مع تشابك المصالح الجيواستراتيجية في إقليم القرن الإفريقي وحوض النيل، وتحوُّله إلى مسرح للصراعات والتفاعلات الإقليمية والدولية؛ برزت إثيوبيا فاعلاً رئيسًا يسعى إلى تعزيز الهيمنة والنفوذ الإقليميَّيْن، سواء من خلال استعادة -الدولة الحبيسة- الوصول إلى البحر الأحمر، أو عبر تنفيذ مشاريع تنموية ضخمة على غرار سد النهضة على النيل الأزرق، الذي تُشاركها فيه كلٌّ من مصر والسودان.
وفي حين مثَّل بناء سد عملاق على نهر النيل هدفًا إستراتيجيًّا للحكومات الإثيوبية المتعاقبة؛ لتحقيق التنمية وتعزيز النفوذ السياسي والإقليمي، اصطدم هذا الهدف بتحديات وعقبات تقنية وسياسية وتمويلية مختلفة على المستوى المحلي من ناحية، ومن ناحية أخرى أصبح دافعًا لتوترات وصراعات إقليمية، وبالأخص مع دولتي المصبّ؛ مصر والسودان.
في هذا السياق المعقَّد محليًّا وإقليميًّا تأتي أهمية كتاب: “السدود والسلطة وسياسات النهضة في إثيوبيا”([1])
“Dams, Power, and the Politics of Ethiopia’s Renaissance”؛ للمؤلف توم لافرز وآخرين؛ باعتباره يُسلِّط الضوء على العلاقات المعقدة بين مشاريع السدود الإثيوبية والتنمية الاقتصادية، وتعزيز نفوذها السياسي، ويُقدِّم استعراضًا تاريخيًّا لكيفية تحوُّل السدود إلى رمز تنمويّ مركزيّ في مشروع “النهضة التنموية” الذي تبنَّته الحكومات الإثيوبية المتعاقبة، مع التركيز على سدّ النهضة، كأحد أبرز المشاريع التنموية المثيرة للجدل.
يقدم هذا المقال قراءة في الأفكار الرئيسية الواردة في الكتاب، في سياق فَهْم أوسع لتجربة إثيوبيا كدراسة حالة للدول النامية التي تسعى لتطبيق نموذج “الدولة التنموية”، وتقييم مدى قابلية مثل هذه التجارب لتحقيق التنمية المستدامة في ظل التحديات الجيوإستراتيجية المختلفة.
حول المؤلف والكتاب:
الكتاب منشور حديثًا –نوفمبر 2024م- على منصة أكسفورد أكاديميك (Oxford Academic) الإلكترونية، التابعة لدار نشر جامعة أكسفورد (Oxford University Press)، وهو من تأليف مشترك وليس مجلدًا مُحررًا، مع مساهمات متنوعة موزعة بشكل غير متساوٍ، في عشرة فصول، بين جنبات 309 صفحات بخلاف الغلاف.
المؤلف الرئيسي للكتاب توم لافرز، مُحاضِر في السياسة والتنمية في معهد التنمية العالمية بجامعة مانشستر البريطانية، يُقدِّم إسهامات بحثية منذ عام 2005م حول سياسات واقتصاديات الأراضي، والسياسات الصناعية، والبنية التحتية، والحماية الاجتماعية في إثيوبيا، وتشمل منشوراته دراسة صدرت عام 2023م بعنوان: “الدولة التنموية في إثيوبيا: النظام السياسي وأزمة التوزيع”، بالإضافة إلى مقالات في عدة دوريات دولية معنية بالتنمية.
وقد استغرقت كتابة هذا العمل البحثي حوالي 7 سنوات، بعد أن وجد المؤلف الرئيسي فرصة مواتية لإجراء العمل الميداني داخل إثيوبيا، خلال فترة ما أسماه بالانفتاح السياسي هناك، في إشارة إلى فترة التغييرات الجذرية التي شهدتها النخبة السياسية الإثيوبية، وأفضت إلى صعود “آبي أحمد علي” إلى السلطة (2015-2018م).
