محمد عزام الزبير
باحث في الشأن الإفريقي
مقدمة:
يتّضح لأيّ مراقب لساحة السياسة الدولية الدور المتزايد الذي تلعبه «جمهورية الصين الشعبية» في هذا النطاق الذي -وحتى زمن قريب بعد انهيار الاتحاد السوفييتي- كان قد أضحى شبه مقصورٍ على التحركات والسياسات التي تفرضها الولايات المتحدة وحلفاؤها.
ولكن مع حلول القرن الحالي، ومع صعود نجم قوّتها في المجالات الاقتصادية والعسكرية، بدا أن الصين قد استطاعت أن تقتطع لنفسها مجالاً متزايدًا من حرية الحركة على الساحة الدولية، ومِنْ ثَمَّ اتسعت تطلعاتها نحو مزيد من التمكين لنفسها كقوة كبرى في مواجهة الغرب بقيادة الولايات المتحدة. وتقع القارة الإفريقية، بثرواتها الواسعة غير المستغلَّة وحكوماتها المتطلعة للمساعدات وللاستثمارات الأجنبية، في قلب هذا التطلُّع الصيني نحو ممارسة قوَّتها الجديدة.
ويبدو أن الصين قد وجدت في المنطقة الواقعة شرق القارة على رأس مضيق باب المندب الاستراتيجي -والتي تضم خمس دول (هي: جيبوتي، الصومال، إريتريا، إثيوبيا، وكينيا)، ممتدة من جنوب البحر الأحمر شمالاً حتى المحيط الهندي جنوبًا، ويقطنها زهاء 190 مليون إنسان([1])– المكان المناسب لكي تركّز جهودها في هذا الإطار، كوسيلة أساسية في دعم الصعود الصيني على ميدان السياسة العالمية.
هذه التحرُّكات التي تقوم بها الصين تبدو أنها مدفوعة بالدرجة الأولى بعوامل ومحدِّدات مرتبطة بمخطط صيني أوسع نحو ترسيخ مكانة عالمية للقوة الآسيوية.
ومن هذا المنطلق يثور تساؤل حول ماهية دوافع ووسائل فضلاً عن تداعيات صعود الدور الصيني في منطقة القرن الإفريقي؟ وما قد ينجم عن ذلك كله من سيناريوهات.
المحور الأول:
الأهداف والمصالح الصينية في القرن الإفريقي ووسائل تدعيمها
عند الانطلاق لبحث دوافع الدول للانخراط في سياسات دولة أو منطقة ما؛ فإنه يمكن النظر إلى ذلك من منظور تدعيم الدولة لمصالح قومية محدَّدة مسبقًا. ويمكن تطبيق هذا المنظور عند الحديث عن الاهتمام الصيني بمنطقة القرن الإفريقي من خلال بحث الجوانب السياسية والاقتصادية والعسكرية.
أولاً: الأهداف والوسائل السياسية والدبلوماسية:
ينبع التوجُّه الصينيّ في التعامل مع منطقة القرن الإفريقي من إدراك صانع السياسة الصيني لوجود حالة من الارتياب والتوجُّس الذي تستقبل به الشعوب والقادة في الدول الإفريقية أيّ محاولة للاستثمار أو وجود قوًى من خارج القارة؛ فعلى الجانب الشعبي، مازالت ذكريات الاستعمار الذي عانت منه جُلّ شعوب القارة موجودة بقوة في الوعي الجمعي لتلك البلدان. أما الحُكّام، فهناك دائمًا تخوّف لديهم من أن تقترن المساعدات والاستثمارات الخارجية بمقابل سياسي تطلبه القوى الأجنبية بشكلٍ قد يؤدِّي إلى زعزعة استقرار السلطات والأنظمة الحاكمة في تلك الدول([2]).
انطلاقًا من هذا الإدراك؛ سعت الصين إلى التقرب إلى دول المنطقة؛ من خلال غرس فكرة وجود رابط مشترك بين الصين وتلك الدول، ألا وهو التاريخ الطويل من المعاناة مع الاستعمار الأوروبي، وأن الصين تأتي إلى القارة بأغراض تعاونية مفيدة للطرفين، دون أن تحمل في طياتها أيّ مطالبات أو اشتراطات في مقابلها بشكلٍ قد يُثير حفيظة الدول المعنية([3]).
