تأتي ذكرى مرور ستين عامًا على تأسيس الجيش الوطني الصومالي في 12 أبريل 1960م لتطرح تساؤلًا مهمًّا حول مستقبل دور المؤسسة العسكرية في الصومال، وانعكاس ذلك على مستقبل الأمن الإقليمي والاستقرار في منطقة القرن الإفريقي بشكل عام، خاصةً مع اقتراب انسحاب قوَّات بعثة الاتحاد الإفريقي “أميصوم” من البلاد بحلول عام 2021م، وفي ضوء التحديات الأمنية التي تُواجه الدولة الصومالية؛ الأمر الذي يثير القلق بشأن قدرة الجيش الصومالي على تحمُّل المسؤولية الأمنية خلال المرحلة المقبلة في ظل ضعف قدراته التسليحية وكفاءة عناصره القتالية؛ لدرجة أنه يحتل مرتبة متأخرة (136 من 138) في تصنيف تقرير Global Fire Power لعام 2020م؛ ليضع مستقبل البلاد في مأزق حقيقي.
أولًا: بيئة التفاعلات وأهمية تشكيل جيش صومالي موحد وقوي
لا تزال معضلة بناء جيش وطني في الصومال تُشكّل تحديًا كبيرًا أمام الحكومات المتعاقبة على حكم البلاد خلال العقود الثلاثة السابقة منذ انهيار نظام محمد سياد بري في عام 1991م. فلم يكن هذا الأمر جزءًا من عملية إعادة بناء الدولة في الصومال خلال السنوات التالية؛ بالرغم من أن المؤسسة العسكرية هي أول مؤسسة تمَّ حلّها عقب هذا الانهيار في أوائل تسعينيات القرن الماضي. وقد تعددت الأسباب السياسية والاقتصادية والأمنية والاجتماعية التي أسهمت في تأخر بناء قوة عسكرية للصومال خلال السنوات الماضية.
ولا يجب إغفال دور العامل الخارجي لا سيما بعض القوى الإقليمية التي تمانع بشدة قيام دولة صومالية قوية يمكن أن تؤثر في موازين القوى في منطقة شرق إفريقيا والقرن الإفريقي.
وقد شهد الجيش الصومالي منذ تأسيسه في عام 1960م عددًا من المحطات كانت فارقة في تاريخه وتاريخ البلاد؛ حيث صُنِّف الجيش الصومالي في المراتب الأولى في تصنيف الجيوش الإفريقية خلال عقدي الستينيات والسبعينيات، إلا أنَّ الصدام العسكري بين الصومال وإثيوبيا في عامي 1964 و1977م حول السيادة على الإقليم الصومالي (أوجادين)، والذي تسبَّب في استمرار الصراع بين إثيوبيا والصومال طوال تلك السنوات، قد خلَّفَ تدهورًا سياسيًّا وأمنيًّا في الصومال تزامن معه اندلاع بعض الصراعات القبلية في البلاد، كان لها تأثيرها السلبي الذي طال المؤسسة العسكرية قبل سقوط نظام بري في 1991م.
وهو ما ترتب عليه المزيد من الانشقاقات في صفوف الجيش، لتبدأ مرحلة من التفكك كان على إثرها تسريح الجيش الصومالي، وفرار بعض أفراده إلى خارج البلاد، بينما انضم البعض الآخر إلى صفوف بعض الميلشيات القَبَلِيَّة، ومنهم من تقاعد وانخرط في مجالات الحياة المختلفة لتدبير شؤون حياته. ومن هنا، بدأت مرحلة جديدة نَشِط فيها أمراء الحرب نتيجة حالة من الانقسام شهدتها البلاد ما بين استقلال إقليم صومالي لاند عن الصومال من طرف واحد، وإعلان إقليم بونت لاند الحكم الذاتي لحين استقرار الأوضاع في البلاد، إضافة إلى باقي الأراضي الصومالية التي يتنازع عليها أمراء الحرب.
ومع إصدار القرار الأممي المفروض بحظر توريد السلاح إلى الصومال منذ عام 1992م الذي أثَّر سلبًا على قدرات الجيش الصومالي التدريبية والتسليحية، والذي لا يزال قائمًا -تم تخفيفه في عام 2013م بدعم أمريكي-؛ بسبب بعض التقارير الدولية التي تُحذّر من مخاطر تهريب الأسلحة إلى يد بعض التنظيمات الإرهابية بسبب حالات الفساد التي تَطال بعض القيادات العسكرية الصومالية والمسؤولين الحكوميين في البلاد. وهو ما أشارت إليه بعض تقارير الأمم المتحدة في عام 2014م أن أسلحة الجيش الصومالي تذهب إلى السوق السوداء، وينتهي بها المطاف إلى يد العناصر الإرهابية.
