“لقد بات العالم أجمع مضمارًا لعمل صانع الخرائط الفينيسي فرا ماورو”
جيمس كوان- رواية “حلم صانع خرائط”([1])
لم تكن مدينة البندقية (فينيسيا) الإيطالية غائبة عن حركة الكشوف الجغرافية التي ارتادتها البرتغال في القرن الخامس عشر، وكما كان لهذه الحركة تداعيات على موقع البندقية وعالم البحر المتوسط في نظام التجارة العالمية، فإن هذا العالم نفسه كان رافدًا حقيقيًّا ومهمًّا لتطور المعرفة “البرتغالية” بأعالي البحار ومجمل حركة الكشوف التي استمرت قرونًا عدة. واستقبلت البندقية، وبقية مدن إيطاليا في عصر النهضة بشكل أبرز، عددًا من “مسيحيي الشرق” ممن نقلوا معهم معارف وعلومًا تم تطويرها في ظل ظروف مواتية.
ومن هؤلاء يبرز اسم رسَّام الخرائط الشهير “فرا ماورو Fra Mauro” الأرمني الأصل، والذي تمكَّن في العام 1460م تقريبًا من وضع خريطة مذهلة -بمقاييس معرفة ذلك العصر- للعالم. جسَّدت خريطته معرفة أكبر بإفريقيا، ولا سيما شرقها، وفي القلب منه مملكة “القديس يوحنا” التي قصد بها الحبشة أو دولة إثيوبيا الحالية وتخومها.
البندقية وكشف العالم: عملية مستمرة؟
ثمة مفارقة تاريخية ملحوظة في وضع خريطة فرا مارو في نفس عام وفاة الأمير هنري الملاح (1460م)، بعد أن وصل البحَّارة البرتغاليون بالفعل منذ عقود لجزر كيب فيرد، ويمرون منها إلى سيراليون. وعند هذه المرحلة توجَّهت السياسة البرتغالية إلى نقطة تحوُّل مهمة بهدف ريادة طريق التجارة الأوروبية إلى الهند للسيطرة على تجارة التوابل عند مصدرها مرورًا بالسواحل الإفريقية. وجرت مشاورات، في سياق هذه الإستراتيجية، بين لشبونة وأهم منافسيها: البندقية وفلورنسا، اللتين كانتا تهتمان أيضًا بالتجارة.
ومن الواضح بدء البحارة في شبه الجزيرة الأيبيرية (منذ مطلع القرن الخامس عشر) السفر المكثّف إلى الشرق ثم العودة بروايات مفصلة عن رحلاتهم الموسعة أدَّت إلى تراكم معرفة دقيقة عن الشرق وأحواله ومسارات الوصول البحري له. وعلى سبيل المثال نعرف مِن نقش على خريطة مارتن بيهايم M. Behaim بتاريخ العام 1492م عودة بارثولوميو الفلورنسي من رحلات موسعة في الشرق في العام 1424م، وأنه ربط تجارته بالبابا يوجين الرابع Eugene IV. وأن التجارة كانت تنقل للتجار المسلمين عند عدن، والذين كانوا يقومون بدورهم بنقلها إلى القاهرة والإسكندرية على امتداد طريق وصفه ماركو بولو Marco Polo، ثم يتولى تجار إيطاليون، وأغلبهم من البنادقة، نقلها إلى البندقية وحملها عبر جبال الألب إلى فرانكفورت و”البلاد المنخفضة”. وبعدها بنحو 20 عامًا قدم رحالة آخر عائد من الشرق وهو نيقولو كونتي Nicolo Conti -الذي تنكَّر في زي تاجر فارسي- سردًا مفصلًا لما رآه خلال سنوات إقامته الطويلة في الشرق، ووضع نصّ هذه المشاهدات في مؤلف بعنوان “بوجيو براتشيوليني Poggio Bracciolini” الذي سجّل نتائج رحلات كونتي في حولياته.
وشملت زياراته طرق التجارة من هرمز إلى ساحل المالابار وجنوبي الهند، ثم إلى جاوا، ومن مصادر مماثلة لكونتي تمكَّن “كوزموجرافيون” cosmographers (علماء جغرافيا الكون) مثل باولو توسكانيلي Paolo Toscanelli ورسامو خرائط مثل فرا ماورو من مورانو Fra Mauro of Murano من إرساء تصوُّر أكثر دقة للأراضي الشرقية، وتمرير المعلومات إلى البرتغاليين.