من هذه الفكرة الجوهرية تتم صياغة آليات التعامل مع دول القرن الإفريقي في مختلف المجالات بشكل يُعزّز مصالح وأهداف الصين الاستراتيجية، ومن تلك الوسائل: تقديم الدعم لتلك الدول داخل المنظمات الدولية المختلفة، وعلى رأسها الجمعية العامة للأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي، أو من خلال التصويت في صالحها، سواء في حالات دعم قرارات في صالح هذه الدول أو التصويت بالرفض واستخدام الفيتو، في حالة مجلس الأمن، في مشاريع القرارات التي ترفضها دول القرن الإفريقي الحليفة للصين، وخصوصًا دعم تلك الدول ضد اتهامات الغرب بانتهاكها لحقوق الإنسان.
وفي المقابل استطاعت الصين أن تحصد كتلة تصويتية مهمة مكوّنة من تلك الدول، وغيرها من الدول النامية، لكي تدعم مشاريع الصين في تلك المنظمات، وتُضْفِي عليها شرعيةَ القرار الدولي([4]).
واستكمالاً لهذا الدور تحرص الصين على تبادل الزيارات رفيعة المستوى مع تلك الدول، وطرح خطط لتوقيع اتفاقيات صداقة معها، ويُعدّ ذلك امتدادًا للدور الذي لعبته الصين في القرن الماضي عندما سارعت للاعتراف باستقلال تلك الدول وإقامة علاقات دبلوماسية معها كما يظهر في الجدول التالي:
جدول رقم (1)
الدولة |
تاريخ الاستقلال |
تاريخ إنشاء العلاقات |
كينيا |
1963م |
1963م |
الصومال |
1960م |
1960م |
جيبوتي |
1977م |
1979م |
إثيوبيا |
لم يتم استعمارها |
1970م |
إريتريا |
1993م |
1995م |
المصدر: موقع وزارة الخارجية الصينية([5])
وأخيرًا؛ شهدت الأعوام القليلة الماضية توجُّهًا صينيًّا نحو اعتناق أساليب الدبلوماسية الشعبية؛ من خلال حثّ دبلوماسييها على فتح قنوات تواصل مباشرة مع سُكّان تلك الدول، وقيامهم بفتح حسابات على مواقع التواصل الاجتماعي مثل «تويتر» «فيس بوك»؛ كمقاربة مختلفة للتواصل مع شعوب المنطقة([6]).
ثانيًا: الأهداف والوسائل الاقتصادية
تنطلق الرؤية الاقتصادية للصين من عدة محاور أساسية، وهي:
1- نظرة الصين إلى دول القرن على أنها سوق مُهِمّ وجديد لصادراتها واستثماراتها:
فضلاً عن ازدياد درجة انفتاح تلك الدول على قبول الاستثمارات الخارجية وفتح أسواقها لها، خصوصًا وأن الصين -على عكس العديد من الدول الأخرى المنافسة لها- قادرة على توفير السلع والخدمات التي تتطلبها الأسواق النامية لهذه الدول الإفريقية محدودة الدخل بأسعار رخيصة أو مقبولة نسبيًّا لسكان تلك الدول مع توافرها على جودة مناسبة؛ مقارنةً بسعرها مع البضائع الغربية. هذا الأمر هو الذي بدأت تدركه الدول الإفريقية؛ ففي العام 1980م كان عدد الدول الإفريقية التي تتاجر مع الصين هو ستّ دول فقط، ولكن مع حلول العام 2006م وصل هذا العدد إلى 35 دولة([7])، مما يوضّح النمو الكبير الذي شهدته العلاقات الصينية مع دول القارة عمومًا.
2- حرص الصين على تأمين قدرتها على الوصول إلى مصادر الثروات الطبيعية والمعادن النادرة الوفيرة في المنطقة:
تذخر القارة الإفريقية عمومًا ومنطقة القرن خصوصًا بكميات كبيرة وغير مستغلَّة من الثروات الطبيعية؛ من المعادن النادرة والنفيسة إلى الأخشاب والنفط، فضلاً عن وجود ثروة حيوانية وموارد رعوية مهمَّة. كل ذلك جعل الصين، الدولة ذات المليار والنصف نسمة وثاني أكبر مستورد للطاقة في العالم، تنظر إلى منطقة القرن الإفريقي كمستودع للثروات الطبيعية قد يساعد الصين على تلبية قدرٍ كبيرٍ من احتياجاتها الضخمة من الموارد والطاقة في مقابل أسعار أو خدمات رخيصة نسبيًّا([8]).
