تركزت جهود واشنطن لإعادة صياغة علاقاتها بالقارة الإفريقية وفق مبادئ جديدة في حالة جنوب إفريقيا؛ التي تملك بدورها علاقات اقتصادية مهمة مع الولايات المتحدة، لاسيما أنها ظلت طوال عقود ممتدة الوجهة الأولى للاستثمارات الأمريكية في القارة الإفريقية.
يتناول المقال الأول ملامح الحرب الأمريكية- الجنوب إفريقية الدائرة راهنًا في قطاع الاتصالات وصلته بشخصية الملياردير الأمريكي (من أصل جنوب إفريقي) إيلون ماسك المثيرة للجدل والتي يبدو أنها توجه سياسات أمريكا الإفريقية بشكل أو بآخر مع تأخر البيت الأبيض في تثبيت الوظائف الدبلوماسية المعنية بالشأن الإفريقي على نحو مؤسساتي تقليدي رغم مرور نحو ثلاثة شهور على تقلد الرئيس الأمريكي دونالد ترامب مهام منصبه.
أما المقال الثاني فيضع هذه الحرب الأمريكية- الجنوب إفريقية في سياق أكبر وهو سياسات واشنطن الإفريقية وآفاق استمرار أزمتها مع بريتوريا مستقبلًا.
ويتناول المقال الثالث وضع جنوب إفريقيا وسكانها البيض في سياسات ترامب التي تمنع تدفق مزيد من اللاجئين إلى داخل الولايات المتحدة. ويبدو من تطور التوتر الأمريكي- الجنوب إفريقي أن الصراع سيظل مفتوحًا على أسوأ السيناريوات بين البلدين.
جهود دخول ستارلينك جنوب إفريقيا تتصادم مع التوتر حول إيلون ماسك([1]) :
كان رئيس جنوب إفريقيا سيريل رامافوسا صريحًا في إعلان رغبته برؤية أثرى أبناء بلده إيلون ماسك مستثمرًا بعض بلايينه في موطنه. لكن انتقاد الأخير الحكومة الجنوب إفريقية باعتبارها عنصرية أحبط هذا الأمل. وكان ماسك قد أكد أن القانون يتطلب من الشركات الأجنبية بيع حصص ملكية للسود- أو غيرهم ممن واجهوا التمييز العرقي خلال الأبارتهيد- ومن ثم فإنه قانون تمييزي ويمنع شركته للإنترنت عبر الأقمار الصناعية “ستارلينك” Starlink من العمل هناك.
والآن ثمة مسئول جنوب إفريقي يقوم بتمهيد الطريق أمام ستارلينكن والشركات التي تماثلها في تقديم الخدمة، للعمل في البلاد عبر استبدال شرط ملكية السود. وقال المسئول الذي يشرف على قطاع الاتصالات في البلاد، وهو سولي مالاتسي Solly Malatsi، أنه يقوم بإكمال توجيه حكومي سيسمح لشركات الإنترنت الفضائي بالحصول على رخص عبر الاستثمار في التجمعات الأقل تميزًا بدلًا من بيع حصص ملكية في شركاتهم. ولا يزال التوجيه بحاجة لعملية تشاور عامة مع هيئة الاتصالات المستقلة بجنوب إفريقيا التي تنظم صناعة الاتصالات، قبل نفاذ التوجيه.
ويقول مناوئو مالاتسي السياسيون أن تقديم بديلة لملكية السود سيحد من جهود محو التفاوت العرقي الذي زاد خلال عهد الأبارتهيد. ويتهمونه بمحاولة إرضاء ماسك، الذي ولد وترعرع في جنوب إفريقيا التي نادرًا ما عاد لزيارتها منذ انتقاله منها في سن المراهقة.
وقالت خوسيلا سانجوني Khusela Sangoni، رئيسة اللجنة البرلمانية المكلفة بمراقبة قطاع الاتصالات، في بيان صدر لها منتصف أبريل الجاري أن “الوزير يسعى لاختزال وتآكل أهداف التحول الديمقراطي الذي تم نيله بصعوبة بالغة. وأضافت أن العديد من مقدمي خدمات الإنترنت عبر الأقمار الصناعية مهتمون أيضًا بالاستثمار في جنوب إفريقيا ويرغبون في الالتزام بالقواعد القائمة. لكن مالاتسي أكد أنه يعمل التغيير من أجل تعزيز النمو الاقتصادي عبر جذب مجموعة متنوعة من الشركات وليس ستارلينك وحدها.