الأفكار الرئيسية للكتاب
الفصل الأول: وضع طفرة السدود في إثيوبيا في سياقها
يُمهِّد الفصل الأول للفصول التسعة الأخرى، وينطلق فيه المؤلف من مقولة منسوبة إلى رئيس وزراء إثيوبيا الأسبق ميليس زيناوي في أبريل 1996م: ““إثيوبيا بدأت الآن بالمشي، لكنها ستجري يومًا ما.. بعد 15 إلى 20 عامًا من الآن (1996) يمكنها التفكير في فعل ما تفعله تركيا في نهر الفرات (في إشارة إلى إمكانية بناء سد على النيل الأزرق من جانب واحد). نحن نبني اقتصادنا ونعزز النمو حتى نتمكن يومًا ما من الاستغناء عن التمويل الدولي للمشروعات الكبرى”.
وبعد 15 عامًا بالضبط من هذا التصريح –وتحديدًا في يوم 2 أبريل 2011م-، وضع زيناوي حجر الأساس لما أصبح يُعرَف بسدّ النهضة، بسعة تخزينية تصل إلى 74 مليار م3 (وهو ما يعادل حصَّتي مصر والسودان من مياه النيل بموجب اتفاقية 1959م)، وهو واحد من أكبر السدود في العالم.
بعيدًا عن التزامن اللافت في التوقيت، يعكس هذا الاقتباس نقطة محورية رئيسية في هذا الكتاب، وهي أن قرار بناء سد النهضة لم يكن فكرة طارئة جاءت استجابةً لوصول الربيع العربي إلى مصر (الإطاحة بنظام الرئيس الأسبق حسني مبارك في ثورة شعبية دعمها الجيش المصري)، بل كان تتويجًا لعمليات وخطط طويلة الأمد.
الفصل الثاني: المهمة الهيدروبوليتيكية لـ(الإمبراطورية والدرج)
ثم يسرد المؤلف تاريخ هذه العمليات، مشيرًا إلى أنه كان لدى الحكومات الإثيوبية المتعاقبة طموحات في بناء سد على النيل الأزرق، على الأقل منذ عهد النظام الإمبراطوري لهايلي سيلاسي أولًا كوصيّ، ثم كإمبراطور (1916– 1974م)، ونظام الدرج العسكري الماركسي بقيادة منجستو هايلي مريم (1974– 1991م).
ويبين أن هذه الحكومات أحرزت تقدمًا كبيرًا في دراسة حوض النيل، وتحديد المواقع المحتملة لبناء السدود، ومع ذلك، ظل هذا الطموح غير مُحقَّق بسبب معارضة مصر، والانقسامات السياسية والضعف الاقتصادي في إثيوبيا، ونظرًا لأهميتها الإستراتيجية المحدودة بالنسبة للقوى الدولية التي قد تدعم مثل هذا المشروع.
كما يلقي الفصل نظرة عامة على أحواض الأنهار في إثيوبيا، وإمكاناتها لدعم الطاقة الكهرومائية والري، وكيف ترتبط الجغرافيا الطبيعية بتاريخ تشكيل الدولة الإثيوبية.
(جدول 1) أحواض الأنهار في إثيوبيا([2])
الفصل الثالث: الهشاشة وأصول طفرة السدود (الجبهة الثورية)
يتناول الفصل الديناميات السياسية الرئيسية التي شكَّلت الطموحات التنموية لـ”الجبهة الثورية الديمقراطية للشعوب الإثيوبية” (1991-2019م)، ويقدم تفسيرًا لإنجازاتها؛ حيث فشلت أنظمة أخرى من قبل، على غرار إستراتيجيتها التنموية ودور الكهرباء فيها، والتوزيع المكاني لإستراتيجية بناء السدود خلال العقدين الأولين من حكمها.
ويظهر أن الدافع وراء طفرة بناء السدود في عهد “الجبهة” يمكن تحديده كنهج أوسع للحكومة تجاه التنمية، إذ كان يُنظَر إلى التنمية السريعة والشاملة باعتبارها ضرورة للتغلُّب على الهشاشة السياسية التي تواجه النظام.