كما يأتي ظهور حركة شباب المجاهدين على الساحة الصومالية، وتصاعُد نشاطها على مدار أكثر من عقد من الزمان. وسيطرتها على مناطق عدة في البلاد قبل أن تتمركز بشكل أساسي في وسط وجنوب البلاد. والتي تكثّف من عملياتها ضد القوات الحكومية وقوات بعثة الاتحاد الإفريقي في الصومال (أميصوم)، الأمر الذي يُشكّل عبئًا إضافيًّا على القوات العسكرية في البلاد، خاصةً في ظل الخسائر التي تتكبّدها بسبب هجمات الحركة.
ومن ثَمَّ، تُواجه المؤسسة العسكرية الصومالية العديد من التحديات خلال السنوات الأخيرة التي تعرقل تعزيز قدراتها وكفاءتها، فهناك ضعف في القدرات المالية التي كان لها تأثيرها في تأخير عملية صَرْف مستحقات بعض الجنود، وهو ما أدَّى إلى انسحاب بعض عناصر وحدات الجيش الصومالي من عدد من المواقع الاستراتيجية؛ مما أدى إلى سقوطها في يد حركة شباب المجاهدين. كما تشير بعض التقارير إلى أن عدم انتظام الحكومة في دَفْع رواتب العسكريين قد أدَّى ببعضهم إلى بيع أسلحتهم وذخائرها. فيما سعى البعض الآخر لأعمال إضافية. الأمر الذي دفَع واشنطن نحو تحمُّل صَرْف تلك المرتبات قبل أن تعلقها قبل ثلاث سنوات. وهنا تكمن إشكالية انتشار الفساد داخل الأوساط العسكرية والحكومية بالصومال. وهو ما تشير إليه العديد من التقارير التي تؤكد أن الأسلحة الواردة إلى الجيش الصومالي يتم بيعها في السوق السوداء، وتوزيعها على العشائر وكذلك حركة شباب المجاهدين.
كما يعاني الجيش الصومالي من ضعف القدرات التسليحية على مدار السنوات الماضية، حتى وصل الأمر إلى أن يصرح أحد قيادات الجيش الصومالي في يونيو 2014م (قائد القطاع الثالث في الجيش الصومالي) بأن قواته قد حصلت على سيارة تحمل رشاشًا ثقيلًا على سبيل الإعارة من إحدى العشائر الصومالية مجانًا؛ شريطة أن تستردها في أيّ وقت. في الوقت الذي تمتلك فيه القوات ثكنات عسكرية هشَّة دفاعيًّا، على العكس من قاعدة قوات بعثة الاتحاد الإفريقي التي تجد تأمينًا جيدًا. كما لا يوجد زيّ رسمي للقوات العسكرية الصومالية؛ فهناك من يرتدي زيًّا مدنيًّا، وهناك من يرتدي مجموعة مختلفة ومتنوعة من الأزياء العسكرية؛ منها الزي الصيني والتركي والأمريكي. فيما أشارت بعض التقارير إلى أن هناك بعض عناصر الجيش الصومالي تعود إلى منازلها يوميًّا لعدم توافر أماكن للمبيت.
كما يُرتهن تدريب الجيش الصومالي لبعض القوى الإقليمية والدولية، واستقبال بعض المعسكرات التدريبية والقواعد العسكرية على الأراضي الصومالية؛ حيث تعتمد الحكومة الصومالية على قوات خارجية مثل “أميصوم” في حماية مقارّها. وهو ما يهدّد استقلالية القرار الوطني الصومالي والسيادة الصومالية على أراضيها وقواتها العسكرية.
أما على الصعيد السياسي؛ فيظل المشهد السياسي الصومالي شديد التعقيد في ظل تصاعد الخلافات بين الأطراف السياسية الفاعلة، وتوتر العلاقات بين الحكومة الاتحادية في مقديشو وبعض الولايات الإقليمية، ممَّا ترتب عليه تزايد اهتمام الحكومة الصومالية بالملف السياسي وتصفية الحسابات مع المعارضة على حساب الملف الأهم الخاص بإعادة بناء المؤسسة العسكرية الصومالية، خاصة في ظل اقتراب موعد انعقاد الانتخابات الرئاسية في البلاد والمقرر لها في أوائل عام 2021م.