ومن أجل جذب الشركات الأجنبية فإن أغلب الصناعات الأخرى في جنوب إفريقيا تسمح الان بالفعل ببدائل لـ (قاعدة) ملكية السود المعروفة باسم “بدلات الملكية” equity equivalents. وقد كانت هذه البدلات فاعلة في جذب الاستثمارات الملحة في مجالات مثل قطاع السيارات، حسبما ذكر مالاتسي. وأضاف أنها مكنت في السابق جماعات من المهمشين اقتصاديًا عبر “نشر الفرص وقيادة التنمية”.
وقد تم وضع قواعد ملكية السود بعد نهاية البارتهيد منذ نحو 30 عامًا من أجل رفع الوضع الاقتصادي للجنوب أفارقة السود الذين حرموا بشكل كبير من امتلاك شركات كبرى في ظل حكم الأقلية البيضاء. ويحيط بالجدل حول ستارلينك المناخ السياسي المشدود في جنوب إفريقيا. وينتمي مالاتسي للتحالف الديمقراطي، ثاني أكبر حزب سياسي بالبلاد، والذي يشارك في ائتلاف حكومي متعدد الأحزاب بقيادة أكبر أحزاب جنوب إفريقيا: المؤتمر الوطني الأإفريقي. ويختلف الحزبان في الكثير من القضايا بالفعل.
وكان الرئيس سيريل رامافوسا قد التقى في العام الماضي بإيلون ماسك في نيويورك، وناقشا إمكانية استثمار شركتا تسلا Tesla للسيارات، وسبيس اكس SpaceX المملوكتان لماسك، في جنوب إفريقيا مع حصول ستارلينك على موافقة بالترخيص، حسب تصريحات فينسنت ماجوينيا V. Magwenya الناطق باسم الرئيس. لكن مثل هذه الاعتبارات لم تصمد بسبب “تعليقات ماسك على منصة اكس وحملة التضليل الإعلامي التي انتهجها ضد جنوب إفريقيا. وأضاف الناطق باسم الرئيس أن الأخير ربما راجع هذه المناقشات وأنه “عندما تستقر الآمور ونكون قادرون على إقامة علاقة أفضل مع إدارة (الرئيس دونالد) ترامب.
وقد نالت ستارلينك ترخيصًا في 20 دولة أو إقليم إفريقي. وتم بيع خدماتها بسرعة في بعض الأماكن؛ لأنها توفر سرعات إنترنت أكبر بأسعار متدنية مقارنة بالشركات الأخرى. ودفع هذا الوضع شركات الاتصالات التقليدية، التي تملك حكومات الدول الإفريقية حصص ملكية كبيرة بها، للتخوف الحقيقي من منافسة ستارلينك حال منحها شروطًا تفضيلية للعمل في دول القارة، كما تسعى واشنطن بالفعل حاليًا.
ترامب يريد حذف قارة إفريقيا بأكملها([2]):
وعد كثير من الرؤساء بتغير جذري في علاقة الولايات المتحدة بإفريقيا، والتركيز بشكل أكبر على التجارة، وبشكل أقل على المساعدات. لكن يبدو أن الرئيس دونالد ترامب قد جعل هذا التغيير يحدث فعلًا. ومن الوهلة الأولى تبدو تحركات ترامب الأخيرة انقطاع مباغت- وفوضوي للغاية- مع القارة ككل. وبدءًا من تفكيك الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية إلى النظر في منع زوار من دول إفريقية كثيرة من دخول الولايات المتحدة، يبدو أن الأخيرة تتخلى عن الدول الإفريقية وتتركها تواجه وحدها تحدياتها التي تتراوح بين محاربة الإيدز، ونظم التعليم الضعيفة. كما يتوقع أن تغلق الولايات المتحدة سفارات كثيرة في إفريقيا، وترى بعض التقارير أن ترامب يريد تنفيذ تراجع كبير في عمليات بلاده العسكرية في القارة بكاملها.
