احتفلت دول القارة الإفريقية يوم 25 مايو الماضي بيوم القارة السمراء؛ احتفالات تنوعت بين بيانات وفعاليات رسمية مكثّفة في شتى أرجاء القارة، ودعوات لتحقيق القارة لإنجازات تنموية واقتصادية وسياسية منوعة.
ومع خفوت هذا الاحتفاء السنوي تتصاعد قضايا القارة مرة أخرى بعد تغيرات دولية مهمة منذ تولّي الرئيس الأمريكي دونالد ترامب قيادة بلاده، وارتباك ردود أفعال الدول الإفريقية على هذه التغيرات.
تقدم الميديا الصينية في المقال الأول سردية مهمة للقهوة الإفريقية كرمز للاستغلال والنهب الاستعماري، وكذلك طموح الدول الإفريقية لتحقيق استقلالية في صناعة القهوة العالمية ونيلها الأرباح المستحقَّة من هذه الصناعة، بدلًا من استدامة نهب الشركات الدولية لها بتكريس تقسيم عمل جائر في هذه الصناعة منذ نهاية القرن التاسع عشر بحسب سرد المقال.
أما المقال الثاني فيتناول بإيجاز تغيير الولايات المتحدة “عقيدتها العسكرية والأمنية” في القارة الإفريقية لصالح انسحاب تدريجي من شؤون القارة، وربما ترك التهديدات تتفاقم بها حتى تتوصل تلك الدولة في النهاية لخلاصة وجوب اللجوء لواشنطن مهما كانت مشروطيات الأخيرة.
وجاء المقال الثالث كاشفًا لواحدة من أعمق الأزمات التي تُواجه دول القارة الإفريقية، وهي تجدد تصاعد وباء جدري القرود، وربط ذلك بقطع واشنطن مساعداتها للقطاع الصحي في عدد كبير من الدول الإفريقية (ويركز المقال على دولة مالاوي).
وتبدو في المحصلة قضايا القارة الإفريقية الراهنة أشد وطأة من احتفالات سنوية بيوم القارة، مع تراجع قدرات العمل الجماعي بها لمستويات مقلقة للغاية.
ما وراء قصة القهوة: نضال إفريقيا ضد الاستعمار([1])
إن لشرق إفريقيا، الذي تقع فيه كينيا المعروفة بزراعة القهوة وصُنعها، رابطة لا انفصام لها مع القهوة، فيما يتم الاحتفاء بإثيوبيا، في القرن الإفريقي، باعتبارها مهد القهوة. ويعشق عشاق القهوة حول العالم ماركات كينية وإثيوبية شهيرة في صنع القهوة، كما يتزايد الطلب العالمي على منتجات هذه الماركات. ويمثل الانتقال من “زُرعت في إفريقيا” إلى “جاءت من إفريقيا” ما تحمله حبّة القهوة المتواضعة من إرث مؤلم للاستعمار والاستغلال. واليوم، باتت حبة القهوة السحرية رمزًا للصمود والاعتماد على الذات في إفريقيا والجنوب العالمي، مما يدل على موجة جديدة صاعدة من هذا الجنوب.
يُنظَر للقهوة عادة على أنها هدية غير متوقعة من إفريقيا. وتقول الأسطورة: إنه في حوالي العام 800 الميلادي، في إقليم كافا Kaffa في جنوبي إثيوبيا، لاحَظ راعي غنم اسمه كالدا أن أغنامه تصبح فجأة نشطة بعد مضغ حبات حمراء من شجيرة غير مألوفة. وحاول كالدي، بدافع من الفضول، أكلها بنفسه ووجد في نفسه طاقة واضحة على الفور. وشارك اكتشافه مع أحد الأديرة المحلية؛ حيث كان رهبانه متشككون بداية، غير أنهم وجدوا أن الشراب الذي صنعوه من هذه الثمرات الحمراء ساعدتهم على البقاء متيقظين خلال ساعات طويلة من الصلوات.
وقُبلت الحكاية -على الرغم من رجحان كونها مُلفَّقة- على نطاق واسع كقصة اكتشاف القهوة الأصلية، مع القناعة بأنّ كلمة قوة Coffee مشتقة من اسم إقليم كافا Kaffa الذي اكتُشِفَت فيه القهوة أول مرة.