ولا يجب إغفال العامل الخارجي لا سيما دول الجوار الإقليمي التي ترى في استمرار الحالة الصومالية بهذا الضعف والتخبط منفعة لها، وأن وجود دولة صومالية قوية يهدّد نفوذها الإقليمي في المنطقة، كما يفتح المجال أمام مطالبات صومالية باستعادة بعض المناطق إلى سيادتها؛ لا سيما الإقليم الصومالي “أوجادين” في إثيوبيا، والمقاطعة الشمالية الشرقية “إنفدي” في كينيا.
ومن ثم، هناك ثمة ممانعة من بعض دول المنطقة تستهدف تعطيل تشكيل الجيش الصومالي في سبيل الحفاظ على مصالحها الاستراتيجية التي تستمر باستمرار غياب دور صومالي كان يمثل قوة إقليمية مؤثرة في موازنة الدورين الإثيوبي والكيني في المنطقة في مرحلة زمنية سابقة.
وهنا تبرز أهمية بناء قوة عسكرية صومالية متمثلة في جيش وطني موحَّد قويّ من أجل استعادة الدولة في الصومال، والحيلولة دون انفراط العقد في ظل تصاعد النزعات الانفصالية، والسيطرة على كامل الأراضي الصومالية، والنجاح في القضاء على كل من حركة شباب المجاهدين وتنظيم الدولة “داعش” وطردهم من المناطق التي تسيطر عليها في البلاد. فضلًا عن حماية حدود الدولة، وسواحلها البحرية من عمليات القرصنة والإرهاب، وحماية مواردها من الاستنزاف، ودرع كافة القوى المتربصة بالدولة الصومالية، علاوةً على احتواء أية انشقاقات أو حالات تمرد مِن قِبَل بعض القبائل والعشائر المتمردة. ولا يعني ذلك أن استعادة الدولة الصومالية قوتها يتوقف على بناء جيش قويّ فقط، لكن وجوده يمثل حجر زاوية في مستقبل الدولة التي تعاني من تصاعد نشاط بعض التنظيمات الإرهابية، وهو ما كانت تداعياته سلبية على الاستقرار السياسي والاقتصادي والأمني والتنموي في البلاد على مدار السنوات السابقة.
ومع اقتراب انسحاب قوات البعثة الإفريقية -التي يبلغ عددها نحو 20 ألف جندي تقريبًا- من الصومال بحلول 2021م، تحاول الحكومة الصومالية تصدير رسالة اطمئنان إلى المجتمع الدولي بقدرة القوات المسلحة الصومالية على تسلُّم المسؤولية الأمنية في عموم البلاد، خاصةً في ضوء التوافق الدولي على أهمية دعم الصومال في بناء وتقوية قوتها العسكرية؛ وفقًا لما أشار إليه ميثاق لندن للأمن الذي عُقِدَ في عام 2017م. وهو ما دفَع الحكومة الصومالية إلى الإعلان في مارس 2018م عن خطتها الانتقالية من أجل تسلُّم المسؤولية من بعثة الاتحاد الإفريقي في البلاد في عام 2021م، خاصةً أنَّ خطة الأمن القومي الصومالية أكَّدت على ضرورة بناء جيش وطني مؤلّف من 18 ألف جنديّ تُموّله الحكومة الصومالية بهدف نشره في أرجاء البلاد المختلفة. إلا أن هناك الكثير من العراقيل التي تَحُول دون تحقيق القوات العسكرية الصومالية أيّ إنجاز في هذا الشأن؛ من أبرزها: عدم جاهزيتها بشكل جيد حتى الآن لتتحمل المسؤولية.
ثانيًا: الأدوار الإقليمية والدولية
هناك علاقة ارتباطية بين اعتماد الصومال على المزيد من المساعدات في كافة المجالات لا سيما العسكرية، وعمليات التكالب والتنافس الدولي والإقليمي على منطقة القرن الإفريقي؛ من أجل النفوذ والهيمنة هناك. الأمر الذي دفَع عددًا من القوى إلى تعزيز التعاون مع الحكومة الصومالية، لا سيما في مجال التعاون العسكري والتدريب. بحيث أضحت عملية بناء الجيش الصومالي بمثابة “الغنيمة” التي يريد أن يتقاسمها العديد من القوى الساعية لمزيد من النفوذ في المنطقة والقارة تحت ذريعة المساهمة في محاربة الإرهاب وبناء الدولة الصومالية.
