نشرت مؤسسة “كونراد إديناور/ Konrad Adenauer Stiftung” الألمانية البحثية مقالًا تحليليًّا بقلم “جريجور جاكي/Gregor Jaecke”، رئيس مكتب جنوب إفريقيا التابع للمؤسسة، وبروفيسور كريستوف فيدنروث/ Christoph Wiedenroth”، استعرضا خلاله نتائج انتخابات الجمعية الوطنية والبرلمانات الإقليمية التسعة في جنوب إفريقيا يوم 29 مايو 2024م.
وحَصل حزب نيلسون مانديلا “حزب المؤتمر الوطني الإفريقي” على قُرابة 40٪ من الأصوات على المستوى الوطني، وبالتالي خسر الأغلبية المطلقة، لأول مرة، منذ نهاية نظام الفصل العنصري في عام 1994م. ونتيجة لذلك، أصبحت مسألة تشكيل حكومة ائتلافية ضرورة سياسية؛ وهي سابقة من نوعها في كيب تاون.
ثم تطرَّق الباحثان إلى خطوات تشكيل حكومة الوحدة الوطنية، انتقالًا إلى سِجلّها حتى الآن، ووقوفًا على نقاط الاختلاف والتقاطُعات الكُبرى بين شركاء الائتلاف وأعضاء الحكومة الوطنية. ثم خلصا إلى مناقشة ما الذي يُهدِّد تَماسُك هذا التحالف المُكوَّن من عشرة أحزاب؟ وهل يمكنه الصمود حتى الانتخابات المحلية القادمة في عام 2026م؟
بقلم/ جريجور جاكي و د. كريستوف فيدنروث
ترجمة وتقديم: شيرين ماهر
الوضع السياسي عقب الانتخابات وتشكيل حكومة الوحدة الوطنية:
جاءت نتيجة الانتخابات في جنوب إفريقيا بمثابة مفاجأة للعديد من الخبراء. ولم يتوقع أحد أن الحزب الحاكم منذ فترة طويلة “حزب المؤتمر الوطني الإفريقي”؛ سوف يعجز عن حصد الأغلبية المطلقة على المستوى الوطني. وجاءت نتيجة الانتخابات الرسمية التي بلغت 40.18%، مُعلِنة خسارة حزب المؤتمر الوطني الإفريقي لأكثر من 17% من كتلته التصويتية مقارنة بالانتخابات السابقة في عام 2019م[1].
ونظرًا لذلك، اضطر الحزب إلى تشكيل حكومة ائتلافية على المستوى الوطني كـ”سابقة” في تاريخ البلاد. واستنادًا إلى المصطلح الرمزي لحكومة الوحدة الوطنية الذي أُطلِق بعد إجراء أول انتخابات حرة منذ نهاية الفصل العنصري في عام 1994م، قرر حزب المؤتمر الوطني الإفريقي اللجوء إلى هذا الإطار من التحالف متعدد الأحزاب. وتتكون حكومة الوحدة الوطنية الحالية من عشرة أحزاب، وتهدف إلى بدء الإصلاحات المطلوبة بشكل عاجل على كافة الأصعدة السياسة.
لقد تكبَّد حزب المؤتمر الوطني الإفريقي خسائر كبيرة في الأصوات على مستوى برلمان المقاطعات. وقد أدَّى ذلك، بخلاف عوامل أخرى، إلى خسارة الأغلبية المطلقة من الأصوات في مقاطعتين (كيب الشمالية – جوتنج)، فضلًا عن فقدان منصب رئيس الوزراء في مقاطعة (كوازولو ناتال) ذات الثِقل الاقتصادي والاجتماعي والسياسي، لصالح حزب الحرية إنكاثا (IFP)، الشريك في التحالف الحاكم. إن ما يجمع بين نتائج الانتخابات الكارثية على المستويين الوطني والإقليمي هو السبب الذي أدَّى إلى تلك النتائج: سوء إدارة المؤتمر الوطني الإفريقي، والفساد المتفشي بوتيرة متصاعدة في الحزب والدولة[2].