وخلال السنوات 1456-1460م كان فرا ماورو يتلقَّى راتبًا من التاج البرتغالي خلال عمله على خريطة كبيرة للعالم، وأُرسلت هذه الخريطة إلى لشبونة، لكنها اختفت بعد ذلك، لكن يمكن رؤية نسخة رائعة لها في مكتبة مارشيانا الوطنية Biblioteca Nazionale Marciana في البندقية، ومع اعتماده بالأساس على وصف ماركو بولو لشرقي آسيا وشبه القارة الهندية وكثير من المعلومات التي سردها كونتي من قبيل ما رواه عن ثروات جاوا والجزر الشرقية Sandai et Bandan فقد شملت تفاصيل من مصادر أخرى طريقًا تجاريًّا بين بورما والصين والمالديف وأندامان Andaman تم الحصول عليها من اتجاهات الإبحار العربية. وبخصوص معضلة كيفية الوصول إلى هذا “العالم الجديد” كان فرا ماورو متفائلًا للغاية؛ فقد رسم إفريقيا على شكل مثلث مع توجُّه طرفها الجنوبي نحو الشرق، إلى جنوب جزيرة مدغشقر. ووضع على سواحلها الشرقية عدة مدن من مقديشو إلى سفالة (بموزمبيق الحالية)، ورأى أنه ليست ثمة صعوبة تُذْكَر في الإبحار من المحيط الأطلنطي إلى المحيط الهندي؛ الأمر الذي شجَّع البرتغاليين على المضي قدمًا في خطط الوصول إلى الهند بالدوران حول القارة الإفريقية([2]).
ومن أولى الخرائط التي وصفت إثيوبيا الحديثة، بحسب دراسة مهمة قام بها كريستوفر كلافام C. Clapham (2007)، هي خريطة الراهب الفينيسي فرا ماورو Fra Mauro والتي رسمها في العام 1460م، والتي يمكن اعتبارها خريطة عامة للإقليم (حوض النيل الشرقي أو القرن الإفريقي) لاكتظاظها بأسماء وتفاصيل بالغة التعقيد والتشابك (ويصعب تحديد قدر كبير منها حسب قراءة كلافام للخريطة). وإن كانت تتضمَّن أسماء معروفة مثل (مدن) أكسوم، وهاماصين Hamasen، وباجمدر Bagemder، وسيمين Simien، وأمهرا، وواج Wag، وكذلك بحيرة زواي Zwai وبركان زوقالا Zuqala (أو زياقوالا Xiaquala). وكان الأمر الأكثر أهمية في هذه الخريطة إشارتها بوضوح إلى مسار أباي Abbay في شكل نهر متسع يجرب بداية جنوبًا، ثم ينحني دائريًّا نحو الغرب والشمال. ويشير ذلك التحديد على قدر من المعرفة الأصيلة بالإقليم وانتقالها سريعًا إلى جنوبي أوروبا في ذلك الوقت (منتصف القرن الخامس عشر على أقل تقدير)؛ غير أنه لا توجد شواهد بعدُ على اعتماد هذه الخريطة على خرائط مماثلة سابقة بشكل مباشر، لا سيما أن الأوروبيين لم يستطيعوا التوصل بدقة لمسار نهر أباي (النيل الأزرق) إلا بعد قرنين من تاريخ وضع خريطة فرا ماورو مما يثير تساؤلات حول مصادر معرفة ماورو بشكل جدي، ويمكن معه وضع افتراضات بوجود نصوص أو خرائط أو روايات وثيقة الصلة أمكنه الاعتماد عليها([3]).