هناك عدد من القوى الإقليمية والدولية التي دخلت إلى ميدان تدريب الجيش الصومالي خلال السنوات القليلة الماضية؛ تتمثل أبرزها في:
1- الولايات المتحدة الأمريكية:
أنفقت واشنطن في الفترة ما بين 2010 و2017م نحو 66 مليون دولار في شكل رواتب للجيش الصومالي، إلا أنها قامت بتجميد وتعليق البرنامج عدة مرات؛ لتشككها في وصول الرواتب إلى الجنود الصوماليين. فقد أشارت بعض التقارير إلى أن أعضاء فرقة موسيقية عسكرية صومالية تتألف من 259 عنصرًا كان يتلقون رواتب مخصَّصة لجنود يقاتلون حركة الشباب الصومالية.
وتقوم الفرقة العاشرة الجبلية الأمريكية بتدريب كتيبة “داناب” Danab -قوات الصاعقة في الجيش الصومالي-، وسوف تنتهي من تدريبها بحلول 2027. ومن المقرر أن يكون عددها 5000 عنصر، وتعتبر رأس حربة في عمليات الجيش الصومالي ضد الإرهاب في البلاد- في معسكر “فورت دروم” بنيويورك. وبدأت تلك التدريبات منذ عام 2017م، بهدف المساعدة في بناء قطاع لوجستي للجيش الصومالي. هذا التدريب هو عبارة عن دورة لوجستية متعددة الأوجه. وقد تبرعت واشنطن بعدد من المعدات اللوجستية للجيش الصومالي مثل الرافعات الشوكية والجرارات وشاحنات الوقود، وتبلغ قيمتها نحو 6.5 ملايين دولار. وقد تخرج في عام 2017م نحو 60 جندي من كتيبة داناب كأخصائيين في الخدمات اللوجستية. وشارك في عام 2018م نحو 31 جنديًّا صوماليًّا. وقد تضاعفت فترة التدريب في هذا العام عما كانت عليه في عام 2017م.
كما قامت واشنطن بتدريب وتوفير النقل الجوي لقوات كتيبة “غاشان” أو الدرع Gashaan التي تتألف من وحدتي ألفا وبرافو Alpha/Bravo وهي قوات تابعة للجيش الصومالي، ولها دور في حماية الأصول الحكومية. ويبلغ عدد عناصرها 3000 جندي؛ حيث أُسند لها مهمة حماية الرئيس الصومالي محمد عبد الله “فرماجو”.
وقد طوَّرت الولايات المتحدة عملياتها العسكرية في الصومال خلال السنوات القليلة الماضية، واستطاعت بناء قواعد عسكرية سرّية في الصومال؛ منها قاعدة في مطار “بلي دوغلي” تتلقى فيها التدريب بعض القوات الخاصة الصومالية، لا سيما كتيبة داناب. في الوقت الذي شهد تعاقد الحكومة الصومالية مع إحدى الشركات الأمريكية (مجموعة سونوران للسياسة) في أغسطس 2018م بمقابل 100 ألف دولار لمساعدتها في رفع الحظر الذي تفرضه الإدارة الأمريكية على الجيش الصومالي؛ خاصةً بعدما أوقفت واشنطن الدعم المقدم إلى الجيش في عام 2017م بسبب انتشار الفساد.
2- تركيا:
تعتبر أنقرة حليفًا استراتيجيًّا للنظام الحاكم في الصومال منذ صعوده إلى السلطة في 2017م، وعليه فقد قامت بتقديم العديد من المساعدات في شتى المجالات؛ لا سيما في مجال التعاون العسكري. فقد استقبلت أنقرة ضباطًا وجنودًا صوماليين للتدريب العسكري؛ بهدف تأهيل عناصر الجيش الصومالي؛ حيث تتلقى كتيبة جورجور GorGor (النسر) -قوة عسكرية من النخبة/قوات خاصة في الجيش الصومالي، وتعمل على تعزيز جهود القوات المسلحة لإرساء السلام في وسط وجنوب البلاد، ويبلغ عدد قواتها حوالي 2000 عنصر- تدريبها في أكاديمية “إسبارتا” للقوات الخاصة في تركيا. كما بدأت تركيا في تدريب فرقة Guulwade (حامل النصر)، وهي ضمن القوات الخاصة الصومالية، وتتكون عناصرها من 5000 جندي وضابط.
