الناشر: المجلس الروسي للشؤون الدولية
المؤلف: إيفان لوشكاريف
دكتوراه في العلوم السياسية، أستاذ مشارك في قسم النظرية السياسية في جامعة موسكو الحكومية للعلوم العسكرية، روسيا
ترجمة: مروة أحمد عبد العليم
باحثة في الشأن الروسي
مقدمة:
كان عام 2024م مليئًا بالأحداث في العلاقات الروسية الإفريقية؛ حيث ظهرت قوة روسية في بوركينا فاسو ومالي، وأجرت أربع دول على الأقل في القارة محادثات بشأن بناء محطة للطاقة النووية تعتمد على التكنولوجيا الروسية، وانعقد أول منتدى وزاري على الإطلاق “روسيا-إفريقيا”، والقائمة تطول.
وتدرس موسكو بصبر الخيارات الممكنة للتعاون مع الشركاء الأفارقة، وقد توصلت بالفعل إلى بعض الصِّيغ ذات المنفعة المتبادلة. وقد بدأ عام 2025م بمقال لمدير إدارة تخطيط السياسة الخارجية بوزارة الخارجية الروسية أ. دروبينين حول برامج وآفاق العلاقات مع القارة الإفريقية، تزامنًا مع زيارة واسعة النطاق لرئيس جمهورية إفريقيا الوسطى ف. تواديرا إلى موسكو.
ورغم أنه من غير المرجح أن تؤثر التواريخ التقويمية الرسمية على ديناميكية العلاقات الروسية الإفريقية؛ فإن أحداث الأشهر الأخيرة سلَّطت الضوء على عدد من القضايا الأساسية المدرجة على جدول الأعمال في الاتجاه الإفريقي.
والإجابات عن هذه الأسئلة سوف تُحدِّد، إلى حد كبير، ليس فقط عدد الزيارات الرسمية وتبادل الوفود بين إفريقيا وروسيا، وحجم التجارة المتبادلة بينهما، بل وأيضًا صورة روسيا في القارة الإفريقية، كما أن البدائل القائمة تحدد أولويات مختلفة لتحقيق أهداف السياسة الخارجية لموسكو، وبالتالي يمكن أن تؤدي إلى تركيبات مختلفة في العلاقات الثنائية مع الشركاء الأفارقة، وزيادة التفاعل متعدد الأطراف مع القارة بأكملها.
قارة بلا اختلافات:
لقد كان الموضوع المشترك في المناقشات حول العلاقات الروسية الإفريقية لفترة طويلة هو القول بأن روسيا ليس لديها أولويات إقليمية فرعية داخل إفريقيا، ففي الوثائق والخطابات الرسمية، غالبًا ما يتم وصف بلدان القارة بأنها مجموعة من البلدان المتشابهة في مشكلاتها، وبنيتها الداخلية، ونُظُم القِيَم الخاصة بها، ولم يذكر القسم المسؤول عن صياغة وتطوير السياسة الخارجية لروسيا الاتحادية لعام 2023م تفضيل أيّ دول محددة في القارة، وأعلن أن إفريقيا تُعدّ “مركزًا مميزًا للتنمية العالمية”.
أما ما يتعلق بالعالم الإسلامي؛ فقد ذكر القسم خمس دول محددة كأولويات بالنسبة لروسيا. في حين يُسلِّط القسم المخصص لدول أمريكا اللاتينية، الضوء بدوره على أربعة شركاء رئيسيين في المنطقة، ويستخدم النموذج نفسه في الاستدلال في المقال المذكور أعلاه بقلم أ. دروبينين: “على الرغم من بعض الاختلافات، فإن إفريقيا هي “موضوع جيوسياسي شامل”.
من ناحية أخرى، يتضامن الموقف الرسمي الروسي مع مبادئ الوحدة الإفريقية، ويؤكد بكل الطرق على أهمية وحدة الدول الإفريقية في سياق النظام العالمي غير العادل.
وعلى جانب آخر، فإن هذا المفهوم الغامض لإفريقيا في حدّ ذاته يؤدي إلى مضايقات عملية، وعلى وجه الخصوص، فإن مثل هذا التعميم يجعل من الصعب للغاية تشكيل “قائمة” منفصلة للتعاون لأجزاء أو مناطق فرعية مختلفة من القارة، وبعد كل شيء، تحتوي القارة على دول تختلف في التركيبة الدينية والإثنية، وبنية التصدير، وأهمية العوامل الجغرافية والمناخية، بما في ذلك الجفاف والتصحُّر والوصول إلى البحر.