فبالنظر إلى أهم الواردات الصينية من دول المنطقة، نجد أنها تتكون بشكل أساسي من البنّ والجلود والحبوب الزيتية، بالإضافة إلى النفط، وفي المقابل تمنح الصين تلك الدول إمكانية الوصول إلى عدد من الآليات والمعدات الصينية المتطورة، وخاصة في مجالات المنتجات الطبية ومعدات البناء([9]).
3- الدور الذي تلعبه المنطقة في «مبادرة الحزام والطريق» الصينية:
منذ أن كشفت الصين النقاب عن مبادرتها الجيوستراتيجية الهادفة إلى ربط عدة دول عبر ثلاث قارات سياسيًّا واقتصاديًّا بالصين والمعروفة بـ«مبادرة الحزام والطريق»، كان واضحًا أن منطقة القرن الإفريقي تُشكِّل جزءًا محوريًّا في نجاح ذلك المخطَّط الواسع النطاق؛ من خلال موقعها الاستراتيجي على رأس مضيق باب المندب إلى البحر الأحمر وقناة السويس ثم رأسًا إلى أوروبا، أو جنوبًا من خلال إطلالتها المهمة على المحيط الهندي وجنوب القارة الإفريقية.
تسعى الصين من خلال هذه المبادرة إلى استغلال وتطوير البنية التحتية في دول القرن من موانئ وطرق وسكك حديدية، مما سيسمح لها بزيادة حجم استثماراتها في تلك البلدان، فضلاً عن مدّ وفتح المزيد من الطرق للتبادل التجاري نحو قلب القارة السمراء وجنوبها. كل تلك العوامل ستسمح للصين بمزيد من السيطرة في علاقاتها مع دول القارة، من خلال ربطهم بها اقتصاديًّا، ومِن ثَمَّ ربط عملية صنع القرار فيها بصانع القرار الصيني ومصالحه([10]).
المصدر:([11])
وفي سبيل ذلك تتبع الصين عددًا من الوسائل التي تتراوح ما بين إنشاء منظمات واتفاقيات تعاون مشترك مع دول القرن الإفريقي، ومن ثَمَّ تضع الصين جهدًا كبيرًا في إغراء دول القرن بالنموذج الاقتصادي الصيني، وربطهم بسلسلة الإنتاج الصينية، إلى ما يراه البعض إثقالاً لاقتصاديات تلك الدول بالديون الممنوحة بتسهيلات صينية كوسيلة لربطها بالصين، بينما تحاول الصين دَحْض هذه النظرية من خلال إجراءات كإلغاء ديون بعض الدول أو تأجيل دفعها أو توفير الدعم في شكل مِنَح لا تُرَدّ تجاه مشاريع الخدمات العامة والمرتبطة بالصحة والتعليم وتحسين خطوط الاتصالات([12])، غير أنه تجدر الإشارة إلى أن الصين تحاول توجيه وتنويع ما تُقدّمه من مساعدات بحيث يتناسب مع حاجات الدولة المعنية.
غير أن هذا التوسع الصيني في المِنَح والقروض أثار شكوك بعض الدول الغربية أن الصين تسعى للسيطرة على اقتصاديات هذه الدول بمنحها قروضًا بمبالغ تعجز هذه الدول عن سدادها فيما بعد، غير أن هذا لم يمنع تلك الدول من الاستمرار في الاقتراض من الصين لدعم مشاريع التنمية داخل تلك البلدان.
ثالثًا: الأهداف والوسائل العسكرية والأمنية
تُشكّل الرؤية العسكرية والأمنية جزءًا مهمًّا من استراتيجية الصين تجاه دول القرن. كما ذُكِرَ سابقًا؛ فإن سعي الصين الحثيث لتبنِّي موقع القوة الكبرى على الساحة الدولية يجعل من الضروري أن تنتزع لنفسها مكانًا على القرن الإفريقي ومضيق باب المندب، خصوصًا مع الأخذ في الاعتبار السبق الذي حقَّقته الولايات المتحدة، منافسُها الرئيسي، وأوروبا في التواجد في تلك المناطق، إما بحكم روابط استعمارية سابقة، في حالة أوروبا، أو بفعل واقع القوة الفعلية على المسرح الدولي في حالة الولايات المتحدة.
