مقدمة:
انتشر الإسلام في إفريقيا، خلال مراحل متعددة، وعبر حِقَب تاريخية متطاولة، متجاوزًا نطاقه القديم في الشمال الإفريقي، ليتوطن في أعماق القارة، أو ما عُرف حديثًا بإفريقيا جنوب الصحراء الكبرى، وخلال تلك الرحلة الطويلة نهضت له دول، ونشأت حضارات، عبر حراك جهادي ودعوي كبير، وتفاعل ثقافي وفكري واجتماعي؛ أدَّى في نهاية الأمر إلى ترسيخ الإسلام في القارة، بوصفه أوسع الأديان انتشارًا، وأرسخها عمقًا.
ولم تكن المرأة المسلمة بمعزل عن الدور الدعوي الكبير الذي أسهم في نشر الإسلام في إفريقيا، فقد لمعت أسماء نسائية كثيرة، كان لها دور كبير في مختلف عصور الإسلام في إفريقيا، وفي العديد من الجوانب؛ السياسية، والعلمية، والأدبية.. إلخ.
ويذكر التاريخ أن “زينب النفزاوية”، كانت المرأة الأكثر تأثيرًا في دولة المرابطين التي فتحت بوابات إفريقيا والسودان الغربي للإسلام، وتزوجت زعيمين من زعماء الدولة؛ المؤسِّس أبي بكر بن عمر اللمتوني، ناشر الإسلام في غرب إفريقيا، الذي طلَّقها من أجل أن يتزوجها ابن عمه يوسف بن تاشفين، موطِّد أركان الدولة في المغرب العربي والأندلس، وقاهر الصليبيين. قال عنها ابن خلدون: “كانت إحدى نساء العالم المشهورات بالجمال والرياسة”، وقال عنها أحمد بن خالد الناصري، صاحب كتاب (الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى): “فكانت عنوان سعده، والقائمة بمُلكه، والمُدبِّرة لأمره، والفاتحة عليه بحُسْن سياستها لأكثر بلاد المغرب”([1]).
ومن نساء شنقيط المعروفات بالعلم وحُسن التدبير “خناثة بنت بكار”؛ زوجة السلطان “مولاي إسماعيل ومستشارته”، وجدة السلطان العالم محمد بن عبد الله العلوي وأستاذته والمشرفة على تربيته، كانت فقيهة عالمة، متصوفة مُحسنة للقراءات السبع، وعالمة بالحديث النبوي الشريف. ومنهم: خديجة بنت محمد العاقل الشنقيطية، حفيدة الشيخ محنض بن الماحي بن المختار بن عثمان، وهي عالمة جليلة كانت شيخة المحضرة، روت عن والدها، وتخرج عليها علماء أجلاء، منهم أخواها أحمد والمامي عبد القادر، والمختار بن بونة([2]).
ومن هؤلاء النساء اللائي تركن بصماتهن واضحة في حركة الإسلام في إفريقيا: الشيخة نانا أسماء (1793- 1864م)، ابنة الشيخ عثمان بن فودي الذي قاد حركة الإحياء الإسلامي في غرب إفريقيا ومؤسس دولة صوكتو الإسلامية في بلاد الهوسا وما حولها من المناطق التي امتدت إلى جنوب غربي النيجر، وشرقي بنين، وغربي الكاميرون، في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر.
وقد كان لأسماء وأختيها “خديجة” و”مريم العالمة”، دور بارز في هذا الحراك الإحيائي التجديدي الذي أثمر قيام دولة إسلامية واسعة في ذلك الجزء من إفريقيا. وكانت إسهامات أسماء واضحة في نشر العلم الشرعي وسط النساء في شمال نيجيريا وما حولها من المناطق، واستخدمت مَلَكتها في الأدب والشعر لترسيخ العلوم الإسلامية، وتسهيل حفظها، كما اشتهرت بوصفها أديبة شاعرة، وحتى قيل: إنها بالنسبة للأدب العربي النيجيري كالخنساء في الأدب العربي القديم.
لقد كان للبيئة العلمية والجهادية التي نشأت فيها أسماء دور كبير في تشكيل شخصيتها، وتنمية قدراتها العلمية والقيادية، وأسهمت في التأسيس للدور الكبير الذي لعبته في تاريخ نيجيريا، تلك البيئة التي يمثلها تحدرها قبيلة الفولاني ذات التاريخ الطويل في نشر الإسلام في إفريقيا، ثم من شجرة أسرتها المعروفة بتوارث العلم والصلاح والدعوة منذ فترة طويلة، حتى تُوجِّت بظهور دعوة الشيخ عثمان بن فودي وتكوين خلافة صكتو الإسلامية.