واليوم تظل القهوة جزءًا رئيسًا في الثقافة الإثيوبية مع تعبيرات من قبيل “بونا دابو ناوي” (أي القهوة خبزنا) تُجسِّد أهمية هذا المحصول. وثمة قناعة بأن نوعَي القهوة المعروفين بالأرابيكا والروبستا، وهما البديلان الأشهر في القهوة عالميًّا، يعودان إلى إفريقيا. إذ يُوفّر مناخ الأراضي المرتفعة في شرق إفريقيا حالة مثالية لزراعة حبوب الأرابيكا، فيما توفّر أقاليم الأراضي المنخفضة في الأجزاء الوسطى والغربية من شرق إفريقيا تربة ملائمة تمامًا لزراعة الروبستا. ويلعب النوعان أدوارًا مهمة في صناعة القهوة العالمية، والعمل على تنويع تفضيلات المستهلكين، ودعم اقتصادات الأقاليم المُنتِجَة للقهوة في العالم.
كما يقدم إقليم البحيرات الكبرى (هلالي الشكل)، -بمناخه الاستوائي وتربته الملائمين تمامًا لزراعة القهوة-، بيئة مثالية لزراعة قهوة الروبستا. ولطالما اعترف بهذه المنطقة، التي تتسم بتربتها الخصبة وسقوط الأمطار المستمر، موطنًا أصليًّا لأشجار قهوة الروبستا البرية. وطوال قرون غزت أشجار قهوة الروبستا غابات أوغندا الطبيعية. قبل وقت طويل من وصول المستعمرين الأوروبيين؛ حيث كان شعب الباغندا قد بدأ بالفعل في زراعة القهوة.
واليوم، فإن ثمة أقاليم إفريقية أخرى تقوم بزراعة القهوة مثل المناطق المحيطة بجبل إلجون Elgon، ومرتفعات روينزوري Rwenzori Mountains؛ حيث لا تزال بعض أشجار القهوة العتيقة قائمة، وتدل على إرث البلاد العتيق في زراعة القهوة. وفيما يتصل بهذا الإرث تبدأ الكاتبة الدانماركية كارين بليكسن Karen Blixen مذكراتها التي حملت عنوان “الخروج من إفريقيا” Out of Africa الصادر في العام 1937م، بسطر أيقوني يُقرأ على النحو التالي: “كانت لديَّ مزرعة في إفريقيا، عند سفح تلال نجونج. ويمر خط الاستواء بهذه المرتفعات، على مسافة مائة ميل إلى الشمال، وتقع المزرعة على ارتفاع أكثر من ستة آلاف قدم”.
وتستعرض بليكسن في هذا الكتاب تجاربها في الفترة من 1914 إلى 1931م، والتي أدارت خلالها مزرعة قهوة في شرق إفريقيا البريطانية، كينيا الحالية. وتقدّم رؤاها نظرة مهمة في تعقيدات الاستعمار والتحولات الشخصية التي مرت بها خلال وقت وجودها في إفريقيا.
وفي نهاية القرن التاسع عشر، وبدوافع الربح، استولت القوى الاستعمارية بالقوة على الأراضي من المجتمعات المحلية في شرق إفريقيا لإقامة مزارع للمحاصيل النقدية مثل القهوة. وفي العام 1893م أدخل المبشرون الفرنسيون القهوة إلى كينيا، وزرعوا أول بذور متنوعة من البوربون Bourbon التي تم جلبها من جزيرة رينيون قرب نيروبي. وبعدها بعامين، في العام 1895م، أعلنت الحكومة البريطانية الإقليم باسم “محمية شرق إفريقيا البريطانية”، وفي العام 1920م أصبحت مستعمرة كينيا تحت الحكم الاستعماري البريطاني.
ووضعت الإدارة الاستعمارية البريطانية، التي أدركت حجم أرباح المحاصيل النقدية، أولوية لزراعة القهوة. وحددت المرتفعات الوسطى –التي تتصف بالتربة البركانية الخصبة، التي ترتفع ما بين 1500 و2000 متر، وذات مناخ معتدل-؛ كمواقع مثالية لزراعة قهوة الأرابيكا، مما قاد بدوره إلى تحوُّل تجاري سريع لزراعة القهوة في كينيا.