وكانت أنقرة قد وعدت في يناير 2018م الحكومة الصومالية بتزويدها بأسلحة متطورة تساعدها في هزيمة حركة الشباب الصومالية. كما افتتحت في 30 سبتمبر 2018م أكبر قاعدة عسكرية لها خارج حدودها في جنوب العاصمة الصومالية مقديشو بمساحة قدرها 4 كيلومترات مربع، بتكلفة بلغت 50 مليون دولار. وقد أنقرة قد أسَّستها بهدف إعادة بناء الجيش الصومالي، ودعمه، وتحسين البنية التحتية والأنظمة اللوجستية له، والمساهمة في إحلال السلام والاستقرار في البلاد. وتصل تقديرات أفراد الجيش الصومالي الذين يتلقون التدريبات العسكرية فيها بحوالي 10 آلاف جندي وضابط صومالي.
وتقوم القاعدة بتخريج دفعات من الجيش الصومالي. ففي عام 2017م تم تخريج حوالي 150 ضابطًا صوماليًّا منها. وفي عام 2018م تخرج 47 ضابط صف، منهم 37 من القوات البرية، و5 من القوات البحرية، و5 من القوات الجوية، وفوج ثالث من قوات المشاة. كما تبني أنقرة المقر الجديد للشرطة الخاصة الصومالية (الفهد) في مقديشو منذ ديسمبر 2019م.
3- بريطانيا:
قدمت بريطانيا بعض المساعدات للجيش الصومالي خلال العقد الأخير؛ ففي عام 2016 قدمت لندن تبرعًا بقيمة تتجاوز 4.3 ملايين دولار للجيش الصومالي؛ بهدف تمويل إمداداته اللوجستية والطبية للمساهمة في الحرب ضد حركة الشباب الصومالية. كما تقوم لندن بتدريب الفرقة 60 من الجيش الصومالي في مركز القوات البريطانية في بيدوا جنوب مقديشو الذي يُعدّ أكبر معسكر تدريبي عسكري لبريطانيا في إفريقيا.
4- بعض القوى الفاعلة الأخرى:
تستعين الحكومة الصومالية بخبرات عددٍ من الدول في تدريب عناصر الجيش الصومالي؛ حيث تقوم بإرسال وحدات من الجيش الصومالي منذ عام 2014م إلى دول إيطاليا وجيبوتي وأوغندا ومصر والسودان لتلقّي التدريب العسكري والقتالي بهدف رفع الكفاءة القتالية للجيش الصومالي.
ويقوم الاتحاد الأوروبي بدور فعَّال في عملية بناء الجيش الصومالي من خلال تقديم المساعدات المالية والخبرات. فقد أسَّس الاتحاد في العاصمة الأوغندية كمبالا مركزًا لتدريب القوات الصومالية، بمساهمة من نحو 14 دولة أوروبية.
وفي ذات السياق، تُعدّ إيطاليا من الدول الداعمة للصومال لا سيما في القطاع الأمني، ففي عام 2015م تسلمت الحكومة الصومالية نحو 54 عربة عسكرية من إيطاليا للجيش والأمن والاستخبارات. كما زارت وزيرة الدفاع الإيطالية البلاد في أبريل 2019م لمناقشة سُبُل رَفْع مستوى التعاون العسكري بين البلدين. ويوجد بعض الجنود الإيطاليين ضمن قوة الاتحاد الأوروبي الداعمة لقوات بعثة الاتحاد الإفريقي في الصومال “أميصوم”. كما أسهمت إيطاليا في إعادة تشغيل مستشفى الجيش الصومالي.
كما تسهم ألمانيا في تدريب الجيش الصومالي من خلال 20 جنديًا لتدريب عناصر الجيش الصومالي. وشارك 9 جنود ألمان في مهمة للاتحاد الأوروبي لتدريب والقوات المسلحة الصومالية في مقديشو في 2017م. ويمكن القول بأن ألمانيا قد استطاعت تدريب أكثر من 5400 جندي صومالي منذ عام 2010م.
وعلى الصعيد الإفريقي؛ قامت الحكومة الصومالية بإرسال عدد من جنودها للتدريب في عدد من الدول الإفريقية مثل جيبوتي وأوغندا وإريتريا ومصر والسودان؛ حيث أرسلت حكومة مقديشو نحو 500-600 جندي إلى إريتريا في سبتمبر 2019م من وحدات الجيش والشرطة والمخابرات بهدف التدريب.