دور قبائل الفولان في نشر الإسلام في إفريقيا:
تعتبر قبائل الفولان من أكبر الشعوب في بلاد السودان الغربي، وتنتشر بين ساحل المحيط الأطلسي إلى بحيرة تشاد، ويُطلق عليهم أحيانًا اسم (الفولان) أو (الفلان)، وفي بعض الأحيان (الفلّاتة)، ويختلف المؤرخون في أصل قبائل الفولان، تبعًا لاختلاف الروايات المنقولة والترجيحات السلالية، فمنهم مَن يردّهم إلى أصول فارسية قديمة، أو هندية، أو أصول ساميَّة إسرائيلية، نزحت من آسيا إلى إفريقيا في أزمان سحيقة، ومنهم مَن يرى أن أصلهم إثيوبي من قبائل جالا([3])، وآخرون يرون أنهم نتاج للاختلاط بين البربر والزنوج([4])، ومنهم من يرجع بهم إلى أصول عربية قديمة قبل الإسلام، ويفضل الفولان الرواية التي تقول: إنهم ينحدرون من سلالة عقبة بن نافع فاتح شمال إفريقيا من زوجة رومية([5]). وتعتبر منطقة فوتا تورو عند مصب نهر السنغال، أول موطن عرف فيه الفولانيين، ومنها اتجهوا شرقًا. ويتحدث الفولان اللغة الفولفلدية (Fulfulde).([6])
وقد انتشر الإسلام وسطهم في فترة مبكرة، في حوالي القرن الخامس الهجري، قبل سقوط مملكة غانا الوثنية على يد المرابطين في العام 469هـ؛ حين تحوّلت أسرة من الفولان إلى الإسلام، وساعدت المرابطين على إسقاط إمبراطورية غانا، ودخول عاصمتها “كُمبي صالح”، ونشر الإسلام بين أهلها، حيث قَبِل ملك غانا (تنكامنين) الدخول في الإسلام والخضوع لسلطان المرابطين، وبإسلام الملك دخل الكثير من رعاياه الإسلام([7]).
واشتهر الفولان بحبهم للإسلام، وإيثارهم الحياة في كَنَفه على أيّ حياة أخرى، وصفهم بعض الرحالة بأنهم “قوم كثيرو الميل لبعضهم البعض عند المِحَن والشدة والحروب، وأنهم لا يرتبطون بأرض غير مُؤهّلة بالإسلام، بل يعملون على تأهيلها أو الهجرة منها في حالة عجزهم”([8])، ولذلك كانت الهجرات واحدة من سمات حياتهم، فقد عُرف عن الفولان عدة هجرات جماعية وفردية، من أشهرها هجرة، الشيخ موسى جوكلو (Gokollo) الجد العاشر للشيخ عثمان بن فودي، والد الشيخة أسماء، الذي هاجر من منطقة فوتاتورو، الموطن الأول الذي عُرِف فيه الفولان، ليستقر بين قبائل الهوسا في حوالي القرن العاشر الهجري.([9]) (*)
وتعتبر حركة الإحياء الديني التي قادها الشيخ عثمان بن فودي، من أبرز محاولات الإحياء في إفريقيا.
وكان للفولانيين إسهام واضح في نشر الإسلام والدعوة إليه وسط الوثنيين، خصوصًا خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، سواء كان ذلك في موطنهم الأول (فوتا تورو) بأعالي نهر السنغال التي نشأ فيها نظام (الماميا) أو الإمامة، أو كان ذلك من خلال الحركة الجهادية التي أنشأها الحاج عمر الفوتي في منطقة (فوتاجالون)، ونجم عنها تأسيس دولة واسعة في غرب إفريقيا([10])، أو في جهود الشيخ أحمد لوبو الماسيني الذي أعلن الجهاد على أمراء البامبرا المنحرفين عن الإسلام، وأقام دولة ضمت أجزاء من مالي الحالية شملت (ماسينا) و(جينيه) و(كآرتا)، وأنشأ مدينة (حمد الله)([11])، وكذلك الأمر بالنسبة لحركة الشيخ عثمان بن فوديو الدعوية الجهادية التي أثمرت تكوين دولة صكتو الإسلامية، وجهود إخوانه وأبنائه.
من هي نانا أسماء؟
هي أسماء بنت الشيخ عثمان بن محمد بن صالح بن هارون بن محمد بن يحيى الملقب بابن فوديو([12])، العالم الداعية مُؤسِّس دولة صكتو الإسلامية، ومُجدِّد الإسلام في غرب ووسط إفريقيا خلال القرنين الثاني عشر والثالث عشر الهجريين (الثامن عشر والتاسع عشر الميلاديين).
عُرفت بثقافتها العالية، وإلمامها بعلوم الشريعة، بجانب ثقافة عصرها، وكانت تُجيد عددًا من اللغات، من بينها العربية والهوسا والفولاني، بل تشير بعض المصادر إلى إلمامها باللغات الأجنبية، مثل اليونانية، واللاتينية([13])، وعُرفت بكونها شاعرة مجيدة، وأديبة بارعة، ولها شعر جيد محفوظ بالعربية الفصحى، وباللغات المحلية.
وُلدت نانا أسماء في قرية (طغْل) في عام 1793م، في أسرة كبيرة تشمل 10 من الأبناء الذكور وبنتين هما أسماء وأختها خديجة، وأسماء هي توأم حسن بن الشيخ عثمان، وكان الجميع يتوقع أن يسميها والدها حُسنْى أو حُسيْنَة اسم يناظر اسم توأمها حسن؛ لكنه سماها أسماء، وقال: إنه اختار لها هذا الاسم بعد أن دعا الله -سبحانه وتعالى- أن يمنحه بنتًا تناصر الإسلام وتقوم بدور أشبه بالصحابية الجليلة أسماء بنت أبي بكر الصديق (ذات النطاقين)([14]).
أما لقب نانا، فهي كلمة من اللغة الفولفلدية (لغة الفولان)، وتعني طفلة، ولعله أطلق عليها لأنها سلكت طرق العلم منذ صغرها، وتولت مسؤوليات كبيرة وفي سن صغيرة، فقد كانت في الحادية عشرة من عمرها عندما قادت النساء في أثناء هجرة الشيخ عثمان بن فودي وأتباعه من (طغل) إلى (جودو).
وحين كان عمر أسماء عامين توفيت والدتها، فعهد بها أبوها إلى زوجته الكبرى حواء([15])، التي تولت تربيتها وتنشئتها منذ تلك السن المبكرة، حتى بلغت مبلغ النساء.
سليلة آل فودي بين الدعوة والدولة:
تأثرت الشيخة أسماء بوالدها عثمان بن فوديو، فتلقت عليه العلم، وبدأت بتعلم القرآن الكريم، مثل سائر أبناء وبنات الفولانيين، ثم تلقّت العلوم الإسلامية على يد والدها الشيخ عثمان، ثم عمّها الشيخ عبد الله بن فودي وهو أحد العلماء المشهود لهم بالعلم وسط الفولاني وصاحب مؤلفات وله قصائد وأشعار، ثم على يد أخيها الأمير محمد بلو، خليفة والده في الحكم، هذا بجانب عدد كبير من الرجال والنساء المتبحرين في العلوم الشرعية. واستفادت أسماء من مكتبة والدها الكبيرة([16]).
ملامح من جهاد الشيخ عثمان بن فوديو:
الذي يريد أن يعرف حياة أسماء لا بد أن يتعرف على حياة والدها مُجدّد الإسلام في غرب ووسط إفريقيا؛ الشيخ عثمان بن فودي، فقد عاشت أسماء مع أسرتها كل تفاصيل هذه الدعوة، كما عاشت آلامها وابتلاءاتها، وذاقت حلاوة انتصاراتها وإنجازاتها.
ينتسب الشيخ عثمان بن فوديو، إلى مجموعة تورونكو من الفولان، من نسل الشيخ موسى جوكوتو، الذي أشرنا إلى أن هجرته من (فوتاتورو) كانت في حوالي القرن الخامس عشر الميلادي؛ حيث استقر أسلافه في (كوني) من أرض الهوسا، ولكنهم انتقلوا، بعد ولادته، إلى منطقة (دقل) أو (طُغل)، كما جاء في بعض المصادر. وحفظ عثمان القرآن الكريم على يد والده الشيخ محمد فودي(*)، ودرس العلوم الإسلامية واللغة العربية على يد الشيخ عبد الرحمن حمادي، والشيخ إبراهيم بن عمر الأغاديسي، ثم اشتغل بالدعوة والتدريس، وجاب أرض الهوسا، يُكلِّم الناس بلغتهم ويَعِظهم ويرشدهم ويعمل على تثقيفهم؛ ليصححوا مفهومهم لدين الإسلام، واستمر طيلة ثمانية عشر عامًا (1785 – 1803م) يدعو الناس إلى الله -تبارك وتعالى-، واتباع الشريعة الإسلامية والابتعاد عن البدع والخرافات([17])، كما حارب مظاهر الوثنية التي اختلطت بالدين عند كثير من المسلمين في تلك البلاد، بسبب الجهل بأحكام الدين، واستمر في دعوته حتى استطاع أن يجمع حوله عددًا كبيرًا من الأتباع والأنصار والتلاميذ.
اهتم الشيخ عثمان بن فودي بتعليم النساء وتثقيفهن، وكان يُتيح لهن مكانًا ليحضرن دروسه وحلقاته، حيث كان الأتباع حين يتوافدون عليه يفدون بنسائهم وبناتهم، وكان ذلك الأمر غريبًا في ذلك الوقت، مما جلب عليه نقمة بعض العلماء المحليين أمثال؛ الشيخ مصطفى القوني الذي كان يحظى بشهرة في المنطقة ومكانة بين الناس، فأرسل إليه رسالة يستنكر فيها ذلك الأمر، فكتب الشيخ في ذلك رسالة سماها (تنبيه الإخوان إلى جواز اتخاذ مجلس لأجل تعليم النسوان)([18])، كما أمر أخاه الشيخ عبد الله بن فودي بالرد عليه شعرًا على نفس البحر الذي أرسل به استنكاره؛ حيث كان قد نظمه شعرًا قال فيه:
يا ابن فودي قم تنذر أولي الجهلاء *** لعــــــــــلّهم يفقـــــــــهون الديــــــــــن والدّنا
فامــــنع زيــارة النســــــوان لوعـــظك إذ *** خلط الرجال بالنسوان كفى شـينا
لا تفعـــــلنّ ما يؤدي للمصــــائب إذ *** يأمر الله عـــيبًا كان يؤذيـــــنا
فردّ عليه الشيخ عبد الله بن فودي بقوله:
يا أيــــها الذي قد جـــــــــاء يرشــــــــــــدنا *** ســــمعًا لما قلت فاسمع أنت ما قلنا
نصحتَ جهدك لكن ليت تعذرنا *** وقلت ســــــــــبحان، هذا كان بهتــــــــانًا
إن الشــــــــــياطين إذا جاؤوا لمجلســـــــنا *** هم يبثون ســــــــــــــــــــوء القــــــــول طـــغيانا
لســــــــــنا نخالط بالنســـــوان كيف وذا *** كنا نحـــــــــــذر ولكن قــــــــــلت ســــــــــــلّمنا
إذا ارتكاب أخـــف الضر قد حتّما *** بكفــر الجـــــــــــهل إن ذا كان عـــــصيانا
قد قيل تحــــــــــدث للأقــــــوام أقضـــــــــية *** بقـــدر ما أحــــــــدثوا، خذ ذاك مــــيزانا([19])
في بداية أمره وجد الشيخ عثمان ترحيبًا من بعض أمراء وسلاطين الهوسا، خاصةً سلطان إمارة غوبير، ولكن سرعان ما تحوَّل ذلك الترحيب إلى عداء، حين شعر الأمراء بخطورة دعوة الشيخ على سلطانهم وملكهم بسبب توافد الناس عليه وتزايد أتباعه، خاصةً أن كثيرًا من العلماء والفقهاء والأعيان سلكوا في سلك مريدي الشيخ، فأخذ السلاطين بالتضييق عليه وعلى أتباعه ومريديه، بل وصل الأمر بــ(نافاتا) سلطان غوبير، إلى إصدار مرسوم بعدم السماح لأيّ شخص باعتناق الإسلام والتديُّن به إلّا من ورثه عن آبائه! كما منع الدعوة إلى الإسلام وتعليم الناس الدين على كل شخص، فيما عدا الشيخ عثمان وحده، كما منع الرجال من لبس العمامة، والنساء من لبس الخمار!
وبعد وفاة السلطان خلفه ابنه (يونفا)، الذي كان من تلاميذ الشيخ، ووعده بإنهاء ما جاء في المنشور، ولكنه سرعان ما تنكَّر لشيخه، وتآمر مع بعض أتباعه محاولًا قتل الشيخ، واتبع ذلك بالهجوم على بعض أتباع الشيخ عثمان، وفتك بهم في منطقة (غمبنا)، ومن بينهم عدد من الفقهاء والعلماء، وسلب أموالهم واستباح أعراضهم، وأحرق الكتب والمصاحف، وأخذ بالتحريض على الشيخ وعلى جماعته، وتبعه في ذلك أمراء آخرون، وكانت محنة على المسلمين؛ حيث كان كل مَن يعتنق الإسلام ويتبع الشيخ يتعرض لسلب أمواله وممتلكاته. ووصل الأمر بسلطان “غوبير” إلى إصدار أمر للشيخ عثمان باعتزال الناس والعيش وحيدًا في المنفى. وهنا رفض الشيخ تنفيذ هذه الأوامر، وقرر الهجرة بأتباعه، فخرج إلى منطقة جودو([20]).
في تلك الفترة كانت نانا أسماء قد بلغت سن الحادية عشرة، وكان لها دور بارز في تلك المرحلة، فقد كانت على رأس النساء المهاجرات إلى (جودو) عام 1804م، فاضطلعت بمهمة تنظيمهن، وترتيب صفوفهن. وخلال المعارك التي نشبت بعد ذلك بين أنصار الشيخ ابن فودي وأمراء الهوسا كانت النساء بقيادة أسماء يتولين تطبيب الجرحى، وإنقاذ الجنود من قلب المعركة([21]).
بعد أن أعلن الشيخ عثمان بن فودي الجهاد ضد أمراء الهوسا الوثنيين والمنحرفين عن الإسلام، خاض العديد من المعارك كان النصر حليفه في أغلبها، وانهزم في بعضها، وتزايد أتباعه، ودخلت إمارات في طاعته، حتى وصل إلى المرحلة التي أعلن فيها ميلاد خلافة صكتو الإسلامية، التي كانت من أعظم دول الإسلام في غرب ووسط إفريقيا خلال القرن التاسع عشر.
حياة أسماء الأسرية:
في الرابعة عشرة من عمرها، تزوجت الشيخة أسماء من الوزير الأعظم في دولة صكتو، العلامة عثمان غطاطو بن ليم، وهو أحد كبار العلماء في عصر ابن فودي، وهو من خلف الشيخ عبد الله بن فودي، بعد وفاته، في منصب الوزارة في عهد أمير المؤمنين “محمد بلو”. وقد تأثرت به تأثرًا كبيرًا في بناء حصيلتها المعرفية، ولتنطلق في أداء رسالتها في نشر الوعي الإسلامي بين النساء في تلك المنطقة.
أنجبت نانا أسماء، ثلاثة أبناء من زوجها الوزير غطاطو، وهم؛ عبد القادر وهو أكبرهم وكان ميلاده في العام 1810م، ثم يليه أحمد المولود عام 1820م، وأخيرًا عبد الله الشهير بـــ(عبد الله بايرو) المولود عام 1929م، أحسنت تعليمهم وتربيتهم، حتى صاروا، فيما بعد، من أكابر علماء عصرهم، وورثوا منصب الوزارة من والدهم، فظل بعد ذلك متوارثًا في أسرتهم([22]).
الجهود العلمية والدعوية للشيخة نانا أسماء:
وأثناء مرحلة الجهاد الذي خاضه والدها مُؤسِّس الدولة، مع الأمراء الوثنيين الذين حاربوا دعوته، اهتمت أسماء بالأرامل والنساء اللاتي فقدن كفيلهن ولا يعرفن عملاً ولا كتابةً، فبدأت بتنظيم الحلقات لتعليم النساء القراءة الكتابة، بجانب بعض الأعمال اليدوية كطحن الحبوب، وغيرها من المهن البسيطة التي توفّر لهن دخلًا معقولًا، يساعدهن في إعالة أنفسهن وأبنائهن([23]).
كما كتبت نانا أسماء عددًا كبيرًا من القصائد من أجل تسهيل تعلُّم قواعد الفقه وأساسيات التجويد وما إلى ذلك، لكي يرتقين فكريًّا وماديًّا.
أثمرت تلك الحركة العلمية التي قادتها الشيخة أسماء، فأصبحت النساء تقصدها من القرى المجاورة، فيتعلمن القرآن والتوحيد والفقه والحديث واللغة العربية، وتكاثرت أعدادهن، فعمدت إلى تأهيل معلمات من تلميذاتها، لتقوم بإيفادهن إلى القرى والمناطق البعيدة، لنشر العلم والمعرفة. وفي عام 1840م تأسست مدرسة تحمل اسمها، وتولت التدريس فيها بعدها أختها العالمة مريم. وكانت خريجات هذه المدرسة يرجعن إلى بلادهن وينشرن ما تعلّمنه من علوم، ويحاربن البدع والشعوذة([24]).