وثمة ملاحظة أولية ومهمة، وهي أن “فرا ماورو” لم يكن لديه شكّ في تزايد المعرفة منذ عهد بطليموس الجغرافي، وأن مثل هذا التقدُّم سيستمر. كما أنه علم أنه بالرغم من جُلّ عنايته بإظهار البحر المتوسط فإن حدوده لا تزال بحاجة إلى تحسين يراعي الدقة؛ وعلَّق على الامتدادات الشمالية الكبيرة، كما عمد في رسم المحيط الهندي والصين (وبحر الشمال أيضًا في أوروبا) إلى ذِكْر الجزر المتفرقة قرب سواحلها، وإن لم يكن يعرف موقعها على وجه الدقة، كما أنه علق لاحقًا بشكل مُوسَّع على الكشوف البرتغالية في إفريقيا، مؤكدًا أنه لم يتحصل بعدُ على أيّ خرائط لهذه الكشوف.
ولقد كان واضحًا لفرا ماورو أن السفن البرتغالية التي تبحر شرقًا حول إفريقيا يمكنها أن تصل إلى الهند. وكانت كافة التقارير البرتغالية حول تلك الكشوف بمحاذاة ساحل إفريقيا الغربي، ورواية شخص موثوق به حدَّثه عن رحلة طويلة بمحاذاة ساحل شرق إفريقيا، والتي تدعمها سردية يودوكيوس التي دوَّنها بومبونيوس ميلا Pompnius Mela بأن يودوكيوس، انطلاقًا من خليج شبه الجزيرة العربية قد أبحر حول ساحل إفريقيا بالكامل حتى كاديز Cadiz ووصولًا إلى مضيق جبل طارق ([4]).
الخريطة ومملكة القديس يوحنا ([5]):
في الغالب أقدم “فرا ماورو” على وضع خريطته عقب عودة الرحالة الفينيسي ألفيس دا كاداموستو Alvise da Cadamosto إلى البرتغال في العام 1456م، حاملًا معه معلومات عن خط ساحلي يتمدد شرقًا في جوار Rio Grande، وربما كانت الإشارة إلى وجود طريق بحري قصير يصل إلى الهند مباشرة دافعًا لدوم ألفونسو الخامس Dom Alfonso V للتحمُّس لوضع خريطة للعالم تضم أحدث المعارف الجغرافية التي تم تحصيلها.
وتوجَّه بناء على اقتراح من كاداموستو الذي كان على علم ببدء مُواطنه الفينيسي فرا ماورو مُؤخرًا في وضع خريطة عالم حديثة لصالح حكومة البندقية. “ووجَّه دوم ألفونسو خطابًا إلى مجلس الشيوخ الفينيسي طالبًا منه نسخة (من الخريطة)، وعارضًا في المقابل تقديم معلومات عن جميع الاكتشافات الجديدة التي قام بها البرتغاليون أو تلك المُترقَّب قيامهم بها. وقد قبلت البندقية الاقتراح”. وعمل فنانون بقيادة فرا ماورو وأندريا بيانكو Andrea Bianco على نسخ خريطة العالم وتصويبها قدر الممكن قبل نقلها إلى ألفونسو في لشبونة في أبريل من العام 1459م([6]).
كما مُثِّلت مصر في خريطة فرا ماورو والنسخة المعدلة (المنسوبة لبيانكو والتي تحمل اسمه في بعض الأدبيات) بوضع أهرامات فوق موقعها تشبه تلك التي كانت موجودة في خريطة أخرى، وهي خريطة Callapoda تحت اسم piramindes. ورُسم في الخريطتين خط من القاهرة على امتداد مسار النيل لكن خريطة Callapoda فقط هي التي تضمَّنت اسمًا للخط Cholona idololatria([7]).