لقد أصبح تشكيل حكومة الوحدة الوطنية ممكنًا نظرًا للنتائج السيئة التي حققها حزب المؤتمر الوطني الإفريقي في الانتخابات، فضلًا عن مجموعة من العوامل الموازية الأخرى. ففي الفترة التي سبقت الانتخابات، كان من الواضح منذ وقت مبكر أن العديد من مواطني جنوب إفريقيا يُفضّلون حكومة ائتلافية لحل العديد من المشكلات التي تعاني منها البلاد. على سبيل المثال، تراجعت شعبية المؤتمر الوطني الإفريقي على مدار سنوات. ومِن ثَم، شرعت وسائل الإعلام والمجتمع المدني، قبيل الانتخابات بفترة طويلة، في مناقشة خيارات تشكيل حكومة ائتلافية، وكذلك بعد بدء الانتخابات. وقد مكَّن ذلك مواطني جنوب إفريقيا من التعرف، في وقت مبكر، على احتمالات وفُرص تشكيل حكومة ائتلافية. وبالنسبة لجنوب إفريقيا، لم يكن هذا التطور مسألة يمكن الاستهانة بها؛ حيث تمتع حزب المؤتمر الوطني الإفريقي بحكم البلاد بأغلبية مطلقة منذ عام 1994م، وبالنسبة للعديد من مواطني جنوب إفريقيا، يتمتع الحزب بالزعامة الأخلاقية للبلاد؛ نظرًا لخدماته في مضمار النضال من أجل الحرية ضد نظام الفصل العنصري اللاإنساني. وحتى في يوم الانتخابات، أظهر حزب المؤتمر الوطني الإفريقي نضجًا سياسيًّا جديرًا بالثناء في ظل تعرضه للهزيمة؛ حيث لم يتردد في قبول نتيجة الانتخابات للحظة، ولم يشكك فيها. وبالتالي، تصرَّف الحزب الحاكم الذي تربع على عرش السلطة لفترة طويلة بشكل ديمقراطي ووفقًا للدستور؛ وهو أمر لا يمكن اعتباره مفروغًا منه بالنسبة لحركات التحرير السابقة في القارة الإفريقية.
وفي الأيام التي أعقبت التصويت، كان السؤال الرئيسي هو: ما هي خيارات الائتلاف التي قد تنشأ في ظل قيادة حزب المؤتمر الوطني الإفريقي؟[3].
وكان ذلك بمثابة قرار بشأن توجهات حركة التحرير السابقة، والذي حدد أيضًا المصير السياسي للرئيس الحالي “سيريل رامافوزا”. علاوة على ذلك، كان لا بد من تشكيل حكومة جديدة خلال الإطار الزمني الضيق والمتمثل في 14 يومًا فقط بموجب دستور جنوب إفريقيا.
لقد تمثلت العقبة أمام جميع الأحزاب في الصراعات الحزبية الداخلية. فلا تزال جنوب إفريقيا دولة شديدة الانقسام، وغالبًا ما يُنظَر إلى الأحزاب باعتبارها تمثل مجموعات اجتماعية أو أيديولوجيات بعينها. ومن هذا المُنطلَق، غالبًا ما يكون من الصعب إيصال نبض التحالفات إلى الناخبين وأعضاء الحزب. على هذه الخلفية، حصل حزب المؤتمر الوطني الإفريقي -على الرغم من خسارته أغلبيته المطلقة– على التفويض السيادي الواضح للحكم. ولكن بعد ضمان بقائه السياسي داخل الحزب، كان على الرئيس “رامافوزا” أن يبحث عن شركاء في الائتلاف؛ حتى يتمكن معهم من تنفيذ أجندة الإصلاح التي وعد بها منذ فترة ولايته الأولى. وينبغي أن يتمثل الأساس غير القابل للتفاوض لأيّ ائتلاف مستقبلي في الولاء الدستوري لجميع شركاء الائتلاف. وقد مثّل الطيف السياسي إلى يسار حزب المؤتمر الوطني الإفريقي الأحزاب الشعبوية اليسارية الراديكالية مثل حزب (MK) الذي سُمي على اسم المتمردين المسلحين، وحزب المناضلين من أجل الحرية الاقتصادية (EFF)[4]، والتي لم تدعم خطط “رامافوزا” الإصلاحية لسياسة اقتصاد السوق، لأسباب أيديولوجية في المقام الأول. وبالتالي كان من المستحيل إدارة دولة تضم ممثلين من هذا الطيف الحزبي.