القدرة التنافسية على التنبؤ:
في السنوات الأخيرة، ومع درجة كبيرة من التوافق، برز خياران محتملان للتخصُّص الفرعي الإقليمي في إفريقيا؛ الخيار الأول هو اختيار البلدان الإفريقية التي تتوافق مع معايير تقييم المخاطر الغربية ومعايير الأعمال التجارية للشركات الغربية والشركات الروسية، ومع أخذ هذا في الاعتبار، فقد اهتم عدد من الأطراف الروسية اهتمامًا كبيرًا بدول شرق إفريقيا؛ وهي المستعمرات البريطانية السابقة، والبرتغالية جزئيًّا؛ حيث يُلاحَظ الاستقرار السياسي النسبي، وحيث تشكَّلت “قواعد اللعبة” واضحة في هذه المنطقة.
وبطبيعة الحال، تظل عمليات الحصول على التصاريح في هذه البلدان مربكة في كثير من الأحيان، ولا تزال المشاريع الاستثمارية الكبيرة تتطلب الدعم السياسي من الدولة الروسية. لكن بشكل عام، فإن التركيز على شرق إفريقيا يسمح لروسيا بالثقة في أن مواردها المحدودة لن يتم إنفاقها بشكل غير فعَّال.
وبناء على هذا المنطق، تدرس الهيئات الاقتصادية الروسية إمكانية توسيع ممر النقل الدولي من الشمال إلى الجنوب إلى ساحل شرق إفريقيا، ويتركز الدور الرئيسي في هذه الحالة على تنزانيا، التي ستحتاج إلى تحديث كبير لموانئها، ويرتبط بهذه الفكرة المشروع الذي تتم مناقشته بشكل دوري بشأن إنشاء منطقة صناعية روسية في موزمبيق، ومن بين دول شرق إفريقيا الأخرى، تكتسب أوغندا أيضًا أهمية خاصة؛ حيث أصبحت شريكًا لمجموعة البريكس في عام 2024م، وتتمتع بثقل سياسي كبير في المنطقة.
ومع ذلك، فإن هذه النسخة من التخصُّص والتركيز الفرعي تعاني من عيبين كبيرين:
أولًا: يسترشد عدد كبير من الحكومات والشركات الكبرى بنفس مقاييس تقييم المخاطر والمعايير المؤسسية، ويتوصلون إلى استنتاجات مماثلة حول الحاجة إلى توسيع حضورهم في شرق إفريقيا، ونتيجة لذلك، لم تَعُد الدول الكبيرة غير الغربية (الصين والهند وإندونيسيا والمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة) وحدها هي التي تزيد من جهودها في المنطقة الفرعية، بل أيضًا القوى الغربية (الولايات المتحدة وفرنسا)، وبالإضافة إلى ذلك، هناك عدد من القوى المتوسطة، (مثل تايلاند وماليزيا واليابان)، والتي يمكن ملاحظتها في شرق إفريقيا. وبعبارة أخرى، بسبب نفس المعايير المُستخدَمة لتقييم آفاق التعاون بين روسيا وإفريقيا، فإن دول شرق إفريقيا تعاني من الاهتمام الخارجي ومبادرات التعاون، والتي تبدو المقترحات الروسية في مقابلها غير مقنعة في كثير من الأحيان.
ثانيًا: عدم التركيز على كينيا، وهي التي حصلت على وضع حليف رئيسي للولايات المتحدة خارج حلف شمال الأطلسي في عام 2024م، وهي غالبًا ما تكون غائبة عن الخطط الروسية في شرق إفريقيا. وفي السنوات الأخيرة، أصبحت الدبلوماسية الكينية أكثر تماشيًا مع الأجندة الغربية، وخاصةً في مسائل الأمن والمناخ والتطور التكنولوجي، ولذلك، يبدو الحذر الروسي تجاه كينيا منطقيًّا من الناحية السياسية، ولكن في الوقت نفسه، أصبحت كينيا اليوم المركز المالي واللوجستي لشرق إفريقيا، وبدونها فإن أيّ مشاريع تعاون في المنطقة الفرعية محكوم عليها عمليًّا بالفشل.