فيما تمتلك قطر قاعدة عسكرية/ أكاديمية عسكرية في الصومال لتدريب الجيش الصومالي.
وقد قادت الإمارات مهمة تدريب القوات الصومالية منذ عام 2014م قبل أن تنسحب في أبريل 2018م على خلفية التوتر السياسي بين الحكومتين. كما تقرر إغلاق مركز التدريب الإماراتي في مقديشو الذي كان يدرب نحو 2407 جنود صوماليين، وذلك عقب احتجاز الحكومة الصومالية طائرة إماراتية والاستحواذ على مبالغ مالية بها.
ثالثًا: فرص وتحديات بناء جيش صومالي قوي
ثمة فرص وتحديات تواجه عملية بناء الجيش الوطني الصومالي في ضوء تشابك التفاعلات الداخلية والإقليمية والدولية في المنطقة التي تُمثّل ساحة كبرى للتنافس بين القوى المختلفة؛ نظرًا لأهميتها الجيوبوليتيكية.
1- الفرص:
وتتمثل أبرزها في:
– الإرادة الشعبية: حيث إن هناك رغبة قوية لدى قطاعات كبيرة من الصوماليين في بناء جيش وطني قوي، ويدلل على ذلك بعض التقارير التي تفيد بانضمام قطاع كبير من الشباب الصومالي إلى الجيش الصومالي خلال السنوات الأخيرة، خاصةً في ظل ارتفاع نسبة الشباب في التركيبة السكانية للبلاد. إلَّا أنَّ تلك الإرادة الشعبية يجب أن تتماهى معها إرادة سياسية قوية لاتخاذ خطوات جادة وسريعة في هذا الصدد.
– تسوية الخلافات السياسية: هناك ضرورة حتمية إلى تسوية كافة الخلافات السياسية بين الحكومة الاتحادية الصومالية وبعض الولايات المعارضة، وتصدير الحكومة رسالة اطمئنان لكافة الولايات والعشائر لإقناعهم بأهمية وجود جيش موحد قويّ يدافع عن الصومال، وليس أداة في يد الحكومة للتنكيل بها.
– تمكين الخبرات العسكرية: حيث يتخرج عدد كبير من العناصر العسكرية الصومالية من بعض الأكاديميات العسكرية والمعاهد الأوروبية والإفريقية. وبالتالي يتوافر العنصر البشري المدعوم بخبرات واسعة يمكن الاستفادة منها في عملية تدعيم الجيش الوطني الصومالي.
– الإرادة الدولية: هناك ضرورة لتوافر الاهتمام الدولي بأهمية إعادة بناء الجيش الصومالي، ومن ثم التنسيق بين القوى الدولية والإقليمية، بحيث تقدم العديد من القوى مساهماتها في هذا الصدد؛ من خلال تقديم خبراتها بهدف تدريب القوات الصومالية، وتقديم المساعدات العسكرية والمالية، فضلًا عن تأسيس بعض القواعد العسكرية ومراكز التدريب بهدف تدريب القوات بالجيش الصومالي. والقيام ببعض الأدوار التي تعزز مسار بناء وتعزيز قدرات الجيش الصومالي، ممَّا يعزّز من الخطوات المتسارعة وُصُولًا إلى الهدف المرجوّ.
2- التحديات:
وتتمثل أبرزها في:
– غياب الإرادة السياسية: حيث إن غياب الإرادة الحقيقية لدى القيادة السياسية، وانشغال النخبة بالسياسة والانتخابات الرئاسية المقبلة على حساب بناء المؤسسات الأمنية؛ من العوامل التي تعرقل المساعي الرامية إلى تشكيل جيش قوي موحد في البلاد. كما أن الأمر يتعلق أيضًا بأسباب أخرى متعلقة بالتخوف من فقدان بعض الساسة لنفوذهم في البلاد.
– غياب الثقة بين الأطراف السياسية الفاعلة: في ظل تفاقم الخلافات السياسية والتوترات بين الولايات الصومالية والحكومة الاتحادية، واستبعاد أيّ فرصة للتوافق في المدى المنظور؛ خاصةً في ضوء المنافسة الشديدة بين الطرفين للحشد والتعبئة من أجل الانتخابات الرئاسية المقبلة في البلاد.