وبالتالي ربما كانت الحسابات التكتيكية منذ البداية للرئيس الماهر والمعتدل سياسيًّا أن يضم أكبر حزب معارض آنذاك باعتباره ممثلًا عن طيف يمين الوسط، ألا وهو، حزب التحالف الديمقراطي الليبرالي الاقتصادي (DA)، في تحالف ائتلافي لاحق.
وربما كان التحالف الكبير بين حزب المؤتمر الوطني الإفريقي والتحالف الديمقراطي كافيًا من الناحية الحسابية لتحقيق الأغلبية الحكومة، لكنه كان من الصعب في البداية إقناع مؤيدي الحزبين. وكانت الحملة الانتخابية بين حزب المؤتمر الوطني الإفريقي وحزب التحالف الديمقراطي صعبة للغاية، وكانت تفاوتات البرامج الانتخابية والخلافات الشخصية بين ممثلي كلا الحزبين كبيرة للغاية.
ومع ذلك، كان هناك أيضًا استعداد واضح من جانب قيادة التحالف الديمقراطي لتشكيل ائتلاف مع حزب المؤتمر الوطني الإفريقي، وهو ما أصبح جليًّا في الأسابيع الأخيرة من الحملة الانتخابية. وقد أشار التحالف الديمقراطي، مرات عديدة، إلى أنه سيتعاون مع المؤتمر الوطني الإفريقي إذا كان ذلك من شأنه أن يمنع “ائتلاف يوم القيامة” المكون من حزب المؤتمر الوطني الإفريقي وحزب (MK) وحزب مقاتلي الحرية الاقتصادية (EFF). مثل هذا الشعور بالمسؤولية السياسية، إلى جانب الرغبة القوية في تشكيل الأمور، شكلا العامل الحاسم في قبول التحالف الديمقراطي، في نهاية الأمر، عرض “رامافوزا” من أجل تشكيل حكومة ائتلافية واستعداده أيضًا للتنازل عن وزارات مهمة. ومن أجل منح هذا التحالف، الذي ظل لفترة طويلة خيارًا غير مطروح على الطاولة بالنسبة لكثيرين في جنوب إفريقيا، القبول الاجتماعي اللازم، تمت دعوة أحزاب أخرى أصغر حجمًا، لكي تصبح جزءًا من حكومة الوحدة الوطنية. كما أسهم مفهوم حكومة الوحدة الوطنية، بما له من أبعاد تاريخية في جنوب إفريقيا، في نجاح تشكيل الائتلاف[5]. وفي 14 يونيو 2024م، أُعِيد انتخاب “سيريل رامافوزا” رئيسًا لجنوب إفريقيا بأغلبية كبيرة في الجمعية الوطنية.
تركيبة وتحديات الحكومة الائتلافية الجديدة:
حكومة الوحدة الوطنية هي ائتلاف متعدد الأحزاب، يتكون من عشرة أحزاب ذات برامج انتخابية ومحتوى متباين للغاية، في بعض الأحيان. وبالإضافة إلى حزب المؤتمر الوطني الإفريقي وحزب التحالف الديمقراطي، يتكون جوهر هذه الحكومة من حزب “إنكاثا” والتحالف الوطني الشعبوي اليميني، الذي يناشد، أولًا، مَن يُطلَق عليهم مواطني جنوب إفريقيا “الملونين”. ويمكن وصف شركاء الائتلاف الستة الآخرين بأنهم أحزاب صغيرة ينتمون إلى الطيف السياسي من يسار الوسط ويمين الوسط. وتمثل جميع الأحزاب الممثلة في الحكومة مجتمعة أكثر من 70% من مقاعد البرلمان.