المخاطرة بدون منافسة:
يتضمن خيار آخر للتخصص الفرعي في الاتجاه الإفريقي: البحث عن شركاء في القارة لا يجذبون انتباه اللاعبين الرئيسيين بسبب مشكلات داخلية أو خصوصيات السياسة الخارجية. وبعبارة أخرى، ووفقًا لمعايير حوكمة الشركات القياسية، يبدو التعاون مع مثل هذه البلدان محفوفًا بالمخاطر وغير مُبرَّر، ومن الناحية الجغرافية، تتركز هذه البلدان في منطقة الساحل وغرب إفريقيا.
إن الحكومات التي تشكلت في عدد من بلدان المنطقة الفرعية غالبًا ما تكون انتقالية بطبيعتها (مالي وبوركينا فاسو) و/أو في مرحلة البحث عن برنامجها للسياسة الخارجية (غينيا وجمهورية إفريقيا الوسطى)، ومِن ثَم، فمن الواضح أن الحوار معهم صعب؛ فالرومانسية الثورية، والخطاب المناهض للاستعمار، والأفكار الغامضة حول “المرتفعات المسيطرة” للاقتصاد غالبًا ما تكون على جدول الأعمال. علاوة على ذلك، هناك مخاطر خطيرة ناجمة عن الأنشطة النشطة للهياكل الإجرامية العابرة للحدود، والتي تشمل الإرهابيين، وتجار المخدرات، وشبكات الأسلحة غير المشروعة والاتجار بالبشر.
وفي الوقت نفسه، أدَّى نشر المستشارين العسكريين الروس في المنطقة والمساعدة الفعَّالة التي تقدمها موسكو في احتواء التهديدات الأمنية الأكثر تعقيدًا (الإرهاب الدولي في المقام الأول) إلى زيادة كبيرة في الطبيعة التكيفية للشركاء في منطقة الساحل. لقد نجحت روسيا في إثبات أنه من خلال الجمع الصحيح بين الجهود الدبلوماسية والوجود العسكري، من الممكن: استعادة عمل وسيطرة الحكومة الشرعية على أراضيها في بلد اجتاحته حرب أهلية (جمهورية إفريقيا الوسطى)؛ وإزالة القيود المفروضة على الصِّيغ غير المواتية بشكل واضح لحل النزاعات والتي فرضتها في السابق القوى الاستعمارية السابقة (مالي)؛ ووقف تدخل منظمة إقليمية مثيرة للجدل من الناحية القانونية الدولية (النيجر).
وبما أن روسيا تعمل إلى حد كبير كجهة فاعلة أمنية لبعض بلدان الساحل، فإن تطوير حضورها الاقتصادي والإنساني أقل اعتمادًا على الوضع السياسي والمنافسة مع اللاعبين الخارجيين الآخرين، وهو ما يؤثر إلى حد ما فقط على تركيا والصين. وبناء على ذلك، فإن المشاريع في مجالات الطاقة والزراعة وإدارة المياه واستخراج الذهب والمعادن النادرة والنقل والخدمات اللوجستية يمكن أن توفر فوائد كبيرة لروسيا وشركائها في منطقة الساحل.
بالنسبة لروسيا، ليس فقط الوصول إلى الموارد وفرصة تنفيذ حلولها التكنولوجية في ظروف جديدة (على سبيل المثال، في مجال توليد الطاقة أو النقل بالسكك الحديدية) هو ما يثير اهتمامها، ولكن أيضًا مزايا السمعة المتميزة التي تحظى بها، ولن يضيع التأثير التوضيحي لمشاريع التعاون المحددة وسط صخب المبادرات والمقترحات المتنافسة؛ وسوف تكون أهمية المشاريع المنفذة أكبر نظراً للعلاقة المتبادلة بين قضايا التنمية والوضع الأمني.
على المدى الطويل، يُسهم تنفيذ المشاريع في منطقة الساحل أيضًا في خلق توازن تكنولوجي واقتصادي جديد في إفريقيا، والتغلب على الاعتماد أحادي الجانب على المدن الكبرى السابقة والمؤسسات المالية الغربية، ولكن المشاريع في شرق إفريقيا لا تستطيع أن تقدم شيئًا مماثلًا؛ نظرًا لأن درجة إدراج هذه المنطقة الفرعية في شبكة الترابط الاقتصادي العالمي أعلى بكثير.