– طابع القبلية: يُمثّل عاملًا حاسمًا في عملية انهيار الجيش الصومالي، وليس الجيش وحده، بل كلّ مؤسسات الدولة الصومالية. فالانتماء العشائري لأفراد الجيش الصومالي الذي يتم التسجيل بشأنه على أساس المحاصصة القبلية (4.5) المتعارف عليها في تقاسم السلطة السياسية في الصومال قبل ذلك، يجعل ولاء أفراد الجيش للعشائر التي ينتمون إليها، ما لم يتم الانتقال من النظام القبلي العشائري إلى النظام الدستوري والمؤسساتي.
– الاستئثار القبلي على المناصب العليا: حيث تسيطر عشيرة “هوية” على المناصب العليا للقيادة العسكرية في الجيش الصومالي. كما أن غالبية أفراد القوات المسلحة الصومالية ينتمون لنفس العشيرة. في حين تتنافس عشيرة “هوية” مع عشيرة “طارود” على مناصب الدولة العليا. الأمر الذي يثير القلق بالنسبة للعشائر الأخرى التي تُبْدِي تخوفاتها من التنكيل والانتقام والمزيد من السيطرة.
– صعوبة دَمْج قوات الولايات في الجيش المركزي: حيث تمتلك الولايات الصومالية قوات عسكرية خاصة بها، إلا أنه في ضوء الخلافات القائمة بينها وبين الحكومة المركزية يستبعد أيّ عملية دمج لتلك القوات في الجيش الوطني الصومالي، وذلك بحجة اختلاف طبيعة القوات العسكرية وتعدد انتماءاتهم، خاصةً أن هناك عشيرة واحدة يسيطر أبناؤها على المناصب العسكرية العليا، وهو ما يُهمّش دور العشائر الأخرى، ويثير القلق باحتمالية قيام الجيش باضطهاد القبائل الأخرى. كما أن هناك رفضًا بين العشائر الصومالية المختلفة لوجود عناصر عسكرية من قبائل أخرى؛ وهو ما يصعّب من مهمة القوات العسكرية في المستقبل.
– مخاطر الإرهاب في البلاد: يمثل الإرهاب عائقًا كبيرًا أمام أية تحركات إيجابية في الصومال؛ حيث توسّع الحركة من عملياتها واستهدافها للقوات الصومالية، كما استطاعت أن تُلحق خسائر بين صفوف الجيش الصومالي، مع اتباعها لتكتيكات عسكرية جديدة ونوعية بحيث أضحت تسيطر على مناطق عدة في وسط وجنوب البلاد.
– ضعف القدرات المادية: حيث لا تمتلك الصومال الإمكانيات المادية اللازمة لتكوين جيش قوي وما يتطلبه من أسلحة وتدريب وتوفير الرواتب، خاصة أن تأخير عملية صرف المستحقات للجنود تُولّد حالة من الغضب والاستياء مع نزعات للتمرد والهروب من الخدمة العسكرية، مثلما شهدت البلاد في عام 2015م حينما تمرد بعض الجنود الصوماليين، وهددوا بعودتهم إلى عشائرهم أو الانضمام إلى حركة الشباب الصومالية وحمل السلاح ضد الدولة الصومالية.
– الفساد: يتورط بعض القيادات العسكرية الصومالية في قضايا فساد مالي، وهو ما يتعلق برواتب الجنود، فضلًا عن بيع الأسلحة المخصَّصة للجيش الصومالي في السوق السوداء؛ الأمر الذي دفع تقريرًا دوليًّا صدر في عام 2017م إلى المطالبة بتطبيق أنظمة إلكترونية للرواتب بهدف الحد من الفساد.
– الممانعة الإقليمية: ثمة ممانعة إقليمية من بعض القوى مثل إثيوبيا وكينيا بخصوص استعادة بناء جيش قوي في الصومال، واستعادة الدولة الصومالية بريقها؛ خوفًا على الدور الإقليمي، وخوفًا من المطالبة بأجزاء من أراضيها التي تم اقتطاعها مِن قِبَل الدولتين منذ عقود مضت. وبالتالي لن تكون هناك رغبة قوية لدى بعض دول الجوار في دولة صومالية قوية.