في الحكومة الجديدة، من إجمالي 32 وزارة، ذهب 20 منصبًا وزاريًّا إلى حزب المؤتمر الوطني الإفريقي، وستة فقط إلى حزب التحالف الديمقراطي، واثنان إلى حزب إنكاثا. أما المناصب المُتبقية فوُزِّعَت بين مختلف الأحزاب الصغيرة. وتتمثل قوة حزب المؤتمر الوطني الإفريقي باعتباره الحزب الرائد داخل الائتلاف، وتحديدًا، في حقيقة أن حركة التحرير السابقة تشغل وزارات رئيسية مهمة مثل وزارات المالية والعدل والتجارة والخارجية. وبالإضافة إلى المناصب الوزارية، تضم الحكومة الجديدة أيضًا 43 منصبًا نائبًا للوزراء. وهذا ما يجعل حكومة الوحدة الوطنية أكبر حكومة في تاريخ البلاد[6].
ملاحظات حول مضمون وهيكل حكومة الوحدة الوطنية التنظيمي:
1- من حيث المضمون، تم التوصل إلى اتفاق سريع للغاية بشأن الأولويات الأساسية: تعزيز النمو الاقتصادي الشامل، وخلق فرص عمل جديدة؛ ومكافحة الفقر، والحد من تكاليف المعيشة المرتفعة باستمرار؛ وتحسين الخدمات في القطاع العام بشكل كبير. ولكن، لم يكن من الممكن إجراء مناقشة برنامج محدد، بشكل كافٍ، عقب الانتخابات بسبب المواعيد النهائية الضيقة والمُلزِمة لتشكيل الحكومة. وحتى الآن، لا يوجد لدى حكومة الوحدة الوطنية اتفاق ائتلافي مشترك، ولكن فقط مجرد إعلانات نوايا بشأن التعاون بين الشركاء المختلفين. ولا يمكن حتى الآن، تقييم استعداد وقدرة الأحزاب الفردية على التنازل عن القضايا الجوهرية، بشكل موثوق.
2- من حيث ممارسة مسؤولياتها الحكومية، تواجه جميع أحزاب حكومة الوحدة الوطنية تحديات الحكم المشترك على المستوى الوطني لأول مرة. وبصرف النظر عن حزب المؤتمر الوطني الإفريقي، لا يتحمل أيّ من الأحزاب مسؤولية حكومية جوهرية على المستوى الوطني. وما يزيد من صعوبة الوضع أن الوزراء ونوابهم في العديد من الوزارات لا ينتمون إلى نفس الحزب. وما قد يكون مفيدًا لمهام الرقابة داخل الوزارات من ناحية، ربما يؤدي، من ناحية أخرى، إلى صعوبات في التنسيق وعرقلة الأداء الحكومي اليومي داخل الوزارة[7].
3- في حين تتمتع الحكومة بأغلبية واسعة في البرلمان، الأمر الذي يمكن اعتباره عاملًا مهمًّا لاستقرار الحكومة (على الأقل من حيث التفويض)، فلا ينبغي أن ننسى أن المعارضة في البرلمان تقلصت، بشكل كبير، مما يَحُدّ بدَوْره من قدرة ممثلي الشعب على أداء وظيفتهم الرقابية المهمة على السلطة التنفيذية. فضلًا عن ذلك، تنتمي الغالبية العظمى من أحزاب المعارضة إلى المعسكر اليساري الشعبوي الراديكالي. وهناك أيضًا علاقات شخصية جيدة وتداخلات من حيث المحتوى بين أجنحة أحزاب الحكومة المختلفة من ناحية وأحزاب المعارضة الفردية من ناحية أخرى، مما قد يُعرّض سلام الائتلاف الحكومي للخطر على المدى المتوسط.
خمسة أشهر على تشكيل حكومة الوحدة الوطنية: تحديات حياة الائتلاف اليومية
بشكلٍ عامّ، كان عمل الائتلاف حتى الآن هادئًا نسبيًّا ومتناغمًا، إلى حدّ كبير. والسبب الرئيسي خلف ذلك هو أن هذا العمل “محكوم عليه بالنجاح”؛ فالغالبية العظمى من شركاء حكومة الوحدة الوطنية لا يريدون العمل مع القوى الشعبوية اليسارية المتطرفة في المعارضة: حزبي (MK وEFF). بعبارة أخرى، لا يرى غالبية اللاعبين الرئيسيين داخل الحكومة أي بديل حقيقي للائتلاف الحالي. ولم يتبين حتى الآن سوى عدد قليل من خطوط الصراع بين شركاء الائتلاف. وكانت هذه الخطوط ترجع دائمًا إلى قضايا جوهرية، على سبيل المثال، في القطاعات التالية: أ) الصحة، ب) التعليم، ج) السياسة الخارجية.
1- الصحة: إن التفاوت الواضح في جنوب إفريقيا ينعكس أيضًا في قدرة الناس على الوصول إلى المرافق الصحية. ففي الوقت الحالي، يعاني جميع مواطني جنوب إفريقيا من نظام رعاية صحية حكومي متهالك وسوء الإدارة. والآن تسعى الأحزاب اليسارية السياسية داخل حكومة الوحدة، وخاصة المؤتمر الوطني الإفريقي، إلى تأميم نظام الرعاية الصحية الخاص في جنوب إفريقيا بالكامل من أجل تحسين هذا النظام وجعله في متناول الفئات الأفقر من السكان. ولهذا السبب، يتعين إلغاء إمكانية التأمين الصحي الخاص، وتمويل دفع رواتب الأطباء وموظفي المستشفيات حصريًّا من عائدات الضرائب في المستقبل. ويرى التحالف الديمقراطي وحزب الحرية إنكاثا وأحزاب أخرى من معسكر يمين الوسط أن هذا التغيير في النظام خاطئ بشكل أساسي وغير ميسور التكلفة، ويدعو إلى المنافسة الحرة في نظام الرعاية الصحية. وحتى إذا اتفق جميع شركاء حكومة الوحدة الوطنية على ضرورة تحسين نظام الرعاية الصحية في جنوب إفريقيا من حيث المبدأ (أي ضمان تحسين الرعاية الطبية بشكل عام)، فهناك وجهات نظر متباينة لشركاء الائتلاف في هذا المجال السياسي حول آليات التنفيذ.
2- التعليم: يتعين إصلاح النظام المدرسي لتحسين إدماج الفئات السكانية المحرومة اجتماعيًّا. ومن أكثر الجوانب المثيرة للجدل في الإصلاح المدرسي المخطط له معايير القبول المستقبلية، وسياسة اللغات في المدارس. فحتى الآن، كانت المدارس قادرة على اتخاذ القرارات بشكل مستقل إلى حد كبير، وبالتالي تحديد ملف الطلاب في مؤسستها. وفي المستقبل، سيتم نقل حرية اتخاذ القرار من مجال مسؤولية المدارس الفردية إلى السلطات والوزارات. وعلى خلفية تاريخ جنوب إفريقيا؛ حيث يُعدّ الوصول المجاني إلى التعليم والحماية الثقافية للأقليات جوانب حساسة للغاية، فقد أثار ذلك جدلًا مثيرًا حول السياسة الاجتماعية الثقافية واللغوية داخل حكومة الوحدة الوطنية. وحتى الآن، لم يتم التوصل إلى اتفاق بشأن القضايا الرئيسية في هذا الإصلاح، ولهذا السبب أحال الرئيس البنود المثيرة للجدل إلى شركاء حكومة الوحدة الوطنية لإجراء المزيد من المشاورات بهدف إمكانية إيجاد حل وسط.
3- السياسة الخارجية: بالنسبة للمواقف المتعلقة باتهام حكومة جنوب إفريقيا بارتكاب جرائم الإبادة الجماعية ضد إسرائيل في محكمة العدل الدولية في نهاية عام 2023م، ولكن قبل كل شيء العلاقات الوثيقة التقليدية بين حزب المؤتمر الوطني الإفريقي وروسيا (والتي ظلت قائمة حتى بعد حرب العدوان ضد أوكرانيا) والتعاون مع دول مثل إيران في صيغة “بريكس بلس”، تحمل إمكانات كبيرة لنشوب صراع داخل حكومة الوحدة الوطنية. فعندما وصف الرئيس “رامافوزا” الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بأنه “حليف وصديق مُهِمّ” في قمة “بريكس” الأخيرة، عارضه التحالف الديمقراطي علنًا، ووصف بوتين بأنه مجرم حرب. ثم حظر المكتب الرئاسي أي تدخل من جانب شركاء الحكومة الآخرين في بيانات السياسة الخارجية للرئيس.