وتبدو سياسة الصين الخارجية متسقة مع نفسها، في هذا السياق، مع ما تمارسه في منطقة بحر الصين الجنوبي وبحر اليابان، كل ذلك في سعي لضمان ألا تكون الولايات المتحدة وحلفاؤها في سيطرة كاملة على طرق الملاحة والنقل البحرية؛ من خلال التحكُّم الاستراتيجي في المضائق الدولية، ممَّا قد يُشَكِّل خطرًا على المصالح الصينية، والتي تعتمد على الطرق البحرية بشكل كبير في الحصول على الموارد الأولية اللازمة لتغذية آلة الصناعة الصينية المتزايدة النمو([13]).
تسعى الصين كذلك لفرض وجودها على القضايا الأمنية في منطقة القرن؛ من خلال المشاركة في عدد من عمليات حفظ السلام في دول المنطقة، وإرسالها عدد من السفن الحربية لمكافحة عمليات القرصنة المتزايدة على الساحل الصومالي([14]).
كما تسعى الصين كذلك لتأمين حصتها من أسواق السلاح الناشئة في دول القرن الإفريقي وزعزعة الاحتكار الغربي والروسي على واردات السلاح لدول المنطقة؛ من خلال تقديم أسعار منافسة، كل ذلك في سبيل حجز مكانة بين دول المنطقة كشريك أمني وعسكري مُهِمّ وموثوق به لدى تلك الدول، ومِنْ ثَمَّ الانطلاق نحو جعلهم حلفاء ثابتين لها في هذه البقعة المُهِمَّة من خريطة العالم([15]).
أخيرًا، وفي استعراض مُهِمّ لقوتها الجديدة المتنامية، قامت الصين بافتتاح قاعدة عسكرية وبحرية في دولة جيبوتي ذات الموقع الاستراتيجي المهمّ على مضيق باب المندب. هذا الوجود برَّرَته المصادر الرسمية الصينية بأن القاعدة ستُشَكِّل نقطة انطلاق لمهام حفظ السلام في المنطقة، كما ستساعد على حماية طرق المواصلات البحرية، وإعادة تزويد السفن الصينية المكلَّفة بمكافحة القرصنة في خليج عدن بالوقود، فضلاً عن زيادة التعاون الأمني مع دول المنطقة؛ من خلال التدريبات العسكرية المشتركة معها، وزيادة التعاون الاستخباراتي([16]).
غير أن التحليل قد يكشف عن أسباب إضافية لهذا الوجود الصيني في جيبوتي؛ فالدولة الإفريقية محدودة السكان والمساحة، تحتوي كذلك على قاعدة عسكرية أمريكية تضم ما يزيد عن 4000 جندي أمريكي، وتُعدّ نقطة انطلاق مهمة للعمليات الأمريكية إلى قلب القارة وعلى ساحلها، ومِنْ ثَمَّ فإن الوجود الصيني في تلك المنطقة، التي كانت حتى وقت قريب حِكْرًا على الولايات المتحدة وحلفائها، قد يأتي كرد صيني تُريد به الدولة الشيوعية أن تُظْهِر إمكاناتها وعزمها وقدرتها على حماية مصالحها في أيّ مكان من العالم، وعدم ترك المجال مفتوحًا للولايات المتحدة، منافسها الرئيسي، للسيطرة على طرق الملاحة الدولية الحيوية وبوابة الصين للمواد الخام الأولية التي تعتمد عليها بشدة في تغذية اقتصادها الضخم والمتنامي.
المحور الثاني:
تداعيات وسيناريوهات تزايد النفوذ الصيني في المنطقة
يمكن من التحليل السابق استخلاص أنَّ هناك تركيزًا صينيًّا جليًّا على تعميق وجودها ودورها في منطقة القرن الإفريقي.
وحاليًا لا توجد أيّ مؤشرات تُظْهِر أن هذا التوجُّه الصيني تجاه المنطقة هو في طريقه للانحسار في المستقبل القريب، بل إن العكس هو الصحيح. هذا الاتجاه من دولة كبرى كالصين وفي منطقة حيوية كمنطقة القرن الإفريقي من المؤكد أن يحمل معه عدة تداعيات وآثار مهمة على محاور مختلفة، وعلى المستويين الإقليمي والدولي.