وفيما تقوم إدارة ترامب بإعادة التموضع عالميًا وفرض رسوم جمركية على دول العالم أجمع، فإنه لا يبدو أنه ثمة إقليم يحظى بأقل اهتمام من البيت الأبيض مثلما الحال بالنسبة لإفريقيا. ويؤكد مسئولون في إدارة ترامب، وحتى بعض السياسيين الأفارقة، أن الخطوة ستفيد الولايات المتحدة ودول القارة الـ 54 على المدى البعيد. ويقولون أن الهدف هو دفع الحكومات الإفريقية للاستثمار الأكبر لأموالهم في الخدمات العامة ولأخذ خطوات لتنشيط القطاع الخاص بها- وجعلها أكثر استجابة لحاجات المواطنين الأفارقة.
وأكد مقربون من ترامب لمعنيين أفارقة أنه إذا أرادت حكومة إفريقية ما علاقات قوية مع واشنطن، بما في ذلك المساعدات التنموية المستقبلية، فإنه عليها أن تدفع (لواشنطن) بطرق أخرى بدءًا من منح وصول لموارد هذه الدول الإفريقية وصولًا إلى قبول المبعدين. وكان متوقعًا سفر وزير الخارجية ماركو روبيو لإفريقيا نهاية أبريل الجاري لاسيما إلى كينيا (أُجلت زيارته لكينيا بالفعل) وإثيوبيا. وقد تلقى دبلوماسي الولايات المتحدة في إفريقيا بالفعل تعليمات “بتكريس جهد أكبر لدعم القطاع الخاص الأمريكي في تحديد صفقات الأعمال وإتمامها”.
وعلى سبيل المثال تقدم جمهورية الكونغو الديمقراطية لواشنطن حقوق الوصول لمعادن هامة مقابل مساعدة الولايات المتحدة للكونغو في مواجهة قوات المتمردين. كما عرضت الحكومة الفيدرالية الصومالية على واشنطن حقوق إدارة عمليات في بعض الموانئ الصومالية (ومن بينها في إقليم أرض الصومال). ويرجح أن تعمل أنجولا على الحفاظ على دعم الولايات المتحدة لمشروع ممر لوبيتو، وهو مشروع سكك حديدية يمكن أن يساعد الولايات المتحدة في الحصول على معادن في وسط إفريقيا. وهو الأمر الذي يتكرر في دول إفريقية أخرى مثل توجو وموزمبيق وغيرهما.
لكن ثمة دولة إفريقية ستظل على الأرجح في حالة علاقات فاترة مع الولايات المتحدة طوال إدارة ترامب وهي جنوب إفريقيا. ففريق السياسة الخارجية في إدارة ترامب يعرب دومًا عن سخطه إزاء خيارات السياسة الخارجية لجنوب إفريقيا، لاسيما هجومها الدبلوماسي على إسرائيل، ويتهمون حكومة جنوب إفريقيا باضطهاد الأفريكانريين البيض. وطرد ترامب مؤخرًا سفير جنوب إفريقيا من واشنطن، ووضع برنامجًا للاجئين مخصص للأفريكانريين البيض. ويؤكد المسئولون الجنوب أفارقة ان ترامب يسيء التعامل معهم، لاسيما في المسالة الأفريكانرية.
ويفاقم هذه الأزمة أن فرق الدبلوماسية الإفريقية في واشنطن ضعيفة بالأساس، وأنه لا تتوفر مخصصات مالية جيدة لسفارات إفريقيا جنوب الصحراء، ومن ثم لا تتمكن من مد علاقات قوية بجماعات ضغط كان بإمكانها ضبط العلاقات بين الدول الإفريقية والولايات المتحدة. كما أن فريق ترامب لم يحدد بعد من سيتولى العديد من المناصب الرفيعة المتعلقة بالسياسة الأمريكية في إفريقيا، لذا فإن الدبلوماسيين الأفارقة ليسوا متاكدين بعد ممن سيدير هذه المناصب مستقبلًا.
كما يرى عدد كبير من الدبلوماسيين الأفارقة أنه ليس مجديًا بالمرة فكرة التعامل مع إدارة ترامب عبر الاتحاد الإفريقي، لأن ترامب وكبار مساعديه يستبعدون بشكل عام التعامل مع الهيئات الدولية ويفضلون الصفقات الثنائية. إضافة إلى ذلك فإن أغلب المؤسسات الإفريقية الجماعية غير موحدة بالأساس في مسألة التعامل مع ترامب.