ومن المرجح أن يظل مجال السياسة الخارجية سببًا في إثارة احتكاك داخل الائتلاف في المستقبل بسبب التوجهات الأيديولوجية المختلفة جوهريًّا لأعضاء حكومة الوحدة الوطنية. ومع ذلك، وخاصة فيما يتعلق بتولي جنوب إفريقيا رئاسة مجموعة العشرين (من 1 ديسمبر 2024م)، يجب الاتفاق على مبادئ مشتركة من أجل الظهور بمظهر مُوحَد وغير مُنقسِم قدر الإمكان أمام العالم الخارجي.
إن المؤشرات الأولية على ذلك يمكن ملاحظتها في التصريحات الأخيرة التي أدلى بها عدد من أعضاء ائتلاف حكومة الوحدة الوطنية، الذين حذروا من أن جنوب إفريقيا لا بد أن تسعى، على نحو متزايد، إلى تبني نموذج الدبلوماسية الاقتصادية في السياسة الخارجية. وبالتالي فإن الهدف الحقيقي لحكومة الوحدة الوطنية، وهو تعزيز التنمية الاقتصادية في جنوب إفريقيا، لا بد أن يحظى بالأولوية في السياسة الخارجية. وفي سياق هذه الدبلوماسية الاقتصادية المتطورة، من الضروري الحد من المزيد من الاضطرابات مع الشركاء التجاريين المهمين في الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة جراء الديناميكيات الجيوسياسية.
ما المخاطر الأخرى التي تهدد وجود التحالف؟
بعد أكثر من ثلاثة أشهر من غياب آلية حقيقية لحل النزاعات داخل الائتلاف متعدد الأحزاب للتعامل بطريقة منظمة مع الاختلافات في الرأي التي نشأت بين الشركاء، تم إنشاء ما يسمى بآلية غرفة المقاصة في أكتوبر الماضي؛ وهي هيئة يرأسها نائب الرئيس بول ماشاتيل (المؤتمر الوطني الإفريقي) من المفترض أن تتعامل مع النزاعات بين أعضاء الائتلاف.
حتى الآن، لا توجد تجربة ملموسة حول مدى كفاءة تطوير هذه الآلية. ومع ذلك، يمكن افتراض أنه يمكن التعامل مع الاختلافات الجوهرية في حكومة الوحدة الوطنية بشكل داخلي أكثر، وبطريقة أكثر توجهًا نحو الحل، وأقل علنية في المستقبل.
واعتبارًا من اليوم، تمثل ديناميكيات الحزبين الأكبر في الائتلاف خطرًا محدقًا على نجاح حكومة الوحدة الوطنية على المدى الطويل. ففي نهاية عام 2027م، سيعقد مؤتمر حزب المؤتمر الوطني الإفريقي، الذي لن يترشح فيه الرئيس الحالي سيريل رامافوزا، الذي يُنظَر إليه باعتباره ضمانة استقرار الائتلاف الحكومي المعقد، لقيادة الحزب مرة أخرى.
إن نقاش الخلافة، الذي من المرجح أن يبدأ العام المقبل، قد يجلب الكثير من الاضطرابات للحزب الحاكم منذ فترة طويلة ويطرح مرة أخرى السؤال حول المسار الذي يجب اتباعه في المستقبل. وسوف يعتمد ما إذا كان التحالف سيستمر حتى نهاية الفترة التشريعية في عام 2029م، بشكل حاسم، على أيّ جناح من المؤتمر الوطني الإفريقي سيسود في خلافة رامافوزا، وبالتالي، ما هو الموقف الذي سيتخذه زعيم حزب المؤتمر الوطني الإفريقي المستقبلي تجاه حكومة الوحدة الوطنية؟ ولا يصبح الوضع أسهل بسبب حقيقة أن الحلفاء المقربين من حزب المؤتمر الوطني الإفريقي، مثل النقابات العمالية أو الحزب الشيوعي في جنوب إفريقيا، ينأون بأنفسهم بشكل كبير عن حكومة الوحدة الوطنية، ويرجع ذلك أساسًا إلى مشاركة التحالف الديمقراطي وجبهة الحرية بلس في الحكومة. وينطبق هذا أيضًا -لأسباب مختلفة- على عدد كبير من مسؤولي حزب المؤتمر الوطني الإفريقي في مقاطعتي “جوتنج” و”كوازولو ناتال” القويتين اقتصاديًّا.