على أيّ حال، فإن دعوة إفريقيا للانتقال لمرحلة ما بعد كونها مجرد مورد للمواد الخام في صناعة القهوة العالمية تتخذ شكلًا أكثر قوة في الدولة المنتجة للقهوة مثل كينيا وإثيوبيا وأوغندا. وعلى سبيل المثال فإن من إستراتيجيات كينيا لتحقيق مثل هذا الهدف كان تكوين تعاونيات قهوة لصغار الملاك. ووفقًا لجمعية القهوة الإفريقية الممتازة فإن قطاع القهوة في كينيا يتكون من نحو 800 ألف مزارع من صغار الملاك الذين ينتظمون بدورهم في نحو 500 تعاونية.
الولايات المتحدة تُغيِّر إستراتيجيتها في إفريقيا مع تنامي حركات التمرُّد([2])
ينتقل الجيش الأمريكي حاليًّا من تركيزه التقليدي لفترة ممتدة على الحوكمة والتنمية في إفريقيا، وبدلًا من ذلك تزايد حثّ واشنطن للحلفاء الضعفاء على تولّي مسؤولية أكبر في مسألة أمنها. وقد أكد الجنرال مايكل لانجلي M. Langley، قائد القيادة الأمريكية في إفريقيا أفريكوم، خلال فعاليات مناورة الأسد الإفريقي 2025م، والتي تُوصَف بأنها أكبر مناورات عسكرية مشتركة في القارة، على الحاجة إلى “عمليات (عسكرية وأمنية) مستقلة”، وما وصفه “بالمشاركة في العبء”.
وبينما كانت قوات من أكثر من 40 دولة إفريقية تتدرب على تكتيكات القتال وحرب المُسيَّرات فإن الرسالة الأمريكية التقليدية التي تم نشرها سابقًا بمقاربة “الحكومة بأكملها”، قد تداعت. ويتسم التغيير الذي أطلقه عهد ترامب بالدفع نحو وضع أولوية للدفاع الداخلي (عن الولايات المتحدة) وخفض المواقع العسكرية الخارجية حتى مع صعود التهديدات مِن قِبَل الجماعات المتطرفة.
ومع كسب تلك الجماعات أراضي جديدة، واعتبار إفريقيا الآن المركز الرئيس لأنشطة القاعدة وداعش تظل الكثير من القوى المحلية دون التجهيز المعقول. واعترف لانجلي بأن جيش الصومال لا يزال يعاني بالرغم من سنوات الدعم الأمريكي له. ويحذر محللون من أن تراجع الدعم الغربي (لمواجهة الإرهاب)، لا سيما في أقاليم هشَّة مثل الساحل، سوف يُهدّد بتفشّي المتطرفين بالتوازي مع ضعف الحوكمة وفقر البنية الأساسية في الإقليم.
مالاوي تُواجه جدري القرود مع ارتفاع حالات الإصابة بالمرض في إفريقيا([3])
أعلنت وزارة الصحة في مالاوي (25 مايو) عن ثلاثة حالات جديدة للإصابة بجدري القرود في العاصمة ليلونجوي، مما رفع عدد الحالات المُؤكّد إصابتها إلى 11 حالة منذ إعلان البلاد عن وجود حالات في أبريل الماضي.
ومالاوي واحدة من 16 دولة في إفريقيا لديها حالات انتشار وتفشي لجدري القرود، رغم بذل مسؤولي الصحة جهودًا كبيرة لمواجهة نقص الأمصال، ومحدودية القدرة على اختبار الإصابة بالفيروس، وعدم وجود أماكن كافية في المستشفيات. وقال معهد الصحة العامة بمالاوي Public Health Institute: إن أعمار المرضى تتراوح بين 17 و41 عامًا، وإنه “ثمة تحريات لإرساء مصدر محتمل للإصابة وتتبُّع مخالطي الحالات”، حسبما قالت إدارة المعهد في بيان سابق خلال الأسبوع الماضي.