الاستجابة الحبشية: الجغرافيا في خدمة الأيديولوجيا
بالتزامن مع ذيوع خريطة “فرا ماورو” في عالم البحر المتوسط وما وراءه، وصل إلى روما في العام 1481م وفد حبشيّ لمناقشة سُبل دعم العلاقات بين الغرب الأوروبي والمملكة الحبشية “الأرثوذكسية”؛ وعلا مجددًا نبأ وجود مملكة القس يوحنا في الحبشة بعد تراجع رواية وجودها في الشرق الأقصى التي كانت سائدة في القرن الثاني عشر؛ وربما كانت المعرفة الأوروبية بالحبشة قائمة على تراكم تاريخي واضح، غير أن رواية مملكة القس يوحنا تظل في جوهرها أداة لتفسير الاهتمام “المسيحي” بإثيوبيا؛ وناقش هذه المسألة، والتي تفيد في إدراك العلاقة التبادلية بين الكشوف الجغرافية وحركة رسم الخرائط وتفسير إرهاصات الاستعمار الأوروبي وسياساته في إفريقيا منذ نهاية القرن الخامس عشر من نواحٍ عدة، فصل هام عن الوفد الإثيوبي الذي زار روما، وتطرق إلى تفنيد رواية المملكة بتأكيده أن شعبية أسطورتها تصاعدت في القرن الثاني عشر عندما قامت بعض قبائل “كارا خيتاي Kara Khitai” بإبادة الجيش السلجوقي الكبير في سمرقند (في أوزبكستان الحالية)؛ الأمر الذي كان حدثًا مذهلًا في أعين الأوروبيين؛ لأن الأُسَر المالكة الأوروبية نفسها بذلت قصارى جهدها دون جدوى في مواجهة السلاجقة، الذين كانوا قد استولوا على الأناضول في وقت سابق، وكانوا على وشك إسقاط الدويلات الصليبية في المشرق العربي. وبالتأكيد لم تكن “كارا خيتاي” هنودًا، لكنهم كانوا على مقربة من الهند بحسب التصور الأوروبي؛ وحيث إن الهند هي البلد المعروف يقينًا لأوروبا الغربية فيما وراء بلاد فارس؛ فقد ربط الأوروبيون على الفور بين القديس توماس (الذي توجَّه شرقًا لنشر المسيحية في القرن الأول للميلاد)، وأنه لا بد أن تكون هناك جماعة مسيحية كبيرة قادرة على تحدّي المسلمين([8]).
وهكذا فإن تصوير القس يوحنا على أنه مَلك إفريقي كان رواية بديلة لعدم ثبوت قيام مملكته في وسط آسيا كان بمثابة المبرر اللائق -ضمن مسوغات أخرى- لاستمرار الحملات الصليبية ضد المماليك في مصر. وعلى سبيل المثال أكد رحالة وطبيب إيطالي يدعى فيليب (وسبق له زيارة مصر وفلسطين) للبابا ألكسندر الثالث في العام 1177م وجود ملك إثيوبي/ حبشي يريد تعلم العقيدة الكاثوليكية وبناء كنيسة في روما، وإرسال بعثة كاثوليكية في دولته “للتبشير بين الإثيوبيين” (ربما في إشارة غير مباشرة إلى نخبوية اعتناق المسيحية في الحبشة حينذاك). وتساءلت المؤرخة وعالمة الآثار الفرنسية جاكلين بيرين Jacqueline Pirenne (المتخصصة في آثار شبه الجزيرة العربية وإثيوبيا) عمَّا إذا كانت أول “نسخة” إفريقية من القس يوحنا تتطابق مع الملك الإثيوبي Yimrehane-Kristos الذي يدور بدء عهده حول الفترة 1170-1173م. وبالفعل كان Yimrehane-Kristos واعظًا قبل تتويجه ملكًا، وأنه ظل حريصًا على عقد القداس حتى بعد تنصيبه ملكًا. علاوةً على ذلك فإن الحوليات الرسمية لعهده أوردت إرساله سفارة مزودة بهدايا ثمينة إلى “ملك مصر”. وقد أكد المؤرخ المصري المقريزي (1364-1442م) أمر هذه السفارة بذكره أن صلاح الدين الأيوبي قد استقبل مبعوثين من مَلك إثيوبي لم يتم ذِكْر اسمه في العام 1173م([9]).