وبالنظر إلى أهميته المركزية في المشروع الاقتصادي للجبهة، اعتبرت الحكومة الاحتفاظ بالكهرباء وعدد من القطاعات الاقتصادية الرئيسية تحت سيطرة الدولة أمرًا لا غِنَى عنه، ما دفعها للدخول في صراع مع المانحين الغربيين، الذين اعتمدت عليهم، ومع الأفكار الاقتصادية السائدة -آنذاك- التي فضّلت عمليات الخصخصة.
الفصل الرابع: تزويد “الدولة التنموية” بالطاقة
يستكشف الفصل مرحلة متميزة تبدأ من أواخر العقد الأول من القرن 21 عندما توسعت الطموحات التنموية بشكل أكبر، ويبين أنه في هذه المرحلة، أصبحت إستراتيجية الحكومة لتمويل مشاريعها الكبرى محفوفة بالمخاطر من خلال تبنّي القروض التجارية، إلى جانب تكثيف جهودها لبناء قدرات تقنية داخل إثيوبيا.
علاوة على ذلك، أصبحت الطاقة الكهرومائية جزءًا من السرد الحكومي لبناء “دولة خضراء تنموية”، تماشيًا مع القلق العالمي المتزايد بشأن تغيُّر المناخ، لكن أدَّى هذا إلى مركزية عملية صنع القرار وتجاهل الخبرة الفنية، مما أسفر عن تراكم الديون بسبب المشاريع الطموحة المتزايدة.
ويجادل الفصل بأن طفرة السدود في إثيوبيا كانت مدفوعة سياسيًّا، وتقدَّمت على الرغم من محدودية القدرات التكنوقراطية للدولة، ليس بسبب تعزيز هذه القدرات، بل لأن الطابع السياسي لهذه العملية أدَّى في الواقع إلى خطط تنموية متزايدة الطموح، إذا انحرفت بشكل متزايد عن أيّ تقييم تقني معقول لاحتياجات إثيوبيا من الطاقة أو البنية التحتية المطلوبة لتوفيرها.
الفصل الخامس: “ساليني” قصة شراكة إثيوبية إيطالية
يركز الفصل على الدور الرئيسي الذي لعبته شركة ساليني الإيطالية (Salini) في بناء السدود الإثيوبية؛ إذ بينما أخفقت جهود بناء القدرات التكنوقراطية في الدولة، اعتمدت الحكومة على الشركة الإيطالية ذات الحضور التاريخي لتنفيذ مشاريعها الرئيسية للطاقة الكهرومائية.
وفي هذا السياق، يتناول الفصل ثلاثة مشاريع تنموية تاريخية في مجال الطاقة، هي:
- سد “ليجادادي” (The Legadadi Dam) في عهد هيلا سيلاسي؛ لتوفير المياه لأديس أبابا.
- مشروع “تانا-بيلس” (The Legadadi Dam) تحت حكم الدرج.
- سلسلة “جيلجل جيبي” (The Gilgel Gibe Cascade) تحت حكم الجبهة حتى الوقت الحاضر، وهي سلسلة مشاريع تنموية مكونة من ثلاثة سدود وأربع محطات طاقة على نهري جيبي وأومو.
وفي حين تأثر المسار المبكر لساليني بشدة بمحاولة الحكومة الإيطالية الاحتفاظ بمجال نفوذ في مستعمراتها السابقة في شرق إفريقيا، يُظهر الكتاب أن بروز ساليني لم يكن فقط كشركة مقاولات متميزة، بل كشريك موثوق ظل ملتزمًا بمشاريع ضخمة ومثيرة للجدل مثل سلسلة “جيبي” وسد النهضة.
ويوضح الفصل أيضًا أن إثيوبيا تُعدّ إحدى القواعد الإستراتيجية التي قفزت من خلالها ساليني لتصبح لاعبًا عالميًا بارزًا في قطاع البنى التحتية، خاصةً بعد اندماجها عام 2014م مع شركة إيطالية أخرى، إمبريجيلو، لتشكل شركة ساليني إمبريجيلو (Salini Impregilo)، والتي تم تغيير علامتها التجارية إلى وي بيلد (We Build) عام 2020م.
الفصل السادس: قلب موازين هيدروبوليتيك حوض النيل
يجادل الفصل بأن نجاحات برنامج بناء السدود الذي نفَّذته الحكومة الإثيوبية، وقدرتها على بناء سد على النيل الأزرق هي نتيجة لتوافق الديناميات السياسية الداخلية والدولية، التي اجتمعت لتعزيز قدرة البلاد على تنفيذ مشاريع كبرى بشكل مستقل، وللحد من قدرة مصر على منع التدخل الأحادي الإثيوبي.
ويوضح أن السياسات الداخلية دعمت طفرة السدود منذ أوائل العقد الأول من القرن 21، بدايةً خارج حوض النيل ثم داخله، كما أدَّت مركزية السلطة آنذاك إلى تعزيز تماسك النخبة السياسية، وتركيز “الجبهة الثورية” على التنمية السريعة والاستثمار في البنية التحتية، كجزء من رؤية زيناوي لبناء “دولة تنموية”([3]).
وينقل المؤلف التركيز إلى البعد الدولي لبناء السدود الإثيوبية، خلال العقد الأول من القرن 21، مشيرًا إلى أن السياسة الداخلية توافقت آنذاك مع العلاقات الدولية لدعم سد على نهر النيل، يقول: تراجعت هيمنة مصر على حوض النيل وأولويتها لدى القوى الدولية والإقليمية إلى حد ما، مما أتاح فرصة لإثيوبيا أن تصبح أكثر قوة وجرأة لتضغط أولًا من أجل نهج تعاوني في التعامل مع النيل، ثم، عندما استُنفدت هذه الإستراتيجية، سعت إلى حل أحادي الجانب.
ويُرجع المؤلف هذا التحول -الجزئي- إلى السياسة الخارجية التي انتهجتها حكومة “الجبهة الثورية” على مدى عقدين، متمثلة في سعيها إلى عزل مصر، وبناء تحالفات مع دول المنبع على النيل الأبيض، والأهم من ذلك تعزيز العلاقات مع السودان، وضمان دعمه لسد إثيوبي على النيل.
وبحلول عام 2010م، توافقت هذه الديناميات الدولية والمحلية إلى الحد الذي شعرت فيه الحكومة الإثيوبية بالقدرة على الشروع في بناء السد بشكل أحادي، مع انهيار المفاوضات حول اتفاقية مبادرة “حوض النيل”، ومحاولات تحديد مشروع تعاوني على النيل الأزرق.
كما يشير إلى أن ثورات الربيع العربي وتغيُّر النظام في مصر أوائل عام 2011م وفَّرت لحظة مناسبة لإثيوبيا للإعلان عن السد -الذي كان قيد الإعداد منذ فترة-، مستفيدة من لحظة الاضطراب السياسي في مصر التي حالت دون أيّ استجابة منسقة لإعلان المشروع، وبحلول الوقت الذي استعادت فيه مصر الاستقرار تحت حكم الرئيس عبد الفتاح السيسي، كان السد قد أصبح بسرعة واقعًا على الأرض، لكن ما كان غير متوقع هو حجم السد وموقعه الذي أعلنت عنه إثيوبيا.
وفي مراحل تالية يقول المؤلف: إن مصر ظلت مشتَّتة بين المشاركة في المفاوضات حول تشغيل السد وبين التصعيد الخطابي والتهديدات بالتدخل العسكري، وفي نهاية المطاف، قبلت مصر سد النهضة كأمر واقع، وسعت للتفاوض على شروط تشغيله للحد من أيّ تأثيرات سلبية محتملة، كما حاولت توسيع دائرة المشاركة في المفاوضات لتشمل أطرافًا دولية (على غرار الولايات المتحدة والبنك الدولي)، لكنها قُوبلت برفض إثيوبيا، إلى جانب رفض آخر لعرض مصري عام 2014م بالمساهمة في تمويل وإدارة السد، لأسباب تتعلق بالسيادة.
وينتقل المؤلف إلى توصل مصر وإثيوبيا والسودان عام 2015م إلى “إعلان المبادئ”، الذي مثَّل نقطة تحوُّل مهمة؛ إذ رأت إثيوبيا في الإعلان اعترافًا لأول مرة بحقها في استخدام مياه النيل، بينما اعتبرته مصر خطوة نحو التفاوض على الشروط التشغيلية للسد، ومع ذلك، لم يكن الإعلان اتفاقًا نهائيًّا، بل التزامًا بالعمل نحو إيجاد حلول مشتركة، وترك القضايا الأكثر تعقيدًا لجولات تفاوض لاحقة.