وقد جاءت الحالات الأولى عقب قطع الحكومة الأمريكية مساعداتها للرعاية الصحية في مالاوي مباشرة، بما في ذلك برامج مكافحة مرض نقص المناعة المكتسبة، مما وجَّه ضربة قاصمة للقطاع الصحي في مالاوي، وزاد مخاوف تصاعد الإصابات بالمرض. وقد تأثرت برامج مكافحة الإيدز بقوة بهذا المنع الأمريكي للمعونات بحسب تصريحات ريتشارد مفولا R. Mvula الناطق باسم مكتب صحة مقاطعة ليلونجوي.
ويتمثل وجه التشابه في هذه الحالات في أنها إلى حد ما جاءت نتيجة الاشتباه بفقدان المناعة، وأن من كانوا يتلقون علاجًا مضادًّا لرجوع الفيروس مرة أخرى، قد توقفوا عن تناول علاجهم بسبب النقص الذي سبَّبته القرارات الأمريكية. ويمكن لنقص المناعة المكتسبة أن يزيد من خطورة جدري القرود وحِدّته، بينما يمكن أن يساعد علاج نقص المناعة المكتسبة الفعَّال في احتواء التهديد. أما الأفراد الذين يعيشون بمرض نقص المناعة المكتسبة فقد يواجهون شكلًا أكثر حدة من جدري القرود.
وقد كانت مالاوي على وضع التأهب منذ التفشّي العالمي لجدري القرود الذي بدأ في العام 2022م في جمهورية الكونغو الديمقراطية وفي العديد من الدول الإفريقية الأخرى. وقد أثارت أنباء ظهور الحالة الأولى في البلاد في أبريل الماضي مخاوف من وقوع تفشي الوباء (في البلاد). وبينما كانت أغلب الحالات قاصرة على “ليلونجوي”؛ فقد وُجدت حالة لطفل يبلغ عامين في مقاطعة مانجوتشي على بعد نحو 150 ميلاً (240 كم) من العاصمة.
وبينما لا تزال الحالات في مالاوي قليلة (نسبيًّا)، رغم كونها واحدة من أفقر دول العالم، فإن مرض جدري القرود تفشَّى في الإقليم ككل. وتُورد “المراكز الإفريقية لمكافحة الأمراض والوقاية منها” Africa Centers for Disease Control and Prevention (Africa CDC) نحو 52082 حالة إصابة بجدري القرود منذ بداية العام الجاري 2025م، مع وفاة أكثر من 1770 فردًا خلال فترة التفشي ككل.
وخلال مؤتمر صحفي عُقِدَ في الأسبوع الماضي أوضح مسؤولون بالمراكز الإفريقية Africa CDC أنهم باتوا يرون أنماطًا مختلفة من العدوى بين الدول. ففي سيراليون، حيث تتزايد الأعداد بشكل وبائي، فإن شكل الفيروس وفق المجموعة البيولوجية Ilb آخِذ في الانتشار. أما في جمهورية الكونغو الديمقراطية وجاراتها فإن المجموعة البيولوجية Ia وIb تهيمن على الانتشار هناك.
ويقول المسؤولون: إن القارة ستحتاج إلى نحو 6.4 مليون جرعة من المصل، لكنها لا تزال بعيدة للغاية عن نيل هذه الجرعات؛ إذ لم تحصل حتى الآن إلا على 1.3 مليون جرعة. كما كشف المسؤولون عن نقص في القدرة على إجراء الاختبارات الضرورية للكشف عن الوباء في دول كثيرة، وحذّروا من أن المرضى في سيراليون يتلقون علاجًا سيئًا لدرجة معالجة فردين معًا على سرير واحد داخل المستشفيات.
ويُواجه النظام الصحي في مالاوي الكثير من التحديات، بما فيها المسافات البعيدة التي يقطعها المواطنون للوصول إلى العيادات، وعدم كفاية التمويل، ونقص الأجهزة والافتقار للأطباء المُدرّبين والمُؤهّلين. ففي مارس من العام الجاري لفت برنامج الأمم المتحدة المشترك لمواجهة الإيدز الانتباه إلى التهديدات الآنية لقطع الولايات المتحدة تمويلها لبرامج مواجهة الإيدز في مالاوي. وكانت الحكومة الأمريكية تقدم أكثر من 350 مليون دولار لمالاوي سنويًّا وفق بيانات وزارة الخارجية الأمريكية.
……………………………………….