وانطلاقًا من هذه الفرضية المهمة يتم طرح تساؤل لا يقل أهمية عن: كيف تم نقل رواية القس يوحنا من الهند في الشرق الأقصى (حينذاك) إلى إثيوبيا في أقصى الجنوب؟ ويرى مؤلفو الفصل أنه عندما تلقى المسلمون والأتراك هزيمة قاسية على يد المغول في القرن الثالث عشر كان هناك عدد من الأوروبيين الذين كانت لديهم قناعة أن جنكيز خان كان في الواقع هو القس يوحنا. وسرعان ما تم استبعاد هذه الفرضية بعد بدء المغول في ذبح المسيحيين الأرثوذكس في كييف ونوفجورود Novgorod، وأعداد كبيرة من المسيحيين الكاثوليك في المجر وبولندا. وبعد تمكُّن المغول من إرساء إمبراطورية مستقرة في نهاية توسعاتهم بدأ الملوك الأوروبيون في إرسال السفارات شرقًا لاستكشاف الأراضي المجهولة حينذاك وربما بعضها من أجل الوصول إلى (مملكة) القس يوحنا خلال رحلاتهم. لكنَّ جميع من عادوا من الشرق أكدوا حقيقة واحدة ومحل إجماع فيما بينهم وهي أنه ليس هناك مملكة للقس يوحنا في الشرق وأن الأهالي هناك لم يسمعوا عن اسمه من قبل.
وفي الوقت الذي فقد فيه تخيُّل وجود مملكة مسيحية قوية في الهند مصداقيته؛ ترك المغول فراغًا سياسيًّا هائلًا في “الشرق الأوسط”، وهو الفراغ الذي ملأته سلطنة المماليك في مصر، لا سيما بعد قدرة المماليك على صد التوسعات المغولية بعد معركة عين جالوت (1260م)، وهو ما جعل الأوروبيين ينظرون بتشكك كبير لمصر باعتبارها التهديد الأكبر في الشرق الأوسط، وأن القاهرة، وليست دمشق أو بغداد، هي التي ستكون قِبْلة هجومهم؛ ومع هذا التحوُّل الواضح تغيَّر موقع مملكة القس يوحنا (في الذهنية الأوروبية) من الهند إلى إثيوبيا، وهو أمر لم يكن يُمثِّل تناقضًا جغرافيًّا بالنسبة للأوروبيين في العصور الوسطى وقتها؛ لأنهم كانوا يتصورون ارتباط الهند بإفريقيا عبر شريط برّي ضيق في الجنوب، كما يتضح أيضًا من خريطة فرا ماورو([10]).
خلاصة:
يمكن القول: إن منطق تغيير موقع مملكة القس يوحنا إلى الحبشة، بناء على خرائط متنوعة أبرزها خريطة فرا ماورو، كان مرتبطًا بعدة أحوال؛ منها ضرورة توفر مساحة ملائمة لبسط حكمه، وأن وجود حليف (للغرب المسيحي) في الشرق الأقصى لن يكون ذا فائدة بقدر وجود هذا الحليف في ظهير “العالم العربي” ومصر. كما أنه من الأهمية بمكان النظر لفكرة مملكة القيس يوحنا من الناحية الأيديولوجية؛ إذ ليست ثمة مصادفة في أن تحديد موقع المملكة يأتي دائمًا خلف حدود دول معادية. ولربما كانت وظيفة الفكرة خلق صورة أن الإسلام يحاصره عالم مسيحي أكبر، ومِن ثَم يمكن التعامل معه ومواجهته كدخيل. وبغض النظر عن هذا التحليل الذي له وجاهته، فإن الأمر بات محل مبالغات عبثية في أغلبها بوجود حليف ديني: وهو الإمبراطور الإثيوبي الذي سيحشد مليون جندي حبشي جاهزين للقتال، ويجلب ذهبًا لا يجلبه أحد على الإطلاق([11])، وهو سياق يمكن ملاحظته بدرجة تحليل مغايرة في “مشهد السياسات الدولية” الراهن في إفريقيا.
…………………………
[1] Cowan, James, A Mapmaker’s Dream: The Meditations of Fra Mauro, Cartographer to the Court of Venice, Warner Books, New York, 1996.
[2] Crone, G. R. The discovery of the East, Hamish Hamilton, London, 1972, pp. 16-7.
[3] Clapham, Christopher, The European Mapping of Ethiopia, 1460-1856, Journal of Ethiopian Studies, June-December 2007, Vol. 40, No. 1/2, Festschrift Dedicated in Honour of Prof. Richard Pankhurst & Mrs. Rita Pankhurst (June-December 2007), p. 294.
[4] Vogel, Klaus A., Fram Mauro and the modern Globe, Globe Studies, 2011 (for 2009/2010), No. 57/58, PAPERS, READ AT THE 11TH CORONELLI SYMPOSIUM, VENICE 2007, AND OTHER PAPERS (2011 (for 2009/2010)), p. 84.