ومن أبرز هذه التداعيات:
1- تزايد شعبية النموذج الصيني في التنمية في المنطقة؛ وهو النموذج القائم بالأساس على التركيز على الاستثمار الكثيف في البنية التحتية والخدمات الاجتماعية والتوظيف. دون أن يقرن التنمية، على عكس النموذج الأمريكي والغربي، بضرورة التحوّل الديمقراطي واعتناق الإصلاح الهيكلي في بنية نُظُم الحكم وإعادة بنائها على أُسُس ليبرالية([17]). هذا النموذج الصيني المغاير يبدو الآن أكثر جاذبية لدول القرن وأنظمة الحكم التقليدية فيها أكثر من أيّ وقتٍ مضى، وخصوصًا لعدم وضع الصين اشتراطات بإصلاحات سياسية مقابل المساعدة في تحقيق التنمية الاقتصادية، وسعي العديد من الدول المجاورة لتجربة هذا النموذج الصينيّ بعد رؤية آثاره في دول القرن الإفريقي.
2- سعي الصين إلى لعب دور أكثر فاعلية في حلّ المشاكل الأمنية والاضطرابات السياسية في دول المنطقة[18]؛ حيث إن الصين سرعان ما أدركت أن توسُّعها الاقتصادي في المنطقة قد تعوقه حالة عدم الاستقرار الأمني والسياسي وعدم نفاذ سلطة الدولة في عددٍ من دول القرن الإفريقي، ورغم أن الصين دائمًا ما قدَّمت نفسها بوصفها داعمًا وشريكًا اقتصاديًّا بحتًا بعيدًا عن التدخل في الشؤون السياسية الداخلية كما سبق الذكر، فإنها قد أدركت كذلك أن بإمكانها لعب دور محدود في المسائل المتعلقة باستقرار الدولة التي تتعامل معها ككل، إما كوسيط بين الفرقاء، أو من خلال دعم إجراءات ومجهودات السلطات الحاكمة في الدولة لفرض الاستقرار ومدّ نفوذها على كافة التراب الوطني، وهو ما يفتح بالنهاية أبوابًا جديدة للاستثمار والتوسع الصيني، فضلاً عن دعم استقرار الاستثمارات المؤسَّسة بالفعل، وتشجيع نموّها في بيئة سلمية.
3- نشوء حالة من الارتباط والاعتماد الاقتصادي على الصين من جانب دول القرن الإفريقي؛ فالسياسة الصينية، كما ذُكِرَ مِن قبلُ، لا تتطلب من الدول الشريكة القيام بأيّ إصلاحات هيكلية في بنية المؤسسات السياسية والاقتصادية لديها كشرط لدخول الاستثمارات الصينية.
هذا التوجه رغم ميزاته الأولية من حيث سرعة وحجم الاستثمارات والمِنَح التنموية المقدَّمة وتنوّعها، فإنه يعني أن غالبية تلك الدول لم تتكوَّن لديها الكوادر البشرية والأُسُس الاقتصادية لدعم عملية التنمية بشكل ذاتي يضمن استمرارها ونموّها بأيادٍ وطنية، ويساعد على مراكمة الخبرات، ومن ثَمَّ الثروات لدعم التنمية المستدامة في تلك الدول؛ حيث إنَّ هذه الدول لم ترَ حاجة لذلك طالما استمرَّ سيل الاستثمار والمال الصيني في التدفق. ولعل أكثر جوانب هذه الظاهرة وضوحًا هو علاقة الدائن والمدين المتزايدة في العلاقة بين الصين ودول إفريقيا عمومًا ودول القرن على وجه الأخص، إلى الحدّ الذي وصل إلى استحواذ الصين على أصول وطنية في تلك الدول كوسيلة لسداد ديونها المتراكمة([19])، وهو اتجاهٌ جرَّ على الصين الكثير من النقد والجدل كما سيظهر في نتيجة لاحقة.
4- سعي القوى المنافسة للصين، وعلى رأسها الولايات المتحدة، إلى وقف أو إبطاء التمدُّد الصيني في المنطقة؛ حيث أدركت القوى الغربية خطورة النفوذ الصيني المتزايد في تلك المنطقة الاستراتيجية على مصالحها، وهو ما دعاها لمواجهة هذا التمدُّد بكل ما تملكه من وسائل([20]).
