يقولون “الاتحاد قوة، والانقسام ضعف” – وهو مثل إفريقي مناسب يلخص تمامًا التحديات التي تواجهها الجماعات الاقتصادية الإقليمية التابعة للاتحاد الإفريقي في تحقيق أهدافها الإفريقية الشاملة.
ولعل المتابع للشأن الإفريقي يلاحظ زيادة عدد الصراعات المسلحة التي تشهدها القارة في السنوات الأخيرة مثلما هو الحال في ليبيا والسودان والصومال والكونغو الديموقراطية ودول الساحل الإفريقي.
ومع ذلك فقد دأبت المجموعات الاقتصادية الإقليمية التابعة للاتحاد الإفريقي على بذل ما في وسعها لتحقيق شعار “الحلول الأفريقية للمشاكل الأفريقية” بشكل كامل وذلك بالرغم من التحديات البنيوية والسياسية والتشغيلية.
وعلى الرغم من رؤيتها الأساسية لمعالجة الصراعات القارية وتعزيز التكامل الإقليمي، فقد أثبتت هذه المنظمات وعلى رأسها النظام الأمني للاتحاد الإفريقي عدم فعالية واضحة في صنع وبناء السلام.
ويحاول هذا المقال تصنيف أنماط الصراعات المسلحة في إفريقيا وأسباب فشل منظومة الأمن المؤسسي الإفريقي في مواجهتها والطريق للمستقبل.
أولًا: أنماط الصراعات المسلحة في إفريقيا
تشمل تصنيفات الصراع وفقا لأدبيات القانون الدولي ودراسات السلام عمليات العنف المسلح المنظم، ولكل منها خصائص وتداعيات قانونية مميزة.
وإذا نظرنا إلى مفاهيم القانون الدولي الإنساني في المقام الأول لوجدنا انه يعترف بفئتين من الصراع المسلح: الصراعات المسلحة الدولية والصراعات المسلحة غير الدولية.
وتحدث الصراعات المسلحة الدولية بين دولتين أو أكثر، بغض النظر عن شدة العنف ومستواه. من ناحية أخرى، تنطوي الصراعات المسلحة غير الدولية على عنف مسلح ممتد بين القوات الحكومية والجماعات المسلحة المنظمة، أو بين هذه الجماعات داخل الدولة. ويعتمد التمييز بين هذين النوعين على هيكل ومكانة الأطراف المعنية، فضلاً عن عتبة شدة العنف.
ومع ذلك تتبنى دراسات أوبسالا للسلام والصراع تعريفًا أوسع للصراع المسلح، والذي يشمل الصراعات القائمة على الدولة والتي تؤدي إلى مقتل 25 شخصًا على الأقل في معركة خلال عام.
ويشمل هذا التعريف تصنيفات مختلفة للصراعات السائدة في إفريقيا ، وهي على النحو التالي:
1- الصراعات القائمة على الدولة: وهو نمط شائع الحدوث في إفريقيا، والتي تشمل دولة واحدة على الأقل تكون طرفا . وتشمل الأمثلة في هذا السياق: المواجهة العسكرية الجارية في السودان منذ 15 أبريل 2023 بين القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع. وكذلك الصراع في منطقة تيغراي بإثيوبيا، والذي أودى بحياة أكثر من 600 ألف شخص حتى عام 2023.
2- الصراعات بين الدول: و تحدث هذه الصراعات بين حكومتين أو أكثر. وفي حين أصبح هذا النمط نادرًا بشكل متزايد في إفريقيا بعد نهاية الحرب الباردة، فقد حدثت توترات ومناوشات عسكرية متفرقة بين رواندا وجمهورية الكونغو الديمقراطية، وبين أوغندا وجمهورية الكونغو الديمقراطية . وكذلك بين نيجيريا والكاميرون (حول شبه جزيرة باكاسي). وما تشهده العلاقات بين إثيوبيا والصومال من جهة و كينيا والصومال من جهة أخرى. ومع ذلك، لم تصل هذه المواجهات إلى صراعات مسلحة دولية كاملة النطاق.
3-الصراعات داخل الدولة: تحدث هذه الصراعات بين دولة وجماعة مسلحة غير حكومية دون تدخل خارجي. وهي تختلف عن الصراعات الحكومية داخل الدولة، والتي تنطوي على دعم خارجي أو مساهمات بقوات. ولعل أبرز الأمثلة على ذلك الصراعات في نيجيريا بين المزارعين والرعاة في المناطق الوسطى، واللصوصية في الشمال الغربي، والحركة الانفصالية في الجنوب الشرقي .ويمكن أن نضيف أيضًا التمرد الانفصالي في إقليم أمبازونيا الناطق باللغة الإنجليزية في جنوب غرب وشمال غرب الكاميرون.
4-تدويل الصراعات الداخلية: تتضمن هذه الصراعات طرفًا حكوميًا وآخر غير حكومي، مع مساهمة قوات خارجية. ومن الأمثلة على ذلك: الحرب الدائرة في جمهورية الكونغو الديمقراطية، والتي تشارك فيها قوات من رواندا وأوغندا. وكذلك .نشر قوات رواندية في مقاطعة كابو ديلجادو في موزمبيق لمحاربة الجماعات المتمردة.
5- الصراعات غير الحكومية بين الدول: تحدث هذه الصراعات بين جماعات مسلحة منظمة داخل دولة واحدة، دون مشاركة الحكومة، مما يؤدي إلى مقتل 25 شخصًا على الأقل في المعارك خلال عام واحد. ومن الأمثلة على ذلك الاقتتال الداخلي بين مجموعات أنتي بالاكا وسيليكا السابقة في جمهورية إفريقيا الوسطى.
6-العنف من جانب واحد: تشير هذه الفئة إلى الاستخدام المتعمد للقوة المسلحة من جانب حكومة دولة أو جماعة منظمة رسمياً ضد المدنيين، مما يؤدي إلى مقتل 25 شخصاً على الأقل خلال عام واحد.
وعليه يعد تصنيف الصراعات أمرًا بالغ الأهمية لأنه يحدد القواعد المعمول بها في القانون الإنساني الدولي. إن شدة العنف، التي تقاس بعدد القتلى لكل ألف شخص سنوياً، تصنف الصراعات إلى صراعات ثانوية أو كبرى، حيث يُخصص مصطلح “الحرب” للمواجهات المسلحة التي تؤدي إلى أكثر من ألف حالة وفاة مرتبطة بالمعارك سنوياً.
وباستخدام هذا التصنيف يتضح لنا أن إفريقيا تشهد خلال العقود الأخيرة مجموعة متنوعة من أنماط الصراع، ولكل منها آثارها القانونية والإنسانية الخاصة بها. وفهم هذه الاختلافات أمر بالغ الأهمية لحل الصراعات بفعالية وتطبيق أطر القانون الدولي المناسبة.
ثانيًا: طبيعة النظام الأمني الإفريقي
إن طبيعة منظومة النظام الأمني الإفريقي الجديد تتسم بشكل متزايد بالتعاون الإقليمي، والحلول المحلية، والشراكات الخارجية التي تهدف إلى معالجة التحديات الأمنية المعقدة والمتطورة التي تواجه القارة.
ويعكس هذا التحول الابتعاد عن الاعتماد على الجهات الفاعلة الخارجية والاتجاه نحو بناء القدرات المحلية للتعامل مع التهديدات الملحة مثل الإرهاب، والتمردات العسكرية، والجريمة المنظمة العابرة للحدود الوطنية. على سبيل المثال، يوفر هيكل السلام والأمن التابع للاتحاد الإفريقي إطارًا لمنع الصراعات وإدارتها وحلها من خلال مبادرات مثل قوة الاحتياط الأفريقية، التي تضم ألوية إقليمية جاهزة للانتشار السريع.
وفي الممارسة العملية، توضح العمليات مثل قوة المهام المشتركة المتعددة الجنسيات ضد بوكو حرام في حوض بحيرة تشاد كيف تتعاون الدول الأفريقية لمعالجة التهديدات المشتركة.
ومن جهة أخرى يرتبط الاتحاد الإفريقي بالجماعات الاقتصادية الإقليمية وذلك لتحقيق أهداف بناء السلام على الصعيد الاقليمي.
وفي حين أنشئت هذه المنظمات بهدف نبيل يتمثل في معالجة الصراعات القارية وتعزيز التكامل الإقليمي، فإن جهودها غالباً ما تفشل بسبب التحديات البنيوية والسياسية.
ومن الأمثلة البارزة على ذلك الجماعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا (إيكواس)، التي قطعت خطوات كبيرة في التكامل الإقليمي والتدخل في الصراعات.
ثالثًا: عدم فعالية النظام الأمني الإفريقي
يكمن التحدي الأساسي الذي يواجه عمليات بناء السلام الإفريقية في الافتقار إلى التنسيق الرسمي المؤسسي بين الاتحاد الإفريقي والمجموعات الاقتصادية الإقليمية الخمس الأساسية (اتحاد المغرب العربي، والجماعة الاقتصادية لدول وسط أفريقيا، والجماعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا، والهيئة الحكومية الدولية للتنمية، وجماعة تنمية جنوب إفريقيا).
وبالنظر إلى كل مجموعة اقتصادية إقليمية نجد وجود اختلافات ملحوظة في البنية التنظيمية، والقدرة، والتماسك الداخلي، مما يقوض بشكل أساسي فعاليتها الجماعية.
على سبيل المثال، أصيب اتحاد المغرب العربي بالشلل التام بسبب الصراع الطويل الأمد بين المغرب والجزائر بشأن الصحراء الغربية، حيث عقد آخر مؤتمر له في عام 1994.
وعلى نحو مماثل، شهدت المجموعات الاقتصادية لدول وسط إفريقيا فترات طويلة من الخمول، تزامنت مع بعض أكثر الصراعات تدميراً في المنطقة، بما في ذلك الإبادة الجماعية في رواندا.
ويمكن القول أن المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا (الإيكواس) تمثل نموذجًا أكثر نجاحًا نسبيًا، حيث طورت آليات تكامل أكثر تقدماً وتدخلت بنجاح في صراعات العديد من الدول الأعضاء.
ومع ذلك، تواجه هذه المجموعة الاقتصادية الإقليمية الأكثر فعالية نسبياً تحديات كبرى، حيث شهدت أربع من دولها الأعضاء تغييرات حكومية غير دستورية بحلول عام 2023.
كما أن العضويات المتداخلة والولاءات المنقسمة بين المجموعات الاقتصادية الإقليمية تزيد من تعقيد قدرتها على تقديم حلول متماسكة بقيادة إفريقية.
ومن جهة أخرى، كانت محاولات الاتحاد الإفريقي لتنميط إطار عام خاص بالعلاقات مع المجموعات الاقتصادية الإقليمية وإضفاء الطابع الرسمي عليها من خلال آليات مثل هيكل السلام والأمن الإفريقي ناجحة جزئياً فقط. إن المجموعات الاقتصادية الإقليمية تصمم وتنفذ في كثير من الأحيان أجنداتها الخاصة، وتتحدى قرارات الاتحاد الإفريقي في كثير من الأحيان ــ ومن الأمثلة الواضحة على ذلك محاولة التدخل العسكري الذي كانت الايكواس تنوي القيام به في النيجر، والذي تناقض بشكل مباشر مع تحذيرات الاتحاد الإفريقي.
وعلى أية حال فقد أدت العوائق البنيوية مثل الإرث الاستعماري المتنوع، والتباين اللغوي، والأنظمة السياسية المتباينة إلى تفتيت هذه المنظمات.
على سبيل المثال، تضم منطقة الجماعة الاقتصادية لدول وسط إفريقيا بلداناً استعمرتها قوى أوروبية مختلفة، مما أدى إلى تباينات ثقافية وبنيوية كبيرة تمنع العمل الموحد.
وفي نهاية المطاف، ورغم أن المجموعات الاقتصادية الإقليمية تأسست على آمال طموحة في معالجة التحديات الإقليمية مثل التخلف، والأزمة الاقتصادية، والصراعات، والتدهور البيئي، فإنها لم تحقق بعد إمكاناتها بالكامل. وتظل رؤية المنظور الإفريقي الشامل لبناء السلام أكثر طموحاً بحسبانه عملية متكاملة، وهو ما يسلط الضوء على التعقيد المستمر المتمثل في تحقيق التعاون القاري الحقيقي.
ما العمل والطريق للمستقبل؟
إن إحياء النظام الأمني الإفريقي القائم على مبدأ “حلول أفريقية لمشكلات أفريقية “في مواجهة التكالب الجديد على إفريقيا يتطلب رؤى جديدة تعالج التحديات الداخلية والخارجية.
ويعتمد السيناريو المستقبلي على قدرة الدول الإفريقية على دعم وتطوير مجتمعاتها الاقتصادية الإقليمية والاتحاد الأفريقي، مع حماية مصالحها في الوقت نفسه ضد الاستغلال الأجنبي.
وتتمثل الخطوة الأولى الأكثر أهمية هنا في إضفاء الطابع الرسمي والمؤسسي على العلاقة بين الاتحاد الإفريقي والمجتمعات الاقتصادية الإقليمية، وخلق جهاز أمني قاري أكثر تماسكاً وفعالية.
وقد يتضمن هذا إنشاء هيراركية هرمية واضحة، وقنوات اتصال، وعمليات صنع القرار التي تسمح باستجابات سريعة ومنسقة للتهديدات الأمنية.
بالإضافة إلى ذلك، يجب على الدول الأفريقية الاستثمار في بناء قدراتها العسكرية والاقتصادية الخاصة للحد من الاعتماد على القوى الخارجية.
وقد يشهد المستقبل المنظور ظهور أصوات أفريقية أكثر حزمًا في الشؤون العالمية كما هو الحال بالنسبة لعضوية الاتحاد الإفريقي في مجموعة العشرين، مع استفادة القارة من مواردها الطبيعية الهائلة وسكانها المتزايدين للتفاوض على شروط أكثر ملاءمة مع القوى الأجنبية.
ولكن هذا السيناريو الإيجابي لا يمكن أن يتحقق إلا إذا أعطى القادة الأفارقة الأولوية للتعاون الإفريقي الشامل على المصالح الوطنية الضيقة وعملوا بلا كلل لمعالجة الأسباب الجذرية للصراعات، بما في ذلك الفقر وعدم المساواة وضعف هياكل الحكم.