وفي هاتين المقاطعتين على وجه الخصوص، تُظهر التطورات الأخيرة أن النزاع حول الاتجاه داخل المؤتمر الوطني الإفريقي سيستمر حتى بعد انتخابات عام 2024م. وبالتالي فإن المعارضة لحكومة الوحدة الوطنية موجودة أيضًا داخل صفوف الحزب نفسه.
إن مسألة الاتجاه السياسي الذي سيتخذه المؤتمر الوطني الإفريقي في المستقبل سوف تعتمد بشكل حاسم على ما إذا كان الحزب يرى في حكومة الوحدة الوطنية فرصة لتجديد نفسه داخل الحزب، وفي هذه العملية، ينأى بنفسه عن المسؤولين الفاسدين في الحزب والممثلين المنتخبين. وهذا الأمر متروك الآن للرئيس، الذي كان في الماضي مترددًا إلى حد ما (أو حتى غير متردد على الإطلاق) في اتخاذ إجراءات ضد أصدقاء الحزب الذين اتُّهِموا بالفساد أو الذين لُوحظوا بسبب سوء الإدارة. وكانت وحدة حزبه، في الأغلب، أكثر أهمية بالنسبة له من التصرف بنزاهة سياسية. على سبيل المثال، تعرضت مؤخرًا إحدى عضوات مجلس وزرائه، وزيرة العدل في المؤتمر الوطني الإفريقي، لشكوك جدية في الفساد. ولكن بدلًا من إقالة هذه السياسية التي كانت مخلصة له، تم “نقلها” فقط إلى منصب وزاري أقل أهمية.
الموضوعات التالية سوف تحدّد عمل حكومة الوحدة الوطنية في عام 2025م:
في العام 2025، سيتعين على الحكومة في جنوب إفريقيا تنفيذ وعود إصلاحية مهمة في السياسة الاقتصادية والاجتماعية والمالية من ناحية، وفي الوقت نفسه الحفاظ على التماسك الاجتماعي في البلاد والسلام داخل الائتلاف من ناحية أخرى. وستكون المواضيع التالية ذات صلة خاصة في هذا السياق.
إن السؤال حول كيفية نجاح التنمية الاقتصادية المتسارعة في جنوب إفريقيا سيستمر في تحديد التركيز على برنامج الائتلاف في عام 2025م. حتى الآن، تلقى عمل حكومة الوحدة الوطنية الكثير من الدعم من السكان، ولكن أيضًا من المستثمرين الدوليين والوطنيين. على سبيل المثال، استقرت العملة الوطنية بشكل ملحوظ، في الأشهر القليلة الأولى من الحكومة الائتلافية الجديدة. ويجب الآن استخدام هذا الثناء المسبق بنجاح في العام المقبل من خلال الشروع في الإصلاحات الاقتصادية المطلوبة، بشكل عاجل. من منظور السكان، سيكون من المهم تحديدًا الحد بوضوح من ارتفاع مستوى البطالة بين الشباب وضمان توفير الخدمات الحكومية (وخاصة المياه والكهرباء).