ويعتقد المؤلف أن الوصول إلى “إعلان المبادئ” يمثل “فشلًا” للإستراتيجية المصرية المتمثلة في منع أيّ بنية تحتية في المنبع على النيل الأزرق، كما فَصل “الإعلان” المفاوضات حول تشغيل السد عن بنائه، مما يعني أن الأعمال يمكن أن تتقدم بينما تستمر المفاوضات المطولة، التي لم تصل إلى شيء.
الفصل السابع: لماذا يختلف سد النهضة عن مقترحات السدود السابقة على النيل الأزرق؟
يستكشف المؤلف دوافع تصميم سد النهضة، متسائلًا عن سبب اختيار هذا التصميم تحديدًا؛ فرغم معرفة موقعه منذ فترة طويلة، إلا أن تصميمه أكبر بكثير من المقترحات السابقة (جدول 2)، ويمتد إلى موقع أقرب إلى الحدود السودانية (إقليم بني شنجول-جومز)، وهو ما يختلف أيضًا عن الخطط السابقة التي فضَّلت تخزين المياه في المرتفعات الإثيوبية، مجادلًا بأن الإجابة تكمن في عاملين رئيسيين:
- أولًا: سياسات المياه العدائية في حوض النيل.
- وثانيًا: الطبيعة السياسية المدفوعة لإحداث طفرة في السدود في إثيوبيا.
(جدول 2) مقارنة سد النهضة بالخطط السابقة لسدود النيل الأزرق([4])
السعة المثبتة (Installed Capacity)تعبر عن قدرة السد على إنتاج الكهرباء عند تشغيله بكامل طاقته، والسدود ذات التخزين العالي تؤثر بشكل أكبر من غيرها على تدفق النهر واستخداماته.
وحول تصميم السد، يثير المؤلف تساؤلات حول كيفية استخدام الكهرباء المُنتجة منه على الأقل في المدى القصير إلى المتوسط، موضحًا أن الاستفادة الكاملة من السعة المثبتة للسد لإنتاج طاقة الذروة، حتى لفترات قصيرة، ستتطلب تصدير الكهرباء إلى السودان و/أو مصر؛ حيث إن السعة المثبتة للسد تتجاوز بكثير إجمالي الطلب المحلي على الكهرباء في إثيوبيا خلال أوقات الذروة.
وبناءً عليه فهناك توافق هندسي على أن سد النهضة يمتلك قدرة مُثبتة تفوق ما تُبرّره كمية المياه المخزنة أو السوق المحتملة للكهرباء، كما خلصت اللجنة الدولية للخبراء، التي شُكِّلت مِن قِبَل الدول الثلاث لدراسة تصميم السد عام 2013م.
على سبيل المثال، استشهد المؤلف بأنه في عام 2017م كان الطلب على الطاقة في إثيوبيا عند الذروة يبلغ فقط 2202 ميجاواط (تقرير الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية 2019م)، وهو أقل بكثير من قدرة سد النهضة، حتى دون احتساب جميع مصادر الطاقة الأخرى الموجودة بالفعل في إثيوبيا، علاوةً على ذلك، يتركز الطلب الرئيسي على الكهرباء داخل إثيوبيا في المناطق الوسطى من البلاد، خاصةً أديس أبابا وعدد متزايد من المستهلكين الصناعيين في المرتفعات.
ومن حيث الموقع، يرى المؤلف أن اختيار سد النهضة بالقرب من الحدود السودانية يتماشى مع تركيز “مبادرة حوض النيل” على تصدير كميات كبيرة من الكهرباء، في حين أن القدرة على تصدير الكهرباء تعتمد على اتفاقيات التصدير مع السودان ومصر بخصوص طاقة الذروة، التي ترتبط بالمفاوضات المتوترة حول ملء وتشغيل السد.
وفي المقابل، يطرح المؤلف بعض المزايا المرتبطة بموقع السد وحجمه الهائل؛ بصفته أبعد موقع ممكن عند المصب داخل إثيوبيا، فإن سد النهضة سيقوم بتجميع وتخزين أكبر حجم ممكن من المياه، يشمل ذلك مياه نهر بيليس الذي زادت تدفقاته منذ بدء مشروع الطاقة الكهرومائية على هذا النهر، والذي يحوّل المياه من بحيرة تانا، بالإضافة إلى نهر دابوس، وكلاهما يندمج مع النيل الأزرق بعد موقع سد ماندايا عند المنبع، والنتيجة هي أن 17 مليار متر مكعب، أو ما يعادل 34% من التدفق السنوي للنيل الأزرق عند موقع سد النهضة، تُضاف إلى النهر بعد موقع سد ماندايا.
ويضيف المؤلف ميزة إضافية لحجم السد، وهي قدرته على التعامل مع الترسبات الطينية، موضحًا أن الأمطار الموسمية الغزيرة تسبب تآكلاً هائلاً، مما يؤدي إلى حمل النهر لكميات كبيرة من الرواسب الطينية إلى المصب. تاريخيًّا، كانت هذه الرواسب أساس التربة الخصبة في مصر والسودان، لكنها تسببت في مشاكل كبيرة عند السد العالي في أسوان (جنوبي مصر) وسد الروصيرص في السودان، مما أدى إلى انخفاض كبير في سعة التخزين وقدرة توليد الطاقة الكهرومائية.
في حين يشير المؤلف إلى أن المخطط العام الأمثل تقنيًّا لإدارة مياه النيل كان معروفًا منذ أكثر من قرن؛ من منظور تقني، هناك منطق قوي يدعم تخزين كميات كبيرة من المياه في المرتفعات الإثيوبية، مع تخزين أقل نسبيًّا على الحدود الإثيوبية-السودانية وفي مصر والسودان؛ للحد من التبخر وبالتالي تعظيم كمية المياه المتاحة في النهر.
علاوة على ذلك؛ يتيح التخزين في المنبع إطلاق تدفقات ثابتة من المياه على مدار العام، ما يؤدي إلى توليد طاقة كهرومائية منخفضة التكلفة في إثيوبيا يمكن تصديرها عبر المنطقة، مع الحد من الفيضانات في السودان وتوفير إمدادات مياه مستقرة لتوليد الطاقة الكهرومائية والري في كلٍّ من مصر والسودان.
وفي الأخير، يتوصل الفصل إلى أن الدوافع الإثيوبية في بناء سد النهضة على النيل الأزرق بدلًا من المرتفعات الإثيوبية؛ جاءت ردًّا ونتيجة لنمط بناء السدود الذي تأسس منذ زمن طويل بالسد العالي في مصر، ومع كل سد جديد على النيل، يتم إبعاد إدارة المياه تدريجيًّا عما يعتبره الخبراء حلًا تقنيًّا أمثل لحوض النيل ككل، ويشدد على أن سد النهضة لا يعكس فقط الطبيعة العدائية لسياسات المياه في حوض النيل، بل يتأثر أيضًا بالدوافع السياسية الداخلية وراء طفرة السدود في إثيوبيا.
الفصل الثامن: أهداف سد النهضة وتحدي توزيع الكهرباء
يتناول الفصل الأهداف السياسية والاقتصادية لإثيوبيا من وراء السد؛ المتمثلة في دعم التصنيع، وتوفير الكهرباء بأسعار منخفضة، وكسب النقد الأجنبي، ومع ذلك، يجادل بأن الزيادات الكبيرة في توليد الكهرباء لم تُترجم إلى تحقيق هذه الأهداف؛ بعد أن أعاق التركيز على التوليد بدلًا من التوزيع، مع تحديات الانقسام السياسي المتزايد، وصعوبة الوصول إلى الأسواق الخارجية، وقدرة السدود على تقديم النتائج المرجوة، ما جعل معظم الإثيوبيين يفتقرون إلى امدادات الكهرباء.
في حين تتمثل أبرز تحديات توزيع طاقة سد النهضة، التي أوردها الكتاب وفق التالي:
– توسيع الشبكة الكهربائية: يناقش المؤلف التفاوت بين الأقاليم الإثيوبية في الحصول على الكهرباء، باعتباره موضوعًا أصبح أكثر تسييسًا نتيجة تعقيدات القضايا العرقية، ما أدى إلى مشكلات في التركيز على إنشاء خطوط النقل إلى المدن والقرى دون توصيل فعلي للمنازل، وفي الوقت نفسه، أدى الاستثمار الضخم في قدرات إنتاج الكهرباء إلى تخلف الموارد المخصصة للنقل والتوزيع، ما أثَّر سلبًا على موثوقية الإمداد.
يختلف الوصول إلى مصادر الكهرباء بشكل كبير بين العاصمة أديس أبابا وبقية أنحاء البلاد (البنك الدولي 2018م)
-المجمعات الصناعية: كان الهدف منها تركيز تطوير البنية التحتية في مواقع محددة لدمج إثيوبيا في شبكات الإنتاج العالمية، في حين حالت الطموحات المبالغ فيها والانقسامات السياسية دون توفير الكهرباء اللازمة للمجمعات الصناعية الجديدة، مما شكَّل عقبة رئيسية أمام جهود تعزيز الاستثمار الأجنبي.
– تصدير الكهرباء: يلقي المؤلف الضوء على أهداف صادرات الكهرباء الإثيوبية، موضحًا أن المفاوضات الدولية وتطوير البنية التحتية لم يواكبا الطموحات الضخمة لتحويل الكهرباء إلى عائدات نقد أجنبي؛ إذ إن تحقيق هذا الهدف يعتمد على الطلب من دول المنطقة، التي تشارك إثيوبيا الطموح ذاته في أن تصبح مُصدِّرة للطاقة، ففي حوض النيل، تعقَّد الوضع بسبب المفاوضات المتوترة حول تشغيل سد النهضة.
وفي نهاية الفصل، يتوصل المؤلف إلى أنه: على الرغم من التقدم الكبير في بناء السدود؛ إلا أن الجبهة الديمقراطية الثورية فشلت في النهاية في تحقيق أهدافها الرئيسية، سواء من حيث دعم التصنيع، أو توسيع الوصول الجماعي للكهرباء، أو زيادة عائدات النقد الأجنبي.
الفصل التاسع: الرخاء والصراع في حقبة آبي أحمد
يتناول المؤلف في هذا الفصل الديناميات السياسية والاقتصادية التي شكلت بناء السدود وقطاع الكهرباء منذ صعود أبي أحمد إلى السلطة عام 2018م. ويبدأ بتتبُّع الأزمة السياسية والاقتصادية التي قادت الرجل إلى السلطة، بداية من احتجاجات 2015م، ثم تفكك الجبهة الديمقراطية الثورية وانحدار البلاد نحو حرب أهلية كارثية (أزمة تيجراي 2020-2022م)، ثم ينتقل التحليل إلى آثار هذه الأزمات السياسية والاقتصادية، وفق المحاور الرئيسية التالية:
- بناء سد النهضة والمفاوضات الدولية بشأن تشغيله.
- تحرير قطاع الكهرباء وجهود جذب الاستثمارات الأجنبية.
- الخطط الجديدة لتوسيع الوصول الشامل إلى الكهرباء.
ويتوصل المؤلف في نهاية الفصل إلى أنه منذ عام 2015م، خاصةً منذ تغيير النظام عام 2018م، شهدت إثيوبيا، تقريبًا، انهيارًا كاملًا لنموذج “الدولة التنموية”، والاقتصاد السياسي الذي دعم طفرة السدود في البلاد، مع الفشل في توفير الكهرباء المدعومة للمستهلكين الصناعيين والعامة.
ومع ذلك، يرى المؤلف أن هذه الأزمات إلى جانب أزمة الديون دفعت المانحين لتبني نهج مختلف تمامًا –عن نهج الجبهة الثورية- يتماشى مع بعض أهداف حكومة حزب الازدهار بقيادة آبي أحمد، التي سارت في اتجاه تحرير السوق واستثمارات القطاع الخاص في توليد وتوزيع الكهرباء.