– العامل الخارجي: يبدو العامل الخارجي مُؤثرًا بالنسبة للدول الصومالية فيما يتعلق بالتعاون العسكري، حيث تعتمد الحكومة الصومالية بشكل كبير في عملية دفع رواتب الجنود على بعض الدول الأجنبية، كذلك الأمر فيما يتعلق بتدريب عناصر الجيش الصومالي، والحصول على الأسلحة لمحاربة الإرهاب وتحقيق الأمن في البلاد. وهو ما يؤثر بالتأكيد على استقلالية القرار في المؤسسة العسكرية الصومالية.
في سياق آخر، يتضح عدم وجود تنسيق بين القوى الخارجية المتعاونة مع الحكومة الصومالية فيما يتعلق بتدريب الجيش الصومالي؛ حيث يعمل كل طرف بشكل منفرد لتحقيق مصالحه الاستراتيجية الضيقة في الصومال والمنطقة. وهو ما يمثل تحديًا كبيرًا أمام عملية بناء الجيش الوطني الصومالي.
رابعًا: هل بإمكان الصومال بناء جيش وطني موحَّد؟
بالنظر إلى بعض التجارب الإفريقية في عمليات بناء الجيوش الوطنية بعد الصراعات والحروب الداخلية، نجد أن التجربة الصومالية من السهل أن تنجح في هذا الشأن؛ شريطةَ أن تتضافر كافة الجهود الداخلية والدولية، وأن يتم تجاوز كافة التحديات والعراقيل من أجل بناء جيش وطني قوي يُعيد الأمن والاستقرار المفقود منذ سنوات طويلة. فهناك التجربة الرواندية التي نجحت فيها قوة الإرادة السياسية لقادة الجبهة الوطنية في تخطّي التحديات في سبيل بناء جيش وطني مُوحَّد بعد أحداث الإبادة الجماعية التي شهدتها البلاد في عام 1994م.
ومن هنا يجب التأكيد على شرط توافر الإرادة السياسية لتحقيق الهدف المنشود ببناء جيش قوي للصومال، والتأكيد أيضًا على أنَّ عملية إعادة بناء الجيش الصومالي ستكون صعبة المنال في ضوء عدم التوصل إلى رؤية وطنية جامعة؛ الأمر الذي يجعل الحاجة مُلِحَّة إلى عقد مصالحة وطنية شاملة تضمّ كافَّة الأطراف السياسية لتحقيق التوافق، فضلًا عن تسوية الخلافات مع الولايات الإقليمية، وترسيخ عقيدة تُعلي من الولاء للوطن، وليس للعشائر وزعماء القبائل، أضف إلى ذلك محاربة الفساد، وتعزيز الشفافية في المؤسسة العسكرية وكافة مؤسسات الدولة. والمُضِيّ قُدُمًا نحو فتح وبناء المزيد من المعسكرات التدريبية والأكاديميات العسكرية الصومالية.
وتأتي أهمية تلك الشروط في ظل بعض التوقعات بشأن مستقبل الأمن في الصومال، والتي تشير إلى أنَّ مَنْ سيحلُّ محلّ قوات بعثة الاتحاد الإفريقي “أميصوم” عدد من الشركات الأمنية الخاصة والبعثات الأممية لحفظ السلام، وهو ما يُهدّد مستقبل الدولة الصومالية والاستقرار في المنطقة ككل.
في سياق متَّصل، ومع تعدُّد الشركاء الدوليين في مجال التعاون العسكري والأمني مع الصومال؛ يلعب غياب التنسيق فيما بينها دورًا سلبيًا في عملية تسريع وتطوير بناء الجيش الصومالي، في ظل تنوُّع واختلاف البرامج التي يستخدمها كلّ طرف بالنسبة للقوات الصومالية، وهو ما يستدعي النظر إلى تجربة سيراليون عند تدريب جيشها الجديد حيث شكَّل الشركاء الدوليون فريقًا بقيادة بريطانيا لتنفيذ هذا التدريب بنجاح.
يتبقى إلقاء نظرة على الغياب العربي غير المُبرَّر عن الصومال، وتحديدًا في عملية إعادة تشكيل وبناء الجيش الوطني الصومالي بشكلٍ قَوِيّ، وهو ما يَخْصم من الرصيد العربي في الصومال وفي المنطقة؛ مما يهدّد مستقبل ودور القوى العربية الفاعلة في القرن الإفريقي، وتعزيز حضور العديد من القوى المناوئة للأطراف العربية الفاعلة في المنطقة خلال الفترة المقبلة. فلا تزال الصومال تُمثّل عمقًا استراتيجيًّا مهمًّا للأمن القوميّ العربيّ.