نشاطها في العمل العام:
اشتهرت نانا أسماء بوصفها إحدى النساء العالمات، وكان كثير من العلماء يستفتونها في بعض المسائل اللغوية والدينية؛ لغزارة علمها، وأنشأت عددًا كبيرًا من معاهد تعليم النساء، وتخرّجت على يديها أعداد غفيرة من النساء.
أما في الجانب السياسي، فقد كانت نانا أسماء هي المرأة الوحيدة التي دُعيت لحضور اجتماع مجلس أهل الحل والعقد في خلافة صكتو، لاختيار أمير المؤمنين الجديد بعد وفاة الشيخ عثمان بن فودي، فكانت أول امرأة تبايع الخليفة الجديد أمير المؤمنين محمد بلو.
وأصبحت نانا أسماء مستشارة للحاكم، وكتبت رسائل إلى أمراء المحافظات، تنصحهم وتقوّمهم، وقد شهد لها معظم معاصريها برجاحة العقل، وذكروا أنها كانت مستجابة الدعوة. وقد زارها في دارها، متبركًا بها، الشيخ العلامة عمر الفوتي، الذي قاد حركة الجهاد في فوتا جالون، وذلك أثناء عودته من الحج.
وعندما بلغت الشيخة أسماء سن الأربعين، عُيِّنت في منصب (عور غري)، أي ما يعادل رئيسة اتحاد النساء في الدولة. كما أسَّست جمعية نسوية أسمتها (يان تاروا) كانت تجمع فيها، سنويًّا، معظم القيادات النسوية في خلافة صكتو من مختلف الولايات؛ لخدمة قضاياهن وقضايا الدولة، وما زال هذا التقليد ماضيًا حتى اليوم؛ حيث أصبحت (يان تاروا) منظمة القيادات النسوية داخل وخارج نيجيريا سنويًّا([25]).
وبعد وفاة زوجها عام 1850م، انتقلت إلى (ورنو)؛ حيث تفرّغت لتنظيم منجزات خلافة صكتو، بالإضافة إلى مواصلة منهج والدها في الاهتمام بالمرأة وتعليمها لكي تنهض بدورها الرسالي([26]).
وفاة الشيخة أسماء:
في عام 1864م، توفيت الشيخة نانا أسماء، عن عمر يناهز الـ72 عامًا، قضتها في حياة حافلة بالخيرات، وسار في جنازتها آلاف الرجال والنساء، جاؤوا من جميع أنحاء نيجيريا وما جاورها من الدول([27])، وتركت إرثًا واسعًا من العلم والعمل، تأثر بها رجال ونساء كثيرات، وكانت نموذجًا للمرأة المسلمة الفاعلة في محيطها الاجتماعي.
التراث العلمي والأدبي للشيخة نانا أسماء:
كانت الشيخة نانا أسماء، فوق أنها عالمة ومثقفة متضلعة، أديبة وشاعرة فذَّة، متمكنة من ناصية اللغة العربية نحوًا وصرفًا وأدبًا. وقد خلّفت أكثر من 70 مؤلفًا وقصيدة، وقد ذكر عنها أنها قامت هي وزوجها بكتابة تاريخ خلافة صكتو، ومن مؤلفاتها كتاب (تبشرة الإخوان بالتوسل بسور القرآن عند الخالق المنان)([28])، و(تنبيه العاملين)([29])، ومراسلات الأشعار بين الشيخ سعد ونانا أسماء([30]).
كتبت الشيخة أسماء الشعر باللغة العربية وباللغة الهوساوية والفولانية، وغيرها من اللغات المحلية، وخلَّفت عددًا كبيرًا من القصائد التعليمية، بالإضافة إلى قصائد في الرثاء والمديح، ومن أشهر قصائدها في الرثاء، قصائد ثلاث كتبتها في رثاء صديقتها وزوجة أخيها محمد بيلو، عائشة بنت العلّامة عمر الكمو:
أعــــينيَّ جـــــودا ابكيــــــا لي حــــــبيبتي *** وسلوة أخواتي وأنسًا لوحشتي
فجودا بسكب الدمع من فقد عائشة *** أعزّ أحــــبابي وأوفى صديقتي
كما تناولت في بعض قصائدها إجابات على فتاوى في نوازل اجتماعية، مثل التدخين، وذلك عندما سُئلت عن حُكمه، فأجابت بأرجوزة نقلت فيها أقوال علمائهم فيها:
تـــــنازع شــــيوخنا في (التبعبع) *** وبعضهم حكموا بالمنع
وبعضهم قد رُوي عنه الجواز *** ولم تصــــح رواية الجـــواز
الخاتمة:
يتضح من خلال هذه المقتطفات مما حفظته ذاكرة التاريخ عن تأثير النساء المسلمات في الحياة العامة، انطلاقًا من الدور الذي رضيه الإسلام للمرأة ضمن نظامه الاجتماعي، الذي يقوم على الستر والصيانة، لم يكن يومًا من الأيام عائقًا أمام تأثيرها وتأثرها، وتفاعلها مع الحياة العامة، وتقديمها العطاء، والمشاركة في صياغة الواقع، وصناعة التغييرات الكبيرة في حياة المجتمعات. وإن النساء المسلمات في إفريقيا، لم يكنَّ بمعزل عن هذه المساهمات والإنجازات البارزة للمرأة.
سيرة الشيخة نانا أسماء ووالدها الشيخ عثمان بن فودي، هي مثال شاخص لأهمية هذا الدور وتأثيره الفاعل في الحياة الإسلامية في إفريقيا. ولعل نظرة الشيخ عثمان بن فودي المتقدمة في قضية المرأة، النابعة من علمه بأصول الشريعة الإسلامية وأحكامها، هي التي دفَعته للاهتمام بتأهيل النساء المسلمات، وعدم عزلهن عن حركة الدعوة التي قادها، ولا إقصاء رأيهن عن مؤسسات الحكم في الدولة التي أسَّسها. وتصدى في سبيل إثبات هذا الدور وترسيخه، لركامٍ من العادات والتقاليد التي سادت في ذلك العصر، وسيطرت حتى على بعض فقهاء ذلك الزمان، ولذلك واجه الشيخ حملة من الفقهاء وهو يعمد إلى نفض الغبار عن فريضة تعليم النساء، وسنة اتخاذ مجالس خاصة لتعليمهن كما كان يفعل النبي -صلى الله عليه وسلم-، ولكن تلك الحملات لم تُثْنِهِ، بل قام بالرد عليها وتفنيدها، والعمل على تأسيس نهضة علمية وحركية عامة تشمل النساء باعتبارهن نصف المجتمع وقاعدته التي يرتكز عليها.
كانت الشيخة أسماء بنت عثمان بن فودي، واحدة من ثمار تلك الجهود العلمية والدعوية التي قام بها والدها الشيخ عثمان بن فودي، بل كانت إحدى ركائزها، والوريثة لقيادة تلك الجهود في المجال النسوي، وكان ما تميزت به من قدرات علمية، واضطلعت به من مهام، وما أنجزته من أعمال في الجانب النسوي، أنموذجًا رائدًا للعمل النسوي الراشد على هدى الشريعة الإسلامية، ومثالًا واضح الثراء الفكري لإفريقيا المسلمة.
[1] – أحمد بن خالد الناصري، (الاستقصا لأخبار المغرب الأقصى) طبعة مطبعة دار الكتاب – الدار البيضاء-1954، الطبعة الثانية، ج 2، ص 23.
[2] – عن “محاضرة: جهود المرأة الشنقيطية في السيرة النبوية”، التي أقيمت بالمركز الثقافي المغربي بنواكشوط، يوم 12 مايو 2015، تقرير منشور بموقع النهار الموريتاني: http://anahar.info/arc/index.php/m-r/6919–q
[3] – عبد الرحمن خليفة جالو، الفولانيّون وإسهاماتهم في كتابة تاريخ غرب إفريقيا: قراءة في الدوافع والحصيلة، مقال منشور بموقع مجلة قراءات إفريقية، بتاريخ 26 فبراير 2022م.
[4] – محمد مولاي، القضاء والقضاة ببلاد السودان الغربي من أواخر القرن التاسع الهجري حتى القرن الثاني عشر الهجري (15م – 18م)، أطروحة لنيل درجة الدكتوراه في علوم التاريخ والحضارة الإسلامية من كلية العلوم الإنسانية والعلوم الإسلامية بجامعة وهران أحمد بن بلة، 2018 – 2019، صفحة ص 21.