وفي الأخير يرجح المؤلف أن يتم استكمال سد النهضة، وسد كويشا (على نهر أومو جنوبي البلاد)، في حين يبقى من غير الواضح ما الذي يحمله المستقبل لبناء مزيد من السدود في إثيوبيا، مضيفًا أن إمكانيات إثيوبيا في الطاقة الكهرومائية لا تزال بعيدة عن أن تُستنفَد، مع وجود العديد من المواقع المحتملة للسدود في أحواض النيل الأزرق وبارو وأومو، لكن يبقى من المحتمل أن يستغرق الأمر وقتًا طويلًا قبل أن تتمكن إثيوبيا مرة أخرى من تحقيق العوامل الأساسية التي دعمت طفرة السدود في حقبة الجبهة الديمقراطية الثورية، وهي: التماسك السياسي، والقدرة المالية، والقدرة التقنية.
الفصل العاشر: سد النهضة ليس آخر السدود
يختتم الفصل العاشر من الكتاب بخلاصة الأفكار الرئيسية التي جاءت في الفصول السابقة، ويبين أن إثيوبيا لم تحقق أهدافها الطموحة رغم وجود إنجازات ملموسة في التنمية ومجال الطاقة الكهرومائية؛ وذلك في ظل بقاء ملايين الإثيوبيين بدون كهرباء، وعدم وفاء مشاريع السدود بوعود الوصول والتصدير السريع للكهرباء، كما أن التوسع الصناعي المدعوم بالكهرباء الرخيصة لم يتحقق بالكامل؛ حيث تفتقر العديد من المناطق الصناعية إلى إمدادات الطاقة الموثوقة.
وفي الأخير، يتوصل المؤلف إلى أنه في حين يُعدّ سد النهضة ذروة طموحات السدود الإثيوبية؛ إلا أنه ليس النهاية، فهناك خطط لسدود إضافية على النيل الأزرق، لكنّ القيود المالية والسياسية قد تجعل تنفيذها غير مرجَّح في المستقبل المنظور؛ إذ إن بناء السدود يتطلب ظروفًا سياسية واقتصادية ملائمة قد تستغرق عقودًا لتحقيقها.
………………………………………….
[1] -Tom Lavers (et al), Dams, Power, and the Politics of Ethiopia’s Renaissance, (Oxford: Oxford University Press, November 2024) Dams, Power, and the Politics of Ethiopia’s Renaissance | Oxford Academic
[2] -Wossenu Abtew , Shimelis Behailu Dessu, The Grand Ethiopian Renaissance Dam on the Blue Nile, Springer web site (publisher), 2018
[3]– إستراتيجية رئيسية وضعها زيناوي عام 2002م، جادل فيها بأن القوة على المستوى الدولي تعتمد على قوة الاقتصاد الوطني، والتي بدورها تتطلب الاستقرار الإقليمي، وفقًا لهذه الرؤية كان الشاغل الأساسي لإثيوبيا هو: تجنُّب الانجرار إلى الصراعات والحروب بالوكالة مع الدول المجاورة، وأن العلاقات الدولية، سواء كانت ودية أم عدائية، يجب أن تستند أولًا وقبل كل شيء إلى المصالح الاقتصادية، وأن السياسة الخارجية تركز على هدفين تنمويين رئيسيين: تأمين الوصول إلى الموانئ البحرية المطلوبة للتجارة، والاستفادة من أنهار إثيوبيا، ولا سيما النيل.
[4] – United States Department of the Interior, Bureau of Reclamation, Land and Water Resources of the Blue Nile Basin: Ethiopia, Washington DC:, Volume I. 1964
– Ministry of Water Resources (MoWR), Abbay River Basin Integrated Development Master Plan Project, Addis Ababa, 1999.
– Ministry of Water Resources (MoWR), Beko-AboMultipurpose Project: Pre-Feasibility Study Final Report, Addis Ababa, Volume1 Main Report, 2013.
– Eastern Nile Technical Regional Office (ENTRO), Pre-Feasibility Study of Mandaya Hydropower Project (ENTRO 2007), Ethiopia, Addis Ababa, 2007.
– Eastern Nile Technical Regional Office (ENTRO), Pre-Feasibility Study of Mandaya Hydropower Project (ENTRO 2007b), Ethiopia, Addis Ababa, 2007.
– International Panel of Experts (IPoE(, Grand Ethiopian Renaissance Dam Project (GERDP): Final Report, Addis Ababa, 2013.