ستتولى جنوب إفريقيا رئاسة مجموعة العشرين في عام 2025م. ويمثل ذلك نهاية سلسلة من رئاسات مجموعة العشرين من دول ما يسمى “الجنوب العالمي”، كما أنه أول رئاسة من هذا النوع في القارة الإفريقية. وبالنسبة لجنوب إفريقيا، التي ترى نفسها بمثابة لسان حال هذا “الجنوب العالمي”، فمن المهم لمجموعة العشرين في عام 2025م الحفاظ على الاستمرارية في تمثيل مصالح البلدان النامية والناشئة وفي الوقت نفسه وضع مصالح البلدان الإفريقية على الأجندة الدولية. وفي مقدمة هذه المطالب: النمو الاقتصادي الشامل، وإصلاح مؤسسات الأمم المتحدة وتأمين مستقبل التعددية، والأمن الغذائي، ومكافحة آثار تغير المناخ وسياسة اللقاحات العادلة. بالإضافة إلى ذلك، سيتم التركيز على موضوع الذكاء الاصطناعي وإدراج وجهات نظر الدول الإفريقية على وجه الخصوص في الخطاب الحالي.
إن استعدادات الأحزاب في جنوب إفريقيا للانتخابات المحلية في عام 2026م تلقي بظلالها بالفعل. وإذا صمدت حكومة الوحدة الوطنية حتى ذلك الحين، فإن هذه الانتخابات المحلية ستكون مؤشرًا مهمًّا على رضا مواطني جنوب إفريقيا عن أداء حكومة الوحدة الوطنية. وسوف تسأل الأحزاب التي تخسر الأصوات في هذه الانتخابات نفسها بشكل نقدي ذاتي ما إذا كان وضعها السابق كحزب حكومي أو حزب معارضة أكثر فائدة أو -على العكس من ذلك– كان أكثر ضررًا.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] على المستوى الوطني، أسفرت انتخابات 2024م عن النتائج التالية: المؤتمر الوطني الإفريقي 40.18%؛ التحالف الديمقراطي (DA) 21.8%؛ حزب أومخونتو وي سيزوي (MK) 14.58%؛ مقاتلو الحرية الاقتصادية (EFF) 9.52%؛ حزب الحرية إنكاثا (IFP) 3.85%؛ التحالف الوطني (PA) 2.06%؛ جبهة الحرية بلس (FF+) 1.36% وحزب أكشن إس إيه (ActionSA) 1.2%. كما نجحت عشرة أحزاب صغيرة أخرى في دخول الجمعية الوطنية بأقل من 1% من الأصوات (انظر لوحة نتائج الانتخابات الوطنية لعام 2024م).
[2] يمكن العثور على معلومات مفصلة حول الوضع السياسي والاجتماعي والاقتصادي قبل الانتخابات ومجموعة الأحزاب في تقرير مؤسسة كونراد إديناور القطري لجنوب إفريقيا قبل الانتخابات.
[3] المرجع السابق
[4] حزبا MK وEFF منشقان عن حزب المؤتمر الوطني الإفريقي.
[5] شكَّل نيلسون مانديلا حكومة وحدة وطنية مع الحزب الوطني والحزب الإسلامي التقدمي في عام 1994م (في أول انتخابات حرة بعد نهاية الفصل العنصري)، على الرغم من فوز حزب المؤتمر الوطني الإفريقي بشكل واضح بالأغلبية المطلقة بأكثر من 60٪ من الأصوات.
[6] كان لدى مجلس الوزراء السابق لحزب المؤتمر الوطني الإفريقي (الحكومة الوحيدة) 30 منصبًا وزاريًّا “فقط”. أثناء تشكيل حكومة الوحدة الوطنية، واجه الرئيس رامافوزا التحدي المتمثل في توفير مناصب كافية لكوادر حزب المؤتمر الوطني الإفريقي وممثلي أحزاب الائتلاف الجديدة.
[7] من الأمثلة العديدة على هذا النوع من التعيينات الوزارية وزارة الداخلية: التي يرأسها ليون شرايبر، رئيس الإستراتيجية السابق للتحالف الديمقراطي. ونائبه هو السياسي المنتمي لحزب المؤتمر الوطني الإفريقي، نجابولو نزوزا، الأمين العام السابق لمنظمة الشباب التابعة للمؤتمر الوطني الإفريقي. ومن الناحية الأيديولوجية، لا يمكن أن يكون السياسيان بمنأى عن بعضهما البعض.
رابط التقرير: