – Joseph Siegle and Candace Cook, OP.CIT.
[14]– Somalia Economic Outlook, the African Development Bank.
https://www.afdb.org/en/countries-east-africa-somalia/somalia-economic-outlook
[15] -The World Bank in Somalia,The World Bank, 30 August 2021.
[16] – معاناة السودانيين تتضاعف بزيادة “هائلة” في أسعار الكهرباء والخبز، إندبندت عربية، 6 يناير 2022م.
[17] -Global Terrorism Index2022, The Institute for Economics & Peace, 2022,P62.
[18] – Ukraine’s bid to recruit fighters from Africa sparks uproar,DW, 8 March 2022.https://www.dw.com/en/ukraines-bid-to-recruit-fighters-from-africa-sparks-uproar/a-61049323
[19] -MOHAMED DAGHAR , RICHARD CHELIN AND MOHAMED HAJI, Expansion of the Allied Democratic Forces should worry East Africa, Institute for security studies, 3 MAR 2022 . https://issafrica.org/iss-today/expansion-of-the-allied-democratic-forces-should-worry-east-africa
[20] -Africa Organised Crime Index 2021 Evolution of crime in a Covid world, Institute for security studies, 2021, p32.
[21]– Ahmed Kotb, EU says ready to engage more to reach agreement on GERD, ahram, 1 March2022.
[22] – PETER KAGWANJA, OP.CIT.