[5] – انظر: الطيب عبد الرحيم محمد الفلاتي، الفلاتة في إفريقيا ومساهمتهم الإسلامية والتنموية في السودان، دار الكتاب الحديث، الكويت، الطبعة الأولى 1994م، من ص (16 – 23).
[6] – زهرة مسعودي ومبخوت بوادييه، دور قبيلة الفولاني في نشر الإسلام بغرب إفريقيا خلال القرن التاسع عشر الميلادي، مجلة آفاق علمية، العدد 14، السنة الثانية 2022، ص 37.
[7] – نافذ أيوب بيلتو، محمود شاكر، مالي (الكتاب رقم 14 من سلسلة مواطن الشعوب الإسلامية في إفريقيا)، المكتب الإسلامي، دمشق1977م، ص 34 – 35.
[8] – الطيب عبد الرحيم الفلاتي، مصدر سابق، ناقلًا عن حسن إبراهيم حسن والرحالة بارث في كتابه أثر الفلاني على انتشار الإسلام في غرب إفريقيا.
[9] – المصدر السابق، ص (28).
* – وقد ذكر المؤرخ (الطيب عبد الرحيم الفلاتي) أن هجرة موسى جوكلو كانت في القرن العاشر الميلادي، ويبدو أنه خطأ، غير مقصود، بل هو القرن العاشر الهجري؛ لأن إسلام أوائل الأُسَر الفولانية كانت أواسط القرن الحادي عشر الميلادي، في نفس العام الذي سقطت فيه مملكة غانة الوثنية على يد المرابطين.
[10] – عبد القادر محمد سيلا، المسلمون في السنغال معالم الحاضر وآفاق المستقبل، الكتاب رقم 12 من سلسلة كتاب الأمة، رئاسة المحاكم الشرعية والشؤون الدينية بدولة قطر، ص (76-79).
[11] – عبد القادر زبادية، دراسة عن إفريقيا جنوب الصحراء في مؤلفات العرب والمسلمين، ص 89.
[12] – بكراوي رقية، حركة الشيخ عثمان دان فوديو الإصلاحية بغرب إفريقيا، مقال منشور بالمجلة الجزائرية للدراسات التاريخية والقانونية، المركز الجامعي بتندوف، العدد الأول والثاني، شعبان 1437هـ/ جوان 2016م، ص 84.
[13] – One Woman’s Jidad: Nana Asma’u, Scholar and Scribe
[14] – أبو سليمانو، نانا أسماء بنت عثمان بن فودي وإبداعاتها الفنية، مقال منشور بمجلة وميض الفكر، العدد العاشر، حزيران 2021، ص 49.
[15] – شيماء عبد الله، المعلمة نانا أسماء.. ما لا يعرفه العالم عن تاريخ مسلمات إفريقيا، مقال منشور بموقع الجزيرة نت، بتاريخ 15 أبريل 2021: www.aljazeera.nt%2Famp%2Fwomen%2F2021%2F4%2F15%2F
[16] – أبو سليمانو، مصدر سابق.
* – كلمة (فودي) تعني الفقيه في لغة الهوسا.
[17] – عبد القادر زبادية، مصدر سابق، ص 78.
[18] – المصدر السابق، ص 79.
[19] – عبد القادر زبادية، مصدر سابق، ص (84 – 85).
[20] – انظر: بكراوي رقية، مصدر سابق، الصفحات من: 97 إلى 99.
[21] – شيماء عبد الله، مصدر سابق، وأبو سليمانو، مصدر سابق.
[22] – أبو سليمانو، مصدر سابق ص50.
[23] – شيماء عبد الله، مصدر سابق.
[24] – عائدة عميرة، الشعر والمرأة طريق عثمان بن فودي لنشر الإسلام في غرب إفريقيا، مقال منشور بموقع نون بوست: www.noonpost.com/24740، بتاريخ 8 سبتمبر 2018م.
[25] – أبو سليمانو، مصدر سابق 49.
[26] – محمد خير رمضان يوسف، المؤلفات من النساء ومؤلفاتهن في التاريخ الإسلامي، دار ابن حزم للطباعة والنشر والتوزيع، الطبعة الثانية بيروت 2000م، ص 98.
[27] – شيماء عبد الله، مصدر سابق.
[28] – محمد خير رمضان يوسف، مصدر سابق، ص 98.
[29] – أسماء محمد فودي، موقع معجم البابطين لشعراء العربية في القرنين التاسع عشر والعشرين: http://www.almoajam.org/poet_details.php?id=947
[30] – أبو سليمانو، مصدر سابق، ص 51.