وفي الوقت نفسه، فإن هذه النسخة من التخصص الفرعي لها عيوبها أيضًا؛ والتي من أبرزها:
أولاً، بعد سقوط حكومة الأسد في سوريا، نشأت مشكلة “الدعم اللوجستي”، كيف وبأي طرق يمكن ضمان أنشطة المستشارين الروس والتعاون العسكري التقني، وتوريد المساعدات الإنسانية، في حين أن معظم الشركاء المحتملين في شرق إفريقيا لديهم إمكانية الوصول إلى البحر، ويمكنهم القيام بأعمال تجارية مباشرة مع موسكو، فإن دول الساحل في معظمها غير ساحلية، وتحتاج إلى ممر لوجستي وفي الوقت الحالي، يتم حلّ هذه المشكلة بالاعتماد على عدة طرق (غينيا وتوجو وليبيا وجزئيًّا غانا وبنين)، ولكن استقرار الإمدادات أصبح يعتمد على الوضع السياسي في بلدان ثالثة.
ثانيًا: يتطلب التعاون مع دول الساحل قدرًا كبيرًا من الموارد؛ نظرًا لأن تنفيذ مشاريع محددة غالبًا ما يتطلب إنشاء البنية الأساسية المرافقة، الطرق، وآبار المياه، ومحطات الطاقة الكهربائية، وخطوط الكهرباء. ومن المثير للجدل إلى أيّ مدى يمكن تعويض ذلك من خلال الفارق في الأسعار في الأسواق المحلية والعالمية، ومن خلال انخفاض تكلفة العمالة في منطقة الساحل. ومع ذلك، فإن احتمال ارتفاع التكاليف أثناء تنفيذ المشاريع مرتفع للغاية، ليس فقط بسبب التعقيدات اللوجستية، ولكن أيضًا بسبب اعتماد الاقتصادات المحلية على التقلبات في أسعار المعادن المصدرة.
منطقان للنسر ذي الرأسين:
في الواقع، تواجه روسيا خيارًا صعبًا في إفريقيا؛ إما التركيز على الأسواق منخفضة المخاطر والتنافسية العالية؛ حيث تعتمد المشاريع على الظروف السياسية قصيرة الأجل والمصادفات الصريحة (مثل الموقف الشخصي للقادة تجاه روسيا)، أو تطوير أسواق عالية المخاطر ومنخفضة المنافسة؛ حيث تتمتع موسكو بمزايا غير سوقية واضحة، وحيث يكون الحوار مع السلطات المحلية عمليًّا في معظمه (على الرغم من كل الخطاب الخارجي)، وفي الحالة الأولى، سوف تكون روسيا واحدة من بين العديد من القوى المشاركة في “التسابق نحو إفريقيا”، واقتراح بعض صِيَغ العمل القياسية للغاية. وفي الحالة الثانية، يستطيع الجانب الروسي أن يثبت جميع مزايا تفكيره غير التقليدي في السياسة الخارجية، وأن يُنفِّذ مشاريع واسعة النطاق حقًّا.
ويبدو أن العامل الرئيسي في اتخاذ القرار هو مسألة الموارد التي تستعدّ الدولة والشركات الروسية لتوجيهها نحو توسيع وجودها في إفريقيا، وبطبيعة الحال؛ فإن التخصص في منطقة الساحل سوف يتطلب المزيد من الموارد، كما أن هناك قدرًا أقل تأكيدًا من حيث كمية المدخلات المادية التي سوف تكون مطلوبة.
وتوفر المشاريع في شرق إفريقيا قدرة أكبر على التنبؤ بفوائدها الاقتصادية، وعلى الرغم من أن طبيعة ممارسة الأعمال التجارية في البلدان المحلية قد تؤدي أيضًا إلى تأخير العمليات التجارية والإنفاق دون المستوى الأمثل، وعاجلًا أم آجلًا، سوف يتعين علينا اتخاذ خيارات جغرافية في إفريقيا؛ لأن تكاليف النظر إلى القارة باعتبارها كيانًا غامضًا سوف تتزايد، وربما يعطينا عام 2025م أسبابًا أقل لتذكُّر العبارة المقدسة من فيلم “نفس مونشهاوزن The Very Same Munchhausen”: “أولاً، تم التخطيط للاحتفالات، ثم الاعتقالات، ثم قرروا الجمع بينهما”.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
رابط التقرير: