المشهد السياسي الحالي في جمهورية “إفريقيا الوسطى”، مرتبك؛ بسبب تشابكات الحرب الدائرة في الجارة الشرقية (السودان)، ومنذ فترة مبكرة، سبقت اندلاع تلك الحرب، جمعت التحالفات المصلحية بين (روسيا)، بواسطة ذراعها الأمني (مجموعة فاغنر)، ونظام الرئيس (فوستين أورشانج تواديرا)، وقائد قوات الدعم السريع محمد حمدان دقلو الشهير بـ(حميدتي)؛ الذي كان في ذلك الوقت نائبًا لرئيس مجلس السيادة السوداني، فقد ارتبط الحلفاء الثلاثة بشبكة مصالح اقتصادية وسياسية قوية، وقادتهم تلك التحالفات إلى الانغماس (المتبادل) في مستنقعات الصراع في كلا البلدين!
فقوات الدعم السريع، جنبًا إلى جنب مع مجموعة فاغنر، ساعدت نظام “تواديرا” في قمع الفصائل المتمردة عليه، بما فيها تلك التي الفصائل التي تشترك مع قائد الدعم السريع في المكوّن العرقي، كبعض الفصائل في تحالف سيليكا، التي اعتقل قائد الدعم السريع بعض قادتها في السودان، قبل الحرب، وهدَّد بعضهم([1])، كما عقدت حكومة تواديرا اتفاقًا مع الدعم السريع في ديسمبر 2022م لمساعدتها في التصدي للجبهة الشعبية لنهضة إفريقيا الوسطى المتمردة.([2])
وبعد تمرُّد حميدتي على الدولة السودانية، وإعلانه الحرب عليها، جاء الدور على نظام (تواديرا) ليرد الجميل له، فكانت إفريقيا الوسطى واحدة من الدول التي فتحت أراضيها أمام تدفقات المرتزقة وعربان الشتات القادمين من عمق دول إقليم الساحل والصحراء الإفريقية ليمروا عبرها للمشاركة في حرب السودان، وكان معبر (أم دافوق) هو الممرّ الآمِن لتلك الجموع إلى الأراضي السودانية؛ ليشاركوا في القتال ضد الدولة السودانية، كما كانت تتم منها عمليات التشوين ونقل العتاد والسلاح.
وكان هذا التوجُّه مسنودًا بدعم الحليف الثالث المتمثل في مجموعة فاغنر التي شاركت بفعالية في تدريب المرتزقة للقتال في السودان، قبل أن تحدث تحوُّلات كبرى بسبب تمرُّد قيادات فاغنر على موسكو، وانتهاء ذلك التمرُّد بتصفية تلك القيادات، ثم تغيير تركيبة فاغنر بشكل جديد تحت مسمى (الفيلق الإفريقي)؛ والذي يتبع بصورة مباشرة لقيادة وزارة الدفاع الروسية([3]). ومن تلك التحولات: تغيُّر الموقف السياسي الروسي تجاه الأزمة السودانية؛ من مساندة تمرُّد حميدتي إلى مساندة الحكومة السودانية.
وفي المقابل؛ فإن الفصائل المعارضة لنظام تواديرا، وعلى رأسها “الائتلاف الوطني للتغيير الذي يضم فصائل من الفُرَقاء السابقين في (سيليكا) و(أنتي بالاكا) الذي كان يقوده الرئيس المخلوع فرانسوا بوزيزيه، وجدت فرصة سانحة في التحالف مع الحكومة السودانية، التي وفَّرت لها الأرض والدعم والإيواء، لمواصلة كفاحها من أجل إسقاط النظام في بانغي.
تبعًا لتلك التحولات وتلك المواقف، بالإضافة إلى بدء انهيار قوة الدعم السريع العسكرية، شهدت الفترة الأخيرة بوادر تحوُّل آخر، يحدث في موقف “بانغي” من الحرب في السودان، ومحاولة مراجعة النظر في تحالفاتها السابقة. ظهر ذلك في شكل لقاءات بدأت بين المسؤولين في إفريقيا الوسطى والسودان، يُعتقد أنها قد تُفْضِي في النهاية إلى انقلاب موقف “بانغي” من الحرب في السودان، وهذا بالضرورة أمر له انعكاساته على المشهد السياسي والأمني في البلدين.
هكذا ألقى الصراع السوداني السوداني بظلاله على المشهد السياسي في إفريقيا الوسطى، بصورة عميقة، كانت لها تداعياتها الواضحة على الأرض، وذلك ضمن تأرجحات ميزان القوى، بين الحكومة والمعارضة، وفي طبيعة الأدوار التي يلعبها الفاعلون المؤثرون في المشهد السياسي في إفريقيا الوسطى، سواء كانوا فاعلين داخليين أو فاعلين خارجيين.
هذا المقال يحاول أن يفكك تشابكات الصراع (المحلي والدولي) في إفريقيا الوسطى، مقرونة بانعكاسات الحرب في الجارة الشرقية (السودان) على ذلك الصراع، وعلى المشهد السياسي والأمني ككل، ويحاول قراءة مآلات تلك الأوضاع وتأثيراتها الإقليمية.
خلفيات الصراع في إفريقيا الوسطى:
لم يهدأ الصراع السياسي في جمهورية إفريقيا الوسطى يومًا، فمنذ استقلالها عام 1960م، شهد هذا البلد الإفريقي، ذو الحدود الحبيسة بين تشاد والكاميرون والكونغو، والكنغو الديمقراطية، والسودان، وجنوب السودان، خمسة انقلابات عسكرية، كان آخرها انقلاب ميشيل جوتوديا عام 2013م([4])، الذي شهدت البلاد في أعقابه حربًا أهلية طائفية تُعتَبر الأسوأ من نوعها في إفريقيا، أدَّت إلى انزلاق البلاد إلى شلالات دماء وتناحُر أهلي عنيف بين الأكثرية المسيحية والأقلية المسلمة، التي ارتُكبت بحقها أبشع المجازر، وانزلقت البلاد بعدها إلى حالة فوضى وصراع سياسي، استمر مرتفعًا حينًا ومنخفضًا أحيانًا أخرى، حتى يوم الناس هذا.
وكان اتفاق السلام الأول الذي تم توقيعه بين تحالف سيليكا، الذي يُشكِّل المسلمون أغلبيته، والرئيس المخلوع فرانسوا بوزيزيه الذي قاد مجموعات أنتي بالاكا المسيحية سيئة الذكر، واحدة من تلك المنخفضات في وتيرة الصراع، فالاستقرار الجزئي الذي حدث بعد تدخُّل فرنسا عسكريًّا وإقرار حكومة انتقالية برئاسة (كاثرين سامبا بانزا)، أول امرأة تتولى رئاسة جمهورية إفريقيا الوسطى، هو الذي مهَّد الطريق إلى قيام الانتخابات في عام 2016م، التي فاز بنتائجها فوستين أورشانج تواديرا، الذي كان رئيسًا للوزراء في عهد بوزيزيه. وقبض تواديرا على مقاليد الحكم بيد من حديد، ولم يترجل عن كرسي الرئاسة منذ ذلك الحين، مستعينًا في ذلك بدعم أمني وعسكري وسياسي من روسيا الاتحادية، التي ساعدته على تحقيق طموحه في البقاء رئيسًا مدى الحياة، وهو ما دفَع فصائل المعارضة لحمل السلاح من أجل إنهاء حُكمه، وتسبب في عودة البلاد إلى حالة التوتر والارتباك من جديد.
وعلى الرغم من اتفاق السلام الذي أبرم بين الحكومة والمعارضة في العام 2019م؛ إلا أن النزاع عاد من جديد، مع إصرار تواديرا على البقاء في السلطة، بدعم الروس، وتخطي المواد الدستورية التي تمنعه من ذلك، عن طريق إجراء استفتاء شعبي على تعديلات دستورية تتيح له الترشح إلى فترات غير محددة([5]).
الفاعلون في المشهد السياسي بإفريقيا الوسطى:
المشهد السياسي الحالي في إفريقيا الوسطى، يشكله فاعلون أساسيون، محليون وإقليميون ودوليون، هم:
1- نظام الرئيس تواديرا:
يحكم الرئيس فوستين أورشانج تواديرا، الأستاذ الجامعي السابق، البلاد منذ العام 2016م حتى الآن، وقد مهَّد لنفسه الطريق الدستوري للبقاء رئيسًا مدى الحياة من خلال التعديلات الدستورية التي أجراها في يونيو 2023م.
وقد بدأ المشوار السياسي لتواديرا عام 2008م، عندما عيّنه الرئيس الأسبق فرانسوا بوزيزيه رئيسًا للوزراء، واستمر في المنصب حتى أوائل عام 2013م، عندما سقطت البلاد في أتون الحرب الأهلية، وسقطت العاصمة “بانغي” في قبضة مقاتلي تحالف سيليكا، لينتهي الأمر بإقالة تواديرا من رئاسة الوزراء، بناء على اتفاق سلام أُبرم بين تحالف سيليكا والرئيس فرانسوا بوزيزيه؛ حيث غادر تواديرا البلاد إلى فرنسا، ولكنه سرعان ما عاد إلى الوطن، ضمن عملية سانغاريس (Sangaris) التي تدخلت بها فرنسا عسكريًّا في إفريقيا الوسطى، وأسفرت عن تأسيس عملية انتقال سياسي دعمته الأمم المتحدة، ومِنْ ثَمَّ إنشاء حكومة انتقالية مهَّدت الطريق لانتخابات رئاسية عام 2016م التي فاز فيها تواديرا، ومنذ ذلك الحين أصبح رئيسًا لجمهورية إفريقيا الوسطى، واكتسب شعبية واسعة، نتيجة للاستقرار الذي شهدته البلاد في الفترة الأولى من حُكْمه.
ولكن سرعان ما عاد التوتر مرة أخرى يجتاح إفريقيا الوسطى، حين عاودت الفصائل المسلحة المتمردة القتال ضد حكم تواديرا، مع بداية العام 2018م، ونجحت في السيطرة على أكثر من 80% من البلاد، ومعظم الثروات الطبيعية، وأصبحت سلطة حكومة تواديرا تكاد لا تتجاوز العاصمة “بانغي”؛ وتسبب القتال في نزوح أكثر من 700 ألف مدني. لكنّ “تواديرا” نحج بمساعدة الروس والحكومة السودانية، في إبرام اتفاق سلام مع 14 فصيلًا متمردًا، وجرى توقيعه في الخرطوم عام 2019م؛ حيث تعهَّدت تلك الفصائل بتسليم سلاحها، مقابل دعمها واستيعاب قادتها وكوادرها في الحكومة والإدارة([6]).
أسهم ذلك الاتفاق في تحقيق سلام نسبي في جمهورية إفريقيا الوسطى، واستقرار أمني استمر لأكثر من عام، ولكن الاضطرابات عادت مرة أخرى ومتزامنة مع بدء الحملة الانتخابية في ديسمبر 2020 التي أعلن فيها تواديرا ترشحه لدورة جديدة في الانتخابات الرئاسية، وطالب المعارضون بتأجيل الانتخابات بحجة عدم توفُّر الأمن لجميع المواطنين للمشاركة في الانتخابات، ولكنَّ حكومة تواديرا رفضت الطلب وأصرت على إجراء الانتخابات في مواعيدها المقررة([7]). وبإزاء ذلك أعلن الرئيس الأسبق (المعزول) فرانسوا بوزيزيه تمردًا مسلحًا على الدولة، خاصة بعد أن رفضت المحكمة الدستورية العليا طلبه الترشح للانتخابات الرئاسية لاتهامه بارتكاب جرائم وإبادة جماعية ضد الإنسانية وإدراجه ضمن قوائم عقوبات الأمم المتحدة([8]).
في العام 2021م تمكن تواديرا من الفوز في الانتخابات الرئاسية محققًا نسبة 53.16% من أصوات الناخبين، الذين لم يتمكَّن العديد منهم في المناطق الخارجة عن سيطرة الحكومة من الإدلاء بأصواتهم([9]).
وأما فرانسوا بوزيزيه فقد التحق بالفصائل المتمردة من سيليكا (ذات الأغلبية المسلمة)، وأنتي بالاكا (ذات الأغلبية النصرانية)، التي أعلنت ائتلافًا مكونًا من 6 مجموعات مسلحة تحت اسم (ائتلاف الوطنيين من أجل التغيير)، وأسندت إليه رئاسته.
2- فصائل المعارضة المسلحة:
هي المجموعات المسلحة التي تقاتل من أجل إنهاء حكم تواديرا المدعوم من روسيا، وقد تمكنت في الفترة ما بين الأولى من حكم تواديرا، ما بين عامي 2016م و2018م من السيطرة على معظم أراضي إفريقيا الوسطى، بنسبة بلغت في بعض الأحيان 80% من البلاد، حتى أصبحت منطقة السيطرة الفعلية لحكومة تواديرا لا تتجاوز العاصمة “بانغي” وما حولها، ولم ينحسر ذلك التقدم إلا بعد استعانة الرئيس تواديرا بالمرتزقة الروس في شركة فاغنر الأمنية الخاصة، التي كان لها دور كبير في حماية نظام حكمه.
وفي عام 2019م، أفلحت وساطة سودانية روسية في إقناع 14 فصيلًا من فصائل المعارضة المسلحة بتوقيع اتفاق سلام مع حكومة “بانغي”، وبموجب ذلك الاتفاق، تم إشراك قيادات تلك الفصائل في حسم السلطة السياسية، وإدماج كوادرها في العمل الإداري للدولة، بعد تسليم أسلحتهم والتخلي عن التمرد على الحكومة. ولكنّ الكثير من تلك الفصائل عادت للقتال مرة أخرى؛ نتيجةً للخلاف بينها وبين الرئيس تواديرا في موعد عقد الانتخابات الرئاسية في العام 2020م.
ومن أبرز فصائل المعارضة المسلحة: “الائتلاف الوطني من أجل التغيير”، الذي يضم 6 فصائل متمردة، بما فيها فصائل من فرقاء الأمس المتقاتلين خلال حرب 2013م، ويشمل ذلك الفصائل التي كانت منضوية تحت تحالف (سيليكا) الذي يشكل أغلبيته المسلمون، وتلك التي كانت منضوية تحت جماعة (أنتي بالاكا) التي تضم المجموعات النصرانية التي نفذت المجازر بحق المسلمين.
تكون الائتلاف في أعقاب إصرار حكومة الرئيس تواديرا على إجراء انتخابات العام 2020م في موعدها المقرر سلفًا، ورفضها طلبات التأجيل التي نادت بها المعارضة، محتجةً بعدم ملاءمة الوضع الأمني في البلاد لإجراء انتخابات، وأعقب ذلك رفض المحكمة العليا طلب ترشح الرئيس المخلوع بوزيزيه. وبعد فوز الرئيس تواديرا برئاسة الجمهورية، أعلن الائتلاف اختيار بوزيزيه لقيادة الائتلاف، وقال الناطق باسم الائتلاف إن بوزيزيه “يتمتع بخبرة عسكرية، وأنه سيتولى تنسيق جميع الأعمال العسكرية في تحالف الوطنيين من أجل التغيير”.
ومؤخرًا، وتحديدًا في شهر أبريل الماضي 2024م، أعلنت المحكمة الجنائية الدولية عن إصدارها مذكرة اعتقال بحق فرانسوا بوزيزيه؛ لاتهامه بارتكاب جرائم ضد الإنسانية، بما في ذلك القتل والتعذيب والاغتصاب وغيرها من الأعمال الخطيرة، تنبع هذه الادعاءات من أفعال منسوبة إلى الجيش الوطني تحت قيادته من عام 2009 إلى عام 2013م. وفي مذكرة الاعتقال الدولية، التي صدرت في أواخر فبراير المنصرم، ولم يتم الإعلان عنها إلا مؤخرًا في تاريخ 30 أبريل الماضي، وطالبت المحكمة الجنائية الدولية غينيا بيساو، التي يُعتقد أن بوزيزيه يقيم فيها، بالتعاون لاعتقاله وتسليمه لمواجهة الاتهامات المسندة إليه([10]).
ويعتبر قائد فصيل (اتحاد السلام في إفريقيا الوسطى) علي داراس، الذي ترأس الائتلاف لفترة من الفترات، واحدًا من أهم القيادات المعارضة المطلوبة لدى حكومة تواديرا في بانغي، إلى جانب نور الدين آدم، قائد (الحركة الشعبية لنهضة إفريقية الوسطى)، وأحد القادة السابقين لتحالف سيليكا، الذي كان وزيرًا سابقًا في حكومة تواديرا عقب اتفاق الخرطوم 2019م، وقد صدرت ضده مذكرة اعتقال دولية بتهمة ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية. وتقول “بانغي”: إن الرجلين موجودان بالسودان، وإن قواتهما تتحرك في المنطقة الحدودية بين البلدين بما في ذلك الأراضي الخاضعة جزئيًّا لسيطرة الجيش السوداني([11]).
في مطلع العام الحالي أحزرت قوات الائتلاف تقدمًا في محاور القتال على الجبهة الشمالية، فتمكنت من السيطرة على بعض المدن الكبرى، مثل مدينة سيكيدي، في أقصى شمال شرقي البلاد، في مارس 2024م([12])، ما يعني أن لها من القوة ما يمكنها أن تُشكّل مصدر إزعاج وقلق كبيرين لنظام تواديرا في بانغي.
3- كتلة المعارضة في البرلمان:
نعني بها أحزاب المعارضة داخل برلمان إفريقيا الوسطى، وهي أضعف الفاعلين قدرةً على التأثير على مجريات الأحداث في هذا البلد؛ فقد عجزت منذ مجيء تواديرا للحكم في انتخابات 2016م، عن الوقوف بوجه طموحاته غير المحدودة للبقاء في كرسي الحكم مهما كلف ذلك.
أبرز تلك الأحزاب المعارضة في البرلمان “الكتلة الجمهورية للدفاع عن الدستور BRDC”، وهي عبارة عن تجمع للأحزاب السياسية المعارضة، وبعض منظمات المجتمع المدني.
فشلت تلك الكتلة البرلمانية في منع تواديرا من تمرير التعديلات الدستورية التي تُمكّنه من البقاء رئيسًا مدى الحياة، وتحويل المحكمة الدستورية إلى مجرد مجلس استشاري، كما فشلت في الحدّ من نفوذ الروس ومجموعة فاغنر، رغم نجاحها في إحباط محاولات تواديرا لتمرير مشاريع قرارات دستورية لتوفيق أوضاع الوجود الروسي الشاذة في شكل اتفاقية.
4- روسيا:
تُمثل “روسيا” أحد ملامح المشهد السياسي في إفريقيا الوسطى؛ فهي الداعم الأساسي والحامي لنظام الرئيس تواديرا، بما توفّره له من خدمات أمنية وعسكرية وإسناد سياسي مَكَّنه من الاستمرار في الحكم، والتغلب على الفصائل المعارضة، بواسطة ذراعها العسكري المتمثل في مجموعة المرتزقة (فاغنر) سابقًا، التي تحوَّلت إلى (الفيلق الإفريقي)، بعد التمرُّد الفاشل على موسكو الذي قام به قادتها.
بدأ الحضور الروسي في إفريقيا الوسطى منذ العام 2017م، عندما ناشَد الرئيس فوستين أورشانج تواديرا مجلس الأمن الدولي رفع الحظر المفروض على توريد الأسلحة لبلاده؛ لتمكين الحكومة المنتخبة من الدفاع عن نفسها وعن المدنيين ضد هجمات فصائل المعارضة المسلحة التي تَستهدف الاستيلاء على السلطة في بلاده؛ حيث أفشلت روسيا اقتراحًا فرنسيًّا بتحويل أسلحة مصادرة من الصومال إلى إفريقيا الوسطى، وتمكَّنت من تمرير اقتراح بديل له، وهو أن تتبرع هي بأسلحة خفيفة لحكومة “بانغي”.
وسرعان ما تحوّل التبرع الروسي إلى وجود أمني فعّال؛ حيث أرسلت موسكو أكثر 170 مدربًا مدنيًّا، وخمسة من العسكريين لمهمات أمنية تتعلق بحماية المنشآت التي تُنفّذها روسيا في إفريقيا الوسطى، تبيّن فيما بعد أن المدنيين هم في الحقيقة، نخبة من قوات المرتزقة الروس التابعين لشركتي سيرا للخدمات الأمنية وفاغنر التي كان يديرها رجل الأعمال يفغيني بريغوجين المقرّب من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين –قبل مقتله مؤخرًا في حادث تحطم طائرة-، وخلال فترة وجيزة سيطر الروس على معظم المهام الأمنية الرئيسة في إفريقيا الوسطى، بما فيها حراسة الرئيس فوستين أورشانج تواديرا. وفي أغسطس 2018م وقَّعت روسيا اتفاقية تعاون عسكري مع إفريقيا الوسطى، سُمح لها من خلالها بافتتاح مكتب يمثل وزارة الدفاع الروسية في “بانغي”، كما وطَّدت روسيا أقدامها الاقتصادية في مناطق الثروات ومناجم الماس واليورانيوم([13]).
واستخدمت روسيا مجموعة فاغنر، وهي شركة أمنية غير مسجلة رسميًّا في روسيا بل في الأرجنتين([14])، كرأس حربة لنفوذها في إفريقيا الوسطى؛ للحيلولة دون تحمُّل أي مسؤوليات مباشرة أو التزامات تجاه ما تقوم به فاغنر، وبذلك تمكنت من انتزاع مميزات النفوذ الفرنسي في إفريقيا الوسطى، في مجالات تدريب الجيش والحرس الرئاسي وأمن المؤسسات ومناجم الذهب والماس والبلاتين والكروم، مقابل حصة من الدخل والمنافع الاقتصادية الأخرى([15]).
وساعدت روسيا عسكريًّا الرئيس تواديرا من تعديل ميزان القوة بينه وبين المعارضة المسلحة، فبعد أن كانت حكومته تُسيطر فعليًّا فقط على ثلث مساحة إفريقيا الوسطى، تَمكَّن بمعاونة الروس من السيطرة على أغلبية التراب الوطني، لينحسر وجود المعارضة المسلحة في مناطق محدودة وصغيرة على الحدود مع السودان وتشاد وجنوب السودان.
كما استخدمت روسيا أدواتها السياسية والدبلوماسية للضغط داخليًّا، لمساعدة تواديرا على تمرير التعديلات الدستورية التي تُمكّنه من تمديد فرص إعادة انتخابه بشكل غير محدود. ومن ذلك ما تشير إليه بعض المصادر الإعلامية، إلى أن إقصاء رئيسة المحكمة الدستورية السابقة “دانييل دارلان” المعارضة للتعديلات الدستورية من منصبها كان تدبيرًا روسيًّا، وأنها تلقت تهديدات قبل إقالتها بسبب موقفها من التعديلات، وتضيف المصادر أن “جان بيير وابوي” الذي خلفها في رئاسة المحكمة الدستورية ومرّت التعديلات الدستورية من تحت يديه، كان على صلة بموسكو، وقد قام بزيارة إلى روسيا قبل وقت قصير من إجراء الاستفتاء على التعديلات الدستورية([16]).
حلول روسيا محل (فرنسا) الحليف السابق وصاحب النفوذ والإرث الاستعماري القديم، دفَع بإفريقيا الوسطى للدخول في بؤرة صراع النفوذ الدولي، الذي تتسع رقعته لتشمل أغلب الدول الإفريقية التي كانت مقسمة من قبل، بحسب الإرث الاستعماري السابق، بين فرنسا وبريطانيا، رغم أن أمريكا قد حلَّت محل الأخيرة في كثير من مستعمراتها السابقة!
5- فرنسا:
فرنسا صاحبة النفوذ السابق في إفريقيا الوسطى، التي تَعتبر نفسها صاحبة الحق في استغلال الأرض والتحكم في الأمور بحكم إرثها الاستعماري السابق في ذلك البلد، الذي هو بالأساس تم تشكيله أثناء الحقبة الاستعمارية، انتزاعًا من الممالك القديمة في جنوب تشاد وشمال الكونغو!
وفرنسا التي أدَّت المزاحمة الروسية إلى إخراجها خارج دائرة التأثير في البلاد؛ أصبحت تسعى بكل قوتها من أجل استعادة منطقة نفوذها، خاصةً أنها كانت تعتمد بشكل أساسي على الثروات الطبيعية في هذا البلد الغني بالماس والذهب واليورانيوم، وغيرها من المعادن النفيسة.
وردًّا على انحياز حكومة تواديرا إلى روسيا؛ فقد قامت فرنسا بسحب جزء من دبلوماسييها بإفريقيا الوسطى، وجمّدت مساعداتها التي تبلغ عشرة ملايين يورو، وعلّقت التعاون الثنائي العسكري، ورسميًّا عبّرت فرنسا عن قلقها من النفوذ الروسي الذي يهيمن بواسطة الشركات الروسية على الذهب والماس، كما ندَّدت فرنسا بالانتهاكات الروسية في مجال حقوق الإنسان بإفريقيا الوسطى، متَّهمةً القوات الروسية بتنفيذ إعدامات جماعية وتعذيب([17]). كما اتجهت فرنسا إلى دعم جماعات المعارضة المسلحة، التي تقاتل لإسقاط نظام تواديرا.
في الآونة الأخيرة بدأت فرنسا تستعيد علاقاتها مع إفريقيا الوسطى، وتخطو خطوات حقيقية لاستعادة نفوذها الذي استولت عليه روسيا، خصوصًا بعد زيارتين قام بهما رئيس إفريقيا الوسطى فوستين أرشانج تواديرا لباريس في سبتمبر 2023م، وفي أبريل 2024م حيث وقَّع البلدان خارطة طريق مشتركة لبناء شراكة بينهما، وتلا ذلك التوقيع فكّ فرنسا تجميد مساعداتها المالية لبانغي، وأشارت تقارير أوروبية إلى أن البلدين توصلا إلى تفاهمات، خلال زيارة تواديرا لباريس، تضمَّنت سَعْي بانغي لفك الارتباط جزئيًّا مع موسكو([18]).
6- تشاد:
تشترك تشاد مع جمهورية إفريقيا الوسطى في حدود طويلة؛ مما يؤدي إلى توترات في السيطرة على المناطق الحدودية. هذا بجانب وجود صراع تاريخي وتنافس بين البلدين على السيطرة على الموارد الطبيعية مثل النفط والذهب، وفي هذا الإطار تدعم تشاد، في بعض الأحيان الفصائل المسلحة التي تقاتل حكومات “بانغي”.
وتاريخيًّا لعبت تشاد دورًا في إسقاط الرؤساء في بانغي وتنصيب آخرين، فعلى سبيل المثال قام الرئيس التشادي الراحل إدريس ديبي بمساندة فرانسوا بوزيزيه في إسقاط الرئيس المنتخب “إنج فليكس باتيسيه” عام 2003م، وكانت القوات التي نفَّذت الانقلاب تتكون في غالبها من عناصر قوات النخبة التشادية، وهذه القوات نفسها شعرت بالخيانة أو الخديعة مِن قِبَل فرانسوا بوزيزيه فيما بعد(*)، فنشب الخلاف بينها وبينه، ليستفحل إلى تمرُّد في الشمال قاده تحالف سيليكا بقيادة ميشيل جوتوديا، الذي تمكَّن من الإطاحة بحكم بوزيزيه والسيطرة على العاصمة بانغي في العام 2013م([19]).
شاركت القوات التشادية ضمن قوة حفظ السلام الإقليمية في إفريقيا الوسطى بعد أحداث العنف الطائفي في 2013م، واتهمت خلال تلك الفترة بارتكاب جرائم ضد المدنيين والتعاطف مع سيليكا، مما دفَع بها إلى سحب جميع قواتها من إفريقيا الوسطى وإغلاق حدودها معها بشكل تام، ولكنّ تلك الإجراءات لم تكن تمنع عناصر سيليكا وغيرهم من المسلحين المناهضين لحكومة “بانغي” من التسلل عبر الحدود، مما جدد اتهامات “بانغي” لتشاد بالوقوف خلف زعزعة أمن واستقرار إفريقيا الوسطى.
7- السودان:
تأثير السودان على الأوضاع في إفريقيا الوسطى طبيعي بحكم الحدود المشتركة، والتداخل القبلي، شأنه في ذلك كشأنه مع تشاد، وتُعتبر الحدود المشتركة منطقة لحركة المتمردين المعارضين للحكومات في كلا البلدين؛ حيث تتنقل مجموعات المعارضة المسلحة في إفريقيا الوسطى على طول هذه الحدود. كما أن السودان أيضًا قد تأثر تاريخيًّا بتوترات الأوضاع في إفريقيا الوسطى مرارًا؛ حيث انعكست عليه بوفود ظواهر سالبة مثل ظاهرة النهب المسلح التي استفحلت في إقليم دارفور، قبل نشوب الحرب في دارفور، واستمرت بعدها.
ولكنَّ السودان لعب أدوارًا إيجابية أيضًا في الصراع في إفريقيا الوسطى، ففي العام 2019م لعبت الوساطة السودانية الدور الرئيس في تقريب وجهات النظر بين الفصائل المتمردة ونظام بانغي، ما أدَّى في نهاية الأمر إلى توقيع اتفاق سلام في الخرطوم، اندمجت بموجبه 14 جماعة مسلحة في حكومة تواديرا، بعد تسليم سلاحها ووقفها القتال.
بعد تجدُّد الصراع مرة أخرى في إفريقيا الوسطى، وظهور فاغنر الروسية كفاعل خارجي وحليف مهمّ لبانغي، تجدَّد الدور السودان، ولكن بشكل غير مؤسسي، تمثل ذلك في التحالف الثلاثي الذي جمع بين نظام تواديرا في بانغي وفاغنر الروسية وقوات الدعم السريع بقيادة نائب الرئيس السوداني آنذاك، محمد حمدان دقلو (حميدتي)، ذلك الحلف الذي يقوم على مصالح سياسية واقتصادية. وساعدت قوات الدعم السريع الرئيس تواديرا في صراعه ضد عناصر المعارضة المسلحة، وقامت بإغلاق الحدود السودانية أكثر من مرة، فضلًا عن اعتقال بعض قادة المعارضة وسَجْنهم في الخرطوم.
عندما اندلع الصراع في السودان عقب تمرُّد قوات الدعم السريع على الجيش السوداني في أبريل 2023م، وساهمت إفريقيا الوسطى بشكلٍ فعَّال في توفير قاعدة وممرَّات آمنة للإمداد البشري واللوجستي لقوات الدعم السريع والمليشيات القبلية المتحالفة معها، بمساعدة فاغنر الروسية، مما كان له تأثيره المباشر في خارطة الصراع.
وفي مقابل ذلك احتضنت الحكومة السودانية فصائل المعارضة في إفريقيا الوسطى، وقدَّمت لها العون، ردًّا على الدور السلبي لإفريقيا الوسطى في حرب السودان.
8- رواندا:
منذ العام 2013م، شاركت رواندا في مهمة الأمم المتحدة لحفظ السلام في جمهورية إفريقيا الوسطى (MINUSCA) بإرسال قوات عسكرية، وتُعتبر واحدًا من أقوى حلفاء الرئيس تواديرا في إفريقيا، ففي العام 2020م، أرسلت رواندا ما يقرب من 1000 جندي إلى إفريقيا الوسطى لمساندته في حربه ضد المعارضة المسلحة؛ حيث قاتلوا إلى جانب قوات مرتزقة فاغنر([20]).
وقالت الحكومة الرواندية في ذلك الحين إنها “نشرت قوة حماية في جمهورية إفريقيا الوسطى في إطار اتفاق دفاعي ثنائي”، موضحةً أن هذه الخطوة جرت “ردًّا على استهداف وحدة قوات الدفاع الرواندية التابعة لقوة الأمم المتحدة لحفظ السلام مِن قِبَل المتمردين المدعومين من فرنسوا بوزيزيه”، وأن “القوات الرواندية ستُسهم أيضًا في ضمان إجراء انتخابات عامة سلمية وآمنة يوم الأحد 27 ديسمبر 2020م”([21]).
وتسعى رواندا لإبراز نفسها كدولة مؤثرة وفاعلة في المحيط الإفريقي، وتفرض نفسها شرطيًّا في إفريقيا؛ حيث تسارع إلى نشر جنودها في مناطق الصراع التي تبرز في العديد من الدول الإفريقية، مثل بنين، وموزمبيق، ويتجاوز عدد جنودها المنتشرين في الخارج 6000 جندي. وإلى جانب ذلك تكسب رواندا بعض المصالح الاقتصادية في الدول التي تُرسل إليها جنودها.
انعكاسات حرب السودان على المشهد السياسي في إفريقيا الوسطى:
استقطبت حرب السودان كلاً من حكومة “بانغي” ومعارضتها المسلحة، لينغمسا في الصراع، فحكومة “بانغي” التي كانت قد عقدت اتفاقًا مع (حميدتي) قائد الدعم السريع منذ ديسمبر 2022م؛ لمساعدتها في التصدي للمجموعتين المسلحتين المعارضتين لها، وهما جبهة الشعبية لنهضة إفريقيا الوسطى بقيادة نور الدين آدم، واتحاد السلام في إفريقيا الوسطى بقيادة علي داراس، استمرت في هذه التحالف حتى بعد تمرد الدعم السريع على الدولة السودانية واندلاع الحرب، وفي مقابل ذلك قدَّمت كل التسهيلات اللازمة لحميدتي وقواته عسكريًّا واقتصاديًّا، فسمحت لهم باستغلال مناجم الذهب حول بلدة (غورديل) في فاكاغا، وكان لهذا الدعم أثره الواضح في تطويل أمد الصراع في السودان الذي اندلع في أبريل 2023م([22]).
وأشارت تقارير صحفية إلى استغلال بعض قادة الدعم السريع أراضي إفريقيا الوسطى، في أنشطة غير مشروعة، وأشار موقع موند أفريك إلى أن العديد من الناقلين السودانيين بإفريقيا الوسطى يعملون لصالح عبد الرحيم دقلو (الأخ الأكبر لحميدتي)، والقائد الثاني للدعم السريع، في تهريب الأبقار المسروقة من السودان إلى “بانغي” عبر (أم دافوق) و(بامباري)، وفي طريق العودة ينقلون القهوة التي يشترونها من بامباري بأموال الأبقار المسروقة([23]).
وأما فيما يخص المعارضة المسلحة، فقد أصبحت بحاجة إلى التحرك في الأراضي السودانية بصورة ماسة، خاصةً بعد أن فرضت حكومة “بانغي” سيطرتها على أكثر من 85% من مواقع تحرُّك المليشيات في شمال البلاد، وذلك في أعقاب مقتل الرئيس التشادي إدريس ديبي الذي كان يمثل سندًا كبيرًا للفصائل المعارضة التشادية، وقد قلبت حرب السودان المعادلة بالنسبة لها، فبعد أن كانت قوات حميدتي تُضيِّق الخناق عليهم لصالح نظام بانغي، وتغلق الحدود السودانية في وجههم، تبدّلت الأمور لتجد تلك الفصائل في الخرطوم حليفًا جديدًا لها؛ حيث فتحت حكومة الرئيس البرهان الأراضي السودانية لهم، واستضافت قياداتهم، بدون أي ضوضاء أو إعلان رسمي؛ حيث أقام عليّ داراس في الخرطوم، بينما أقام نور الدين آدم لفترة في مدينة أم درمان، تحت حماية البرهان، قبل أن ينقل قواته إلى المناطق النائية([24]).
ونشطت العمليات العسكرية للمعارضة المسلحة في داخل إفريقيا الوسطى، وأشارت تقارير الأمم المتحدة خلال العامين من 2023 و2024م إلى استمرار الأزمة الإنسانية، فيما أشارت تقارير صدرت في العام 2023م، إلى استخدام القوة المفرطة مِن قِبَل جميع أطراف النزاع، شمل ذلك الانتهاكات الجنسية المرتبطة بالنزاع، والاعتداءات الجسيمة ضد الأطفال، واستخدام المدارس والمستشفيات لأغراض عسكرية([25]).
تحوُّل في اتجاهات “بانغي” نحو الأزمة السودانية:
في الآونة الأخيرة حدثت تطورات كبيرة في مواقف كثير من الدول فيما يتعلق بالحرب في السودان؛ حيث تبدلت مواقف العديد من دول الجوار الإفريقي التي كانت مساندة، بشكل أو آخر، لتمرد حميدتي، حيث انتقلت من المساندة إلى خانة الحياد، كما هو الحال مع جنوب السودان، وإثيوبيا، في وقت تحولت فيه روسيا إلى حليف قوي للحكومة السودانية.
ولم تكن إفريقيا الوسطى بمعزل عن هذه التحولات، وفي هذا السياق مُلئت الصحف بتقرير نقله موقع أفريكا انتيلجنس، عن تغيير لُوحِظ في موقف “بانغي” تجاه الأزمة في السودان، ففي شهر فبراير من العام الجاري، التقى الرئيس تواديرا وبعض مستشاريه بمسولين بارزين في جهاز المخابرات العامة السوداني، في خطوة عدَّها الموقع تقاربًا مِن قِبَل الرئيس تواديرا مع الرئيس السوداني عبد الفتاح البرهان، نائيًا بنفسه عن قائد الدعم السريع محمد حمدان دقلو (حميدتي)، وأشار إلى أن تواديرا كلّف أقرب مستشاريه بضبط العلاقة مع جهاز المخابرات العامة السوداني، مشيرًا إلى هذه اللقاءات، هي مواصلة للنقاش حول القضايا الثنائية التي ناقشها تواديرا والبرهان خلال لقائهما في سبتمبر الماضي على هامش الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك؛ حيث تناولت الملفات الأمنية بين كلا البلدين، وكشف أن تواديرا طلب من البرهان التعاون في تعقُّب قائدي المعارضة الأكثر بروزًا؛ علي داراس ونور الدين آدم، وتسليمهما لبانغي، وبحسب الموقع فإن البرهان حاول ادعاء عدم علمه بهذه الأنشطة، إلَّا أن تواديرا فاجأه بمعلومات تفصيلية عن تحركات الرجلين في السودان. ويضيف الموقع أنه كان من المقرر عقد لقاء في بانغي بين البرهان وتواديرا، ولكنَّ البرهان قرر عدم الحضور لأسباب تتعلق بترتيبات أمنية.
ويشير الموقع إلى أن البرهان وافق على مطالب تواديرا مقابل دعمه ومساندته في تضييق الخناق على شبكات حميدتي الاقتصادية والتسليحية في إفريقيا الوسطى، وأنه تم الاتفاق على أن وزير دفاع إفريقيا الوسطى كلود رامو بيرو سيزور العاصمة الإدارية السودانية الجديدة (بورتسودان) في المستقبل القريب لمواصلة التنسيق الأمني بين البلدين([26]).
ويَعُدّ المراقبون هذا التغيير في موقف بانغي تجاه الأزمة السودانية، صفعة في وجه (حميدتي)، ويُرجعون ذلك إلى معرفة تواديرا بأن قاعدة حميدتي وقوته الصلبة آخِذة في التآكل والانهيار، ويراهن على انتهاء حرب السودان لصالح بقاء الدولة السودانية واضمحلال الدعم السريع، خاصةً بعد أن تحوَّل الدعم الروسي عن حميدتي إلى البرهان!
مما يعني انهيار الحلف الثلاثي القديم القوي بين بانغي وحميدتي و(فاغنر) التي تلاشت بعد تمردها على موسكو. ويريد تواديرا أن يستثمر سياسيًّا بالمصالحة مع البرهان، فوجود ورقة المجموعات المسلحة المناوئة له في يد السودان، يمثل تهديدًا مباشرًا لنظام حكمه؛ حيث يمكن أن يصبح الدور السوداني، في حالة انتهاء الحرب بهزيمة حميدتي، بديلًا قويًّا للدور التشادي في تأثيره على أمن واستقرار إفريقيا الوسطى.
خاتمة:
صراع النفوذ بين الدول العظمى، له دور كبير في تأجيج الصراعات المحلية والإقليمية، وتشهد إفريقيا في الفترة الأخيرة صراعًا عنيفًا بين الدول الكبرى على النفوذ والمصالح السياسية والاقتصادية، خصوصًا مع وفود فاعلين دوليين جديدين، وهما روسيا والصين. وأصبحت إفريقيا ساحة لهذا النوع من الصراع، وفي هذا الإطار تُستخدم القوى السياسية؛ سواء كانت أنظمة حكم أو مجموعات معارضة، أدوات في هذه المنافسة الشرسة.
النزاع في إفريقيا الوسطى، كان مثالًا لهذا النوع الصراع الدولي، الذي تشابكت فيه الأدوات المحلية مع الأدوات الإقليمية، مع شدة احتدام الصراعات وتزايد مناطقها، تنفتح قنوات مشرعة على بعضها البعض. والحرب في السودان وتداخلاتها مع دول الجوار كانت مثالًا شاخصًا على ظاهرة جديدة في السياسة الدولية يمكن أن يطلق عليها مسمى ظاهرة (أقلمة الصراعات المحلية).
إفريقيا الوسطى كانت واحدة من الأدوات الإقليمية التي استخدمت في تأجيج حرب السودان، ولكنها أخذت نصيبها وافرًا من ارتدادات هذه الحرب التي سيكون لها تأثيرها الواسع على مجمل الإقليم، وعلى صراع النفوذ الدولي في المنطقة.
إن الانزلاق إلى منطقة زعزعة الاستقرار في الدول الجارة، هو الخطأ الأساسي الذي تقع فيه كثير من الأنظمة الحاكمة في إفريقيا؛ حيث تتناسى أن الأمراض متشابهة، فمعظم الدول الإفريقية تعيش هشاشة في التكوين والتماسك الداخلي ونزاعات داخلية، ولذلك عندما تستغل دولة إفريقيا تلك الهشاشة في جاراتها لتحقق مكاسب مؤقتة، يجب عليها ألَّا تنسى أن الدور سرعان ما يأتي عليها، لتدفع نفس الثمن. وهذا ما وقعت فيه إفريقيا الوسطى في حرب السودان، وسوف تدفع ثمنه ما لم تسارع إلى معالجة مواقفها تجاه أطراف الحرب.
ومن جهة أخرى، فإن أسباب صراع النفوذ الدولي في إفريقيا الوسطى شبيهة بأسباب صراع النفوذ الدولي بالنسبة للسودان، ويبدو أن مشهد إفريقيا الوسطى الذي أدَّى خروج فرنسا من منطقة نفوذها التاريخي لصالح روسيا، سيتكرر بنفس التفاصيل في السودان مع بريطانيا وأمريكا لصالح روسيا والصين.
ومن قدَر إفريقيا الوسطى أنها وقعت في منطقة تقاطعات النفوذ بين الشرق والغرب، مع هشاشة التكوين الداخلي، ولهذا تحتاج من حُكّامها إلى قدر كبير من الحنكة السياسية؛ بحيث تعرف أين تضع قدمها في منطقة الصراعات الإقليمية، وفي منطقة صراعات النفوذ الدولية، فكلّ تلك حقول متفجرة.
…………………………………
[1] – الصادق الرزيقي، الحرب ومواقف دول جوار السودان، مقال منشور على موقع الجزيرة. نت (http//ljazeera.net/amp/opinion/2024/3/7/%D8%A3%D9%)، بتاريخ 7 مارس 2024م.
[2] – تقرير، لعبة غموض يمارسها رئيس إفريقيا الوسطى في تعامله مع السودان، مقال مترجم منقول عن موقع الجزيرة. نت (http//aljazeera.net/amp/politics/2024/6/11/%D9%84%D8) بتاريخ 11 يونيو 2024م.
[3] – زهير حمداني، فيلق إفريقيا وريث فاغنر الذي يستحضر الزمن السوفياتي الضائع، مقال منشور بموقع الجزيرة. نت (http//aljazeera.net/politics/longform/2024/8/30/%D9%81%) بتاريخ 30 أغسطس 2024م.
[4] – محمد زكريا فضل، كيف نفهم الصراع بين فرنسا وروسيا في جمهورية إفريقيا الوسطى، مقال منشور بموقع الأفارقة للدراسات والاستشارات (http//alafarikaorg/amp/4941/france-russia-central-africa-republic/?amp) على الإنترنت، بتاريخ 23 أغسطس 2021م.
[5] – ميرفيت عوف، كيف تحول تواديرا رئيس إفريقيا الوسطى من مدرس رياضيات إلى سياسي مخيف؟، مقال منشور بموقع الجزيرة نت (http//aljazeera.net/amp/midan/reality/politics/2023/8/26/%D8%)، بتاريخ 26 اغسطس 2023م.
[6] – المصدر السابق.
[7] – محمد زكريا فضل، مصدر سابق.
[8] – وكالة أنباء الأناضول ( 2184303/إفريقيا-الوسطى-الرئيس-المخلوع-يقبل-بترؤس-تحالف-متمردwww.aa.comtr/ar/)، 22 مارس 2021م.
[9] – ميرفيت عوف، مصدر سابق.
[10] – خبر منشور بموقع أفروبوليسي على الإنترنت (اعتقال-فرانسوا-بوزيزيهhttp//afropolicy.com/)، بتاريخ 3 مايو 2024.
[11] – فريق المنتدى، رئيس جمهورية إفريقيا الوسطى ينحاز إلى الجيش السوداني، تقرير منشور بموقع منتدى العاصمة للدراسات السياسية والمجتمعية (ينحاز-رئيس-جمهورية-إفريقيا-الوسطى-إلى/http//capitalforum.net/)، بتاريخ 21 نوفمبر 2024م، ترجمة لتقرير موقع أفريكا انتليجنس.
[12] – وكالة نوفا نيوز (http//www.agenzianova.com/ar/news/republic-centrafricana-lacoalizione-ribelle-cpc-conquista-sikikede-nel-nord-est-del-paese/)، بتاريخ 8 مارس 2024م.
[13] – محمد تورشين، ورقة تحليلية… التمدد الروسي في إفريقيا الوسطى، مركز الجزيرة للدراسات، قطر 23 مارس 2022م، ص 4.
[14] – زهير حمداني، مصدر سابق.
[15] – محمد تورشين، مصدر سابق، ص4.
[16] – ميرفت عوف، مصدر سابق.
[17] – محمد تورشين، مصدر سابق ص4.
[18] – اتفاق بانكروفت… هل تتجه إفريقيا الوسطى للتقارب مع الغرب وفك الارتباط بروسيا، تقرير صادر عن مركز المستقبل للدراسات والأبحاث، أبو ظبي أغسطس 2024م.
*– استبدلهم بوزيزيه بجنود من جنوب إفريقيا، مما أثار غضبهم، وتحول الأمر إلى تمرد في الشمال باسم تحالف سيليكا.
[19] – Peter Knoope & Stephen Buchanan-Clarke, Central African republic: A Conflict Misunderstood, The Institute for Justice and Reconciliation (IJR), Cape Town,
[20] – مكي معمري، رواندا تريد أن تصبح شرطي إفريقيا الجديد، مترجم عن (الإيكونوميست)، منشور بموقع الإمارات اليوم (www.emaratalyoum.com/politics/report-and-translation/2023-10-29)، بتاريخ 29 أكتوبر 2023م.
[21] – موقع صحيفة الشرق الأوسط على الإنترنت (http//aawsat.com/home/article/2695226)، خبر صحفي بتاريخ 21 ديسمبر 2020م.
[22] – لعبة غموض يمارسها رئيس إفريقيا الوسطى في تعامله مع السودان، تقرير منشور بموقع الجزيرة نت، بتاريخ 11 يونيو 2024م، ترجمة عن الصحافة الفرنسية.
[23] – المصدر السابق، نقلًا عن موند أفريك.
[24] – رئيس جمهورية إفريقيا الوسطى ينحاز إلى الجيش السوداني، مصدر سابق.
[25] – تقرير الأمم المتحدة حول إفريقيا الوسطى، منشور بموقع www.unhcr.org.
[26] – رئيس جمهورية إفريقيا الوسطى ينحاز إلى الجيش السوداني، مصدر سابق.