تقود الولايات المتحدة هذه الجهود؛ حيث تسعى لوقف التمدد الصيني على عدة جهات؛ فمن ناحية زادت الولايات المتحدة من وجودها العسكري في شرق ووسط القارة وعلى سواحلها لمكافحة التواجد العسكري الصيني المتزايد هناك، ومن ناحية أخرى بدأت أمريكا في شنّ حرب دعائية ضد الوجود الصيني في إفريقيا عمومًا، حيث بدا أن المسؤولين الأمريكيين أكثر استعدادًا من أيّ وقت مضى لانتقاد السياسات الصينية في دول القارة وتوجيه اتهامات مباشرة تتراوح بين أن الصين تعتمد في أساليبها على وسائل غير تنافسية مثل رشوة المسؤولين لكي يقدموا تسهيلات للشركات الصينية، أو أنها تتعمد إغراق الدول الإفريقية الفقيرة بالديون حتى يسهل السيطرة عليها فيما بعد، أو أن النموذج الصيني يساهم في تقويض الديمقراطية وسوء وضع حقوق الإنسان من خلال تقديم الدعم إلى أنظمة ديكتاتورية تعتمد على قمع شعوبها للاستمرار في السلطة. ويبدو من تصريحات المسؤولين الأمريكيين أن هذا التوجه نحو مقاومة وحصار الوجود الصيني المتزايد في القارة سيستمر في المستقبل المنظور، وقد يشهد تصعيدًا إذا ما حاولت الصين تحجيم هذه الجهود.
5- توجُّه الصين نحو استخدام وسائل مختلفة مثل أساليب القوة الناعمة لتحسين صورتها في المنطقة؛ فالصين ترى أن أفضل ووسيلة لدحض الاتهامات الغربية والأمريكية لها هو في تبديد أيّ شكوك من جانب الحكومات في دول القرن تجاه نواياها، هذا فضلاً عن الاستثمار في وسائل وأدوات القوة الناعمة لإنشاء روابط قوية مع شعوب المنطقة بشكل مباشر بشكل يُصَعِّب على الدعاية الغربية تشويهها. فمثلاً قامت الصين بتأجيل سداد أو حتى بإلغاء بعض الديون المتراكمة على دول المنطقة؛ لكي تدحض الاتهامات الأمريكية باستخدام الديون كأداة للسيطرة والهيمنة السياسية، وعلى جانب القوة الناعمة، تستمر الصين في إرسال المساعدات والبعثات الإغاثية للمناطق الإفريقية المحتاجة، فضلاً على تقديم مساعدات في شكل مِنَح إنسانية لتحسين الخدمات الطبية والتعليمية، وبناء شبكات للصرف، وتمديد خطوط اتصالات حديثة للمناطق المحرومة والمعزولة، هذا بالإضافة إلى افتتاح عددٍ من المعاهد الثقافية «معاهد كونفوشيوس» لتعليم اللغة والثقافة الصينية؛ كلّ ذلك يدعم الافتراض بأن الوجود الصيني في المنطقة مستمرّ.
مما سبق يتضح جدية صانع السياسات الصيني في توجيه طاقاته نحو توسيع وترسيخ مجال نفوذه في منطقة القرن الإفريقي، ويبقى النظر إلى ما قد يحمله المستقبل لتلك المنطقة وديناميكية العلاقات فيها فيما يتعلق بالصين وغيرها من القوى الكبرى.
وفيما يلي أبرز السيناريوهات المحتملة:
1- سيناريو نجاح الصين في البقاء وتوسيع نفوذها في المنطقة: وهو القائم على افتراض نجاح الجهود الصينية في إقناع دول القرن الإفريقي بأن مصالحها مرتبطةٌ باستمرار الصين كشريك استراتيجي لها، وأن الصين تقدّم ما لا تستطيع غيرها من الدول تقديمه. يترتب على هذا السيناريو كذلك إخفاق الجهود الأمريكية في إبعاد دول القرن عن الصين ووقوع المنطقة ذات الأهمية الاستراتيجية تحت مظلة النفوذ الصيني، مما سيترتب عليه تبعات كبيرة على الساحة الدولية قد تصل إلى حد إعادة تشكيل النظام العالمي إلى شكل متعدِّد الأقطاب بوجود الصين كقوة موازنة ومؤثرة في مقابل الولايات المتحدة وحلفائها.