[5] – قدم تشارلز نويل C. E. Nowell دراسة تاريخية هامة للغاية عن النقاشات التاريخية حول إفريقية الملك القس يوحنا، افتتحها بملاحظة هامة وهي أنه سواء أكان القس يوحنا حقيقة أم أسطورة فإنه مثَّل في الفترة من القرن الثاني عشر حتى ما بعد الكشوف الأوروبية للأمريكيتين “جزءًا راسخًا من نمط الفكر الأوروبي” في تلك الفترة، ولاحظ أنه بات مشهورًا في أوروبا بين ليلة وضحاها بعد نبأ إرساله خطابًا في العام 1165 للإمبراطور البيزنطي مانويل كومنينوس Manuel Comnenus، وتم نقل الخطاب لفريدريك بارباروسا إمبراطور الإمبراطورية الرومانية المقدسة، ووصف القس يوحنا نفسه في الخطاب (حال أصالته وموثوقيته) بأنه يحكم “في الهند” التي لم تكن تمثل للأوروبيين حتى ذلك الوقت (1165م) سوى أرض تقع إلى الشرق من أوروبا، وأن بلاده التي يحكمها ترفل في الثروات النباتية والحيوانية والمعدنية. ثم لاحظ “نويل” أن من أثار مسألة “إثيوبية” القس يوحنا في العصر الحديث هو المؤرخ الروماني قنسطنطين مارينيسكو Constantine Marinescu الذي أعلن في العام 1923م حسم مسألة القس يوحنا بأنه إفريقي، وأنه ملك إثيوبيا التي تحولت بدورها لاعتناق المسيحية بداية من القرن الرابع الميلادي، والتي لم تعد تتصل بأوروبا بعد الغزو العربي لمصر والسودان. وإنه رغم العزلة الإثيوبية -بحسب مارينيسكو- فقد استمرت شائعات لدى “الغرب” بأنه ثمة حاكم مسيحي فيما وراء حدود العالم الإسلامي. فيما أكد نويل أن الفكرة المبالغ فيها عن إثيوبيا مع الافتقار لأي أسس جغرافية واضحة (كحدود للإمبراطورية أو الدولة الحبشية مثلًا) قد اتخذ شكلًا عامًّا في العقل الغربي حتى باتت صورة مملكة القس يوحنا راسخة لديه، راجع بالتفصيل:
- Nowell, Charles E. The Historical Prester John, Speculum, Jul., 1953, Vol. 28, No. 3 (Jul., 1953), pp. 435-445
[6] Kimble, George H. Portuguese Policy and Its Influence on Fifteenth Century Cartography, Geographical Review, Vol. 23, No. 4 (Oct., 1933), p. 657.
[7] Ratti, Antonio, A Lost Map of Fra Mauro Found in a Sixteenth Century Copy, Imago Mundi, 1988, Vol. 40 (1988), p. 81.
[8] Konstantin Winters, Katharina Ritter, and Philipp Stenzig, Paride de Grassi’s Account of the 1481 Ethiopian Delegation to Rome (in: Stanislau Paulau, Martin Tamcke, editors, Ethiopian Orthodox Christianity in a Global Context: Entanglements and Disconnections), Brill, London, 2022, p. 64.
[9] Donvito, Filippo, The Legend of Prester John, Medieval Warfare , 2013, Vol. 3, No. 6, THEME – Myths and legends in the Medieval world (2013), p. 37.
[10] Konstantin Winters, Katharina Ritter, and Philipp Stenzig, Paride de Grassi’s Account of the 1481 Ethiopian Delegation to Rome (in: Stanislau Paulau, Martin Tamcke, editors, Ethiopian Orthodox Christianity in a Global Context: Entanglements and Disconnections), Brill, London, 2022, pp. 64-5.
[11] Ibid, pp. 65-6 واعتمد بالأساس على تحليلات معمقة وردت في:
- Eric Taylor, Waiting for Prester John. The Legend, the Fifth Crusade, and Medieval Christian Holy War (Master Thesis, University of Texas at Austin, 2011).