وفي المقابل يدعم كثير من المشرعين الديمقراطيين نقل العلاقة مع إفريقيا بعيدًا عن المساعدات، لكنهم يؤكدون أنه على إدارة ترامب العمل مع الكونجرس من أجل تقديم نموذج جديد (كما يقول الديمقراطيون أن ترامب انتهك القانون بتفكيك الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية دون استشارة الكونجرس).
ترامب يعلق برنامج للاجئين([3]):
كان من أولى خطوات الرئيس دونالد ترامب في فترة رئاسته الجديدة وقف استقبال بلاده أيًا من اللاجئين، غير أنه هناك مجموعة واحدة مرحب بها من قبل هذه الإدارة، وهم بيض جنوب إفريقيا المعروفون بالأفريكانريين. وقد كتب ترامب على حسابه على منصة Truth Social أن “أي فلاح (مع أسرته!) من جنوب إفريقيا، ويسعى لمغادرة تلك الدولة لأسباب تتعلق بالسلامة، هو مدعو للولايات المتحدة الأمريكية مع توفير مسار سريع له لنيل المواطنة الأمريكية. وأن هذه العملية ستبدأ على الفور!”.
وكان تعليقه على وسائل التواصل الاجتماعي هو دعوة أخرى للأفريكانريين؛ وهم أحفاط المستوطنين الهولنديين والفرنسيين. فقد وقع ترامب أمرًا تنفيذيًا في فبراير الماضي يشجع على إعادة استيطانهم في الولايات المتحدة. وكمبرر لذلك ذكر قانون جنوب إفريقي خاص بمصادرة الأراضي وما وصفه بتمييز ضد الأفريكانريين، إلى جانب القضية التي رفعتها بريتوريا ضد إسرائيل بتهمة الإبادة أمام محكمة العدل الدولية.
وفي الوقت نفسه أنهى الرئيس ترامب تمويل برامج توطين اللاجئين معلنًا أنه ضد مصلحة الأمريكيين. وكان هناك نحو 600 ألف فرد يتم النظر في أمر قبول دخولهم البلاد عندما علق ترامب البرنامج بعد توليه السلطة مباشرة. وكان هناك بعض اللاجئين الذين تم قبولهم بالفعل بعد عملية مستمرة لسنوات وقاموا بجدولة رحلات الطيران بالفعل.
وفي نهاية مارس الماضي قضت محكمة استئناف بأن اللاجئين الذين نالوا قبولًا مشروطًا قبل أمر ترامب التنفيذي يجب السماح بدخولهم للبلاد، لكنه يمكن لحكومة ترامب وقف قبول أي لاجئين جدد. بأي حال فإنه ليس معروفًا بعد عدد الأفريكانريين الذين يهتمون بالحصول على وضع اللجوء. وقالت السفارة الأمريكية في جنوب إفريقيا أنها تلقت قائمة بأسماء أكثر من 67 ألف أفريكانرز عبروا عن رغبتهم في الاستقرار في الولايات المتحدة بالفعل. وذكرت جريدة النيويورك تايمز أن إدارة ترامب وضعت بالفعل برنامجًا لتيسير هجرة الأفريكانريين إلى الولايات المتحدة، وأنه لديها نحو 8200 فرد عبروا عن اهتمامهم بنيل وضع اللجوء، وأنها حددت بالفعل 100 اسم ممن يمكن قبولهم بالفعل. ويلاحظ أنه عقب إعلان إدارة ترامب حرصت العديد من المنظمات الأفريكانزية التي تتبنى مواقف معارضة للحكومة الجنوب إفريقية (بقيادة حزب المؤتمر الوطني الإفريقي والتحالف الديمقراطي) على أن تنأى بنفسها عن العرض الأمريكي.
بأي حال فإن أمر ترامب التنفيذي ليس الأول من نوعه المعبر عن اهتمام الرئاسة الأمريكية على نحو خاص بجنوب إفريقيا. ففي العام 2018 عبر ترامب عن طلبه من إدارته التحقيق في عمليات القتل “واسعة النطاق” للفلاحين البيض في جنوب إفريقيا والإدعاء الجائر بأن حكومة جنوب إفريقيا تستولي على أراضيهم.
…………………………………………………..