2- سيناريو إخفاق الصين في بلوغ أهدافها في المنطقة: يفترض هذا السيناريو تعرقل جهود الصين للتوسع في القرن؛ إما بسبب المحاولات الأمريكية لإحباط تلك الجهود، أو بسبب عوامل داخلية للدول الإفريقية المعنية تجعلها تغيّر من توجهها الحالي. هذا الافتراض لا يترتب عليه بطبيعة الحال انتهاء الدور الصيني بمجمله في المنطقة، بل قد يعني اتخاذه شكلاً آخر أكثر محدودية وتنافسية مع غيره من الدول المهتمة بالتواجد في هذه المنطقة المهمة، وهو ما قد يدفع الصين إلى اتخاذ إجراءات أكثر تشاركية في مجالات الاستثمار والأمن الجماعي مع دول القرن، وربما مع غيرها من القوى الكبرى المعنية.
3- سيناريو الصراع: وهو يقوم على افتراض نجاح الجهود الغربية في تحجيم أو حصار التوسع الصيني لكن دون إبعاده أو تهميشه بشكل كبير، وهو ما قد يؤدي إلى تشكيل جبهات وخطوط تماس على مناطق الموارد والنفوذ بين القوى المتنافسة؛ مما يزيد من حالة التوتر في المنطقة، خصوصًا إذا اختارت الصين اتخاذ وسائل أكثر مواجهة للدفاع عن مصالحها المكتسبة في منطقة القرن.
هذا السيناريو لا يفترض بالضرورة تصاعد المواجهة إلى حد الصراع العسكري المسلح، بل من الأرجح أن يكون التنافس في هذا السياق في حالة أشبه بنموذج مصغّر للحرب الباردة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي، ولكن ضمن أطر وملائمات سياسات القرن الحادي والعشرين التي تحدّدها عوامل أكثر تشابكًا وتعقيدًا من العوامل التي حكمت الصراعات الكبرى في القرن الماضي.
الخاتمة:
انطلاقًا مما سبق؛ يتضح أن الصين تنطلق في وضعها وتطبيقها لسياساتها تجاه منطقة القرن من منطلق أهداف استراتيجية محدَّدة تقوم في الأساس على رَفْع مركز الصين إلى مركز القوة الكبرى في سعي نحو كسر الهيمنة الأمريكية على السياسة العالمية، وخَلْق نظام عالميّ متعدّد الأقطاب تلعب فيه الصين دورًا محوريًّا يتناسب مع تصوراتها عن حجمها وإمكاناتها.
تقع منطقة القرن الإفريقي في مركز هذا السعي؛ بموقعها الاستراتيجي المهمّ ومواردها الوفيرة وفرص الاستثمار المتعددة فيها. تسعى الصين إلى استغلال تلك الفرص، وحماية تلك المصالح المتصوّرة من خلال وسائل متعددة.
وأخيرًا يمكن الإشارة إلى وجود تحوّل ملحوظ في الاستراتيجية الصينية نحو ممارسة دور أكثر تداخلاً وفاعلية في سياسات المنطقة كجزء من تحوّل أكبر في السياسة الصينية من إخفاء القوة والصعود الصامت، إلى ممارسة تلك القوة بشكل أكثر وضوحًا لتأمين مكتسبات استراتيجية، وحماية المصالح التي تراها الصين مهمَّة لأمنها القومي ودورها الإقليمي والدولي.
هذا التحوّل قد يُواكبه تحوّل مُشابه في موقف القوى المنافسة، مثل الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا، نحو مواجهة هذا الصعود الصيني في القارة السمراء، وتحجيمه بكل الوسائل الممكنة دون الحرب. هذا التصعيد يترك منطقة القرن الإفريقي كبؤرة مهمة ومتقلّبة في صراع أكبر قد تساهم المنطقة -المثقلة ذاتها بتاريخ طويل من صراعاتها الخاصة- في توجيه الأفضلية فيه نحو طرف أو آخر.
[1]– https://www.worldometers.info/world-population/eastern-africa-population/
تم الاطلاع في 10/10/2020م.
[2]– طارق الشيخ، الصين وتجديد سياساتها الإفريقية، السياسة الدولية، مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، القاهرة، العدد 156، 2004م.
[3] – أميرة أبو سمرة، السياسة الخارجية الصينية تجاه إفريقيا 1991- 2015م، المركز الديمقراطي العربي، أغسطس، 2016م، متاح على: https://democraticac.de/?p=35916
[4] – زياد يوسف حمد، التوجه الصيني نحو منطقة القرن الإفريقي بعد الحرب الباردة، مجلة الدراسات الإفريقية وحوض النيل، المركز الديمقراطي العربي، برلين، ألمانيا، يناير، 2020م.
[5] – موقع وزارة الخارجية الصينية، على الرابط: https://www.fmprc.gov.cn/mfa_eng/gjhdq_665435 تم الاطلاع 12/10/2020م.
[6] – جورج ثروت فهمي، العلاقات الصينية الإفريقية شراكة اقتصادية دون مشروطية سياسية، السياسة الدولية، العدد 167، مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، القاهرة، العدد 167، 2007م.
[7] -Meyersson, Meyersson, and Qian, The Rise of China and the Natural Resource Curse in Africa, Brown University, Harvard Academy, CEPR April 7, 2008, p1.
[8] – زياد يوسف الدليمي، التحولات في سياسة الصين الخارجية تجاه آسيا (الدالات والأبعاد)، دار الأرقم للطباعة، بغداد، 2006م.
[9] -David Shinn &Joshua Wiseman, “Dueling Priorities for Beijing in the Horn of Africa”, China Brief,Vol.5,No.21,October 13,2005.
https://jamestown.org/program/dueling-priorities-for-beijing-in-the-horn-of-africa/ تم الاطلاع في 10/10/2020.
[10] – أميرة أحمد حرزلي، مبادرة الحزام والطريق الصينية: الخلفية – الأهداف – المكاسب، في، مجموعة مؤلفين: مبادرة الحزام والطريق الصينية: مشروع القرن الاقتصادي في العالم، المركز الديمقراطي العربي، برلين، ألمانيا، ص 77-80، 2019م.
[11] – تشكل منطقة القرن الإفريقي جزءًا أساسيًا في مبادة الحزام والطريق الصينية:
https://research.hktdc.com/en/article/MzYzMDAyOTg5 HDTC:
[12] -Ismail, Abdilahi, The geopolitics and impacts of China’s “One Belt One Road” initiatives in The Horn of Africa, European Journal for Political Science Studies, vol 3, issue 2, 2020.
[13] – محمد صالح جميل، الاستراتيجية العسكرية الصينية تجاه إفريقيا: نظرة عامة على قضية جيبوتي، مجلة الدراسات الاستراتيجية والعسكرية، المركز الديمقراطي العربي، برلين، المجلد الأول، العدد الثالث، ص 213-216، مارس، 2019م.
[14] -Magara, I. S. and Kinkoh, H. China’s Military Positioning in the Horn of Africa and its Implications for Regional and Global Security Outcome, in Courting Africa: Asian Powers and the New Scramble for the Continent, The Zambakari Advisory Special Issue, 2-117. 2020.
[15] -Kovrig, Michael, China Expands Its Peace and Security Footprint in Africa, International Crisis Group, October, 2018. shorturl.at/jBKM9 12/10/2020.
[16] – حمدي عبد الرحمن، سباق القواعد العسكرية في القرن الإفريقي: الفرص والمخاطر الأمنية بالنسبة لمصر، السياسة الدولية، مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، القاهرة، المجلد 53، العدد 211، ص126، يناير، 2018م.
[17] -Ylönen, Aleksi, The Dragon and the Horn: Reflections on China–Africa Strategic Relations, Insight on Africa vol 12, issue 2, 2020.
[18] – كيف تغير إفريقيا الصين؟ متوفر على: shorturl.at/dlnR8 تم الاطلاع في 16/10/2020م.
[19] -Chien-Kai Chen, China in Africa: a threat to African countries? Strategic Review for Southern Africa, Vol 38, No 2, Department of International Studies Rhodes College, USA, 2016.
[20] – لحسن الحسناوي، استراتيجية الوجود الصيني في إفريقيا: الديناميات والانعكاسات، مركز دراسات الوحدة العربية. على الرابط: shorturl.at/cqPT7